اعتسافا للإغلاق ، فقد كان بول باسكون ، بمعهد الزراعة و البيطرة بدوره يؤسس لسوسيولوجيا قروية تدمن البحث الأمبريقي ، فعلى امتداد العديد من مؤلفاته ( ما يقوله 296 شابا قرويا ، المسألة الزراعية بالمغرب ، حوز مراكش ، دراسات قروية ، بني بوفراح ، دار إليغ و التاريخ الاجتماعي ، المسألة المائية بالمغرب ) حاول بول باسكون أن يؤسس لسوسيولوجيا قروية تستقي نظرياتها و توجهاتها من الميدان في البدء و الختام ، و على هذا الدرب سيبلور باسكون نظريته عن المجتمع المزيج أو المركب ، كما سيحدد ملامح السوسيولوجي و مهامه المركزية .
بعد الرحيل الغامض لبول باسكون و زميله عاريف ستعرف السوسيولوجيا القروية بمعهد الزراعة البيطرة نوعا من الموت السريري ، لينتقل النقاش مجددا إلى وحدة علم الاجتماع القروي بكلية الآداب بالرباط التي ستلتمع في رحابها جملة من الأسماء التي بصمت مسار الفعل السوسيولوجي بالمغرب، مثلما ستساهم في إنتاج العديد من الأبحاث و الدراسات القيمة حول المجتمع القروي المغربي . و لعل هذا كله ما يدفع إلى القول مجددا بأن السوسيولوجيا المغربية هي لحد الآن سوسيولوجيا قروية في شقها الأكبر .
ال " كلنا " قرويون
ما يدفع إلى التفكير في هكذا نتيجة هو الطابع القروي للمجتمع المغربي ، فال " كلنا " قرويون ، بل إن الحدود بين ما هو قروي و ما هو حضري مغربيا تظل تعسفية و غير منضبطة لمنطق محدد ، لهذا كله يصير الدرس السوسيولوجي القروي ضرورة ملحة لقراءة تضاريس المجتمع المغربي ، بل إن الانشغال السوسيولوجي بالمجتمع القروي من شأنه أن يساهم فعلا في خدمة المشروع النضالي للسوسيولوجيا, "فالعلاقات السلطوية ما زالت سائدة في العالم القروي، ومع ما يطبعها من إكراه ومحسوبية وتطاول على حقوق المواطنين... وهي تؤكد المحن التي يعيشها العالم القروي" وهنا يحق لنا أن نتساءل مرات أخرى: ما الذي نريده من السوسيولوجيا و السوسيولوجيين؟ وما الذي نتغياه من علم الاجتماع القروي تحديدا؟
"إن العالم الفلاحي يمثل مشهد جمود تديره وترعاه النخب المحلية التي التحقت بالدوائر الإدارية كقواد وشيوخ ومقدمين" إنه عالم واقع بلا شك تحت رحمة المخزن الذي نجح كثيرا في عمليات الاختراق والاحتواء، و "لهذا تظل البوادي هادئة تماما حتى عندما يكون النظام السياسي معرضا لرجات" . فهذا "الثبات الاجتماعي" من جهة وهذا الاختراق المخزني من جهة أخرى ألا يستوجبان معا وقفة خاصة من أجل الخلخلة والتفكيك العملي والعلمي؟ أو لا يقودنا الوضع الشاذ الذي ينخرط فيه المجتمع القروي إلى تلك المهمة الأساسية المبحوث عنها في علم الاجتماع القروي؟
إن تسخير السوسيولوجيا للنبش في هموم وآمال المجتمع القروي أمسى مطلبا أكيدا في راهننا هذا، الذي تعالت فيه آهات الفلاحين وزفراتهم الساخطة، فحاجتنا إلى سوسيولوجيا قروية أكثر جرأة في الطرح والتحليل ضرورة قصوى ، بل إن الحاجة إلى هذه السوسيولوجيا لا يحددها فقط ما يعتمل في العالم القروي من ظواهر وحالات عصية على الفهم ، ولا توجبها حصرا محدودية الدراسات والأبحاث التي تصدت لها، وكذا ضرورات توسيع دوائر الاهتمام العلمي بها، وإنما تفرضها فرضا خصوصيات المجتمع المغربي عموما.
فكم نتناسى طبيعة المجتمع المغربي الذي هو قبل كل شيء مجتمع قروي، وأن أزمة المجتمع القروي هي في العمق مرآة لأزمة المجتمع المغربي، والطابع القروي لمجتمعنا لا ينحصر في بعض الأرقام المتعلقة بالوزن الديموغرافي لسكان البادية (45%) وبنية اليد العاملة في البادية (41%) وكذلك حجم الإنتاج الزراعي (20% من الناتج الداخلي الخام), فإلى جانب العوامل الاقتصادية والاجتماعية توجد عوامل تاريخية، حضارية، سياسية وثقافية، وكذلك عوامل تخص نمـط العيش والسلوك، والتي تؤكد أن مجتمعنا لا زال قرويـا . كل هذا إذن يجعل البحث في شجون المجتمع القروي مبررا ومشروعا جدا، خصوصا في عمق الانشغال بالعلاقات و التمثلات المرتبطة بالسلطة المخزنية، ويدعو في الآن ذاته إلى إعمال النظر العلمي في عالم الفلاحين الذين تبدو العلاقات بينهم وبين الدولة جد مبهمة للغاية, ذلك أنهم يعيشون دوما على خشيتها وأمام القرار الفالت من أيديهم. إنها إله رهيب ومصدر لنعم غير منتظرة .
الهوامش :
عبد الغني منديب ، محاضرات في السوسيولوجيا القروية ، وحدة البحث و التكوين في العلوم الاجتماعية و التنمية المحلية ، جامعة محمد الخامس أكدال،الموسم الجامعي 2005/2006، الرباط ، غير منشورة .
محمد عاطف غيث ، دراسات في علم الاجتماع القروي ، دار النهضة العربية ، بيروت ،الطبعة الأولى ، 1989، ص.4.
محمد عاطف غيث ، دراسات في علم الاجتماع القروي ، نفس المرجع ، ص.5.
Bruno JEAN Sociologie rurale.,,,,e d’accompagnement pour le cours Agriculture, Formation sociale et économique 131. Ministère de l’éducation. No doc. : 38-2733, Octobre 1974. 83 pp.
Michel ROBERT, Sociologie rurale, Que sais-je ? n° 2297, Paris, Presses universitaires de France, 1986, pp. 5-6.dans Marcel Jollivet, «La « vocation actuelle » de la sociologie rurale», Ruralia [En ligne]1997-01 - Varia, Mis en ligne le : 1 janvier 2003Disponible sur La «*vocation actuelle*» de la sociologie rurale du : 22 décembre 2005
Henri MENDRAS, « Sociologie du milieu rural », dans Georges GURVITCH [dir.], Traité de sociologie, Paris, Presses universitaires de France, 1958, 2 volumes. , p. 316 dans Marcel Jollivet, «La « vocation actuelle » de la sociologie rurale»
جميل صليبا, المعجم الفلسفي, الجزء الأول, دار الكتاب, بيروت, الطبعة1, 1981, ص346.
بول باسكون, زرع النماذج وغياب التجديد، بيت الحكمة، العدد 3 السنة الأولى, 1986, ص19.
Marcel Jollivet, «La « vocation actuelle » de la sociologie rurale»,ibid.
Isabelle Boussard, «Marcel JOLLIVET, Pour une science sociale à travers champs. Paysannerie, ruralité, capitalisme (France XXe siècle), Paris, ةditions Arguments, 2001, 400 p.», Ruralia [En ligne],2001-08 - Varia, Mis en ligne le : 22 janvier2005Disponible sur:Marcel JOLLIVET, Pour une science sociale à travers champs. Paysannerie, ruralité, capitalisme (France XXe*siècle), Paris,. Référence du : 1 février 2006
Sociologie : histoire et idées , coordonné par Philipe le cabin et jean François dortier , éditions sciences humains , Auxerre, 2000.p.79.
عبد الكريم غريب ، سوسيولوجيا التربية ، منشورات عالم التربية ، الرباط ، الطبعة الأولى ، 2000.ص.57.
محمد جسوس ، رهانات الفكر السوسيولوجي بالمغرب ، إعداد و تقديم إدريس بنسعيد ، منشورات وزارة الثقافة ، الرباط ، الطبعة الأولى ، 2003.ص.6.
ريمي لوفو, الفلاح المغربي مدافعا عن العرش, باريس 1976, ص236.
الحبيب المالكي, تراكمات: ملاحظات حول الاقتصاد والمجتمع, النشر العربي الإفريقي, 1989, ص33.
ريمي لوفو, الفلاح المغربي مدافعا عن العرش, مرجع سابق , ص236
الحبيب المالكي, تراكمات: ملاحظات حول الاقتصاد والمجتمع, مرجع سابق, ص33.
بول باسكون ، مرجع سابق ، ص .25.