التطوع د. يوسف بن أحمد العثيمين
فالتطّوع بالمال والوقت والجهد والخبرة صفة إنسانية لازمت المجتمعات البشرية عبر العصور، وزكتّها جميع الأديان السماوية والأعراف الاجتماعية، ونُسجت حولها قيم الإعجاب والشهامة والنبل والنقاء والإنسانية.. والتطوع من حيث هو فعل وتصرّف، يمنح الإنسان شعورا عميقاً بالراحة النفسية، ويملأ جوانحه بأجمل معاني الحب والدفء والعلاقية مع أخيه الإنسان.. ويأخذ التطوع أشكالاً مختلفة، تنظيماً وأداءً، بين عمل فردي عفوي يستثيره منظر طفل بائس أو عجوز يائس، إلى عمل مؤسسي منظم يكاد لا يختلف في أسلوب إدارته عن كبريات شركات القطاع الخاص شفافية وكفاءة واستقراراً واستهدافاً لشرائح معينة من المجتمع تُسمى العملاء أو الزبائن.
وعَرف المجتمع السعودي التطوع، بل هو أصيل فيه من منطلقات دينية وإنسانية واجتماعية وثقافية.. ولكنه ما زال فردي الأداء، عفوي التوجه، إغاثي الهدف.. وهذه الصفات معوقات معتبرة في سبيل الوصول للعمل التطوعي الخيري المنظم الذي من أبرز قسماته: المنهجية العلمية، والاستدامة، والشمولية، والشفافية، والثقة، والاستقرار، والانتشار، والإنماء الشامل للفرد والجماعة والمجتمع.
هذا التوصيف للعمل الاجتماعي في المجتمع السعودي، وعدم مأسسته بالقوالب الحديثة، في الإدارة المتخصصة للعمل التطوعي، يجعله محدود الأثر، وعرضة لزوابع الرغبات الشخصية، وحتى أحياناً انحرافاتها التي لا تخفى على فطنة المراقب لمسار العمل التطوعي في بلادنا.. من أجل ذلك يُنظر إلى العمل التطوعي المؤسسي بأنه خير ضمانة لاستقامة العمل الخيري، ونُبل مقاصده، وسلامة توجهه.. بل وحتى من أجل نموه وتطوره واستدامته..
وإذا ما أردنا أن نعرف موقعنا على خارطة العمل التطوعي المنظم في العالم فأقرب وسيلة لتقريب الصورة الذهنية هي المقارنة، فلنستعرض جملة من الحقائق والأرقام عن القطاع التطوعي في الولايات المتحدة الأمريكية - على سبيل المثال - حيث تتوفر الإحصائيات، فقد بلغ عدد التنظيمات في القطاع التطوعي (1.2) مليون مؤسسة تطوعية، ودخل القطاع التطوعي (664.
بليون دولار لعام واحد، وبلغت التبرعات (132) بليون دولار، وتمثّل نسبة الموظفين في هذا القطاع (7.1%) من مجموع السكان، ونسبة الأسر التي تبرعت (70.1%) أسرة من مجموع الأسر، وحجم التبرع الأسري السنوي (1.075) دولار، ونسبة من يتطوعون (55.5%) من مجموع السكان، وعدد من تطوعوا (109.4) مليون متطوع ومتطوعة في السنة، وعدد الساعات التي تطوعوا فيها (19.9) بليون ساعة في السنة، وقيمة وقت المتطوعين (225.9) بليون دولار سنوياً، وبلغ عدد من يعملون بأجر في قطاع التطوع (106) ملايين موظف وموظفة.
و لو اسقطنا هذه الصورة "البانورمية" على مؤسسة بعينها، فلنأخذ - مثلا - مؤسسة "الطريق المشترك" التي تعد واحدة من كبريات المؤسسات التطوعية في العالم حيث تضم "1400" فرع على مستوى المدن، وبلغت ميزانيتها للعام المالي 2003- 2004م (4.4) مليارات دولار، وهي تبرعات جُمعت من المواطنين ورجال الأعمال والبنوك، من أجل مساعدة المجتمعات المحلية، ومعالجة القضايا التي تواجه كل مجتمع على مستوى كل مدينة، ويعمل بهذه المنظمة "1.000.000) مليون متطوع.. وكل فرع من هذه المؤسسة يديره متطوعون من أبناء وبنات الولاية، أو المدينة نفسها.. وتهدف المؤسسة إلى تحسين حياة الناس ومعيشتهم، عبر تنشيط قوة الإحساس بالآخرين، والشعور بمشاعرهم، وآمالهم وآلامهم، وأحلامهم وتطلعاتهم.
وتركز هذه المؤسسة على معالجة القضايا والظواهر المحلية التي تواجه المجتمع على مستوى كل مدينة، وتبحث عن الموارد المحلية المتاحة لها من المال والجهد والخبرة والمتطوعين، ويشمل ذلك جمع الأموال، وجهد الأفراد، ومشاركة رجال المال والأعمال والبنوك، وإمكانات وموارد قطاع التعليم من خلال المدارس وجهود الطلاب والطالبات والمعلمين والمعلمات، وسائر فعاليات المجتمع المدني المتاحة.
وللمؤسسة خمسة مجالات رئيسية للتطوع، فالمجال الأول، يعنى بمساعدة الأطفال والشباب (ذكور واناث) على النجاح والتميز في حياتهم العملية، وما يتصل بمعيشتهم، وتعليمهم، ونموهم الفكري والجسدي، وعدم الإيذاء الجسدي أو النفسي، والحرص على الأداء الدراسي، وخفض العنف في المدارس، والنشاطات اللاصفية، والمراكز الصيفية.. الخ ما يتصل باحتياجات الطفولة والشباب، حسب ظروف احتياجات كل بيئة.
أما المجال الثاني، فهو موجه لتقوية الأسرة، ومساعدتها على تجاوز كل ما يعترضها من معوقات اجتماعية واقتصادية وثقافية تعوقها دون قيامها بالدور المطلوب منها، مع القيام بجميع المهمات التوعوية التي تحتاجها الأسرة للبقاء متماسكة.
والمجال الثالث، يركز على تقوية الاعتماد على الذات في المعيشة والتعليم، والعمل وفرص الحياة؛ لكي يكون الفرد مواطناً منتجاً معتمداً على قدراته الذاتية في طلب العلم والعمل وكسب المعيشة، ثم العمل على مساعدة الشباب والفتيات على البحث عن فرص التعليم والتدريب والعمل المتاحة لهم في إطار مجتمعهم المباشر.
ثم يأتي المجال الرابع، حيث يهتم بالعمل على تقوية مشاعر الجيرة، ومتابعة احتياجات الحي، وأمن المنازل والمرافق فيه، عبر مفهوم "مراكز الأحياء" الذي يقدم سلّة من الخدمات لأهل الحي، في مختلف الجوانب الاجتماعية، والاقتصادية، والترويحية، والرياضية، والثقافية، ومراقبة المنحرفين.
وأخيراً، المجال الخامس، الذي يقوم على رعاية الفئات المحتاجة من المجتمع المحلي من كبار السن، والمعوقين، والسجناء، وأسر السجناء، والأيتام والأرامل، والمشردين والمرضى، والمدمنين على المخدرات.. الخ.
وتقوم المؤسسة (الأم) بتقديم خدمات المساعدة والمساندة لفروع المؤسسة في كل ولاية، أو مدينة، أو مجتمع محلي، في الجوانب التالية: تقديم خدمات التدريب والاستشارة لفروع المؤسسة في مختلف المدن والقرى، والتوسط لدى الجهات الرسمية والأهلية والخيرية بمدهم بما يحتاجون إليه من خدمات ومشورة وتسهيلات، وعقد المؤتمرات والندوات وورش العمل، وطباعة الكتب والمذكرات والتقارير، وتقديم خدمات البحث عن المعلومة والإحصائية على مستوى الدولة، والعمل على تحديثها بشكل مستمر، وتقديم أدوات علمية منهجية لتقويم الأداء في الفروع، وقياس فاعلية البرامج المقدمة التي يقدمها كل فرع للمؤسسة على مستوى المدينة، أو المجتمع المحلي.
وتقوم فروع المؤسسة في كل مدينة، باجتذاب المتطوعين، والتعرّف على عنصار القوة في المجتمع المحلي، والموارد المتاحة واقعياً فيه، وتمويل البرامج والمبادرات المحلية، ومحاولة العمل عل تغيير، أو تعديل، بعض الإجراءات الحكومية، أو غير الحكومية، التي تعوق تقديم البرامج الاجتماعية، أو خدمة الفئات المحتاجة.. وكذلك التعاون مع جميع الفعاليات والامكانات الرسمية والأهلية والخيرية الأخرى في سبيل تحقيق أهداف المؤسسة.
إن الشيء المميز والفعال في هذه المؤسسة أنها تطوعية 100%، وتعتمد على الشباب والفتيات في جميع فعالياتها، وهي، أيضاً، توجّه أغلب خدماتها لهم، كما أنها لا تقدم المساعدات والهبات المباشرة، كما نفعل نحن بالصدقات والزكوات والتبرعات، وإذا ما قامت بشيء من ذلك، فإن ذلك يتم في سياق برامج تنموية وإنمائية للفرد والأسرة والمجتمع المحلي، سواء في مجال التعليم، أو التدريب، أو العمل، أو الصحة، أو التوعية والتثقيف الذاتي والمساعدة الذاتية.
ولعل سرّ نجاحها يكمن، أيضاً، في عدم المركزية، فهي تعتمد في كل شيء عل نشاط وتفاعل الأفراد والمجموعات على المستوى المحلي انطلاقاً من مبدأ (أهل مكة أدرى بشعابها).. ولذا تنجح مثل هذه المبادرات التطوعية سواء من حيث التمويل، أو من حيث حماس الناس، أو من حيث الأثر العميق الإيجابي الذي تحدثه في حياة المجتمع المحلي، بدءاً من الطفولة وانتهاءً بكبار السن في المجتمع المحلي، حيث تكون دورة (المال والجهد والبرنامج) محدودة النطاق داخل المجتمع الصغير، ولهذا يُحسّ الجميع بأثرها، ويرون مظاهرها، ويلمسون فعاليتها في الحال، ويشعر الناس أن (سمنهم في دقيقهم) كما يقال.
وللمنظمة شعار جميل يقول: إن المهم هو إحداث أكبر قدر من التأثير المحسوس ذي المعنى، في كل مجتمع محلي عبر الوطن، فليس المهم كم فرداً ساعدنا، ولا كم برنامجاً أعددنا.. المهم النتيجة وهي:
(كم من حياة غيّرنا، وكم من مجتمع صغير بنَينا)
ومع التسليم مسبقاً أن بعض هذه الأفكار قد لا تصلح، أو لا تنطبق، أو لا تنجح في مجتمعنا.. المهم أن البشر هم البشر في كل زمان ومكان.. يتوقون لخدمة بني الإنسان، ورعاية المحتاج للرعاية، ولدى كل إنسان فطرة سليمة، مهما كان دينه ولونه وجنسانيته ومجتمعه ولغته وثقافته.. المطلوب هو أن نتحرك مثل الآخرين لدفع ثمن المواطنة، وشكر لنعمة الدين والأمن والرخاء، وخدمة هذا المجتمع، وأن نقوّي هذه الجذوة.. جذوة الرغبة في العطاء والإحسان والمشاركة والمواطنة، وقليل من نكرات الذات، والتضحية بشيء من المال والوقت والجهد والخبرة في سبيل ذلك.. وهذا يتطلب من المهتمين في الشأن العام، والشأن الاجتماعي، النظر بشفافية إلى معوقات العمل التطوعي، بمعناه الشامل، في بلادنا، ولماذا يحجم البعض عن الانخراط فيه؟ ولماذا ينفرد به، أحيانا، مجموعات معينة من المجتمع؟ أو يقتصر عل نشاطات محدودة؟ وهذا يتطلب تفعيل مسارات العمل التطوعي بكافة صوره وأشكاله عبر قدوة مستنيرة، وإصرار متواصل، وطولة بال ونفس، وتشجيع مستمر من الدولة، على الأقل في البدايات، عبر تأسيس ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني (الحكومية وغير الحكومية GNGOs.
مجتمعنا - ولله الحمد - لديه المال والرغبة.. وشبابنا وفتياتنا لديهم الحماس.. ما نحتاج إليه هو التنظيم، والقدوة، والتركيز، وترتيب الأولويات.. نحن في مجتمع نخاف أحياناً من المبادرات التطوعية، ولدينا وساوس معينة قد لا تكون مبررة.. الشباب من الجنسين لديهم الحماس والطاقة، ولا بد من توجيه هذه الطاقات إلى هدف للصالح العام، ولخير الفرد والمجتمع، وإلاّ تحولت هذه الطاقة لغير هدف خيري.. فنحن - إذا كنا - لا نريد لشبابنا أن يذهب إلى الخارج للتطوع، ولا نريده أن يذهب للخفاء والظلام للعمل تحت الأرض، ولا لفتياتنا الخواء النفسي، والسلبية وعدم الاكتراث، و"التسدّح" في المنازل والاستراحات، والتسكع في المجمعات التجارية، والتهافت على الأمور الاستهلاكية، والتسمّر على الفضائيات، وغرف المحادثات في الإنترنت، فلا مندوحة أن تُيسّر للشباب من الجنسين قنوات رحبة للحركة والتنفس، تحت سمع وبصر وملحظ الوالدين والأسرة والدولة والمجتمع، وتكون لحياتهم طعم، ولوقتهم قيمة، ولوجودهم رسالة.
إن الشاب السعودي والفتاة السعودية من واقع ما نسمع، وما نشاهد، لديهم رغبة جامحة في العمل والتطوع والمشاركة، ولكنهم يريدون القدوة والتوجيه، وفتح المجال، وتحسس الطريق، وإعطائهم الثقة في النفس.. هناك نجاحات في كل مكان في العالم: في الأردن، المغرب، مصر، اليمن، بنجلاديش، أمريكا، أوروبا، استراليا.. أمريكا الجنوبية.. يسندها عشرات التجارب، ومئات المحاولات، وآلاف التقارير كلها تشير إلى نجاحات متحققة.. ولسنا في المجتمع السعودي أقل من الآخرين مالاً وإنسانية وأريحية ورغبة.
لعل بالإمكان تبني تجارب تطوعية في سياق برامج محدودة النطاق، ولكن ملموسة الأثر، في أحد القطاعات ذات الصلة بالشباب والفتيات كالتعليم والشؤون الاجتماعية ورعاية الشباب.. ومن ثم تقوم التجربة ليُنظر في تعميقها وتعميمها في حال نجاحها.. فلو قدر لنا أن نقدم تجربة ناجحة، ولو صغيرة ومتواضعة، على مستوى بعض المناطق، والمدن، والمحافظات، أو ضمن سياق نشاطات الجمعيات والمؤسسات الخيرية، والكشافة والمراكز الصيفية والنشاطات اللاصفية التابعة لوزارة التربية والتعليم، ولجان التنمية الاجتماعية المحلية التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية، والبرامج التي تتولى الرئاسة العامة لرعاية الشباب الإشراف عليها، والبرامج الإغاثية والإسعافية لجمعية الهلال الأحمر السعودي.. فإن عدوى التطوع، سوف تنتقل إلى محافظات ومناطق أخرى في المملكة، ونعيد للمجتمع السعودي حيويته المعهودة في هذه المجالات التي كانت سائدة في التسعينات الهجرية.
المصدر : صحيفة الرياض
البحث عن ثقافة التطوع في مجتمعاتنا د. إبراهيم البيومي غانم
مستشار أكاديمي- الأمانة العامة للأوقاف بالكويت
ما يلفت النظر ابتداءً هو أن التدني في فاعلية التطوع في معظم المجتمعات العربية من المحيط إلى الخليج، يأتي في وقت هي أشد ما تكون حاجة إلى تنشيط كافة فاعليات العمل الأهلي، وفي القلب منها فاعليات العمل التطوعي؛ وذلك لأسباب تعود إلى طبيعة التحولات الاقتصادية والسياسية التي تمر بها من جهة، ونظراً لصعود موجة الاهتمام العالمي لما يُسمَّى القطاع الثالث أو اللاربحي من جهة أخرى، مع ما يفرضه هذا الصعود من ضرورة التفتيش عما تملكه في مخزونها الثقافي والقيمي من محفزات ودوافع لتنشيط العمل التطوعي وتطويره.
إن مفهوم "التطوع" إنما يقع في منظومة الفكر المادي العلماني على طرف نقيض لمفهوم "الواجب" أو "الإلزام"؛ ولذلك نجدهم يُفرِّقون بين "العمل التطوعي" "والعمل غير التطوعي"؛ ومن ثمَّ بين القطاع الخيري أو اللاربحي، وقطاع الأعمال ( أو الربحي) من جهة، والمنظمات الحكومية والمنظمات غير الحكومية أو الأهلية من جهة أخرى.
والأمر جِدُّ مختلف في منظومة الفكر الإيماني الإسلامي؛ إذ يتصل التطوع بالفرض، كما تتصل السُّنَّة بالواجب اتصالاً وثيقاً، يصل أحياناً إلى حد انتقال العمل الواحد من موقع "التطوع" إلى موقع الفريضة الملزِمة، وذلك في الحالات التي عبَّر عنها الفقهاء بمفهوم "فروض الكفاية"؛ وهي تلك الأعمال التي يتعين القيام بها لمصلحة المجتمع أو الأمة كلها، ويُناط ذلك بفرد أو بجماعة منها أو فئة معينة تكون مؤهلة لهذا العمل على سبيل التطوع، فإن لم ينهض به أحد صار العمل المطلوب فرضاً مُلزماً، ويأثم الجميع ما لم يقم هذا الفرد أو تلك الفئة أو الجماعة – أو غيرها - بأدائه على الوجه الذي يكفي حاجة المجتمع.
وكلما كان الفرد -أو الجماعة أو الفئة – أكثر قدرة على القيام بأداء فرض الكفاية على سبيل التطوع وتقاعس عن ذلك، كان نصيبه من الإثم أكبر من غير القادر أو الأقل قدرة منه.
ولم يحظ العمل التطوعي في أي ثقافة أجنبية بمثل المكانة التي حظي بها في الثقافة الإسلامية، ومع ذلك فإن ثقافة التطوع في المجتمع العربي المعاصر تتسم بدرجة متدنية من الفاعلية في معظم البلدان من المحيط إلى الخليج، وهو ما يدفعنا للسؤال: لماذا هذا التدني في فاعلية التطوع وفي جدواه الاجتماعية في عالمنا العربي؟
ولا شك أن هناك أسبابًا كثيرة يمكن ردها إلى أن "الثقافة السائدة" في هذا المجال تعاني بدورها من إشكاليات أربع:
*إشكاليات التسييس.
*اختلال الأولويات.
*جمود الخطاب الفكري وتقليديته في ميدان التطوع.
*ازدواجية المرجعية المعرفية في هذا الميدان.
وقد نبتت – بجملتها – في مناخ الحكم الشمولي التسلطي الذي عانت منه معظم المجتمعات العربية على مدى النصف قرن الأخير، حيث تشكل هذا المناخ في إطار فلسفة الرأي الواحد والأمر من أعلى هرم السلطة إلى أدناه، والامتثال من قاعدة المجتمع إلى حد الإذعان التام، وهو ما يتناقض مع فلسفة التطوع القائمة على المبادرة والاختيار الحر.
وفقا للمسطرة الحكومية
- ولكن ماذا عن الإشكاليات الأربع من المنظور الواقعي؟
*إشكالية التسييس التي تجلّت عندما سخرّت السلطات الحاكمة كافة أنماط الخطاب الثقافي لخدمة سياساتها، ومن ثم جرى إدماج ما يتعلق بثقافة "التطوع" ضمن ثقافة الهيمنة التي فرضتها الدولة، كما خضعت البنى المؤسسية "للأعمال التطوعية" للتفكيك وإعادة الهيكلة والتنميط وفقاً للمسطرة الحكومية. ولما كانت الجماعات الحاكمة في النظم الثورية خلال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، قد تبنت أيديولوجيات سياسية مفارقة في كثير من جوانبها للتراث السياسي والثقافي للمجتمع، فقد تفاقمت إشكاليات "تسييس" ثقافة التطوع؛ إذ ضاق الفرق بين ما هو طوعي وما هو إجباري حسب منطق السلطة، وهُمِّشت الثقافة الدينية، أو اُختزلت في أفضل الحالات في مقولات مؤيدة لسياسة الدولة؛ الأمر الذي أدى إلى ضمور "ثقافة التطوع" بعد تهميش منبعها الأكبر؛ وهو الثقافة الدينية الأصيلة.
*إشكالية التسييس التي تجلّت عندما سخرّت السلطات الحاكمة كافة أنماط الخطاب الثقافي لخدمة سياساتها، ومن ثم جرى إدماج ما يتعلق بثقافة "التطوع" ضمن ثقافة الهيمنة التي فرضتها الدولة، كما خضعت البنى المؤسسية "للأعمال التطوعية" للتفكيك وإعادة الهيكلة والتنميط وفقاً للمسطرة الحكومية. ولما كانت الجماعات الحاكمة في النظم الثورية خلال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، قد تبنت أيديولوجيات سياسية مفارقة في كثير من جوانبها للتراث السياسي والثقافي للمجتمع، فقد تفاقمت إشكاليات "تسييس" ثقافة التطوع؛ إذ ضاق الفرق بين ما هو طوعي وما هو إجباري حسب منطق السلطة، وهُمِّشت الثقافة الدينية، أو اُختزلت في أفضل الحالات في مقولات مؤيدة لسياسة الدولة؛ الأمر الذي أدى إلى ضمور "ثقافة التطوع" بعد تهميش منبعها الأكبر؛ وهو الثقافة الدينية الأصيلة.
السلام قبل محو الأمية!
*تجلت اختلال الأولويات داخل ثقافة التطوع السائدة في التركيز على بث مفاهيم وأفكار التطوع حول قضايا لا تحتل أولويات متقدمة في سُلَّم الاهتمام العام للمجتمع، الأمر الذي تؤكده ممارسات الخطاب الثقافي الوافد؛ حيث يولى اهتمام كبير بأفكار التطوع والعمل الأهلي في قضايا المرأة، والسلام، والبيئة أكبر من قضايا محو الأمية والبطالة والرعاية الصحية، التي تحتل أولوية متقدمة بالنسبة لمعظم المجتمعات العربية.
وربما أسهمت إشكالية التسييس المشار إليها، في ظهور إشكالية اختلال أولويات ثقافة التطوع؛ إما لاحتكار السلطة للشأن الثقافي العام في مرحلة سابقة كما أوضحنا، وإما بسبب توجيه عديد من فعاليات العمل التطوعي لاهتمامها ناحية مواجهة الدولة، والسعي لتحرير الشأن الثقافي التطوعي من هيمنتها، وإما للأمرين معاً. وفي جميع الحالات فإن هذا الاختلال لا يخدم أياً من الطرفين (المجتمع أو الدولة)، وإنما ينطوي على سلبيات كثيرة لكليهما.
* نظراً لحالة التكلس الذي تعانيه قيادات العمل التطوعي، وعدم قدرتها على إنتاج خطاب ثقافي يتسم بالفاعلية والتجديد والتجاوب مع متغيرات الواقع، فإنها تواجه إشكالية جمود وتقليدية الخطاب الفكري الذي تمارسه معظم هذه القيادات.
إن جمود خطاب ثقافة التطوع وتقليديته –على هذا النحو- تجعله غير قادر على التوسع وكسب قواعد اجتماعية جديدة؛ بسبب جموده الداخلي وكذلك سيطرة قيم الثقافة الفردية وانصراف معظم أفراد المجتمع لحل أزماتهم الخاصة، كما أن هذا الجمود يجعله حبيساً لأطره المحلية والقطرية، وعاجزاً عن التفاعل أو التوافق مع الخطاب العالمي لثقافة التطوع، ناهيك عن أن يسهم في صياغة هذا الخطاب، والنتيجة النهائية لذلك هي استمرار قابلية ثقافة التطوع بالمجتمع العربي للتأثر بثقافة الآخر والتبعية لها، دون القدرة على التأثير فيها أو تجنب سلبياتها.
صيغة حديثة لذل المسألة
تستند ثقافة العمل التطوعي في المجتمع العربي في قسمها الموروث إلى المرجعية التراثية الدينية، بينما تستند في قسمها الوافد إلى المرجعية الوضعية العلمانية، وتتسبب هذه الازدواجية في ظهور ازدواجية المرجعية المعرفية في هذا الميدان لتسبب كثيرًا من التناقضات والانقسامات داخل خطاب الثقافة السائدة للتطوع؛ إذ يعمد أنصار "الموروث" إلى التركيز على المضمون الديني الإسلامي للتطوع مع إعطائه تفسيراً ضيقاً لا يتسع في كثير من الحالات لغير المسلمين، وذلك كلما وجدوا أنصار "الوافد" يركزون بدورهم على المضمون المادي، "الدنيوي" للتطوع وينفون –أو يتجاهلون- أية أبعاد روحية أو دينية له، ولا يعود مثل هذا الانقسام إلاّ بآثار سلبية على ثقافة التطوع بصفة عامة.
وتسبب إشكالية "ازدواجية المرجعية" ضرراً آخر لثقافة التطوع في المجتمع العربي بإسهامها في إيجاد منافسة غير متكافئة بين المكون "الموروث" والمكون "الوافد"؛ حيث لا يجد أنصار "الوافد" مانعاً –حسب مرجعيتهم المعرفية- يمنعهم من قبول التمويل الأجنبي، أو العمل طبقاً لأجندة أولويات لا تخدم المجتمع العربي الذي يعملون فيه بالضرورة، فضلاً عن الآثار السلبية لتلك الأجندة الأجنبية على نظام القيم والأخلاقيات في مجتمعنا العربي ليس ذلك فحسب، وإنما يؤدي هذا "التمويل الأجنبي" إلى خلق حالة من التناقض في منظومة القيم والمبادئ التي تقوم على أساسها ثقافة التطوع؛ فبينما تؤكد الثقافة الموروثة على قيم الاعتماد على الذات، والتضحية، والبذل، والعطاء من ذات اليد، والإيثار، تأتي الثقافة التطوعية الوافدة –بقبولها التمويل الأجنبي- لتؤكد على قيم التواكل على الغير، أو التطوع بأموال الآخرين واستمرار الخضوع وذل المسألة (وليس غريباً في هذا السياق أن يتلقى طالبو التمويل الأجنبي دورات تدريبية في كيفية كتابة الطلب Application، الذي يتقدمون به للجهات الأجنبية للحصول على التمويل، وهذا الطلب هو صيغة حديثة لتكريس ذل المسألة).
ثمة مبشرات
برغم كل الصعوبات والتعقيدات التي تكتنف ثقافة العمل التطوعي –على النحو الذي تشير إليه الإشكاليات الأربع السابق تناولها- فإن ثمة ما يشجع على التصدي لها، ويبشر بإمكانية التغلب عليها، ويبدو ذلك من جملة التغيرات الاجتماعية، والتحولات السياسية والاقتصادية، التي تجري على مستوى المجتمع العربي كله -وإن بدرجات متفاوتة من منطقة إلى أخرى، منذ ما يقرب من عقدين على الأقل- إذ إن خلاصة هذه التغيرات وتلك التحولات تصبّ باتجاه تغيير المناخ الشمولي السلطوي الذي تولدت فيه أزمة ثقافة العمل التطوعي من ناحية، وتسهم في تشكيل مناخ جديد أكثر انفتاحًا ومرونة من قبل الدولة في علاقتها بالمجتمع من ناحية أخرى.
إلى جانب ذلك ثمة ضرورات محلية قطرية، وإقليمية عربية، ودولية عالمية تتطلب بذل مزيد من الجهود المنظمة من أجل تفعيل ثقافة العمل التطوعي.
...وضرورات
فعلى المستوى المحلي (القطري) لكل بلد عربي، بات من الضروري إيلاء ثقافة التطوع الاهتمام الكفيل بإخراجها من حالة الركود إلى حالة الفاعلية؛ لأن في ذلك مصلحة مزدوجة: للدولة والمجتمع معا؛ فالدولة من جهتها تسعى لتخفف من عبء إرث السلطة الأبوية، والانتقال من فلسفة "الرعاية الكاملة" إلى الرعاية النوعية؛ بعد أن عرفت من تجارب المراحل السابقة أن خدماتها الرديئة تضر المجتمع ولا تنفعها بشيء، ومن هنا فإن تفعيل ثقافة العمل التطوعي يأتي في خدمة هذا التوجه، أما من جهة المجتمع فقد عانى بما فيه الكفاية من الإقصاء والتهميش في ظل الدولة الشمولية أو السلطوية، وهو يتطلع –كذلك- لترميم شبكة العلاقات التعاونية والتراحمية التي تهتكت من جراء هذا الاستبداد، وخلّفت وراءها فجوات نفسية عميقة بين فئات المجتمع.
وعلى المستوى الإقليمي للمجتمع العربي كله، تتجلى ضرورة التفعيل في ثلاثة دواع أساسية:
أولها أن جميع أبناء هذا المجتمع من المحيط إلى الخليج تجمعهم ثقافة واحدة هي الثقافة العربية الإسلامية، ولا تعدو ثقافة التطوع كونها نسقاً فرعياً داخل هذه الثقافة الواحدة، ومن ثم فإن تفعيلها يسهم في تفعيل وتقوية الثقافة الأم، ويُدِّعم من أواصر الأخوة والتضامن على أساس من القيم المشتركة.
وثانيها أن ثمة حاجة فعلية لنقل بعض ثمرات العمل التطوعي من بعض البلدان العربية التي أصبح فيها التطوع يشكل مجالاً حيوياً نشطاً (مثل بعض بلدان الخليج) إلى بلدان عربية أخرى تواجه مشكلات طاحنة، وهي أولى بالرعاية وأحق بتلقي إسهامات الأشقاء، وكلما كانت ثقافة التطوع أكثر فاعلية على الصعيد العربي، زادت إمكانية تحقيق هذا التكامل.
وثالثها أن دعم ثقافة التطوع، وتيسير انتقال آثاره الفكرية والعملية عبر الأقطار العربية من شأنه المساعدة في الأخذ بيد البعض منها للخروج من حالة الانغلاق على الذات والتحرر من الاستبداد الداخلي -الذي تبرر الدولة جانباً منه بحجة توفير كافة الخدمات والمعونات- وقد يساعد أيضًا في تجنيبها من الوقوع تحت تأثير المنظمات الأجنبية العاملة في مجال التطوع.
حتى لا نكتفي بقول الخواجات
أما على المستوى العالمي فإن تفعيل ثقافة التطوع في المجتمع العربي يعتبر ضرورة حضارية؛ ذلك لكي تتمكن الأمة العربية من الإسهام بفاعلية في بناء وصوغ الخطاب العالمي حول ثقافة التطوع؛ إذ من غير اللائق –حضارياً- ألاّ يكون لهذه الأمة إسهام بارز في هذا المجال، وهي تمتلك تراثاً غنياً بالقيم والمبادئ والمعايير والأخلاقيات التي يمكن أن تستفيد منها البشرية، وهي في حاجة فعلية إلى مثلها.
ومن غير اللائق –حضارياً أيضاً- أن تكون المشاركات العربية شكلية وغير مؤثرة في المنتديات العالمية المعنية بشئون التطوع وقضاياه، أو أن يكتفي المشاركون العرب بترديد ما يقوله الآخرون (الخواجات)، ولا يظهر لهم دور واضح يقدمون من خلاله المضمون الإسلامي لثقافة التطوع وينعكس فيما يصدر عن تلك المنتديات من بيانات ومواثيق أخلاقية
وحتى يتحقق شيء من ذلك فإن ثمة ضرورة لتفعيل ثقافة التطوع على المستويين النظري التأصيلي والعملي التطبيقي في المجتمع العربي، وإلاّ فلن يكون لأمتنا دور في هذا المجال على المستوى العالمي، وستبقى التبعية لخطاب ثقافة التطوع الأجنبية ما بقيت ثقافة التطوع في المجتمع العربي راكدة وغير فاعلة.
المصدر: إسلام أون لاين
دور محدود للمرأة في العمل التطوعي
ثقافة التطوع في مجتمعنا.. ضرورات تحتاج إلى تفعيل تحقيق - هيام المفلح:
يُعد العمل التطوعي ركيزة أساسية في بناء وتنمية المجتمع ونشر التماسك الاجتماعي بين المواطنين لأي مجتمع، وهو ممارسة إنسانية ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بكل معاني الخير والعمل الصالح عند كل المجموعات البشرية منذ الأزل، ولها دورها الهام في عملية التغيير الاجتماعي. في تحقيقنا هذا تناقش "الرياض" مع بعض الاختصاصيين، وعلى هامش مؤتمر التطوع المعقود في مدينة الرياض، أهمية العمل التطوعي في مجتمعنا، ودوره في التنمية الاجتماعية، وتضع يدها على معوقاته وطرق الإدارة المثلى لعملياته ،وتطرح الحلول والمقترحات للوصول به إلى النجاح المنشود.
ماهية العمل التطوعي
بداية تعرّف الباحثة نورة العنزي، الباحثة في مجال الخدمة الاجتماعية من جامعة الإمام والتي أعدت رسالة ماجستير عن العمل التطوعي، تقول إن العمل الاجتماعي التطوعي من وجهة نظرها هو مساهمة الأفراد في أعمال الرعاية والتنمية الاجتماعية سواء بالرأي أو بالعمل أو بالتمويل أو بغير ذلك من الأشكال. وتضيف أن من خصائص العمل الاجتماعي أن يقوم على تعاون الأفراد مع بعضهم البعض في سبيل تلبية احتياجات مجتمعهم، وهذا يقود إلى نقطة جوهرية مفادها أن العمل الاجتماعي يأتي بناء على فهم لاحتياجات المجتمع، مع الاشارة إلى أن مساهمة الأفراد في العمل الاجتماعي تأتي بوصفهم إما موظفون أو متطوعون "وهو مجال موضوعنا"، والتطوع هو الجهد الذي يقوم به الفرد باختياره لتقديم خدمة للمجتمع دون توقع لأجر مادي مقابل هذا الجهد.
وترى الباحثة نورة أن العمل التطوعي يختلف في حجمه وشكله واتجاهاته ودوافعه من مجتمع إلى آخر، ومن فترة زمنية إلى أخرى، فمن حيث الحجم يقل في فترات الاستقرار والهدوء، ويزيد في أوقات الكوارث والنكبات والحروب، ومن حيث الشكل فقد يكون جهداً يدوياً وعضلياً أو مهنياً أو تبرعاً بالمال أو غير ذلك، ومن حيث الاتجاه فقد يكون تلقائياً أو موجهاً من قبل الدولة في أنشطة اجتماعية أو تعليمية أو تنموية، ومن حيث دوافعه فقد تكون دوافع نفسية أو اجتماعية أو سياسية.
وتميز العنزي بين شكلين من أشكال العمل التطوعي، أول الشكلين هو السلوك التطوعي، وتقصد به مجموعة التصرفات التي يمارسها الفرد وتنطبق عليها شروط العمل التطوعي ولكنها تأتي استجابة لظرف طارئ، أو لموقف إنساني أو أخلاقي محدد، مثال ذلك "أن يندفع المرء لإنقاذ غريق يشرف على الهلاك، أو إسعاف جريح بحالة خطر إثر حادث ألمّ به"، وهذا عمل نبيل - لا يقوم به للأسف إلا القلة اليوم - في هذه الظروف يقدم المرء على ممارسات وتصرفات لغايات إنسانية صرفة أو أخلاقية أو دينية أو اجتماعية، ولا يتوقع الفاعل منها أي مردود مادي.
أما الشكل الثاني من أشكال العمل التطوعي فتذكر العنزي أنه يتمثل بالفعل التطوعي الذي لا يأتي استجابة لظرف طارئ بل يأتي نتيجة تدبر وتفكر مثاله الإيمان بفكرة تنظيم الأسرة وحقوق الأطفال بأسرة مستقرة وآمنة؛ فهذا الشخص يتطوع للحديث عن فكرته في كل مجال وكل جلسة ولا ينتظر إعلان محاضرة ليقول رأيه بذلك، ويطبق ذلك على عائلته ومحيطه.
دوافع التطوع
وعن دوافع العمل التطوعي يقول الدكتور أيمن إسماعيل محمود يعقوب أستاذ الخدمة الاجتماعية بجامعة الامام أن الدوافع الخاصة بالتطوع تتعدد، فمنها ما هو شعوري، ومنها ما هو لا شعوري، وهذه الدوافع تتشابك، وينتج عنها في النهاية هذا الالتزام الذي يدفع المتطوع إلى العمل، فقد يكون الدافع الرغبة في الشعور بالراحة النفسية، والرغبة في اكتساب الأصدقاء أو الجماعة المرجعية التي ينتمي إليها، وقد يدفع الشخص للتطوع، مجرد حب الظهور أو وجود وقت فراغ لديه، أو يتطوع الشخص مدفوعا بفلسفة عامة ومرغوبة.
ويرى د. أيمن أيضاً أن دوافع التطوع في الدول المتقدمة تختلف عنها في الدول النامية، طبقا لظروف كل مجتمع، ففي المجتمعات المتقدمة تتم المشاركة التطوعية لدوافع اجتماعية تتمثل في الوعي الاجتماعي، والنجاح في التعامل مع الآخرين، والرغبة في الحصول علي مكانة اجتماعية، والحاجة إلى الاتصال بمجالات العمل والحياة المهنية، بينما في المجتمعات الناميه فالدوافع الأساسية للمشاركة التطوعية فتكمن في اتجاهين رئيسين يرتبط أولهما بمدى ما يحققه المشروع من فائدة مباشرة للمتطوع، ويرتبط ثانيهما بقيم دينية أو ثقافية معينة، فإلى جانب أن الدوافع تختلف مع مستوى الأفراد حسب المستوى العلمي والاقتصادي وحسب العمر الزمني والحالة الاجتماعية، والوضع الاجتماعي فان هذا الاتجاه يؤكد علي أن الجذب لعملية المشاركة التطوعية يرتكز علي جوانب دينية أو ثقافية ما تهمم وتؤثر علي المشارك.
توجه ديني
وللعمل التطوعي أصل شرعي ورد في مواقع كثيرة من القرآن والسنة يؤكد على هذا الدكتور محمد أحمد الجوير عضو هيئة التدريس بكلية الدراسات التطبيقية بجامعة الملك سعود والمستشار بالتلفزيون السعودي، فيقول :
بما أن المفهوم العام للعمل التطوعي هو بذل الجهد أو المال أو الوقت أو الخبرة بدافع ذاتي دون مقابل، فهو يُعد في ديننا الحنيف ركيزة أساسية في بناء علاقة الفرد المسلم بأخيه المسلم قال (ص): "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا"، فالعمل التطوعي من القيم والخصائص الاجتماعية التي تساهم في شكل فاعل في تحقيق أهداف وطموحات الأفراد والمجتمعات. ويضيف د. الجوير أن للعمل التطوعي مستنداً شرعياً ،فقد حث الإسلام ورغب في أعمال الخير ويدخل العمل التطوعي ضمناً في هذه الأعمال، ولقد جاءت آيات قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة تحث على عمل الخير للناس كافة المسلم وغير المسلم ، من الآيات قوله تعالى(وتعاونوا على البر والتقوى)،وقوله تعالى (ومن تطوع خيراًفهو خير له)، ومن السنة قوله(ص)
إن لله عباداً اختصهم لقضاء حوائج الناس حببهم للخير وحبب الخير إليهم أولئك الناجون من عذاب القيامة)،وقوله(ص) : (خير الناس أنفعهم للناس)، والناس هنا جاءت نكرة تشمل المسلم والكافر وهذا من كمال وشمولية الإسلام وعنايته بالبشرية جمعاء هذه الآيات والأحاديث تعتبر مدخلاً يلج منه العمل التطوعي بأشكاله المتنوعة من العون والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل ذلك يبين عظمة الإسلام.
ويشير د. الجوير إلى أن مفهوم العمل التطوعي في عالمنا الإسلامي يرتبط بقيم التكافل الاجتماعي وليست له دوافع ذاتية آنية، من أنواع العمل التطوعي التي حثنا عليها الاسلام يذكر د. الجوير (التجاوب الاجتماعي في أوقات الشدة وفي الإغاثة وفي حل الأزمات وتخفيف آثار الفقر والعوز)..إلى غير ذلك من الأعمال داخل المجتمع، وعلى سبيل المثال "تدريس النشء كتاب الله وتفطير الصائمين وقضاء حوائج الفقراء والمساكين" وغير ذالك. ويضيف د. الجوير أن أسمى أعمال التطوع هي التي تنبع من الذات والتي لا تنتظر أجراً مقابلاً لذلك، فالذين يقومون بأعمال التطوع أشخاص نذروا أنفسهم لمساعدة الآخرين بطبعهم واختيارهم، والدافع الديني يأتي على رأس قائمة الدوافع لهذه الأعمال، ويرى د. الجوير تنمية هذا العمل في نفوس الجيل عن طريق المدرسة في مادة التربية الوطنية إضافة إلى قيام وسائل الإعلام المختلفة بالدور المناط بها وتكريس هذه القيم الأخلاقية النبيلة.
مجالات التطوع
ما هي مجالات العمل التطوعي؟ تقول الباحثة نورة العنزي إن العمل التطوعي يشمل عدة برامج ومجالات وهي (برامج التعليم والتدريب والتأهيل) وتشمل إعداد مربيات الأطفال واستعمال الحاسب الآلي والنسخ على الآلة الكاتبة وتعليم التفصيل والخياطة ومكافحة الأمية والسكرتارية والفنون التشكيلية والتطريز وتدريب بعض أفراد الأسر التي ترعاها الجمعية على بعض الحرف والمهن، ثم (برا مج الرعاية الصحية) وتتمثل في المستوصفات والعيادات الطبية وإجراء عمليات القلب وعيادات مكافحة التدخين والصيدليات ومراكز العلاج الطبيعي ودورات الإسعاف الأولى وخدمة نزلاء المستشفيات ودعم لجان أصدقاء المرضى وتأمين السكن الصحي للمرضى ومرافقيهم. بالإضافة إلى التوعية الصحية والمشاركة في أسبوع النظافة والمناسبات الصحية الأخرى.
وتضيف العنزي مجالات أخرى للعمل التطوعي منها (رعاية المعاقين وكبار السن) وتتمثل "بمراكز ودور إيوائية - مراكز تعليم خاص- تعليم وتفصيل الخياطة - مشاغل خاصة لتأهيل المعاقات - بالإضافة إلى تأمين الأجهزة الطبية لبعض المعاقين"، وكذلك برنامج (الإسكان الخيري وتحسين المسكن) و تتمثل "بشراء وتأمين وتحسين المساكن"، أما (البرامج الثقافية) فتتمثل "بتحفيظ القرآن الكريم - مكتبات عامة - إقامة ندوات ومحاضرات دينية وثقافية - نشر وطبع الكتب ونشرات التوعية واللوحات الإرشادية).
وهناك برنامج (تقديم المساعدات المتنوعة) فيشمل "تقديم أنواع المساعدات النقدية والعينية والطارئة والموسمية ومساعدة المرضى والمعسرين و راغبي الزواج وأسر السجناء والمعاقين وغير ذلك ، وهناك مشروع كافل اليتيم وخدمات الأربطة ودور الضيافة لإيواء الحالات الطارئة الناجمة عن حوادث الطرق وغيرها"، هذا بالإضافة إلى إقامة المعسكرات والمراكز الصيفية لشغل أوقات الشباب في الصيف.
آثار العمل التطوعي
بعد الحديث عن الميادين المتعددة والأشكال المتنوعة للأعمال التطوعية لا بد من الوقوف عند الآثار الإيجابية التي يحصِّلها المتطوع "رجلاً كان أو امرأة" عند بذل عطائه في ميدان ما.
تشرح الباحثة نورة العنزي هذه الآثار وتقول أن هناك آثاراً على المستوى النفسي، فالمتطوع يقدِّم جزءاً من جهده ووقته وأحياناً ماله في مقابل تقدم الآخرين واستفادة هؤلاء الآخرين تشكل بالنسبة إليه مصدر راحة نفسية فيما على العكس العمل غير التطوعي (القسري والوظيفي) يحصل فيه الرضا النفسي لدى الشخص القائم به بمقدار ما يحصل هو نفسه على المنفعة الناتجة عن هذا العمل، وإضافة إلى الرضا النفسي هناك "الرضا عن الذات" حيث يرفع العمل التطوعي مستوى الدافعية للعمل ويزيد من حماسة المتطوع كلما رأى الآثار الإيجابية والتطور الملحوظ لدى من يتطوع للعمل من أجلهم، وفي جانب آخر فان العمل التطوعي يخفف من النظرة العدائية أو التشاؤمية لدى المتطوع نفسه تجاه الآخرين والحياة ويمده بإحساس وشعور قوي بالأمل والتفاؤل، وكذلك فأن التطوع يهذب الشخصيَّة ويرفع عنها عقلية الشح ويحولها إلى عقلية الوفرة مصداقاً للآية الكريمة "ومن يوقَ شحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون" ففي العمل الوظيفي يتحدد العمل بقدر ما يحصِّل العامل من مال ومنفعة ذاتية مادية بينما في العمل التطوعي لا حدود للعطاء.
أما على المستوى الاجتماعي، فتقول أن العمل التطوعي يزيد من قدرة الإنسان على التفاعل والتواصل مع الآخرين كما يحد من النزوع إلى الفردية وينمي الحس الاجتماعي لدى الفرد المتطوع ويساهم في جعل المجتمع أكثر اطمئناناً وأكثر ثقة بأبنائه كما يخفف من الشعور باليأس والإحباط ويحد من النزعة المادية لدى أفراده. ويجعل القيمة الأساسية في التواصل والإنتاج والرضا الذاتي المتصل برضا اللَّه سبحانه وتعالى.
المرأة.. والتطوع
ما دور المرأة في العمل التطوعي؟ تقول الباحثة نورة أن دور المرأة في العمل التطوعي يتعدد ليشمل المشاركة في الجمعيات الخيرية التطوعية بصورة عامة، والإسلامية خاصة، علماً بأن أهم النشاطات التي تقوم بها هذه الجمعيات هي النشاطات الاجتماعية المتنوعة مثل تقصي أحوال الأسر والأفراد ذوي الحاجة وتقديم المساعدات لهم، والمشاركة في الأسواق والأطباق الخيرية التي يستفاد من ريعها في تموين المشاريع الخيرية، وإن كانت المرأة من ذوات المؤهلات العلمية المتخصصة فيمكنها المشاركة بإقامة محاضرات ودروس توعية للمرأة خاصة في الناحية الدينية، أو التدريس في مراكز تحفيظ القرآن الكريم.
معوقات العمل التطوعي
ما معوقات العمل التطوعي في مجتمعنا؟ تحدد الباحثة نورة عدداً من المعوقات التي تعترض مشاركة الشباب في الأعمال التطوعيه الاجتماعية منها الظروف الاقتصادية السائدة وضعف الموارد المالية للمنظمات التطوعية، بالإضافة إلى بعض الأنماط الثقافية السائدة في المجتمع "كالتقليل من شأن الشباب والتمييز بين الرجل والمرأة"، وضعف الوعي بمفهوم وفوائد المشاركة في العمل الاجتماعي التطوعي، وكذلك قلة التعريف بالبرامج والنشاطات التطوعية التي تنفذها المؤسسات الحكومية والأهلية، ويضاف لها عدم السماح للشباب للمشاركة في اتخاذ القرارات بداخل هذه المنظمات، وقلة البرامج التدريبية الخاصة بتكوين جيل جديد من المتطوعين أو صقل مهارات المتطوعين، ثم قلة تشجيع العمل التطوعي.
توصيات ومقترحات
ماهي التوصيات والمقترحات التي من شأنها تفعيل العمل التطوعي والنهوض به في مجتمعنا؟ يرى د. أيمن اسماعيل أن للخدمة الاجتماعية دور في تفعيل وتنمية المشاركة التطوعية وذلك من خلال استخدام فنياتها المختلفة لتحقيق ذلك ويرى أن ذلك يمكن تحقيقه من خلال التعرف على المشكلات الحقيقية والمحلية للمواطنين في اطار المعايير التي تضعها لذلك، وكذلك مساعدة قادة المنظمات علي قبول أفكار وممارسات جديدة لحل المشكلات المجتمعية، وتنمية الوعي التنموي بين الناس ومساعدتهم علي قبول الأفكار والممارسات الجديدة، ويؤكد على ضرورة ان يتم تبنى استخدام فكرة جماعات العمل التطوعي والمشكلة من المتطوعين بإشراف من المنظمات والمهنيين الموجودين فيها.
كما تطرح الباحثة نورة العنزي عبر "الرياض" عدة توصيات خرجت بها للنهوض بالعمل التطوعي منها إتاحة الفرصة أمام مساهمات الشباب المتطوع وخلق قيادات جديدة وعدم احتكار العمل التطوعي على فئة أو مجموعة معينة، وتكريم المتطوعين الشباب ووضع برنامج امتيازات وحوافز لهم، وكذلك تشجيع العمل التطوعي في صفوف الشباب مهما كان حجمه أو شكله أو نوعه، وتطوير القوانين والتشريعات الناظمة للعمل التطوعي بما يكفل إيجاد فرص حقيقية لمشاركة الشباب في اتخاذ القرارات المتصلة بالعمل الاجتماعي. بالإضافة إلى إنشاء اتحاد خاص بالمتطوعين يشرف على تدريبهم وتوزيع المهام عليهم وينظم طاقاتهم، والعمل على تشجيع الشباب وذلك بإيجاد مشاريع خاصة بهم تهدف إلى تنمية روح الانتماء والمبادرة لديهم.
وهناك توصية ذكرتها العنزي تتلخص بأن تمارس المدرسة والجامعة والمؤسسة الدينية دوراً أكبر في حث الشباب على التطوع خاصة في العطل الصيفية، وأن تمارس وسائل الإعلام دوراً أكبر في دعوة المواطنين إلى العمل التطوعي، والتعريف بالنشاطات التطوعية التي تقوم بها المؤسسات الحكومية والجمعيات.
ومن مقترحات الباحثة نورة العنزي لتطوير العمل التطوعي تؤكد على أهمية تنشئة الأبناء تنشئة اجتماعية سليمة وذلك من خلال قيام وسائط التنشئة المختلفة كالأسرة والمدرسة والإعلام بدور منسق ومتكامل الجوانب في غرس قيم التضحية والإيثار وروح العمل الجماعي في نفوس الناشئة منذ مراحل الطفولة المبكرة، وتشدد على أن تضم البرامج الدراسية للمؤسسات التعليمية المختلفة بعض المقررات الدراسية التي تركز على مفاهيم العمل الاجتماعي التطوعي وأهميته ودوره التنموي ويقترن ذلك ببعض البرامج التطبيقية؛ مما يثبت هذه القيمة في نفوس الشباب مثل حملات تنظيف محيط المدرسة أو العناية بأشجار المدرسة أو خدمة البيئة.
مقترح قانوني
في الأونة الأخيرة تصاعدت الأصوات تطالب بتوجه القضاة إلى اصدار أحكام بديلة متمثلة في أحكام الخدمة الاجتماعية كبديل لعقوبة السجن، وقد حدثت فعلاً سابقة من هذا النوع حيث صدقت هيئة التمييز على حكم قاضي (محكمة المويه) حيث حكم على أحد الأحداث (فتى في سن المراهقة) شرب الخمر، بتنظيف 26مسجداً بديلاً عن السجن.
ويلاقي هذا التوجه الكثير من التأييد يحدثنا عن هذا المحامي والمستشار القانوني أحمد إبراهيم المحيميد موضحاً:
أن الأحكام القضائية المتعلقة بالخدمات الاجتماعية تعتبر من الظواهر الإيجابية في المجتمع وليس هنالك ما يمنع من الآخذ بها شرعا ونظاما شريطة أن يكون هنالك اعتماد رسمي لها وان تكون تحت إشراف وتنفيذ جهة إدارية مخولة وبنظام قضائي إداري حديث.
فالقضاء الشرعي، حسب رأي المحيميد، يعتمد على الكتاب والسنة وعلى السوابق القضائية عند إصدار الأحكام خاصة الأحكام التعزيرية، وتقدير العقوبات في القضاء الشرعي متروكة لاجتهاد القاضي وليس في الشرع تقييد لعقوبات محددة عدا ان هنالك عقوبات قانونية منصوص عليها في بعض الأنظمة (مثل نظام مكافحة الرشوة والتزوير والتزييف وجرائم الشيك وغيرها) من الأنظمة الأخرى، التي نصت نظاما على مقدار العقوبة ونوعها و القضاة الشرعيون يجتهدون في إيقاع العقوبة التعزيرية بما يكفل حماية المجتمع سواء جلبا للمصالح أو درءا للمفاسد، ومن تلك العقوبات (السجن والجلد والغرامة المالية)، وتعتبر عقوبة الخدمات الاجتماعية من السوابق القضائية الجديدة في مجتمعنا متمنيا تفعيلها والآخذ بها نظرا لحاجتنا الماسة للاستفادة من نشاط وحيوية الشباب في خدمة المجتمع، بدلا من تعطيلها وكبتها في السجن، وعلى ان يكون تطبيق هذه العقوبة تدريجيا (على الأحداث مثلا)، وان تطبق كذلك كعقوبة إدارية في بعض الأنظمة المدنية (مثل نظام الخدمة المدنية ونظام العمل والعمال ونظام الاعلام والنشر ونظام الاحتراف في كرة القدم)، ولكم أن تتخيلوا تطبيق عقوبة خدمة المرضى والمعاقين على إعلامي أخطأ بحق الغير، او على معلم أخطأ بحق تلاميذه، أو على لاعب شهير تجاوز الأخلاق الرياضية!
ان هذا النوع من العقوبات البديلة معمول به في عدد من دول العالم وكان له آثار إيجابية ضخمه منها الاستفادة من طاقات الشباب و تفعيلها في خدمة المجتمع وتنمية العمل التطوعي وتفعيل الانتماء والولاء للوطن وفيه حفاظ على المكتسبات الوطنية ومن شأنه تحقيق وفر في ميزانية الدولة وتخفيفا على السجون وحماية للأحداث وذوي الجنح الصغيرة من الاختلاط بأرباب السوابق والأجرام وتهذيبا للنفس البشرية.
المصدر: صحيفة الرياض
يتبع