تأثير القرآن الكريم على القلوب والنفوس والأرواح
القرآن العظيم مُؤثِّر في القلوب والنفوس والأرواح؛ لأنه كلام العليم الخبير بما يصلح هذه القلوب والنفوس في الدنيا والآخرة، ومن هذا التأثير ما يأتي: تأثيره على علماء أهل الكتاب وغيرهم من أهل العقول، قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الـْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين ﴾ [سورة المائدة، الآية: 83].
وقال تعالى (الذين أوتوا العلم من قبله يتأثَّرون به، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [سورة الإسراء، الآيات: 107- 109].
وكذلك الذين أنعم الله عليهم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرُّوا سُجَّداً وبُكِيّاُ: قال تعالى: ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [ سورة مريم، الآية: 58].
والتأثر بالقرآن من علامات الإيمان، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].
المُؤمنون الصادقون في إيمانهم، الخائفون من ربهم تقشَعِرُّ جلودهم عند قراءة القرآن، قال سبحانه: ﴿ الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الـْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَاد ﴾ [سورة الزمر، الآية: 23].
الصادقون مع الله تخشع قلوبهم لذكر الله، قال عز وجل: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الـْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون ﴾ [سورة الحديد، الآية: 16].
فعن عامر بن عبد الله بن الزبير أن أباه أخبره أنه لم يكن بين إسلامهم وبين أن أنزلت هذه الآية يعاتبهم الله بها إلا أربع سنين(ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، برقم 4192، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 3 / 369.
ولقد ضرب لنا رسول الله (صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ) المثل الرائع في التأثر بالقرآن والتجاوب مع آياته الكريمة وجاءت الأحاديث تدل على خشوع النبي صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وتأثُّره بقراءة القرآن الكريم ومن ذلك:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ (سورة إبراهيم، الآية: 36) الآية، وقال عيسى عز وجل: ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لـَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الـْحَكِيم ﴾ (سورة المائدة، الآية: 118.) الآية. فرفع يديه وقال: ((اللهم أمتي أمتي))، وبكى فقال الله عز وجل: ((يا جبريل اذهب إلى محمد وربُّك أعلم فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عز وجل فسأله، فأخبره رسول الله صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)) ( مسلم برقم 202.).
وعن أبي ذر رضى الله عنه،قال:قام النبي صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بآية حتى أصبح يردِّدها،والآية: ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لـَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الـْحَكِيم ﴾ (سورة المائدة، الآية: 118.) (أخرجه: النسائي وابن ماجه وأحمد، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه.
وأَمَرَ النبيُّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أن يُقرأ عليه القرآن فبكى لسماعه،فعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، قال:قال لي رسول الله صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
(اقرأ عليَّ القرآن))،قال:فقلت:يا رسول الله أأقرأ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ فقال: ((إني أشتهي أن أسمعه من غيري))، وفي لفظ للبخاري: ((فإني أحب أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي))، فَقَرَأْتُ عليه النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا ﴾ (سورة النساء الآية: 41)، [قَالَ لِي: كُفَّ، - أَوْ أَمْسِكْ - فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَان»وفي لفظ للبخاري: ((فقال حسبك الآن))، فرفعت رأسي، أو غمزني رجلٌ فرفعت رأسي، فرأيت دموعه تسيل))متفق عليه: البخاري ومسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها في حديث طويل ذكرت فيه صلاة النبي صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بالليل وأنه بكى مرات،قالت
(فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي،قال:يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟قال
(أفلا أكون عبداً شكوراً؛لقد نزلت عليَّ الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ [سورة آل عمران، الآية 190] الآية كلها(ابن حبان في صحيحه، برقم 620، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان: ((إسناده صحيح على شرط مسلم))، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 86: ((وهذا إ سناد جيد)).).
وعن ثابت عن مطرف بن عبد الله الشخير عن أبيه عن أبيه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي وبصدره أزيز كأزيز المرجل البيهقي في شعب الإيمان ج2/ ص362(2049)وفى لفظ (كأزيز الرحا من البكاء).
ولو تأملنا حال الصحابة الكرام (رضي الله عنهم) مع القرآن الكريم لوجدنا أنهم لم يكتفوا بالقراءة أو الاستماع فقط، بل قرأوا وتدبروا، فتعلقت به قلوبهم، وارتبطت به نفوسهم، فكانوا يطبقونه قولاً وعملاً، يأتمرون بأوامره، ويبتعدون عن نواهيه، لذلك بلغوا ما بلغوه من الفضائل والرفعة بفضل العمل بالقرآن الكريم، واستجابة لأوامره، لقد حفظ سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) سورة البقرة في ثماني سنوات ليس لبطء في حفظه ولكن لأنه كان يحرص على العلم والعمل معًا، يقول أبو عبد الرحمن السلمي (رضي الله عنه): «كُنَّا إِذَا تَعَلَّمْنَا الْعَشْرَ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ نَتَعَلَّمِ الْعَشْرَ الَّتِي بَعْدَهَا حَتَّى نَتَعَلَّمَ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا وَأَمْرَهَا وَنَهْيَهَا» [مصنف عبد الرزاق].
كانت الآية تنزل فيقرأها النبي فتتحول في التو واللحظة إلى واقع.. وكان الصحابة الكرام (رضي الله عنهم أجمعين) يفقهون آيات القرآن الكريم ويتعايشون معها وجدناهم يسارعون إلى طاعة أوامر الله (عز وجل) واجتناب نواهيه، فقد كان الصحابة فى المدينة يشربون الخمر ولم تحرم بعد، فلما دخل صحابي عليهم، وكؤوس الخمر بينهم نزلت آيات النهي عن شرب الخمر ونادي منادٍ: " ألا إن الخمر قد حُرِّمَت" وقرأ عليهم قول الله جل وعلا: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90]. فلما قرأ الآية عليهم تجاوبوا جميعًا مع القرآن والله ما أكمل صحابي جرعة الخمر في يده ما قال: نكمل هذه الجرار، وهذه الكؤوس وننتهي لا بل كان من في يده شيء من الخمر رماه، والذي كان في فمه شربة مجَّها، والذي كان عنده خمر في أوان أراقها، استجابة لأوامر القرآن الكريم، وقام أنس بن مالك فسكب آنية وجرار الخمر وسكب الصحابة الخمر في الشوارع حتى سالت في طرقات المدينة وامتلأت بها سكك المدينة وقالوا انتهينا يا ربنا، وقالوا على لسان رجل واحد: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285].
وكذلك حين نزل قول الله تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92] قام سيدنا أبو الدحداح إلى أجمل حديقة عنده وأحبها إليه وتصدق بها، ومن هنا استطاع الصحابة الكرام (رضي الله عنهم) حفظ كتاب الله لأنه لم يكن بالنسبة لهم مجرد كلمات؛ بل كان منهجًا تربويًّا سلوكيًّا إيمانيًّا ظهر في تعاملاتهم فيما بينهم؛ بل ومع غيرهم.
إن شأن المؤمن أن يتفاعل كيانه كله مع كلام الله (عز وجل)، يقول الله تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23] فكانوا إذا سمعوا القران اقشعرت جلودهم ولانت قلوبهم إلى الله رب العالمين كانوا إذا مروا بآيات فيها ذكر النار صرخوا منها خوفا كأن النار خلقت لهم وكأن الآخرة أمام أعينهم.
وعن عبد الله بن عروة بن الزبير قال قلت لجدتي أسماء كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا القرآن قالت تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم كما نعتهم الله (البيهقي في شعب الإيمان ج2/ ص365رقم (2062).
وذُكِر أنه قدم أُناس من أهل اليمن على أبي بكر الصديق رضى الله عنه، فجعلوا يقرؤون القرآن ويبكون فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: ((هكذا كنَّا)) ( ذكره النووي في التبيان في آداب حملة القرآن، ص69.).
وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه ذُكِر عنه أنه صلى بالجماعة صلاة الصبح، فقرأ سورة يوسف فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته، وفي رواية: أنه كان في صلاة العشاء، فيدل على تكريره منه، وفي رواية أنه بكى حتى سُمِعَ بكاؤه من وراء الصفوف(ذكره النووي في التبيان في آداب حملة القرآن، ص69.).
ويقول عبد الله بن شداد بن الهاد سمعت نشيج عمر بن الخطاب وأنا في آخر الصفوف في صلاة الصبح يقرأ من سورة يوسف يقول إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) البيهقي في شعب الإيمان ج2/ ص364(2057).
وعن علقمة بن وقاص قال صليت خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عشاء الآخر فقرأ بسورة يوسف فلما أتى على ذكر يوسف نشج عمر حتى سمعت نشيجه وإني لفي آخر الصف) (البيهقي في شعب الإيمان ج2/ ص364(2058).
وعن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر أن عمر قرأ سورة مريم فسجد ثم قال هذا السجود فأين البكاء) البيهقي في شعب الإيمان ج2/ ص365 (2059).
قال البيهقى في شعب الإيمان وروينا في فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الحسن قال كان عمر بن الخطاب يمر بالآية في ورده فتخيفه فيبكي حتى يسقط ويلزم بيته اليوم واليومين حتى يعاد ويحسبونه مريضا (البيهقي في شعب الإيمان ج2/ ص364 (2056).
وهذا أبيّ بن كعبرضى الله عنه عن أنس بن مالك رضى الله عنه:أن رسول الله صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قال لأبيّ بن كعب: ((إن الله عز وجل أمرني أن أقرأ عليك))، قال: آلله سمَّاني لك؟ قال: ((الله سمَّاك لي))، قال فجعل أُبيّ يبكي))، وفي رواية: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [البينة: 1] قال: وسمَّاني لك؟ قال: ((نعم)) قال: فبكى) رواه مسلم.
وهذا ابن عباس عن بن أبي مليكة قال سمعت بن عباس من مكة إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة وكان يصلي ركعتين فإذا نزل قام شطر الليل ويرتل القرآن يقرأ حرفا حرفا ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب ويقرأ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) البيهقي في شعب الإيمان ج2/ ص365و ص366 (2061).
وهذا رجل أعرابي جلس أمام النبي صلى الله عليه وسلم وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ (إذا زلزلت الأرض زلزالها)، والرجل يسرح في معاني الآيات حتى وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر السورة ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8] فقال الأعرابي: يا رسول الله، أمثقال ذرة؟ قال: « نعم ». فقال الأعرابي: واسوأتاه. مرارا، ثم قام وهو يقولها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان» فضائل القرآن للقاسم بن سلام رقم (450).
وهذا ثابت عن حماد قال كان ثابت يقرأ بتلك الآية ﴿ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ﴾ [الكهف: 37] وهو يصلي صلاة الليل ينتحب ويرددها) البيهقي في شعب الإيمان ج2/ ص366(2063).
وهذا الفضيل قال بشر بن الحكم النيسابوري كانت امرأة الفضيل تقول لا تقرؤا عند إبني بالقرآن قال بشر وكان إذا قرئ عنده القرآن غشى عليه قال بشر وكان بن الفضيل لا يقدر على قراءة القرآن فقال لأبيه يا أبة ادع الله لعلي استطيع أن أختم القرآن مرة واحدة) البيهقىي في شعب الإيمان ج2/ ص366(2064).
وهذا الأصمعي يقول أقبلت ذات يوم من مسجد الجامع بالبصرة وبينما أنا في بعض سككها إذ أقبل أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوس فدنا وسلم وقال ممن الرجل فقلت من بني الأصمع فقال لي أنت الأصمعي قلت نعم قال من أين أقبلت قلت من موضع يتلى كلام الرحمن فيه قال أو للرحمن كلام يتلوه الآدميون فقلت نعم يا أعرابي فقال أتل علي شيئا منه فقلت انزل من قَعُودك(القَعُودُ: صغير الإبل إلى أن يبلغ السَّادسة من عمره) فنزل وابتدأت بسورة الذاريات ذروا حتى انتهيت إلى قوله تعالى ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ [الذاريات: 22].
قال الأعرابي يا أصمعي هذا كلام الرحمن قلت إي والذي بعث محمدا بالحق إنه لكلامه أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال لي حسبك فقام إلى ناقته فنحرها بسيفه وقطعها بجلدها وقال أعني على تفرقتها فوزعناها على من أقبل وأدبر ثم كسر سيفه وقوسه وجعلها تحت الرملة وولى مدبرا نحو البادية وهو يقول ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ [الذاريات: 22].
يرددها فلما تغيب عني في حيطان البصرة أقبلت على نفسي ألومها وقلت يا أصمعي قرأت القرآن منذ ثلاثين سنة ومررت بهذه وأمثالها وأشباهها فلم تتنبه لما تنبه له هذا الأعرابي ولم يعلم أن للرحمن كلاما فلما قضى الله من أمري ما أحب حججت مع هارون الرشيد أمير المؤمنين فبينا أنا أطوف بالكعبة إذا أنا بهاتف يهتف بصوت رقيق تعال يا أصمعي تعال يا أصمعي قال فالتفت فإذا أنا بالإعرابي منهوكا مصفارا فجاء وسلم علي وأخذ بيدي وأجلسني وراء المقام فقال اتل من كلام الرحمن ذلك الذي تتلوه فابتدأت ثانيا بسورة الذاريات فلما انتهيت إلى قوله ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ [الذاريات: 22].
صاح الأعرابي وقال قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال يا أصمعي هل غير هذا للرحمن كلام قلت نعم يا أعرابي يقول الله عز وجل ﴿ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾ [الذاريات: 23].
فصاح الأعرابي عندها وقال يا سبحان الله من ذا أغضب الجليل حتى حلف أفلم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين قالها ثلاثا وخرجت نفسه (أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ج2/ ص115و116(1337).
تأثير القرآن الكريم على المشركين تصور أن المشركين فى مكة كانوا يذهبوا خفية من وراء بعضهم البعض ليستمعوا للقرآن من النبي وهذه قِصّةُ اسْتِمَاعِ قُرَيْشٍ إلَى قِرَاءَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وعلى رأسهم أَبُو سُفْيَانَ وَأَبُو جَهْلٍ وَالْأَخْنَسُ بْنَ شَرِيقِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثّقَفِيّ، حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْتَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يُصَلّي مِنْ اللّيْلِ فِي بَيْتِهِ فَأَخَذَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا يَسْتَمِعُ فِيهِ وَكُلّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرّقُوا. فَجَمَعَهُمْ الطّرِيقُ فَتَلَاوَمُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ لَا تَعُودُوا، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمّ انْصَرَفُوا. حَتّى إذَا كَانَتْ اللّيْلَةُ الثّانِيَةُ عَادَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إلَى مَجْلِسِهِ فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرّقُوا، فَجَمَعَهُمْ الطّرِيقُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوّلَ مَرّةٍ ثُمّ انْصَرَفُوا. حَتّى إذَا كَانَتْ اللّيْلَةُ الثّالِثَةُ أَخَذَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرّقُوا، فَجَمَعَهُمْ الطّرِيقُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ لَا نَبْرَحُ حَتّى نَتَعَاهَدَ أَلَا نَعُودَ فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمّ تَفَرّقُوا فَلَمّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِك فِيمَا سَمِعْت مِنْ مُحَمّدٍ؟ فَقَالَ يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ وَاَللّهِ لَقَدْ سَمِعْت أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ مَا عَرَفْتُ مَعْنَاهَا، قَالَ الْأَخْنَسُ وَأَنَا الّذِي حَلَفْت بِهِ (كَذَلِكَ) قَالَ ثُمّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ فَقَالَ. يَا أَبَا الْحَكَمِ مَا رَأْيُك فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمّدٍ؟ فَقَالَ مَاذَا سَمِعْتُ تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشّرَفَ أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتّى إذَا تَجَاذَيْنَا عَلَى الرّكْبِ وَكُنّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا: مِنّا نَبِيّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ السّمَاءِ فَمَتَى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ وَاَللّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدّقُهُ. قَالَ فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ وَتَرَكَهُ.
وكانوا يذهبون الى بيت الصديق يستمعون لتلاوته أيضا فعن أم المؤمنين عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، طرفي النهار: بكرة وعشية، ثم بدا لأبي بكر، فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاءا، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين صحيح البخاري وعند البيهقي في شعب الإيمان لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن) البيهقي في شعب الإيمان ج2/ ص364(2055).
بل فى السنة الخامسة من البعثة النبوية المطهرة انطلق النبي صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلى بيت الله الحرام ليصلى لله جل وعلا على مرأى ومسمع من صناديد الشرك والكفر، فكانوا يكرهون ذلك حتى قال اللعين أبو جهل: أيعفر محمد وجهه بين أظهرنا بمعنى أيسجد محمد لربه على مرأى ومسمع منا فى الكعبة. واللات والعزى إن أتى محمد ليصلى لأطأن عنقه أي: لأضعن رجلي أو حذائي ووقف يصلى لله تعالى فلما سجد انطلق اللعين أبو جهل وهو يهيأ له أنه سيطأ عنق النبي وهو ساجد، فلما اقترب من رسول الله صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عاد إلى الخلف يجرى وهو يدفع بيديه وكأنه يرد عن وجهه شيئا فلما اقترب من المشركين قالوا: ماذا يا أبا الحكم؟! لماذا رجعت لماذا جريت بهذه الصورة المزرية؟ فقال أبو جهل: إن بينى وبين محمد خندقا من نار وإنى أرى أجنحة. فلما أنتهى النبي من صلاته قال قولته الجميلة:" والذي نفس محمد بيده لودنا - أي: لو اقترب منى - لاختطفته الملائكة عضوا عضوا".
الشاهد دخل النبي صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ليصلى لله جل جلاله والمشركون ينظرون إليه بتغيظ شديد ورفع الحبيب صوته بالتلاوة فقرأ سورة النجم كاملة، وأرجو أن تتصور حلاوة وجلال القرآن وهو يخرج من فم الحبيب صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. فالرسول صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هو الذي يتلو فليست التلاوة الآن لبشر عادى يتلو صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ والمشركون يسمعون القرآن من فم رسول الله صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وقرأ النبي السورة كاملة وقرأ في آخر السورة آيات جليلة تخشع لها الحجارة وتخشع لها الجبال والقلوب: ﴿ أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ﴾ [النجم: 57 - 61]. أي: ترقصون وتطلبون وتزمرون ﴿ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ﴾ [النجم: 62]. وخر النبي لله ساجدا لربه.
اسمع. فلم يتمالك أحد من المشركين نفسه فخر ساجداً لله هل تتصورون هذا أيها الأفاضل. نعم الحديث رواه الإمام البخاري فى كتاب سجود التلاوة رواه مختصراً من حديث ابن عباس رضي الله عنه: سجد صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بالنجم. أي: بسورة النجم. وسجد معه المشركون والمسلمون والجن والأنس (رواه البخاري في التفسير (4862).).
نعم الجن: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ﴾ [الجن: 1] الجن هم الذي يتحدثون عن القرآن ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن: 1، 2]
سجد النبي وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس وهذا هو السر الذي جعل المهاجرون الأوائل الذين هاجروا من بطش المشركين فرارا من مكة إلى الحبشة، هذا هو السر الذي جعلهم يرجعون من الحبشة بعد هجرتهم الأولى لما بلغهم الخبر بأن المشركين سجدوا خلف رسول الله صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ظنوا أنهم آمنوا بالله جل وعلا فعادوا إلى مكة ولكنهم عندما رفعوا رؤوسهم جميعا أنكروا ما فعلوه وما صنعوه ولكنه القرآن الذي صدع عناد الكفر في رؤوسهم، فسجدوا جميعا لله من جلال القرآن وروعته وعظمته.
وهذا الوليد بن المغيرة والد فارس الإسلام وسيف الله المسلول والد خالد بن الوليد كان متعنتاً متكبراً منكرا فلما ذهب إلى النبي صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ليعرض عليهم الملك والجاه والسلطان حتى يرجع إلى دين آبائه وأجداده، وقد قرأ عليه النبي آيات جليلة من القرآن الكريم قال الوليد كلماته الخالدة في حق القرآن - والحق ما شهدت به الأعداء - قال الوليد: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه.
هذا هو الصحيح هذه هي الكلمات الصحيحة وإنه ليعلو ولا يعلى عليه.. هذه شهادة كافر عنيد للقرآن فلما انطلق بهذه الكلمات للمشركين قالوا: إذا صدق والله الوليد إذا لتصبأن قريش كلها وعاد حتى لا تضيع زعامته في القوم ففكر وقدر الأمر من جميع جوانبه ثم عاد ليعلن شهادته الظالمة في حق النبي صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كما قال ربنا جل وعلا في شأن الوليد: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ* سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ﴾ [سورة المدثر: 11، 28]. انظر إلى شهادته ف حق القرآن قال الله تعالى لنبيه صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33].
وهذا عتبة بن ربيعة لما ظهر صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بدعوته بين الناس. جعلت قريش تحاول حربه بكل سبيل.وكان مما بذلته أن تشاور كبارها في التعامل مع دعوته صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. وتسارع الناس للإيمان به.فقالوا: أنظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا. وشتت أمرنا. وعاب ديننا. فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه.فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة.فقالوا: أنت يا أبا الوليد.وكان عتبة سيداً حليماً. فقال: يا معشر قريش. أترون أن أقوم إلى هذا فأكلمه. فأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل منها بعضها.قالوا: نعم يا أبا الوليد. فقام عتبة وتوجه إلى رسول الله صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. دخل عليه. فإذا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جالس بكل سكينة. فلما وقف عتبة بين يديه. قال: يا محمد! أنت خير أم عبد الله؟! فسكت رسول الله صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. تأدباً مع أبيه عبد الله.فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. تأدباً مع جده عبد المطلب.فقال عتبة: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتَ. وإن كنت تزعم أنك خير منهم. فتكلم حتى نسمع قولك. وقبل أن يجيب النبي صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بكلمة. ثار عتبة وقال:
إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك!!. فرقت جماعتنا. وشتت أمرنا. وعبت ديننا. وفضحتنا في العرب. حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً. وأن في قريش كاهناً. والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى. أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى. كان عتبة متغيراً غضباناً. والنبي صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ساكت يستمع بكل أدب.وبدأ عتبة يقدم إغراءات ليتخلى النبي صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عن الدعوة. فقال:أيها الرجل إن كنت جئت بالذي جئت به لأجل المال. جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً.
وان كنت إنما بك حب الرئاسة. عقدنا ألويتنا لك فكنت رأساً ما بقيت.وإن كان إنما بك الباه والرغبة في النساء. فاختر أيَّ نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً.!!وان كان هذا الذي يأتيك رئياً من الجن تراه. لا تستطيع رده عن نفسك. طلبنا لك الطب. وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه. فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يتداوى منه.ومضى عتبة يتكلم بهذا الأسلوب السيء مع رسول الله صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. ويعرض عليه عروضاً ويغريه. والنبي عليه الصلاة والسلام ينصت إليه بكل هدوء.
وانتهت العروض. ملك. مال. نساء. علاج من جنون!!سكت عتبة. وهدأ. ينتظر الجواب.فرفع النبي عليه الصلاة والسلام بصره إليه وقال بكل هدوء: أفرغت يا أبا الوليد؟لم يستغرب عتبة هذا الأدب من الصادق الأمين. بل قال باختصار: نعم.فقال صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: فاسمع مني.قال: أفعل. فقال صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾ [فصلت: 1 - 4]. ومضى النبي عليه الصلاة والسلام. يتلوا الآيات وعتبة يستمع.وفجأة جلس عتبة على الأرض. ثم اهتز جسمه. فألقى يديه خلف ظهره. واتكأ عليهما.وهو يستمع. ويستمع. والنبي يتلو. ويتلو.حتى بلغ قوله تعالى. ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13]. فانتفض عتبة لما سمع التهديد بالعذاب. وقفز ووضع يديه على فم رسول الله صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. ليوقف القراءة.
فاستمر صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يتلو الآيات. حتى انتهى إلى الآية التي فيها سجدة التلاوة. فسجد.ثم رفع رأسه من سجوده. ونظر إلى عتبة وقال: سمعت يا أبا الوليد؟
قال: نعم.قال: فأنت وذاك.فقام عتبة يمشي إلى أصحابه. وهم ينتظرونه متشوقين.فلما أقبل عليهم. قال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم. قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟فقال: ورائي أني والله سمعت قولاً ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالشعر. ولا السحر. ولا الكهانة. يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها بي. خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه. فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم.
يا قوم!! قرأ بسم الله الرحمن الرحيم " حم * تنزيل من الرحمن الرحيم " حتى بلغ: " فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " فأمسكته بفيه. وناشدته الرحم أن يكف. وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب. فخفت أن ينزل بكم العذاب.
ثم سكت أبو الوليد قليلاً متفكراً. وقومه واجمون يحدون النظر إليه.فقال: والله إن لقوله لحلاوة. وإن عليه لطلاوة. وإن أعلاه لمثمر. وإن أسفله لمغدق. وإنه ليعلو وما يعلى عليه. وإنه ليحطم ما تحته. وما يقول هذا بشر. وما يقول هذا بشر.
قالوا: هذا شعر يا أبا الوليد. شعر.فقال: والله ما رجل أعلم بالأشعار مني. ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني. ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئاً من هذا. ومضى عتبة يناقش قومه في أمر رسول الله صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. صحيح أن عتبة لم يدخل في الإسلام. لكن نفسه لانت للدين.فتأمل كيف أثر هذا الخلق الرفيع. ومهارة حسن الاستماع في عتبة مع أنه من أشد الأعداء.
وانظر إلى قِصّةُ إسْلَامِ الطّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدّوْسِي وكيف أثر القران الكريم عليه بعد تَحْذِيرُ قُرَيْشٍ لَهُ مِنْ الِاسْتِمَاعِ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَا يَرَى مِنْ قَوْمِهِ يَبْذُلُ لَهُمْ النّصِيحَةَ وَيَدْعُوهُمْ إلَى النّجَاةِ مِمّا هُمْ فِيهِ. وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ، حِينَ مَنَعَهُ اللّهُ مِنْهُمْ يُحَذّرُونَهُ النّاسَ وَمَنْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَرَبِ. وَكَانَ الطّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدّوْسِيّ يُحَدّثُ أَنّهُ قَدِمَ مَكّةَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهَا، فَمَشَى إلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ الطّفَيْلُ رَجُلًا شَرِيفًا شَاعِرًا لَبِيبًا، فَقَالُوا لَهُ يَا طُفَيْلُ، إنّك قَدِمْتَ بِلَادَنَا، وَهَذَا الرّجُلُ الّذِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَدْ أَعْضَلَ بِنَا، وَقَدْ فَرّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتّتْ أَمْرَنَا، وَإِنّمَا قَوْلُهُ كَالسّحْرِ يُفَرّقُ بَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَبَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ وَبَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ وَإِنّا نَخْشَى عَلَيْك وَعَلَى قَوْمِك مَا قَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا، فَلَا تُكَلّمَنّهُ وَلَا تَسْمَعَنّ مِنْهُ شَيْئًا.قَالَ فَوَاَللّهِ مَا زَالُوا بِي حَتّى أَجْمَعْتُ أَنْ لَا أَسْمَعَ مِنْهُ شَيْئًا وَلَا أُكَلّمَهُ حَتّى حَشَوْتُ فِي أُذُنَيّ حِينَ غَدَوْتُ إلَى الْمَسْجِدِ كُرْسُفًا (الكُرْسُفُ:هو القطنُ)خوفا مِنْ أَنْ يَبْلُغَنِي شَيْءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَأَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَهُ. قَالَ فَغَدَوْت إلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَائِمٌ يُصَلّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ. قَالَ فَقُمْت مِنْهُ قَرِيبًا فَأَبَى اللّهُ إلّا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِهِ. قَالَ فَسَمِعْتُ كَلَامًا حَسَنًا قَالَ فَقُلْت فِي نَفْسِي وَاَللّهِ إنّي لَرَجُلٌ لَبِيبٌ شَاعِرٌ مَا يَخْفَى عَلَيّ الْحَسَنُ مِنْ الْقَبِيحِ فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَسْمَعَ مِنْ هَذَا الرّجُلِ مَا يَقُولُ فَإِنْ كَانَ الّذِي يَأْتِي بَهْ حَسَنًا قَبِلْتُهُ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا تَرَكْتُهُ قَالَ فَمَكَثْت حَتّى انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَيْتِهِ فَاتّبَعْتُهُ حَتّى إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْت: يَا مُحَمّدُ إنّ قَوْمَك قَدْ قَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، لِلّذِي قَالُوا، فَوَاَللّهِ مَا بَرِحُوا يُخَوّفُونَنِي أَمْرَك حَتّى سَدَدْت أُذُنَيّ بِكُرْسُفٍ لِئَلّا أَسْمَعَ قَوْلَك، ثُمّ أَبَى اللّهُ إلّا أَنْ يُسْمِعَنِي قَوْلَك،، فَسَمِعْتُهُ قَوْلًا حَسَنًا، فَاعْرِضْ عَلَيّ أَمْرَك. قَالَ فَعَرَضَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيّ الْقُرْآنَ فَلَا وَاَللّهِ مَا سَمِعْتُ قَوْلًا قَطّ أَحْسَنَ مِنْهُ وَلَا أَمْرًا أَعْدَلَ مِنْهُ. قَالَ فَأَسْلَمْت وَشَهِدْت شَهَادَةَ الْحَقّ فتفكر الطفيل في حاله. فإذا كل يوم يعيشه يزيده من الله بعداً.وإذا هو يعبد حجراً. لا يسمع دعاءه إذا دعاه. ولا يجيب نداءه إذا ناداه. وهذا الحق قد تبين له. ثم بدأ الطفيل يتفكر في عاقبة إسلامه.كيف يغير دينه ودين آبائه!!. ماذا سيقول الناس عنه؟!حياته التي عاشها. أمواله التي جمعها. أهله. ولده. جيرانه. خلانه. كل هذا سيضطرب.سكت الطفيل. يفكر. يوازن بين دنياه وآخرته. وفجأة إذا به يضرب بدنياه عرض الحائط.نعم سوف يستقيم على الدين. وليرض من يرضى. وليسخط من يسخط. وماذا يكون أهل الأرض. إذا رضي أهل السماء ماله ورزقه بيد من في السماء. صحته وسقمه بيد من في السماء. منصبه وجاهه بيد من في السماء. بل حياته وموته بيد من في السماء.فإذا رضي أهل السماء. فلا عليه ما فاته من الدنيا.إذا أحبه الله. فلبيغضه بعدها من شاء. وليتنكر له من شاء. وليستهزئ به من شاء.