بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
سنن وآداب الطعام والشراب
هي القسم الثاني من السنن اليومية، وهذا النوع من السنن بابه واسع، وهو كثير، ومنه ما يختلف باختلاف الأحوال، والأشخاص، والأماكن، والأوقات.
وسأعرض جاهداً السنن التي تتكرر في اليوم والليلة سائلاً الله تعالى التوفيق والسداد.
♦ وأول شـيء في هذا القسم: سنن الطعام:
سُنَن الطعام:
ولم أضع سُنَن الطعام ضمن السُّنَن الموقوتة؛ لأن الأكل، والشـرب قد يكون عارضاً للإنسان في أي وقت، فيحتاج معه تطبيق السُّنن، ولأن أوقات الأكل وإن كانت في غالب واقعنا اليوم موقوتة، إلا أنها في عصـر أولئك الأفذاذ عصـر الصحابة، وكذا التابعين من بعدهم، وسلف هذه الأمَّة ليست في غالبها موقوتة، فهم لا يجدون كثيراً مما نجد، والقصد أن كثيراً منهم قد لا يجد في يومه ما يأكله فضلاً على أن يكون لديه طعام يأكله بوقت محدد!
فهذا نبي الأمَّة صلى الله عليه وسلم ونبراسها، وخير البشـرية، يدخل على عائشة رضي الله عنها ذَاتَ يَوْمٍ ويقول: « يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شـيءٌ؟» قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عِنْدَنَا شـيءٌ، قَالَ: «فَإِنِّي صَائِمٌ»[1].
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي مَجْهُودٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إلاَّ مَاءٌ، ثُمَّ أَرْسَلَ إلَى أُخْرَى، فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذلِكَ: لاَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلاَّ مَاءٌ، فَقَالَ: «مَنْ يُضـيفُ هَـذَا اللَّيْلَةَ، رَحِمَهُ اللّهِ»، حتى ضـيفه رجلٌ من الأنصار[2].
وهكذا الصحابة وعلى رأسهم العمران أبو بكر، وعمر -رضـي الله عنهم أجمعين-، فعند مسلمٍ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: «مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَـذِهِ السَّاعَةَ؟» قَالاَ: الْجُوعُ، يَا رَسُولَ اللّهِ، قَالَ: «وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسـي بِيَدِهِ لأَخْرَجَنِي الَّذَي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا» فَقَامُوا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ...، (وفيه): فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسـر، وَتَمْرٌ، وَرُطَبٌ، وذَبَحَ لَهُمْ شاة....، (وفي آخر الحديث) قاَل َرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَر رضي الله عنه: «وَالَّذِي نَفْسـي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَـذَا النَّعيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَـذَا النَّعِيمُ» [3].
وها هو ناقل السُّنَّة أبو هريرة رضي الله عنه كما روى البخاري قال محمد: «كُنَّا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَشَّقَانِ مِنْ كَتَّانٍ فَتَمَخَّطَ، فَقَالَ: بَخْ، بَخْ أَبُو هُرَيْرَةَ يَتَمَخَّطُ فِي الْكَتَّانِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشـيا عَلَيَّ، فَيَجِيءُ الْجَائِي فَيَضَعْ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي، وَيُرَى أَنِّي مَجْنُونٌ، وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ، مَا بِي إِلَّا الْجُوعُ» [4].
وليس فقط أبو هريرة رضي الله عنه ، بل تأمل حال هؤلاء الذين يسقطون من الجوع في صلاتهم، كما روى الترمذي من حديث فضالة بنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى بالنَّاسِ يَخِرُّ رِجَالٌ مِنْ قَامَتِهِمْ في الصَّلاَةِ مِنَ الْخَصَاصَةِ، وَهُمْ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ، حَتَّى تَقُولَ الأعْرَابُ هَؤُلاَءِ مَجَانِينُ، أَوْ مَجَانُونُ فَإِذَا صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم انْصـرفَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَالَكُمْ عِنْدَ الله لأَحْبَبْتُمْ أَنْ تَزْدَادُوا فاقَةً وَحَاجَةً»، قالَ فَضَالَةُ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم[5].
وهذا في زمن خير القرون، وما بعده من قرون التابعين، والسَّلف، مما يدل على أنهم لا يأكلون إلّا إذا وجدوا، وليس لهم أوقات محدَّدة في الأكل؛ لأنهم وإن حددوا ربما لا يجدون، وليس هذا موطن بسط تلك القصص، والأخبار -فلله درهم-، ونسأله أن يمنَّ علينا بشكره، كما منَّ علينا بنعمته.
سُنَن في الطعام:
1- التسمية أول الطعام.
عن عمرَ بن أبي سلمةَ رضي الله عنه يقولَ: «كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ»، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ[6].
والأفضل أن يقتصـر على (بسم الله)، كما ورد في النصوص.
قال ابن حجر ؒ: «المراد بالتسمية على الطعام قول: «بسم الله»، في ابتداء الأكل، وأصـرح ما ورد في صفة التسمية ما أخرجه أبو داود، والترمذي من طريق أم كلثوم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: «إذَا أكَلَ أحَدُكُم فَلْيَذْكُرِ اسْمَ الله، فإنْ نَسـي أنْ يَذْكُرَ اسْمَ الله في أوَّلِهِ، فَلْيَقُلْ: بِسْمِ الله أوَّلَهُ وَآخِرَهُ»[7]، وله شاهد من حديث أمية بن مخشـي عند أبي داود، والنَّسَائي، وأمَّا قول النَّووي ؒ في أدب الأكل من [الأذكار]: صِفَة التسمية من أهم ما ينبغي معرفته، والأفضل أن يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم»، فإِن قال: «بسم الله» كفاه، وحصلت السُّنَّة، فلم أر لما ادَّعاه من الأفضلية دليلاً خاصاً»[8].
واختُلف في حكم التسمية:
فقيل: سُنَّة. وقيل: واجبة؛ لأمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بها.
والأحوط للمسلم: ألَّا يتركها،وإذا نسي التسمية: فإنه يُسنُّ أن يقول إذا تذكَّرها: «بسم الله أوله وآخره».
لحديث عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا أكَلَ أحَدُكُم فَلْيَذْكُرِ اسْمَ الله، فإنْ نَسي أنْ يَذْكُرَ اسْمَ الله في أوَّلِهِ، فَلْيَقُلْ: بِسْمِ الله أوَّلَهُ وَآخِرَهُ»[9].
وكذلك دلّ الحديث: على أن الإنسان يأكل بيمينه حتى لا يشابه الشـيطان، فالمسلم إذا لم يُسمِّ شاركه الشـيطان في طعامه، وإذا أكل أو شـرب بشماله شابه الشـيطان بذلك؛ لأن الشـيطان يأكل، ويشـرب بشماله.
ويدلّ عليه:
1. حديث حذيفة رضي الله عنه قال: «كُنَّا إِذَا حَضـرنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَاماً لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا، حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَضَعَ يَدَهُ، وَإنَّا حَضـرنَا مَعَهُ، مَرَّةً طَعَاماً، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُدْفَعُ، فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهَا، ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّالشـيطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لاَ يُذْكَرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ، وَإنَّهُ جَاءَ بِهذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهذَا الأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسـي بِيَدِهِ إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا»[10].
2. وحديث عبد اللّه بن عُمَرَ رضي الله عنه: أَن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَأْكُلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشِمَالِهِ، وَلاَ يَشـربَنَّ بِهَا، فإِنَّ الشـيطَانَ يَأْكُلُ بِشِمالِهِ وَيَشـربُ بِهَا». قَالَ: وَكَانَ نَافِعٌ يَزِيدُ فِيهَا: «وَلاَ يَأْخُذُ بِهَا وَلاَ يَعْطِي بِهَا»[11].
والصحيح: أنَّ الشـيطان يأكل حقيقة؛ لظاهر النَّص السَّابق.
قال ابن حجر ؒ: «قال الطيـبي: وتحريره لا تأكلوا بالشمال، فإن فعلتم كنتم من أولياء الشـيطان، فإِنَّ الشـيطان حمل أولياءه على ذلك. انتهى، وفيه عدول عن الظاهر، والأولى حمل الخبر على ظاهره، وأن الشـيطان يأكل حقيقة؛ لأن العقل لا يحيل ذلك، وقد ثبت الخبر به فلا يحتاج إلى تأويله».
والشـيطان حريص على دخول البيوت؛ ليبيت فيها، ويشارك أهلها الطعام والشـراب، عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنه أنَّه سمع النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشـيطَانُ: لاَ مَبِيتَ لَكُمْ وَلاَ عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشـيطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ»[12].
2- الأكل مما يلي.
لما سبق من حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ».
قال النَّووي ؒ: «والثالثة: الأكل مما يليه؛ لأنَّ أكله من موضع يد صاحبه سوء عشـرة، وترك مروءة، فقد يتقذره صاحبه، لاسـيما في الأمراق وشبهها»[13].
وقال ابن حجرؒ: «قلت: ويدلّ على وجوب الأكل باليمين، ورود الوعيد في الأكل بالشمال ففي صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: «أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِمَالِهِ فَقَالَ: «كُلْ بِيَمِينِكَ» قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: «لَا اسْتَطَعْتَ» مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ[14]»[15].
3- أخذ اللقمة الساقطة، وإماطة ما بها من أذى، وأكلها.
فمن السُّنَّة أنه إذا وقعت اللقمة على سفرة الطعام، أو غيرها أن يأخذها، ويميط ما يعلق بها من أذى، ثم ليأكلها فإن في هذا تطبيق للسُّنَّة، ودحر للشـيطان الذي يحرص على مشاركة منْ يأكل، ولو بلقمة ساقطة منه.
ويدلّ عليه:
حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قال: سمعت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الشـيطَانَ يَحْضـر أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شـيءٍ مِنْ شَأْنِهِ، حَتَّى يَحْضـرهُ عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمُ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذَىً، ثُمَّ لْيَأْكُلْهَا، وَلاَ يَدَعْهَا لِلشـيطَانِ، فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ الْبَرَكَةُ»[16].
والمتأمل للحديث يجد الشـيطان حريصاً على مشاركة الإنسان في كل أموره؛ لينزع البركة من حياته، ويفسد عليه كثيراً من شأنه، ومما يدلّ على حرصه على ملازمة العبد في كل أموره قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشـيطَانَ يَحْضـر أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شـيءٍ مِنْ شَأْنِهِ»، وجاءت الأدلة مبينة بعضا من هذه الأمور على وجه الخصوص، منها ما تقدَّم ذكره في الطعام، والمبيت، وسـيأتي غير ذلك في السُّنَن القادمة -بإذن الله تعالى-.
4- لعق الأصابع.
ولعقها -أي لحسها بطرف اللسان-، فالسُّنَّة أن يلعقها، أو يُلعِقْها غيره كزوجته مثلاً، بل السُّنَّة ألَّا يمسح ما يعلق بيده بمنديل، ونحوه حتى يلعقها.
ويدلّ عليه: حديث جابر رضي الله عنه السابق.
وفي الصحيحين من حديث ابن عبّاس رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا، أَوْ يُلْعِقَهَا»[17].
وفي حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم: «وَلاَ يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ»[18].
5- سَلْتُ القَصْعَة.
والمقصود مِن سَلْتِ القَصْعَة: تنظيف الآكل حافته من الطعام، فمثلاً: من يأكل أرزاً، فإن السُّنَّة ألّا يُبْقِي شـيئاً في حافته التي يأكل منها، فيمسح ما بقي في حافته، ويأكله، فقد تكون البركة في هذا المتبقي.
ويدلّ عليه: حديث أنس رضي الله عنه قال: «وَأَمَرَنَا -أيّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ»[19] رواه مسلم، وفي رواية له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «وَلْيَسْلُتْ أَحَدُكُمُ الصَّحْفَةَ»[20].
قال شـيخنا ابن عثيمين ؒ: «أمره بإسلات الصحن أو القصعة، وهو: الإناء الذي فيه الطعام، فإذا انتهيتَ فأسلِتْه، بمعنى: أن تتبع ما علق فيه من طعام بأصابعك، وتلعقها، فهذا أيضاً من السُّنَّة التي غفل عنها كثير من الناس مع الأسف حتى من طلبة العلم أيضاً، إذا فرغوا من الأكل وجدت الجهة التي تليهم ما زال الأكل باقياً فيها، لا يلعقون ما في الصحفة، وهذا خلاف ما أمر به النَّبي صلى الله عليه وسلم»[21].
6- الأكل بثلاث أصابع.
والسُّنَّة أن يأكل بثلاث أصابع، وهذا فيما يُحمل بثلاث أصابع كالتمر مثلاً.
ويدلّ عليه: حديث كَعْبِ بْنِ مالك رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ بِثَلاَثِ أَصَابِعَ، وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا»[22].
قال شـيخنا ابن عثيمين ؒ: «ينبغي للإنسان أن يأكل بثلاث أصابع: الوسطى، والسبابة، والإبهام؛ لأن ذلك أدلُّ على عدم الشـره، وأدلّ على التواضع، ولكن هذا في الطعام الذي يكفي فيه ثلاث أصابع، أمَّا الطعام الذي لا يكفي فيه ثلاث أصابع مثل: الأرز، فلا بأس بأن تأكل بأكثر، لكن الشـيء الذي تكفي فيه الأصابع الثلاثة يقتصـر عليها، فإن هذا سُنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم»[23].
قال النَّووي ؒ: وقوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَدْرُونَ فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ» معناه -والله أعلم: أنَّ الطعام الذي يحضـره الإنسان فيه بركة، ولا يدري أن تلك البركة فيما أكله، أو فيما بقي على أصابعه، أو فيما بقي في أسفل القصعة، أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله؛ لتحصل البركة، وأصل البركة: الزيادة، وثبوت الخير، والإمتاع به، والمراد هنا -والله أعلم-: ما يحصل به التغذية، وتسلم عاقبته من أذى، ويقوى على طاعة الله تعالى وغير ذلك»[24].
7- التنفس خارج الإناء ثلاثاً.
مِن السُّنَّةِ شـرب الإناءِ على ثلاث دفعات، والتّنفس بعد كل واحدة.
ويدلّ عليه: حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَنَفَّسُ فِي الشـرابِ ثَلاَثاً، وَيَقُولُ: «إِنَّهُ أَرْوَى، وَأَبْرَأُ، وَأَمْرَأ ُ»، قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: «فَأَنَا أَتَنَفَّسُ فِي الشـرابِ ثَلاَثاً»[25]، وفي رواية أبي داود: «أهنأ»[26]، بدل قوله: «أَرْوَى».
والمقصود من التنفس في الإناء: التنفس أثناء شـربه للإناء، بمعنى: أنه يتنفس خارج الإناء؛ لأنَّ التنفس في الإناء مكروه؛ لحديث أبي قَتادة رضي الله عنه في الصحيحين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا شـربَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ»[27].
قال النَّووي ؒ: «وقوله صلى الله عليه وسلم: «أروى» من الرِّيّ، أي: أكثر ريّاً، وأمرأ، وأبرأ مهموزان، ومعنى: «أبرأ»، أي: أبرأ من ألم العطش، وقيل: «أبرأ»، أي: أسلم من مرض، أو أذى، يحصل بسبب الشـرب في نفس واحد، ومعنى: «أمرأ»، أي: أجمل انسـياغاً -والله أعلم-»[28].
8- حمد الله تعالى بعد الطعام.
ويدلّ على هذه السنة: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللّه لَيَرْضـى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشـربَ الشـربَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا»[29].
وتأمل أن حمدك الله بعد الشـرب أو الأكل يرضـي الله تعالى من فوق سبع سماوات، فأدم شكره على نعمه، وحمده على فضله؛ لتكون ممن اصطفاهم الله بقوله: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13].
وللحمد صـيغ متنوعة، منها:
أ. «الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَلَا مُوَدَّعٍ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا»[30].
ب. «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَأَرْوَانَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَلَا مَكْفُورٍ»[31].
(غيرَ مَكفِيٍٍّ): أي: غير محتاج إلى أحد، فهو الذي يطعم عباده ويكفيهم، (ولا مُودَّع): بفتح الدال، وتشديدها، أي: غير متروك، (كَفَانَا): من الكفاية، و(أرْوَانَا): من الرِيّ، (وَلَا مَكْفُورٍ): أي: مجحود فضله ونعمته.
9- الاجتماع على الطعام.
من السُّنَّة الاجتماع على الطعام، وعدم التفرُّق فيه.
ويدلّ عليه: حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنه يقول: سِمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الاثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ»[32].
قال ابن حجر ؒ: «وعند الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنه ما يرشد إلى العِلَّة في ذلك، وأوله: «كُلُوا جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، فَإِنَّ طَعَامَ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ»[33] الحديث، فيؤخذ منه أنَّ الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع، وأن الجمع كلما كثر ازدادت البركة»[34].
قال ابن القيم ؒ: «وللتسمية في أول الطعام والشـراب، وحمد الله في آخره، تأثيرٌ عجيب في نفعه واستمرائه، ودفع مضـرته، قال الإمام أحمد: إذا جمع الطعام أربعاً فقد كمل: إذا ذُكر اسم الله في أوله، وحُمد الله في آخره، وكثرت عليه الأيدي، وكان من حِل»[35].
10- مدح الطعام إذا أعجبه.
مِن السُّنَّة: مدح الطعام إذا أعجبه، ولا شكّ أنه لا يمدحه إلا بما فيه.
ويدلّ عليه: حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ أَهْلَهُ الأُدُمَ، فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا إِلاَّ خَلٌّ، فَدَعَا بِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ بِهِ وَيَقُولُ: «نِعْمَ الأُدُمُ الْخَلُّ. نِعْمَ الأُدُمُ الْخَلُّ»[36]، والخَلُّ من أنواع الإدام عندهم وهو حلو ليس حامض، كالخل الذي عندنا اليوم.
وبوَّب النووي ؒ في رياض الصالحين على هذا الحديث: [باب: لا يعيب الطعام، واستحباب مدحه].
قال شـيخنا ابن عثيمينؒ: «وهذا أيضاً من هدي النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه إذا أعجبه الطعام أثنى عليه، وكذلك مثلاً لو أثنيت على الخبز، قلت: نعم الخبز خبز بني فلان، أو ما أشبه ذلك، فهذا أيضاً سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم»[37].
والمتأمل لواقعنا يجد كثيراً ما يقع الناس في خلاف سُنَّة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فهم لم يكتفوا بترك السُّنَّة بل خالفوها أيضاً، وذلك بعيبهم للطعام، وذمهم له في بعض الأحيان، وهذا خلاف هديه صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: «مَا عَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ»[38].
11- الدعاء لصاحب الطعام.
ويدلّ عليه: حديث عبد اللّه بن بُسـر رضي الله عنه قال: «نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي، قَالَ: فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَاماً وَوَطْبَةً، فَأَكَلَ مِنْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ، وَيُلْقِي النَّوَى بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ، وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى، ثُمَّ أُتِيَ بِشـرابٍ فَشـربَهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ، قَالَ فَقَالَ أَبِي، وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ: ادْعُ اللّهَ لَنَا، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ، وَارْحَمْهُمْ»[39].
و(الوَطْبَة): هي الحيس الذي يجمع التمر البرني، والأقط المدقوق، والسمن.
ولو أخرج مَنْ أكل التمر كما أخرج النَّبي صلى الله عليه وسلم النَّواة فهو أفضل، فإنَّ الحديث دلَّ على أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم يخرج نوى التمر بين السبابة، والوسطى، ويجمعهما.
ومِن السُّنَّة حتى وإن كان صائماً أن يحضر الوليمة، ويدعو لصاحب الطعام، ولو لم يأكل.
ويدلّ عليه: حديث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِماً فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيَطْعَمْ»[40]، ومعنى (فَلْيُصَلِّ): أي فليدع لهم؛ لأنَّ الصلاة لغة: الدعاء.
12- استحباب أن يسقي الشارب مَن على يمينه قبل يساره.
والمقصود: أنه إذا شرب فمن السُّنَّة أن يعطي مَن على يمينه قبل شماله.
ويدلّ عليه: حديث أَنَسِ بن مالك رضي الله عنه قال: «أَتَانَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَارِنَا، فَاسْتَسْقَى، فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً، ثُمَّ شُبْتُهُ مِنْ مَاءِ بِئْرِي هَـذِهِ، قَالَ: فَأَعْطَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَشـربَ رَسُولُ اللّهِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ، وَعُمَرُ وِجَاهَهُ، وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ مِنْ شـربِهِ، قَالَ عُمَرُ: هَـذَا أَبُو بَكْرٍ، يَا رَسُولَ اللّهِ يُرِيهِ إيَّاهُ، فَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ الأَعْرَابِيَّ، وَتَرَكَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم:«الأَيْمَنُونَ، الأَيْمَنُونَ، الأَيْمَنُونَ»، قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: «فَهْيَ سُنَّةٌ، فَهْيَ سُنَّةٌ، فَهْيَ سُنَّة»[41].
وحديث سَهْلِ بن سعد السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشـرابٍ، فَشـربَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَشـياخٌ، فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: «أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَـؤُلاَءِ؟» فَقَالَ الْغُلاَمُ: لاَ، وَاللّهِ، لاَ أُوثِرُ بِنَصـيبِي مِنْكَ أَحَداً، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ[42].
قال النَّووي ؒ: «في هذه الأحاديث بيان هذه السُّنَّة الواضحة، وهو موافق لما تظاهرت عليه دلائل الشـرع من استحباب التَّيامن في كل ما كان من أنواع الإكرام، وفيه: أن الأيمن في الشـراب ونحوه يقدَّم، وإن كان صغيراً أو مفضولاً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدَّم الأعرابي، والغلام على أبي بكر رضي الله عنه ، وأمَّا تقديم الأفاضل، والكبار فهو عند التساوي في باقي الأوصاف، ولهذا يقدَّم الأعلم، والأقرأ، على الأسن النسـيب في الإمامة في الصلاة»[43].
13- ساقي القوم آخرهم شـرباً.