هجر القرآن.. المشكلة ورؤية في الحل
موقع :إخوان أون لاين - 01/02/2006
السؤال: أعاني منذ فترة من مشكلة هجري للقرآن الكريم، فظروف الحياة تجعل من الصعب عليَّ متابعةَ هذا الأمر والمحافظة عليه، فكيف يمكنني المحافظة والمواظبة على قراءة القرآن في ظلِّ هذه الظروف؟ أفيدوني أفادكم الله.
اسم المستشار: هاشم أمين*
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد..
أخي الحبيب.. بارك الله فيك ورزقك الله حبَّه وحبَّ كتابه.. هذه المشكلة تواجه الكثيرَ من إخواننا وأخواتنا في ظلِّ الظروف المعيشية الصعبة التي نحياها في هذا الزمن، فأنت حين تسأل مسلمًا عن علاقته بكتاب الله تجد إجاباتٍ عجيبةً تُنبئ عن مشكلة خطيرة في تعاملنا مع كتاب الله، فالبعض يكتفي بكتاب الله زينةً في سيارته أو بيته، والبعض الآخر لا يعلم عن القرآن إلا شكلَه، هذه مشكلةٌ خطيرةٌ ينبغي على كل واحد منا أن يبحث لها عن حل يستطيع من خلاله القيامَ بهذا الأمر.
دعني أولاً أبحث معك عن أسباب المشكلة.. قد تكون المشكلة في الوقت، الحياة صعبة والواجبات أكثر من الأوقات، وهذا معك كل الحق فيه، ولكن هل هذا عذرٌ يجعلنا نقبل هجرَنا للقرآن؟ أرى أن علاج هذه المشكلة يكمن في الآتي:
أولاً: كيف ننظر لكتاب الله؟!
ينبغي أن تتغيَّر نظرتنا لكتاب الله، وأكررها.. كتاب من؟! إنه يا أخي الكريم كتاب الله، كتابٌ أنزله الله على رسوله إلينا؛ ليُصلح شأنَنا ويرفعَ ذكرَنا في الدنيا والآخرة، ونحن مع أننا نعلم أن هذا الكتاب نزلَ من رب العالمين إلينا فإننا ما زلنا نهجره ونغفل عنه.
ما حالك لو علمت أن هناك كتابًا أُرسِل إليك من رئيسٍ أو وزير أو أحد المسئولين؟! لا شك أنك ستهتم به أيَّما اهتمام، وهجرُك لهذا الكتاب ربما تكون له عواقب وخيمة، هذا يجعلك تُقبِل عليه وتهتم به وتقرأه كلمةً كلمةً، وربما حفظته عن ظهر قلب، فلماذا نجعل كتاب الله أهون؟! ولماذا نهجره مع أن العاقبة أعظم والذنب أشد؟!
البعض ينظر لكتاب الله على أنه شيء من الزينة في السيارة أو البيت، والبعض يكتفي بلمحاتٍ ونظراتٍ خاطفةٍ فيه، وربما يُفرِد له جزءًا من وقته في شهر رمضان ثم يعود لهجره بقية العام!!
هذه النظرة لا بد أن تتغير عندنا أولاً، ينبغي علينا أن نُعظِّم كتابَ الله في قلوبنا، وتعظيمُ كتاب الله من تعظيم الله عز وجل، فعلى قدر تعظيمك لله يكون تعظيمك لكتاب الله، يقول الله عز وجل: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ(15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(16)﴾ (المائدة).
لو أيقن المسلم أن في كتاب الله عز وجل صلاحَ حاله وطمأنينةَ باله وعزَّه ورفعتَه في الدنيا والآخرة لأقْبَل على كتاب الله برغبةٍ صادقةٍ وهمَّة عاليةٍ، يقرأ ويحفظ ويفهم ويتدبر ويتعلم، لا يملّ أبدًا من التزوُّد والاغتراف من هذا المَعِيْن الذي لا ينضب، بل إنه كلما بعُد عنه بعض الوقت اشتاقَ وتاقت نفسُه إليه، فتجده دائمًا يتحرك لسانه وقلبه بقراءة القرآن.. لو تعاملنا مع كتاب الله من هذا المنطلق لتغير الحال ولا شك.
ثانيًا: معرفة فضل الشيء يُعين على القيام به والمواظبة عليه
فهيا بنا نسترجع ما نعلمه عن فضل القرآن الكريم فنُقبل على كتاب الله.. يقول الله عز وجل: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد).
واستمع معي بقلبك أخي الكريم لهذا الحديث النبوي الشريف؛ حيث يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ الله فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لاَ أَقُولُ ألم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْف ولامٌ حَرْفٌ وَميمٌ حَرْفٌ".
وتعالَ بنا نعيد تصور الفضل الكبير الذي ورد في هذا الحديث الذي نسمعه ونكرره كثيرًا.. إن الحرف الواحد من القرآن بعشر حسنات، وبعمليةٍ حسابية بسيطة يتَّضح لنا أن الصفحة الواحدة من المصحف بها ما بين أربعة عشر إلى خمسة عشر سطرًا، وكل سطر يحتوي على حوالي خمسة وعشرين حرفًا على أقل تقدير، فبضرب خمسة وعشرين حرفًا في خمسةَ عشرَ سطرًا يكون الناتج ثلاثمائة وخمسة وسبعين حرفًا، وبمضاعفة هذا الرقم إلى عشر مرات يكون الناتج ما يزيد على الثلاثة آلاف حسنة في صفحةٍ واحدةٍ من كتاب الله، والله يضاعف لمن يشاء، إنها تجارةٌ رابحةٌ مع الله في كتاب الله!! أرأيت كَمَّ الخيرات والحسنات التي نغفل عنها ونتركها، مع الأخذ في الاعتبار أن الصفحة الواحدة من القرآن ربما لا تأخذ منا في قراءتها إلا وقتًا يسيرًا يقابله خير وفضل وحسنات كثيرة.
ويقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:"أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وخَاصَّتُهُ" فلماذا تَحرِم نفسك أخي الحبيب من هذا الخير؟ أن تكون من أهل الله ومن خاصَّته، وما أعظمَه من فضل، وما أجمله من لقبٍ يفوز به العبد منا!!
والأحاديث كثيرة والفضل كبير، ولكنَّ الأهم أن نضع هذا الفضل والخير والأجر نصب أعيننا دائمًا، فهو حافز لنا على الطريق، يدفعنا كلما تاقت أنفسنا إلى الكسل والغفلة، فنتذكر ما قد يفوتُنا من الأجر فتعود النفس وتفيق من غفلتها مسرعةً لتدارك ما قد يفوتُها من خير وثواب.
ثالثًا: انشغال الوقت
أما عن انشغال الوقت، فالأمر يحتاج إلى بعض الأمور والمُعينات التي تمكننا من القيام بهذا الأمر، مثل:
- تنظيم الوقت: إن المسلم المنظَّم في وقته لا يعاني من هذه المشكلة.. اللهم إلا إذا كان لا يضع كتاب الله في أولوياته، فهذا له حديثٌ آخر، أما من يضع كتاب الله في أولوياته فهذا ننصحه بحسن تنظيم وقته، فهناك الكثير من أوقاتنا تضيع هباءً، وصدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين قال:"نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"، فهي نعمةٌ من الله لو أحسنَّا استغلالها وتنظيمها بطريقة تُتيح لنا القيام بالكثير من الأمور في أقل الأوقات الممكنة.
من الممكن أن تحدِّد وقتًا من اليوم، وتسميَه وقتَ كتاب الله؛ بحيث تجعل هذا الوقت- قَلَّ أو كَثُر- وَقْفًا لهذا الأمر، فلا تجعل شيئًا آخر يطغى على هذا الوقت المخصص لكتاب الله، وأعلم من الناس من خصَّص الوقت الذي يقضيه في المواصلات يوميًّا لكتاب الله، ومنهم من ختَم كتاب الله أكثر من مرة بهذا الطريقة، وإن كانت هذه الطريقة ربما لا تُتيح وقتًا للتدبر والتركيز في كتاب الله، لكنها تؤدِّي شيئًا من المطلوب، وبالطبع هو في احتياج لوقت آخر يكون فيه أكثر تركيزًا وانتباهًا، ومنهم من كان يخصِّص وقتًا بعد صلاة الفجر وقبل الذهاب للعمل، والبعض الآخر يجعله قبل نومه، المهم أن تقوم بتخصيص وقت لكتاب الله في يومك.
- ترتيب أولوياتنا: أين كتاب الله في قائمة أولوياتنا؟! أحضِر قلمًا وورقةً الآن، واكتب فيها أولوياتك في الحياة، ربما تكتب فيها: دراستي- بيتي- أولادي- أهلي- وظيفتي.. إلخ، فأين كتاب الله من هذه القائمة؟! ولو كان موجودًا فيها فأين ترتيبه وسط هذه الأولويات؟! هل من ضمن أولوياتنا ختم القرآن؟ هل من ضمنها حفظ شيء ولو يسيرًا من كتاب الله؟! هل من ضمنها قراءة تفسير آية وفهمهما وتدبرها؟!
إنه لمن الواجب على المسلم- حين يضع أولوياته أو يرتبها- أن يضع في حسبانه ما يُسعده في دنياه وآخرته، يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)﴾ (طه) فالمعيشة الصعبة في الدنيا والأشد في الآخرة لمن أعرض وهجر القرآن الكريم!!
إن المرءَ ليعجب حين يجد في أولويات البعض منا مشاهدةَ ومتابعةَ المسلسلات والمباريات، ويفرغ جزءًا كبيرًا من وقته لمتابعتها، وفي نفس الوقت لا يجد وقتًا للتواصل مع كتاب الله عز وجل!!
- مصاحبة أصحاب الهمم العالية : لا شك أن مصاحبة أصحاب الهمم العالية تُعين المرء منا على أن يعلوَ ويرقَى بنفسه؛ لأنه يتخيل نفسه في سباق إلى المعالي، يحاول جاهدًا أن يجاريَ أصحاب الهمم العالية فيعينه هذا على الطاعة، وهذا لن يدع فرصةً للكسل، وهذه وصية الله تبارك وتعالى لنا أن نُصاحب المؤمنين ونلازمهم، وقد حذَّرنا سبحانه وتعالى من مصاحبة الغافلين وأصحاب الهمم الضعيفة، يقول الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾ (الكهف)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تصاحب إلا مؤمنًا"، وقال أيضًا: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" أي من يصاحب ويعاشر.
وهذه المصاحبة قد تكون مصاحبةً وملازمةً جسديةً وقد تكون مصاحبةً نفسيةً وشعوريةً، وذلك يتأتَّى بقراءة سِيَر أصحاب الهمم العالية من الأنبياء والصحابة والتابعين والصالحين.
- خير الأعمال إلى الله أدومها وإن قل : فالبعض منا حين يهجر القرآن، ويريد أن يعود فإنه يطلب أعلى الأمر مرةً واحدةً، فتجده يطالب نفسه بقراءة بضعة أجزاء دفعةً واحدةً، وهذا ربما لا يستطيعه الواحد منا، فيواظب أيامًا ثم تفتُر عزيمتُهُ وتنقطع به السبل، فيعود خائبًا في محاولته، وقد صدق من قال: إن المنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، وحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رائدٌ لنا في هذا الأمر؛ حيث قال: "إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق".
فخذ من الأعمال ما تَطيق، وابدأ خطوةً خطوةً، ثم ارتقِ بنفسك وبقراءتك على مراحل، والمداومة على العمل ولو كان قليلاً خيرٌ من فعل الكثير المتقطع، ولكن الخير كل الخير ألا تكتفي بهذا القليل، بل تضع لنفسك خطةً للارتقاء بهذا القليل ليصير كثيرًا- بعون الله وتوفيقه- مع الحفاظ على المداومة عليه.
وأخيرًا أخي الكريم: اعلم أن مداومتك على هذا الأمر ستقابله مشقةٌ وتعبٌ في بادئ الأمر، ولكن بعد فترةٍ من المداومة والمواظبة ستجد حلاوةَ هذا الأمر في قلبك، وستجد أثرَه في نفسك وفيمن حولك، ووقتها لن تستطيع أن تقطع علاقتك بالقرآن، وقد صدق من قال: من ذاقَ عرف.
وفقني الله وإياك إلى حب كتاب الله والمواظبة على قراءته، وألا يجعلنا ممن يشكوهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الله عز وجل يوم القيامة: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)﴾ (الفرقان).
--------
** باحث شرعي