سعدي حسين جبر (*)
ملخص
القدس مدينة عربية النشأة والمولد، سكنها العرب اليبوسيون منذ خمسة آلاف سنة، وحررها العرب المسلمون من حكامها الرومان سنة 16 هـ، عندما تسلمها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضيى الله عنه من البطريرك صفرونيوس، وكان من شرط أهلها أن لا يسكن معهم فيها أحد من اليهود، ولم تغب شمس المسلمين عنها بعد ذلك إلا فترة الاحتلال الصليبي، ثم حررها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله بعد 91 عاماً هجرياً من احتلالها، وكان ذلك سنة 583 هـ الموافق 2/10/1187م.
وفي سنة 1948م سقط نصف مدينة القدس في يد الاحتلال ثم سقطت بقيتها وبقية فلسطين سنة 1967م. وأما مسجدها المسجد الأقصى المبارك فهو ثاني مسجد بني على الأرض بعد المسجد الحرام في عهد آدم عليه السلام، وقد كان قبلة المسلمين الأولى لسنوات عدة وإليه كانت رحلة الإسراء، ومنه كان المعراج إلى السماوات العلا، ومن أهم القضايا التي عالجها هذا البحث .
• بناء المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، اللذان بنيا في عهد الأمويين، بناء إسلامي أصيل لم يبنيا على أثر سابق .
• فضل الصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام والمسجد النبوي .
• سن الإسلام زيارة المسجد الأقصى للصلاة والعبادة والذكر والدعاء، ومنع ذلك لغيره من المساجد إلا المسجد الحرام والمسجد النبوي .
• أوجب الإسلام الوفاء بنذر الاعتكاف والصلاة في المسجد الأقصى، ولا يقوم غيره من المساجد مقامه في الوفاء بهما فيه إلا المسجد الحرام والمسجد النبوي .
المقدمة
المسجد الأقصى أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعراجه الشريف إلى السماوات العلا، وهو ثاني مسجد وضع على الأرض في عهد آدم عليه السلام بعد المسجد الحرام، رفرفت عليه راية التوحيد منذ فجر التاريخ .
وأما القدس التي ضمت المسجد الأقصى فهي مدينة العرب منذ (5000) عام، حيث سكنها اليبوسيون وهم من الكنعانيين، رغم قلة مائها ووعورة أرضها، ليجاوروا مسجدها المبارك وأرضه الطهور، واتخذوا من صخرتها مكاناً بعبادتهم، ثم رفرفت عليها راية العرب المسلمين منذ تسلمها عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والقدس ومسجدها لهما تاريخ عريق، فقد تعاقبت كثير من الأمم عليهما، وشهدا حروباً أدت إلى تعاقب البناء والهدم بما لا يقل عن (18) مرة.
وقد سادت على أرض القدس حضارات عدة، وعاش عرى أرضها عشرات الأنبياء والمرسلين، وهي أرض الشرائع السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام.
والقدس وفلسطين اليوم في محنة، فقد ادّعاها من ليس أهلاً لها، والواجب على المسلمين أن يعرفوا مكانة مدينتهم من دينهم، وما لمسجدها من الأحكام الفقهية المتعلقة بهم حتى يقوموا بها، ولهذا جاء هذا البحث لتعريف المسلمين بأحكامه الفقهية وبأهميته ومكانته .
وموضوع القدس ومسجدها، ألف فيهما الكثير، إلا أن هذا البحث قد عرض في صفحات قليلة معلومات ألفت فيها مئات الكتب بشتى اللغات، وهذا بدوره يفيد القارئ كثيراً في هذا العصر الذي أصبح فيه كثير من القراء لا يقبلون إلا على قراءة القليل الذي يحتوي على الكثير من المعلومات.
وركز هذا البحث في تمهيده على دحض أن الأقصى أو الصخرة قد أقيما على آثار سابقة، وهذا هو موضوع الساعة حالياً. أما فضائل بيت المقدس ومسجدها وصخرتها فمع أنه قد ألف فيهما عشرات الكتب، إلا أن المطلع على أكثر هذه الكتب يجد فيها الغث والسمين، فجاء البحث مشيراً إلى أهم الفضائل التي وردت فيها آيات كريمة أو أحاديث صحيحة، وهذا مفيد في اطلاع القارئ على الصحيح من فضائلها، ليكون لذلك الأثر الهام عند المسلمين في الذود عن هذه البقعة المباركة والدفاع عنها .
أما الأحكام الفقهية الخاصة بالمسجد الأقصى فمن أشهر الكتب التي تحدثت عنها وسجلتها وجمعتها: إعلام الساجد للزركشي، وتحفة الراكع للجراعي، إلا أنهما مع فائدتهما الكبيرة قد خلطا بين الأحكام الفقهية والخصائص وبعض الخرافات، واستشهدا ببعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة، دون بيان ذلك .
إلا أنه قبل الحديث عن الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسجد الأقصى المبارك لا بد من إعطاء لمحة موجزة عن بيت المقدس وموقعه وسكانه، وعن المسجد الأقصى المبارك وسيرته، حتى يكون القارئ على علم بهما، إذ لا يعقل أن نتحدث والأحكام الخاصة به، دون معرفة موجزة عنه وعن بيت المقدس، وخاصة أن القدس مدينة مقدسة منذ فجر التاريخ، ولم تلعب مدينة من المدن القديمة على وجه البسيطة الدور الذي لعبته مدينة القدس ، علماً بأن اليهودية العالمية تهددها ومسجدها وتتآمر لهدمه بحجة أنه يقع مكان هيكلهم، والأقصى اليوم يقع في أسرها، وتمهد ليل نهار لهدمه بالاعتداءات والحفريات من كل جانب، وسيتم بحث ذلك في تمهيد ومبحثين .
المبحث الأول : المسجد الأقصى وقبة الصخرة، سيرتهما وفضائلهما .
المبحث الثاني : الأحكام الفقهية الخاصة بالمسجد الأقصى .
تمهيد : بيت المقدس، نشأته وسيرته وسكانه .
سكن البشر مدينة القدس منذ القدم، ويؤيد ذلك ما ورد في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال : "قلت، يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال : المسجد الحرام، قلت: ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى، قلت : كم بينهما؟ قال : أربعون سنة "( )، وهذا يقتضي أن هذه المنطقة قد سكنت بعد بناء المسجد فيها.
ومما يجدر ذكره أنه في أواخر العصر الحجري النحاسي أي نحو عام (3000) ق.م بدأت مقدمات الهجرات السامية تتحرك من الجزيرة العربية باتجاه فلسطين ومختلف بلاد الشام( ) ، ومن هذه الهجرات (الأمورية، الكنعانية) التي سكنت فلسطين، ومن قبائلهم اليبوسيون الذين سكنوا القدس وما حولها( ).
ويبدو أن اختيار القدس للسكنى من قبلهم رغم قلة مائها ووعورة أرضها كان بسبب مجاورتها المنطقة التي يقع عليها المسجد الأقصى( ). وكان أحد ملوكهم وهو ملكي صادق قد اعتقد هو وجماعته بالله العلي العظيم واتخذ من بقعة الحرم الشريف معبداً له، وخاصة موقع الصخرة المشرفة، وهي المغارة التي بنيت عليها قبة الصخرة فيما بعد( ).
وفي أثناءحكم اليبوسيين للقدس وصل إليها سيدنا إبراهيم عليه السلام، وذلك في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وحل إبراهيم ضيفاً على ملكي صادق ملك اليبوسيين( )، وقد ولد لإبراهيم إسحاق الذي أنجب ولدين هما : عيسو ويعقوب المسمى (إسرائيل) ( )، ثم ولد ليعقوب يوسف عليه السلام الذي بيع في مصر، وقد أورد القرآن الكريم قصته مفصلة في سورة يوسف، ثم ارتحل والده وإخوته إليه، ومكثوا في مصر قرابة (400) سنة صارت لهم فيها ذرية، وأخذوا يدعون إلى دين الله عزّ وجل، فضاق بهم فرعون ذرعاً، أذلهم، فاتجهت أفكار زعمائهم للنزوح إلى فلسطين، وكان ذلك بقيادة موسى عليه السلام، لكنه توفي قبل دخوله فلسطين، فخلفه فتاه يوشع عليه السلام واستطاع أن يفتتح قسماً من فلسطين، وذلك من الكنعانيين والفلسطينيين سنة (1230) ق.م، إلاّ أنه لم يستطع احتلال القدس من حكامها اليبوسيين بسبب متانة أسوارها وبسالة أهلها .
وجاء بعده داود عليه السلام فتتح القدس بعد حصارها حصاراً طويلاً، وقد حكم مدة أربع وثلاثين سنة، وبعد وفاته جاء ابنه سليمان عليه الصلاة والسلام، وفي عهده اتسعت رقعة الدولة كثيراً، وحكم بشرع الله تعالى وبني المسجد (الهيكل) ودام حكمه أربعين عاماً وتوفي سنة (923) ق.م، وبعد وفاته انقسمت الدولة إلى دولتين( ):
1. مملكة إسرائيل : وعاصمتها نابلس، وكانت فترة حكمها من 923 إلى 721ق.م.
2. مملكة يهوذا : وعاصمتها القدس، وكانت فترة حكمها من 923 إلى 581 ق.م.
وقد أنهى هذه الدولة نبوخذ نصر القائد البابلي، وأحرق مسجدها سنة (586) ق.م. إلاّ أن اليهود بعد تدمير دولتيهما استطاعوا العودة إلى القدس في عهد كورش الفارسي، وبنوا معبدهم، وظلوا في القدس حتى سنة (70)م. عندما أثاروا الفتن والقلاقل مما اضطر القائد الروماني تيطس إلى احتلال القدس وتدميرها وتدمير الهيكل ورفع أمام المدينة لوحة كتب عليها باللغات اللاتينية واليونانية والآرامية( ) : حرام على الجنس اليهودي السكن في هذه المدينة (أورشليم) 4 سبتمبر أيلول عام 70 م (تيطس).
وهكذا انتهى دور اليهودية في التاريخ، ومسحت آثارها في أورشليم، وأصبح بنو إسرائيل ويهوذا شعباً منبوذاً. ويقول المؤرخون اليهود القدامى : "إن ما أصاب الشعب اليهودي سببه الأعمال الرديئة وعصيانهم لأوامر دينهم، فعاقبه الرب، وكان العقاب شديداً"( ).
وانتهت صلة اليهود بفلسطين، ولم يعد لهم وجود على مدى ألف وثمانمئة سنة تلت( )، ولم يعد الوجود السياسي المستقل لليهود في القدس وفلسطين إلاّ سنة (1948)م عندما احتل اليهود جزءاً من القدس وفلسطين، وفي سنة (1967)م تم احتلال الجزء الباقي منها.
المبحث الأول : المسجد الأقصى وقبة الصخرة، سيرتهما وفضائلهما.
المطلب الأول : المسجد الأقصى وقبة الصخرة وسيرتهما .
1. تجديد بناء المسجد الأقصى في عهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه :
عندما فتح عمر رضي الله عنه القدس سنة (16) هـ زار مكان المسجد الأقصى الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، والذي كان قد أسرى بالنبي إليه، حيث عرف هذا المكان عن طريق وصف الرسول صلى الله عليه وسلم له، وعن طريق جنده من أهل الشام الذين كانوا يحجون إلى القدس أيام كانوا نصارى ( )، فوجد المكان قد تجمعت عليه الأقذار، فقام ومن معه بإزالة ما تجمع عليه، وأمر ببناء مصلى من الخشب والحجارة للمسلمين في الجهة الجنوبية منها، يتسع لثلاثة آلاف مصل، وجعل فيه سلامة بن قيصر إماما ًللصلاة( ).
2. اهتمام المسلمين بالقدس :
ما إن دخلت القدس في حوزة المسلمين حتى أسلم كثير من أهلها، وأقبل المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها إليها بين ساكن وزائر ومتعلم، وسكنها عدد كبير من الصحابة الكرام، واعتمر منها آخرون، ولذلك فهي بالنسبة للمسلمين أولى القبلتين، وهي أرض الإسراء والمعراج( ).
ومن مظاهر عناية المسلمين بالقدس والمسجد الأقصى، أنهم خلال عصور التاريخ لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة تتعلق بالقدس ومسجدها إلاّ سجلوها وتحدّثوا عنها وأودعوا ذلك في كتب ومؤلفات كثيرة ألفها علماء الإسلام ومؤرخوه منذ قرون إلى يومنا هذا دون توقف أو انقطاع( ). وفي عهد المسلمين حلّ اسم القدس وبيت المقدس محل إيليا، وحلت اللغة العربية محل اليونانية.
3. القدس في العهد الأموي :
اهتم الأمويين بفلسطين والقدس وزيادة في ذلك سك معاوية عملة سنة41 هـ، تحمل اسم إيليا (فلسطين) ( ).
كما جدّد المسجد الذي بناه عمر رضي الله عنه وسماه الأقصى ويتسع لثلاثة آلاف مصل ( ). إلاّ أن أعظم مآثر الأمويين في القدس بناؤهم (تجديدهم) المسجد الأقصى وقبة الصخرة في الحرم الشريف.
4. عبد الملك وبناء قبة الصخرة :
شرع عبد الملك بن مروان في بناء قبة حول الصخرة المشرفة الواقعة على صحن مرتفع في وسط ساحة الحرم الشريف، وذلك سنة (68هـ/688م) وانتهى سنة (72) هـ.
5. وصف الصخرة:
والصخرة التي بنيت عليها القبة يبلغ (56) قدماً أي نحو (18) متراً وعرضها (42) قدماً أي (13) متراً، ويتجه جانبها المنحدر إلى الشرق بينما يتجه جانبها المرتفع نحو الغرب، وترتفع عن مستوى الأرض قرابة المتر( ). وتقع تحت هذه الصخرة مغارة ينزل إليها عن طريق (11) درجة من الناحية الجنوبية، تؤدي إلى ساحة أبعادها (4.5م × 4م) ، ويرتفع سقفها (3م) فيها ثغرة (فتحة) سعتها نحو المتر( ).
6. خرافة عن الصخرة :
أورد مجير الدين صاحب الأنس الجليل ( ) أنه اشتهر بين الناس أن الصخرة معلقة بين السماء والأرض وانقطعت من كل جهة عن الأرض لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، إلا أنه بعد أن أورد هذا الكلام قال : "هذا كلام عجيب غريب جداً" فالصخرة ملتصقة بالأرض كاملة من جميع جوانبها وهي جزء لا ينفصل عن جسم المغارة، والواقع ينفي مثل هذه الخرافة.
7. وصف بناء قبة الصخرة
جاء بناء قبة الصخرة التي بناها عبد الملك غاية في الروعة والجمال، وتعتبر من أجمل البنايات التي عرفتها الإنسانيّة حتى اليوم، وهي مثمنة الشكل، ويبلغ طول ضلع المثمن الخارجي (20م) وارتفاعه (12م) وفوق هذه الأضلاع قبة ضخمة جداً لها رقبة ترتكز على أعمدة يبلغ ارتفاع القبة مع رقبتها وأضلاعها السفلية (35) ( ).
8. قبة الصخرة بناء أصيل لم يبن على أثر سابق قديم
البناء الذي أقامه عبد الملك بناء اصيل لم يبن على أثر بناء قديم، وقد أثبتت جميع الدراسات والاختبارات الأثرية القديمة التي أجراها مختصون على البناء خلال عمليات الصيانة والترميم على مدى الأزمان أن بناء القبة الذي بناه عبدالملك هو من إنشائه بكامل جدرانه وأساساته، وأنه بناء متجانس لا يضم أي بناء قديم كما توهم بعضهم( )، يؤكد هذا أيضاً أن الصخرة التي تتضمّن مسجد سليمان عليه السلام (الهيكل) التي جاء وصفها في تلمود توماس (85 جملة 4 ، 3) وتلمود توسفتا (83 جملة 6) ترتفع عن مستوى الأرض ثلاثة أصابع فقط، بينما الصخرة التي أقيمت عليها قبة الصخرة ترتفع على مستوى الأرض كما سبق قرابة المتر( )، وهذا يرجح أن الصخرة التي يقدسها اليهود ونام عليها داود وهو منطلق من بيت أبيه اسحاق – عليهما السلام – كما ورد في أحد كتب التصوف اليهودية (زوهر) هي غير الصخرة التي بني عليها عبد الملك قبة الصخرة، فهذه الصخرة تقع في منطقة رام الله في بلدة بيت إيل التي تسمى اليوم (بيتين) بدليل أن الطائفة اليهودية الموجودة في نابلس والذين يطلق عليهم السمرة تقدس هذه الصخرة وتقول : بأن روايات التوراة عن الصخرة تعني هذه الصخرة وليست صخرة بيت المقدس، صخرة الحرم القدسي الشريف ( ).
9. بناء المسجد الأقصى :
أما المسجد الأقصى المبارك فقد شرع في بنائه عبدالملك وأتمه ابنه الوليد، وانتهى منه حوالي سنة (90)هـ( ) ويقع تحته بناء يتألف من رواقين بني تسوية للمسجد الأقصى المبارك، وله بابان منفرد ومزدوج من جهة الجنوب.
10. اسطبلات سليمان :
كما تقع تحت الجزء الجنوبي الشرقي من ساحة المسجد الأقصى اسطبلات سليمان، ويتوصل إليها من مدخل من السور الجنوبي الذي يحيط بالحرم الشريف، عبر سلم حجري ضيق ( ). ويجب الانتباه إلى أن هذه الاسطبلات بناء إسلامي أصيل وتسميتها باسم سليمان نسبة إلى سليمان بن عبد الملك وليس إلى النبي سليمان عليه السلام( ) كما يظن بعض العامة من الناس، ويدل على ذلك أن اليهود بعد احتلال القدس سنة (1967)م قاموا بعدة حفريات في هذا المكان ليجدوا دليلاً يمت إلى وجودهم أو صلتهم بهذا المكان، إلاّ أنهم فشلوا في ذلك ولم يعثروا على أي دليل .
11. الساحة الشريفة:
يحيط بالمسجد الأقصى وقبة الصخرة سور يبلغ طوله من جهة الغرب (491م)، ومن الشرق (462م) ومن الشمال (321م) ومن الجنوب (283م)، وارتفاعه ما بين 30 إلى 40م، وتبلغ مساحة المنطقة التي تقع ضمن السور (140.900 متراً مربعاً) أي 6/1 : سدس مساحة القدس القديمة( ).
12. حائط البراق :
هو جزء من السور الغربي لساحة الحرم الشريف طوله (50) متراً وعلوه نحو (20) متراً، مبني من الحجارة، يتألف القسم السفلي منه من ستة مداميك، حجارتها منحوتة، ويرجع عهدها إلى أيام هرودوس، وتعلوها ثلاثة مداميك من العصر الروماني غير منحوتة، ويظن أنها من عمل هدريان، أما الطبقات العليا من حجارة الحائط فهي إسلامية، ومعظمها من عصر المماليك والعثمانيين بعد سنة (1500)م( ).
وفي هذا الجدار ربط جبريل عليه السلام البراق أثناء رحلة الإسراء والمعراج، وتعود ملكيته للمسلمين، حتى إن عصبة الأمم المتحدة سنة (1930)م ألفت لجنة للتحقيق في ملكية حائط البراق المذكور بسبب احتجاج اليهود أنه حائط المبكى، وبعد استماع اللجنة إلى عدد ضخم من الشهود العرب واليهود أصدرت قرارها في 19 حزيران 1930م بملكية المسلمين للحائط المذكور، واعتباره جزءاً من الحرم الشريف ( ). ويوجد حالياً في إسرائيل طائفة من المتدينين تسمى (ناتوري كارنا) تعتقد أن المبكى هو حق للمسلمين وأنهم يمتنعون عن زيارته إلى أن يسمح لهم المسلمون بذلك ( ).
13. المسجد الأقصى وهيكل سليمان عليه السلام :
سبق أن عرفنا أن المسجد الأقصى هو ثاني بيت وضع في الأرض للعبادة بعد المسجد الحرام وأنه بني في عهد آدم عليه السلام، وأن كل بناء جديد له فيما بعد كان تجديداً لهذا البناء أو إعادة له فقط .
أما ما يزعمه اليهود بأن بقعة المسجد الأقصى هي مكان الهيكل الذي بناه سليمان عليه السلام فلا يوجد دليل على هذه الدعوى . فقد سبق أن عرفنا أن كتب اليهود تدل على أن بيت الرب الذي بناه داود وسليمان عليهما السلام – تقع إما في بيت إيل – أو في جرزيم (نابلس، وأن تناقضاً قد حصل في كتبهم حول هذا الموضوع( )، حتى إن اليهود لغاية القرن السادس عشر كانوا يصلون بجانب الباب الذهبي في الجهة الشرقية لسور الحرم الشريف على أن حائط المبكى، وهذا يدل على أنهم لا يعرفون مكان هيكلهم أو حائط مبكاهم( ). حتى إن بعض المؤرخين ذهب إلى أن الهيكل بني في موقع القلعة التي سماها الإسرائيليون بعد فتح القدس باسم قلعة سليمان، والتي تقع غربي القدس القديمة، لأنه لا يعقل أن يكون المسجد الذي بناه سليمان عليه السلام بعيداً كل هذه المسافة عن القلعة وفي هذا يقول فيليب حتّي "على أن أهم وأشهر بناء أثري فخم شيده الكنعانيون كان بلا شك هيكل سليمان، وقد صمم هذا الهيكل في الأصل ليكون معبداً تابعاً للقصر، فأصبح فيما بعد هيكلاً للعبادة اليهودية". وهذا يوحي بأن الهيكل كان تابعاً للقصر يتعبد فيه نبي الله سليمان عليه السلام ( ).
14. الحفريات الأثرية
كما أن الحفريات الأثرية لم تثبت مكان الهيكل أو أنه مكان الأقصى، ففي سنة (1865)م تأسست في بريطانيا مؤسسة التنقيب الفلسطينية، وركزت أعمالها على القدس لما لها من المكالمة الدينية، وقد كان أهم أهداف هذه المؤسسة خدمة اليهود، إلاّ أن حفريات هذه المدرسة التي بدأت منذ سنة 1865-1962 لم تتوصل إلى تعيين مكان الهيكل ( ). ولنفترض جدلاً أن سليمان عليه السلام بنى الهيكل في بقعة المسجد الأقصى فليس لليهود حق يرثونه في هذه البقعة للأدلة التالية( ):
أ- لم يبق في أرض المسجد الأقصى حجر واحد مما بناه سليمان عليه السلام لأن الهيكل الذي بناه سليمان انهدم واحترق، ونقلت حجارته بعد موت سليمان بثلاثة قرون عندما غزا نبوخذ نصر مدينة القدس سنة (589)ق.م. كما أن تيطوس عام (70)م أحرق المعبد الذي بناه هيرودوس سنة (20) ق.م ورمى بحجارته بعيداً.
كما أن يوسيفوس المؤرخ اليهودي الذي توفي أواخر القرن الأول الميلادي وصف القدس فلم يذكر شيئاً عن الهيكل، وهذا يعني أن الهيكل الذي دمّره تيطوس سنة (70)م لم تقم له قائمة بعد ذلك، ومنذ سنة (135)م إلى الفتح الإسلامي لم يكن يسمح لليهود بالإقامة في القدس .
ب- المسلمون والعرب أولى بالقدس من اليهود، فالعرب كان لهم وجود في القدس قبل اليهود بآلاف السنين، حتى إن إبراهيم عليه السلام نزل ضيفاً عليهم، ونشأ اليهود بين العرب وفي ظلهم، ثم إنه منذ الفتح الإسلامي للقدس إلى سنة (1948)م لم يكن لليهود كيان مستقل في القدس، كما أن المسلمين استلموا القدس، كما أن المسلمون استلموا القدس عند فتحها من الرومان، وليس من اليهود الذين كانوا ممنوعين من دخولها. فمن هو الأولى بالقدس، الذين عمروها وسكنوها خمسة آلاف سنة أم الذين أقاموا فيها دولة لا تزيد على مئات السنين .
ج- ثم إن الهيكل الذي بناه سليمان عليه السلام لم يكن لليهود باعتبارهم يهوداً، ولم يبنه سليمان بهدف عنصري أو طائفي أو قومي، كما لم يبنه ليخلد مجد اليهود، لأنهم شعب الله المختار كما يزعمون، لقد بنى سليمان هيكلة لعبادة الله ، بناه ليسلم فيه الناس لله رب العالمين، أي كان هيكله بيتاً للإيمان والإسلام، وهذا معناه أن الإسلام بمعناه الخاص، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الوارث لحكم سليمان، لأن هدف محمد عليه الصلاة والسلام أن يسلم معه الناس لله رب العالمين، وقد ورث المسلمون فلسطين، وحققوا هدف سليمان السابق، في إسلام الناس معهم لله رب العالمين، شيدوا المساجد لتحقيق هذا الهدف، وبنوا المسجد الأقصى في بيت المقدس لتحقيق ذلك( ). فنحن، المسلمين، ورثة إبراهيم وسليمان وجميع أنبياء إسرائيل بالوراثة الإيمانية، وذلك بنص القرآن الكريم: "ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً، ولكن كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين، إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتّبعوه وهذا النبي والذين آمنوا" ( ). أما الوراثة النسبية فالعرب أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، لأن إسماعيل هو البكر لأبيه، وله الحق في ولاية العهد بعده، وهو من مواليد فلسطين بلا شك، وإسماعيل أبو العرب في المرحلة التي تلت سكناه مكة. ثم إن العيص بن إسحاق أيضاً أكبر من أخيه يعقوب (إسرائيل) لأنه ولد قبله، وتزوج العيص من أهل البلاد التي استضافته وهم العرب الكنعانيون.
ثم إن كانت المسألة مرتبطة بالنسب والتناسل فالدلائل تشير إلى أن الأغلبية الساحقة لليهود في عصرنا ليست من نسل إبراهيم عليه السلام، ذلك أن معظم اليهود هم من يهود الخزر الذين دخلوا اليهودية في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين .
ثم إن القرآن الكريم يوضح مسألة إقامة سيدنا إبراهيم وذريته في شكل لا لبس فيه بقوله تعالى : "وإذا ابتلي إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً وقال من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" ( ) فأي ظلم وكفر وصد عن سبيل الله وإفساد في الأرض أكبر مما فعله ويفعله بنو إسرائيل ( ).
فرصيد الأنبياء هو رصيدنا، وتاريخهم هو تاريخنا، والشرعية التي أعطاها الله تعالى للأنبياء وأتباعهم في حكم الأرض المقدسة هي دلالة على شرعيتنا وحقنا في هذه الأرض وحكمها. نعم لقد أعطى الله تعالى هذه الأرض لبني إسرائيل عندما كانوا مستقيمين على أمر الله، وعندما كانوا يمثلون أمة التوحيد في الأزمان الغابرة، ولا نخجل أو نتردد في ذكر هذه الحقيقة وإلاّ خالفنا صريح القرآن، من ذلك قول موسى عليه السلام لقومه كما ذكر ذلك القرآن الكريم : "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين"( )، فلما كفروا بالله وعصوا رسله وقتلوا الأنبياء حلت عليهم لعنة الله تعالى، وتحولت شرعية حكم الأرض المقدسة إلى الأمة التي سارت على منهج الأنبياء وهي أمة الإسلام ( ).