بحث عن مسائل فى اصول الفقه - بحث علمى عن مسائل فى اصول الفقه كامل بالتنسيق
المسألة الأولى
استدل أصحابنا على قوله حجة بالكتاب والسنة والإجماع والدليل العقلى.
الدليل الأول : الكتاب : قوله تعالى فاعتبروا.
وجه الدلالة : أن القياس مجاوزة بالحكم عن الأصل إلى الفرع والمجاوزة إعتبار لأن الإعتبار معناه العبور وهو المجاوزة, والإعتبار مأمور به لقوله تعالى : فاعتبروا فينتج أن القياس مأمور به.
الإعتراض الخصم بثلاثة أوجه :
(أ) لا نسلم أن المراد بالإعتبار هنا هو القياس بل الاتعاظ فإن القياس الشرعي لا يناسب صدر الأية لأنه يكون معنى الأية ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الدرة على البر ) وهو فى غاية الركاكة فيصان كلام البارى تعالى عنه.
وأجاب المصنف : أن المراد بالاعتبار هو القدر المشترى بين القياس والاتعاظ والمشترك بينهما هو الممجاوزة فإن القياس مجاوزة عن الأصل إلى الفرع والاتعاظ مجاوزة من حال الغير إلى حال نفسه وكون صدر الأية غير مناسب بالقياس بخصوصه لا يستلزم عدم مناسبته للقدر المشترك بينه وبين الاتعاظ.
(ب) لا يلزم من الأمر بإعتبار الذى هو القدر المشترك الأمر بالقياس فإن القدر المشترك معنى الكلى والقياس جزئى من جزئياته والدال على الكلى لا يدل على الجزئى .
ويجاب بجوابة :
- كون الأمر بالماهية والكلية لا يكون أمرا بشيء من جزئياتها على التعيين مسلم لكن ههنا قرينة دالة على العموم وهى جواز الإستثناء فإنه يصاح أن يقال إعتبروا إلا فى الشيئ الفلاني والإستثناء معيار العموم. وهذا جواب ضعيف.
- أن الترتيب الحكم على الشيء يقتضى العلة وذلك يقتضى أن علة الأمر باعتبار هو كونه إعتبارا أن يكون كل إعتبار مأمورا به. وهذا أيضا ضعيف لأنه للقياس بالقياس.
- أن الأمر بالماهية الكلية وإن لم يدل على وجوب الجزئيات لكنه يقتضى التخيير بينهما عند عدم القرينة والتخيير يقتضى جواز العمل بالقياس وجواز العمل به يستلزم وجوب الفعل به بأن كل من قال بالجواز قال بالوجوب.
(ج) سلمنا أن الآية تدل على الأمر بالقياس لكن لا يجوز التمسك بها لأن التمسك بالعموم واشتقاق الكلمة كما تقدم إنما يفيد الظن والشارع إنما أجاز الظن فى المسائل العملية وهى الفروع بخلاف الأصول لفرط الاهتمام بها.
وأجاب المصنف : بأنا لا نسلم أنها عملية لأن المقصود من كون القياس حجة إنما هو العمل به لا مجرد اعتقاده كأصول الدين والعماليات يكتفى فيها بالظن فكذلك ماكان وسيلة إليها
الدليل الثانى : على حجية القياس السنة : فإنه روى أن النبي ص . م بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن قاضيين كل واحد منهما فى ناحية فقال لها بما تقضيان فقالا إذا لم تجد الحكم فى السنة نقيس الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى الحق عملنا به فقال عليه الصلاة والسلام أصبتما.
والإعتراض الخصم : بأن التصويب النبي ص . م كان قبل نزول الآية ( اليوم أكملت لكم دينكم ) فيكون القياس حجة فى ذلك الزمان لكون النصوص غير وافية بجميع الأحكام وأما بعض أكمال الدين والتنصيص على الأحكام فلا يكون حجة لأن الشرط القياس فقدان النص .
والجواب : أن التصويب دال على كونه حجة مطلقا والأصل عدم التخصيص بوقت دون وقت والمراد من الأكمال المزكور فى الأية إنما هو أكمال الأصول لأن النصوص لم تشتمل على أحكام الفروع كلها فيكون القياس حجة فى زماننا لإثبات تلك الفروع.
الدليل الثالث : على حجية القياس الإجماع : فإن الصحابة قد تكرر منهم القول به من غير إنكار فكان ذلك إجماعيا :
• أن أبا بكر رضي الله عنه سئل عن الكلالة فقال أقول فيها برأيى فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان.
• فإن عمر رضى الله عنه لما ولى أبا موسى الأشعرى فى البصرة كتب له العهد أمره فيه بالقياس فقال أعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك وقال عمرا أيضا فى الجد أقضى فيه برأيى
• وقال عثمان لعمر أن اتبعت رأيك فسديد وأن تتبع رأى من قبلك لنعم الرأى, وقال علي رضى الله عنه اجتمع رأيى ورأي عمر فى أمهات الأولاد أن لا يبعن وقد رأيت الان بيعهن.
• وقاس ابن عباس رضى الله عنهما الجد على ابن الابن فى حجب الاخوة وقال ألا لايتقى الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الاب أبا فثبت صدور القياس بما قلناه وبغيره من الوقائع الكثيرة المشهورة الصادرة عن أكابر الصحابة ولم ينكر عليهم وإلا لا شتهر انكاره فكان ذلك إجماعا.
الإعتراض :
بما عداه : قوله قبل ذموه أيضا : أي لا نسلم أن الباقين لم ينكروا :
- فقد نقل عن أبى بكر رضي الله عنه أنه قال أي سماء تظلنى وأي أرض تقلنى إذا قلت فى كتاب الله برأيى
- ونقل عن عمر أنه قال وإياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعينهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا
- وعنه أيضا إياكم المكايلة قيل وما المكايلة قال المقايسة
- وقال علي كرم الله وجهه لو كان الدين يؤخذ قياسا لكان باطنة الخف أولى بالمسح من ظاهره
- وعن ابن عباس أنه قال : يذهب قراؤكم وصلحاؤكم ويتخذ الناس رؤساء جهال يقيسون الأمور برأيهم.
وأجاب المصنف : أن الذين نقل لأنهم إنكاره هم الذين نقل عنهم القول به فلا بد من التوفيق بين النقيلين فيحمل الأول على القياس والصحيح والثانى على الفاسد توفيقا بين التقيلين وجمعا بين الروايتين.
الدليل الرابع : أن المجتهد إذا غلب على ظنه كون الحكم فى الأصل معللا بالعلة الفلانية ثم وجد تلك العلة فى الفرع يحصل له بالضرورة ظن ثبوت ذلك الحكم فى الفرع وحصول الظن بالشيء مستلزم لحصول الوهم بنقيضه وحينئذ فلا يمكنه أن يعمل بالظن والوهم لاستلزامه اجتماع النقضين ولا أن يترك العمل بهما لاستلزامه ارتفاع النقيضين ولا أن يعمل بالوهم دون الظن لأن العمل بالمرجوح مع وجود الراجح ممتنع شرعا وعقلا فتعين العمل بالظن ولا معنى لوجوب العمل بالقياس إلا ذلك.
المسألة الثانية
احتج المنكرون للقياس بستة أوجه إن الكتاب والسنة والإجماع والمعقول :
الدليل الأول : الكتاب : وهو أيات :
قوله تعالى : (ياأيها الذين أمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله )
والقول بمقتضى القياس تقديم بين يدي الله ورسوله لكونه قولا بغير الكتاب والسنة.
قوله تعالى : ( وأن تقولوا على الله مالا تعلمون ) قوله تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم )
وجه الدلالة : أن الحكم الثابت بالقياس غير معلوم لكونه متوقفا على أمور لا يقطع بوجود.
قوله تعالى : ( ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين ) فإنه يدل على اشتمال الكتاب على الأحكام كلها فلا يجوز العمل بالقياس لأن شرطه فقدان الناص.
وأجاب المصنف : بأن الحكم بمقتضى القياس مقطوع به والظن وقع فى الطريق الموصلة إليه وهذا الجواب ليس شاملا للآية الأولى ولا للآية الرابعة.
يجاب عن الآية الأولى : أنه لما أمرنا الله تعالى ورسوله بالقياس لم يكن القول به تقديما بين يدي الله ورسوله.
يجاب عن الآية الرابعة : أنه يستحيل أن يكون المراد منها اشتمال الكتاب على جميع الأحكام الشرعية من غير واسطة فإنه خلاف الواقعة بل المراد دلالتها من حيث الجملة سواء كان بوسط أو بغير وسط وحينئذ فلا يلزم ذلك عدم الاحتياج إلى القياس لأن الكتاب على هذا التقدير لا يدل على بعضها إلا بواسطة القياس فيكون القياس محتاجا إليه.
الدليل الثانى : على ابطال القياس السنة : وهو الحديث تعمل هذه الأمة بالكتاب وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك لقد ضلوا.
الدليل الثالث : الإجماع فإن بعض الصحابة قد ذمة وسكت الباقون عنه فكان إجماعا.
وأجاب المصنف عن السنة والإجماع : بأنهما معارضان بمثلهما فيجب التوفيق بينهما بأن يحمل العمل به على القياس الصحيح وإنكاره على القياس الفاسد.
الدليل الرابع : أن الإمامية من الشيعة قد نقلوا عن العترة يعنى أهل البيت إنكارا العمل بالقياس وإجماع العترة حجة.
يجاب : أن نقل الإمامية معارض بنقل الزيدية فإنهم من الشيعة أيضا وقد نقلوا اجماع العترة على العمل بالقياس مع أن اجماعهم ليس بحجة.
الدليل الخامس : المعقول : أن القياس يؤدى إلى الخلاف والمنازعة بين المجتهدين لللإستفراء فيكون ممنوعا لقوله تعالى ( ولا تنازعوا )
وأجاب المصنف : بأن الأية إنما وردت فى الآراء والحروب لقرينة قوله تعالى ( فتفشلوا وتذهب ريحكم ) فأما التنازع فى الأحكام فجائز لقوله عليه الصلاة والسلام : اختلاف أمتى رحمة.
الدليل السادس : من المعقول أيضا : وعليه اعتماد النظام.
أن الشارع فرق بين المتماثلات وجمع بين المختلفات وأثبت أحكاما لا بمجال للعقل فيها وذلك كله ينافى القياس لأن مدار القياس على ابداء المعنى وعلى إلحاق صورة بصورة تماثلها فى ذلك المعنى وعلى التفريق بين المختلفات.
- أما بيان التفريق بين المتماثلات : فإن الشارع قد فرق بين الأزمنة فى الشرف ففضل ليلة القدر والأشهر الحرم على غيرهما وكذلك الأمكنة كتفضيل مكة والمدينة مع استواء الزمان والمكان فى الحقيقة وفرق أيضا بين الصلوات فى القصر فرخص فى قصر الرباعية دون غيرها.
- وأما بيان الجمع بين المختلفات : فإنه جمع بين الماء والتراب فى أجواز الطهارة بهما مع أن الماء ينظف والتراب يشوه
- وأما بيان الأحكام التى لا مجال للعقل فيها : فإنه تعالى أوجب للتعفيف أي غض البصر بالنسبة إلى الحرة الشوهاء مع أن الطبع لا يميل إليها دون الأمة الحسناء التى يميل إليها الطبع.
وأجاب المصنف : إنما ندعى وجوب العمل بالقياس حيث عرف لمعنى أن العلة الجامعة مع إنتفاع المعارضة وغالب الأحكام من هذا القبيل أما الصورة المذكورة فإنها نادرة لا تقدح فى حصول الظن الغالب لا سيما أن الفرق بين المتماثلات يجوز أن يكون لانتفاء صلاحية مايوهم أنه جامع أو لوجود معارض وكذلك مختلفات يجوز اشتراكها فى معنى جامع.