الانتفاع بالرهن على نوعين:
أحدهما: انتفاع الراهن بالرهن. ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الراهن يحق له الانتفاع بالرهن، بسكنى الدار، والاكتساب بالسيارة والدابة.
واشترطوا أن لا ينقص الانتفاع من العين المرهونة أو يتلفها، ودليلهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَغْلَق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه".
أما الانتفاع الذي فيه ضرر على المرتهن كلبس الثوب والسفر بالرهن، أو تأجيره ممن يسافر به فيمنع منه الراهن، لأن لبس الثوب يعرضه للتلف، ولأن في السفر خطراً محتملاً ولا ضرورة له.
لكن إن أذن المرتهن فيما منع منه الراهن جاز.
وذهب الحنفية إلى أنه ليس للراهن الانتفاع بالرهن مطلقاً بوجه من الوجوه، لا بلبس ولا ركوب ولا سكنى ولا غير ذلك، بل تعطل المنافع حتى يكون الوفاء.
ثانيهما: انتفاع المرتهن بالرهن:
اتفق الفقهاء على الأمور التالية:
1- أن عين الرهن ومنافعه ملك للراهن.
2- أن المرتهن لا يحلّ له أن ينتفع بشيء من الرهن إذا لم يأذن له المالك، إذا لم تكن العين المرهونة مركوباً أو محلوباً.
واختلفوا في أمرين:
الأول: في انتفاع المرتهن بالرهن إذا أذن الراهن.
الثاني: فيما إذا كان المرهون مركوباً أو محلوباً.
الأمر الأول: انتفاع المرتهن بالرهن إذا أذن الراهن:
ذهب الشافعية إلى أنه إذا شرط في العقد أن يكون الانتفاع بالمرهون للمرتهن فسد الشرط، وكذا فسد الرهن في الأظهر، لمخالفة الشرط مقتضى العقد.
وأما إذا لم يكن مشروطاً في العقد، فالظاهر جواز ذلك عندهم، لأن للمالك أن يتصرف في ملكه بما لا يضيع فيه حق الآخرين.
وذهب الحنابلة إلى أنه إن كان الانتفاع بغير عوض، وكان دين الرهن قرضاً لم يجز، لأنه يكون قرضاً يجر منفعة وذلك حرام، وإن كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض جاز ذلك.
وأما إذا كان الانتفاع بعوض مثل إن استأجر المرتهن الدار من الراهن بأجرِة مثلها من غير محاباة جاز في القرض وغيره، لكونه ما انتفع بالقرض بل بالإجارة، وإن حاباه في ذلك فحكمه حكم الانتفاع بغير عوض، لا يجوز في القرض ويجوز في غيره.
وذهب الحنفية إلى ثلاثة أقوال مختلفة:
أحدها: أنه لا يحلّ انتفاع المرتهن بالرهن ولو أذن الراهن وعلل ذلك بأنه إذن له بالربا، لأنه يستوفي دينه كاملاً، فتبقى المنفعة فضلاً، فيكون ربا. ولعلَّ هذا القول محمول على الديانة لا الحكم.
ثانيها: أنه يجوز له الانتفاع بالرهن إذا أذن الراهن بذلك، سواء أكان الإذن في العقد أم كان خارجه، لأن الرهن يقتضي الحبس إلى أن يستوفي دينه دون الانتفاع، فلا يجوز له الانتفاع إلا بتسليط منه، وإن فعل كان متعدياً، ولا يبطل الرهن بالتعدي.
ثالثها: أنه يمنع الانتفاع المشروط في العقد، لأنه قرض جر منفعة فهو ربا، فإذا لم يكن مشروطاً فلا بأس، والغالب من أحوال الناس أنهم يريدون عند الدفع الانتفاع، ولولاه لما أعطاه الدراهم، وهذا بمنزلة الشرط، لأن المعروف كالمشروط وهو مما يعين المنع.
لا خلاف في أنه لا يحل للمرتهن الانتفاع بالرهن بدون إذن الراهن.. واختلفت كلمة الفقهاء في حل انتفاعه بإذنه.. ففي عامة المعتبرات أنه يحل للمرتهن أن ينتفع بالرهن بإذن الراهن ونظرا إلي ما لهذه المسألة من الحيوية والأهمية الكبري فإننا نذكر ما جاء فيها عن مختلف المذاهب عند الحنفية لهم في ذلك عدة آراء.
* لا يجوز أن ينتفع بالرهن بدون إذن الراهن سواء كان سببه قرضاً أو ثمن مبيع أو غيرها.
** يحل للمرتهن أن ينتفع بالرهن بإذن الراهن بكافة الانتفاعات سواء كان عقاراً أو ملبوساً أو حيواناً وعليه عامة المعتبرات.
** لا يحل للمرتهن أن ينتفع بشيء منه بأي وجه من الوجوه ولو أذن له الراهن... وذهب إليه محمد بن أسلم السمرقندي.
* إذا كان الانتفاع مشروطاً لم يحل وإن لم يكن مشروطاً يحل.
** إن هذا الرأي الأخير يصلح للتوفيق بين الرأيين السابقين ويشير بن عابدين إلي ترجيحه له وعليه فإذا كان الانتفاع مشروطاً لم يحل.. ولو أذن الراهن وإذا لم يكن مشروطاً حل بإذن الراهن ومثل الانتفاع المشروط في هذا الحكم ما إذا كان معروفاً بين الناس انهم لا يقرضون أموالهم إلا في مقابلة منفعتهم بالرهن فإنه يحرم انتفاع المرتهن بالرهن كما يحرم انتفاعه به إذا اشترط ذلك في العقد.. وعلي ذلك يحل للمرتهن الانتفاع بالرهن بإذن الراهن وبإذن الراهن إذا كان الانتفاع غير مشروط ولم يكن متعارفاً بين الناس ويحرم فيما عدا ذلك علي ما استظهره بن عابدين.
الحنابلة:
1 إذا كان دين الرهن قرضاً لم يجز للمرتهن الانتفاع بالرهن مطلقاً ولو أذن له الراهن.
2 إذا كان الرهن بدين غير القرض أو بثمن مبيع أو بأجر دار فإنه يجوز للمرتهن الانتفاع بإذن الراهن.
3 إذا كان الرهن حيواناً مما يركب ويحلب وله مؤنة فإنه يجوز للمرتهن إذا أنفق عليه أن ينتفع به فيركبه ويشرب لبنه ولو لم يأذن له الراهن ويتحري العدل في ذلك فينتفع بقدر انفاقه عليه.
المالكية:
1 إذا كان دين الرهن قرضاً واشترط المرتهن الانتفاع به لم يجز.
2 إذا كان دين الرهن ثمن مبيع أو نحوه واشترط المرتهن الانتفاع به فلا بأس به في الدور والأرضين وغيرها.. إن حدد مدة الانتفاع وإلا فلا.
الشافعية:
1 يبطل الرهن إذا اشترط المرتهن منفعة الرهن بدون تحديد أجل الانتفاع.
2 يصح الرهن المشروط في بيع ويجوز انتفاع المرتهن به إذا كانت مدته محددة.
** وبعد إن بسطنا آراء المذاهب المختلفة في انتفاع المرتهن بالرهن نري أنه لا يجوز للمرتهن الانتفاع بالرهن بدون إذن الراهن ويجوز انتفاعه به مطلقاً سواء كان حيواناً أو عقاراً أو أرضاً أو غيرها متي أذن الراهن له في الانتفاع بالعين المرهونة إلي أجل محدود معين سواء شرط ذلك في عقد الرهن أم لم يشرط. وذلك لأن الراهن يملك العين المرهونة ويملك منفعتها فإذا أذن للمرتهن في الانتفاع فقد ملكه بعض ما يملك ولا حرج في ذلك شرعاً.
في التصرف في الرهن:
المراد بالتصرف كل عمل ينشئ التزاماً وينتج أثراً شرعياً، وذلك كالهبة والبيع والوقف والعتق وما أشبه ذلك.
أولاً: تصرف الراهن بغير إذن المرتهن:
ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه ليس للراهن في هذه الحال تصرف يزيل الملك كالهبة والبيع والوقف، فإن تصرف الراهن بطل هذا التصرف ولم يترتب عليه أي أثر شرعي. وإنما لم يجيزوا تصرفات الراهن، لأنه وثيقة بيد المرتهن، فلو أجزنا ذلك لفاتت الوثيقة.
وكما إنه لا يجوز أن يتصرف تصرفاً يزيل الملك لا يجوز له أن يتصرف تصرفاً ينقص المرهون كإجارته مدة تحلّ الدين قبل انتهائها، لأن ذلك يقلل الرغبة في شراء المرهون، فإن كان الدين يحّل مع انتهاء المدة أو بعدها جاز له التصرف في ذلك.
وكذلك لا يجوز له رهنه من غيره، لأنه يزاحم حق الأول، فيفوت مقصود الرهن.
وذهب الحنفية إلى التفصيل في هذا التصرف:
1- إذا كان التصرف بيعاً انعقد البيع موقوفاً، سواء علم المشتري بذلك أم لم يعلم.
ووجه الوقف هو أن الراهن لا يتصرف في خالص حقه، إذ تعلق به حق المرتهن، وهو الحبس، فيتوقف على إجازته.
فإذا أجاز المرتهن البيع نفذ، لأن عدم النفاذ لمكان حقه، فإن رضي ببطلان حقه زال المانع فنفذ البيع. وإن لم يجزه بطل البيع.
هذا الكلام في حق البائع، أما المشتري، وإن لم يجز المرتهن البيع فإن المشتري بالخيار إن شاء صبر إلى فكاك الرهن، أو رفع الأمر إلى القاضي ليفسخ البيع لأن هذا الفسخ لقطع المنازعة وهو إلى القاضي.
2- إذا كان التصرف هبة من غير المرتهن أو صدقة انعقد أيضاً موقوفاً على إذن المرتهن، فإن لم يأذن بطل ذلك، وأن أذن نفذ، وفي هذه الحالة يبطل عقد الرهن، لأنه زال عن ملكه لا إلى بدل بخلاف البيع.
3- إذا كان التصرف إجارة توقف على إذن المرتهن، فإن لم يأذن بطلت، لأن قيام ملك الحبس له يمنع الإجارة، ولأن الإجارة بعقد الانتفاع، وهو لا يملك الانتفاع بنفسه، فكيف يملكه غيره، وإن أذن جازت الإجارة، وبطل عقد الرهن، لأن الإجارة إذا جازت -وهي عقد لازم - لا يبقى الرهن ضرورة، والأجرة للراهن لأنها بدل منفعة مملوكة له، وولاية قبض الأجرة له لأنه هو العاقد، ولا تكون الأجرة رهناً، لأن الأجرة بدل المنفعة، والمنفعة ليست بمرهونة فلا يكون بدلها مرهوناً، كل هذا إذا كانت الإجارة لغير المرتهن، أما إذا كانت له جازت الإجارة وبطل الرهن إذا جدد المرتهن القبض للإجارة، لأن قبض الرهن غير قبض الإجارة، فقبض الرهن مضمون، وقبض الإجارة أمانة.
ثانياً: تصرف المرتهن بغير إذن الراهن:
ذهب الجمهور إلى أنَّ تصرف المرتهن بغير إذن الراهن يعدُّ تصرفاً لاغياً، فإذا أسلم العين كان في ذلك متعدياً غاصباً.
وذهب الحنفية إلى أن تصرفاته موقوفة على إذن الراهن، فإن أجاز صحت ويبطل الرهن، وإلا بطلت، لكن في حال إجازة البيع يبقى الثمن رهناً.
ثالثاً: تصرف الراهن بإذن المرتهن:
ذهب الشافعية إلى أنه إذا تصرف الراهن بإذن المرتهن تصرفاً يزيل الملك نفذ هذا التصرف، وبطل الرهن، لكن للمرتهن الرجوع عن الإذن قبل تصرف الراهن، لأن حقه باق، كما للمالك أن يرجع قبل تصرف الوكيل.
وذهب الحنفية إذا باع أو وهب من أجنبي خرج المرهون عن الرهن فلا يعود إلا بعقد مبتدأ.
رابعاً: تصرف المرتهن بإذن الراهن:
ذهب الحنفية والشافعية إلى أنه إذا تصرف المرتهن بإذن الراهن تصرفاً يزيل الملك صح هذا التصرف ويبطل الرهن.
في بيع الرهن:
ذهب الشافعية إلى أن حق البيع للراهن أو وكيله، ويكون ذلك بإذن من المرتهن، لأن له حقاً فيه، فإن لم يأذن المرتهن بالبيع قال له الحاكم، ائذن في بيعه أو أبرئه، وذلك دفعاً لضرر الراهن، فإن أصر على الامتناع باعه الحاكم عليه، ووفى الدين من ثمنه دفعاً للضرر.
ولو طلب المرتهن بيعه فأبى الراهن ذلك ألزمه القاضي قضاء الدين أو بيعه، فإن أصر على الامتناع باعه الحاكم دفعاً للضرر عن المرتهن. هذا إذا لم يكن له وفاء غير الرهن، فإن كان له ما يفي به الدين لم يتعين بيع الرهن. وكذلك الحكم إذا طلب المرتهن بيعه وكان الدين حالاًّ، وكان الراهن غائباً.
أما إذا باعه المرتهن بإذن الراهن فالأصح أنه إن باع بحضرته صح البيع، وإلا فلا، لأن بيعه لغرض نفسه فيتهم في الغيبة بالاستعجال وترك التحفظ دون الحضور.
وهناك قول ثانٍ أنه يصح مع عدم حضوره كما لو أذن له في بيع غيره.
وهناك قول ثالث عندهم هو أنه لا يصح بيعه حضر الراهن أم لم يحضر، لأن الإذن له فيه توكيل فيما يتعلق بحقه، إذ المرتهن مستحق للبيع.
وذهب الحنفية إلى أن للراهن والمرتهن حقاً في العين المرهونة، أما الراهن فملكه، وأما المرتهن فلأنه أحق بماليته من الراهن ولذلك لا ينفرد أحدهما ببيعه دون إذن من الآخر.
فإذا أذن الراهن للمرتهن ببيعه باعه، واستوفى حقه منه، وكذلك إذا أذن الوكيل له في البيع.
فإن حّل الأجل وكان الراهن غائباً أجبر الوكيل على بيعه، لأن حق المرتهن تعلق بالبيع، وفي الامتناع إبطال لحق، فيجبر عليه.
وكيفية الإجبار أن يحبسه القاضي أياماً ليبيع، فإن امتنع بعد ذلك فالقاضي يبيعه عليه دفعاً للضرر.
وأما إذا لم يأذن بالبيع لأحد، طولب بالوفاء، فإن امتنع أجبره القاضي على البيع بما يراه مناسباً، من حبس أو تعزيز.
وعند أبي حنيفة لا يبيعه عليه، لأن البيع عليه بمثابة الحجر على ماله، ولا يكون إلا في الغائب للضرورة، وأما الحاضر فلا يحجر عليه عنده.
في استهلاك الراهن العين المرهونة:
إذا استهلك الراهن الرهن ترتبت على ذلك الأحكام التالية:
1- إن كان الدين حالاً يطالب بالدين، إذ لا فائدة في المطالبة بالضمان.
2- إن كان الدين مؤجلاً يضمن مثل الرهن إن كان مثلياً، أو قيمته إن كان قيمياً.
3- يكون المضمون رهناً في يد المرتهن لقيامه مقام العين المرهونة.
4- المرتهن هو الذي يخاصم الراهن في التضمين، لأنه صاحب الحق في مالية الرهن بالحبس ووضع اليد للاستيفاء.
القسم الثاني: في استهلاك المرتهن للعين المرهونة:
إذا استهلك المرتهن العين المرهونة ترتب على ذلك الأحكام التالية:
1- إذا كان الدين مؤجلاً ضمن مثله إن كان مثلياً، أو قيمته إن كان قيمياً. لأنه أتلف مال غيره، وكانت رهناً في يده حتى يحّل الأجل، لأن الضمان بدل العين فأخذ حكمه.
2- تعتبر قيمة المتلّف بالنسبة إلى المرتهن يوم القبض، لأن المعتبر في ضمان الرهن يوم قبضه، لأنه به دخل في ضمانه، لأنه قبض استيفاء.
3- على هذا فإذا نقص سعره يوم الاستهلاك وجب قيمته يوم القبض، فلو كانت قيمته يوم القبض ألفاً، ويوم الاستهلاك خمسماية، غرم خمسماية وتكون رهناً، وسقط من الدين خمسماية.
4- إذا كان الدين حالاً والمضمون من جنس حقه استوفى المرتهن منه وردّ الفضل على الراهن إن كان به فضل، وإن كان دينه أكثر من قيمته رجع على الراهن بالفضل