دراسة ردود أفعال الفرد إزاء الفرد الآخر
[b]الكيمياء البشرية
هل يُوجد بالفعل ما يُطلَق عليه "الكيمياء بين البشر"؟ وهل يَحْدث في أرض الواقع أن يَشعر المرء بانجذابٍ أو نُفور تُجاه أفرادٍ ما، دون سببٍ واضح؟ وهل من الأهميَّة بمكانٍ أن نُعِير هذا الانجذاب أو النفور اهتمامًا قد يؤثِّر على مجريات علاقتنا بمن هم حولنا؟
إنَّ انجذابنا أو إحساسنا بعدم الراحة، أو تقبُّل بعض الأفراد بأريحيَّة، أو على مضضٍ هو شُعور حقيقيٌّ يَشعر به كثيرٌ من الأفراد؛ سواءٌ وافقنا على أنَّ هناك ما يسمَّى بالفعل "بالكيمياء" بين البشر، أو لَم نوافق.
في علم الكيمياء يتمُّ تعريف "الكيمياء البشريَّة" على أنَّها أحَدُ الفروع التي تَدرس طبيعة ردود الأفعال بين البشر، وقد بدأ يسودُ في خمسينيَّات القرن الماضي اعتقادٌ بين بعض العلماء بأنَّ البشر هم كتلة متحرِّكة من الذرَّات الكيميائية، وبما أن الذَّرات الكيميائية تتحرك طيلة الوقت، وتتنافر، وتتجاذب مع الذرات الأخرى - للكائنات البشرية الأخرى - لذلك فإنَّهم استنتَجوا أنَّ الانجذاب بين البشر يَحْكمه نوعٌ من الكيمياء غير المرئيَّة، وتسوده كيمياء اللا قانون، وتنظمه قواعد الانجذاب اللا منظورة؛ ولهذا وضَع بعضُهم تعريفًا "للكيمياء البشرية" على أنَّها: دراسة ردود أفعال الفرد إزاء الفرد الآخر؛ ومن هنا اعتبروها أحدَ الفروع المهمَّة لعلم "الطبيعة البشرية".
ترتكز "الكيمياء البشرية" على كون الإنسان "جُزيئًا"، وقد ظهر هذا التعبير للمرة الأولى عام 1789، وبعد شيوعه في بعض الأوساط العلميَّة، اعتبره العلماء نوعًا من العلوم الكمِّية التي تقيس سلوكياتِ وردودَ أفعال الجُزَيئات البشريَّة.
وفي عام 1863 وضع أحد علماء البيولوجيا الإنجليز تصوُّرًا عامًّا لألوان الجُزَيئات البشريَّة التي تتكوَّن من ذرات أصغر حجمًا منها، والتي تُكَوِّن في النِّهاية الجسمَ البشري، وكان مخطَّط ألوان الذرات كما يلي: الأوكسجين أحمر، النيتروجين أزرق، الهيدروجين رمادي، الكربون أسود، ويحتوي جسد كلٍّ منا على نِسَب متفاوتة من كلٍّ من هذه الذرات، وطبقًا لنسب التفاوت والاختلاف؛ نتجاذب أو نتنافر مع الآخرين.
ولو ألقينا نظرة سريعةً موجزة على تاريخ الاعتراف بوجود كيمياء بين البشر، فسنجد أنَّ مفهوم "الإنسان الكيميائي" موجودٌ منذ عصور قُدامى اليونان، حيث اعتقَدوا وقتها أنَّ التجاذب بين البشَر يشبِهُ امتزاجَ الماء ببعض الغازات، وتنافرهم يشبه انفصالَ الماء عن الزيت.
ويُعَدُّ العالِمُ الألماني "دي جوتييه" هو أوَّل من وصف ردود الأفعال الكيميائيَّة بين البشر علميًّا، وبعدها توالت الدِّراسات عن "الكيمياء البشريَّة"، وفحصها لتحديد مدى علميَّتها من عدمه حتَّى ظهر أول كتابٍ عنها عام 1914 والذي كان عنوانه "الكيمياء البشرية"، وقد أكَّد فيه مؤلِّفُه المهندس الأمريكي الإنجليزي الأصل "وليام فيربرن" على أن الإنسان بالفعل ما هو إلا مجموعة من المواد الكيميائية التي تتفاعل مع غيرها من المواد الكيميائية الأخرى، وقد اقترح "فيربرن" استخدام مبادئ علم الكيمياء عند تحليل العلاقات الإنسانيَّة، وتفسير ردود الأفعال بين الأفراد، وخاصَّة داخل بيئات العمل (كالمصانع مثلاً)، أما "توماس دراير"، فيعدُّ هو أوَّلَ مَن أطلق على نفسه "الإنسان الكيميائيَّ" والذي أخذ على عاتقه تطويرَ البحوث الخاصَّة بالكيمياء البشرية، ونشرها من الفترة الممتدَّة بين 1910 - 1948، وفي عام 2007 ظهر أول مجلدين كاملين عن "الكيمياء البشريَّة"، وفي عام 2008 ظهرت أول قناة تعليمية تُصْدِر حلقات فيديو مسلسلة عن الكيمياء بين البشر، وتقوم بعرض هذه البرامج مرتين كلَّ أسبوع لمشاهديها.
لا يمكننا أن نتحدَّث عن "الكيمياء البشرية" دون أن نُسْهِب قليلاً في الحديث عن العالم الألماني "دي جوتييه" الذي يُنسب إليه الإسهامُ الأكبر في تطوير "الكيمياء البشرية"، واعتبارها علمًا يكاد يضاهي بقيَّة العلوم الأخرى، فـ"دي جوتييه" هو مَن ابتكر "جدول التجاذب والتنافر" والذي تم تصميمه على غرار الجدول الدوريِّ الشهير للذرَّات، وهو أشهر مَن دشَّن مفهومًا خاصًّا للعلاقات البشرية باعتبارها تفاعلاتٍ كيميائيةً بين أجناس كيميائية تحكمها قوى تجاذب وتنافر كيميائيَّة، وعقب اختراعه لهذا الجدول قدَّم للعالَمِ نظرية "التجاذب الاختياري البشري" في أواخر القرن الثامن عشر، والتي تم ترجمتها في القرن الواحد والعشرين لِمَا أصبح يصطلح عليه "بالكيمياء البشرية"، والتي اختصت بالإجابة عن سؤال أساسي هو "هل تنطبق على البشر نفسُ القوانين المادِّية التي تنطبق على المواد الطبيعيَّة؛ باعتبارهم ليسوا أكثر من موادَّ كيميائية؟"
رغم كل الأبحاث والدراسات العلميَّة التي أجريت على الكيمياء بين البشر، وحاولَتْ أن تصبغ شعور المرء بالتوافق والراحة مع أفرادٍ بعينهم دون غيرهم - والعكس أيضًا - بالعِلْمية؛ إلا أنَّ هناك أعدادًا كبيرة من العلماء لا تعترف بمثل هذه الكيمياء كحقيقة علميَّة، وهم يرَوْن أن تلك الأبحاث ليست أكثر من اجتهادات وفرضيات علمية لم يثبت صِحَّتها بالدليل القاطع، فالإنسان بداهة ليس مجرد جُزَيئات وذرَّات كيميائية، وهو بلا جدال أعقد من أن يكون محض مواد كيميائية، وهم يعزون المشاعر الدفينة - الطيبة أو الكريهة - لبعض الأشخاص لأسباب أخرى، فبعض اختصاصيِّي الطب النفسي مثلاً يرونها انعكاسًا لذكريات خاصة في أذهاننا تجاه بعض الأشخاص أو المواقف والخبرات، والتي تركَتْ في عقولنا انطباعات محددة بشكل واعٍ أو غير واعٍ، في حين أن بعض العلماء توصلوا إلى (جين) يُقال: إنَّه يفسر انجذاب بعض الأشخاص لأشخاص آخرين دون غيرهم، وهذا (الجين) يُطلِق إشارات كيميائيَّة قوية يطلق عليها "فيرمونات"، وهذه الإشارت تمثِّل العامل الأكثر حَسمًا في شعور التجاذب والتنافُر بين الأفراد.
أما بعض اختصاصيِّي الطاقة فيرون أنَّ لكل شخص نوعًا ونسبة محدَّدة من الطاقة، تكون إمَّا سالبة أو موجبة، فإن كان لكلٍّ منهما نفسُ نوع الطاقة فإنَّهما ينجذبان بعضهما إلى بعض، وإن لم يكن فإن كلاًّ منهما يَشعر بالنُّفور تجاه الآخر، ولكلِّ شخص شحنات كهربيَّة ترصد ذبذبات مختلفة قد ترفض بعض الشحنات الأخرى أو تَقْبلها، والطاقة الإيجابيَّة ترفض السلبية والعكس صحيح أيضًا، أما خبراء مهارات الاتِّصال فيرون أنَّ "الكيمياء البشرية" ما هي إلاَّ نوع من التواصل المعتمِد على مدى توافق طباع المرء أو تناقضها مع الآخرين، فالمرء يرتاح لمن يحملون نفس منظومته الفكريَّة والقيميَّة، وينفر ممن يختلفون معه ولو شعوريًّا.
هل من الممكن أن نصل لرأيٍ قاطع بشأن مدى عِلميَّة "الكيمياء بين البشر"؟ ربما لن نصل إلى هذا الرأي بسهولة، غير أننا قد نقترب من الرأي الصائب لو نظَرْنا إلى الإنسان باعتباره - عند تحليله وليس كينونته - ذرَّاتٍ متجمِّعةً وموزَّعة بشكل معجزٍ ودقيق، أما الكون فهو مجرد ذبذبات وموجات كهربيَّة، تختلف كلٌّ منها عن الأخرى في طولها ومَداها، والمخُّ البشري يتعامل مع هذه الذبذبات والموجات طيلة الوقت، فلو نظرنا إلى العين مثلاً، سنجد أنها عندما تقع على شيء، فإنَّ اتصالاً ما يصدر من الشبَكيَّة إلى المخ، فيقوم المخُّ بتحليل هذه الذبذبة وتفسيرها وتوصيفها، وإعطائها شكلاً ولونًا واسمًا محدَّدًا، تستطيع الذاكرة استدعاءَه وقت الحاجة، وتتكرر هذه العملية طوال الوقت بين أعضاء الجسم البشريِّ وبين الموجودات في الكون من حوله.
فالمخُّ البشري إذًا هو الذي يفسِّر الذبذبات والموجات وفقًا للمعطيات التي لديه، واتفاق الذبذبات واختلافها عن التوصيفات والتفسيرات التي يؤلِّفها المخ هو الذي يحدد مدى تجاذبنا أو تنافرنا مع ما يحيط بنا، وهو ما يصلح للانطباق أيضًا على علاقات المرء بغيره، ويفسِّر سببَ الشعور بالراحة والتوافق الذي يشعر به المرء تجاه البعض، والنفور وعدم الراحة وافتقاد الانسجام الذي يعانيه إزاء البعض الآخر.[/b]