أثر التقوى على حياة الفرد والمجتمع - بحث علمى عن أثر التقوى على حياة الفرد والمجتمع جاهز للطباعه
- تعريف التقوى
- أثر التقوى على حياة الفرد والمجتمع
- التقوى مناط السعادة في الدارين
- التواصى بالتقوى في السراء والضراء
- قطار الحياة سيره سريع لا يفتأ ولا يفتر
إن أفضل ما نستلهم منه حديثنا كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأرى أن نستلهم حديثنا من آية من كتاب الله هذه الآية المباركة تكفي أن تكون دليلا للمؤمن في حياته لأجل ربط العمل بالجزاء والمسير بالمصير والدنيا بالآخرة حتى لا تتغلب على الإنسان شهواته العارمة ونزعاته المتعددة وإنما يضبط بسنة الله تبارك وتعالى كل خلجة من خلجاته وكل حركة من حركاته وفقا لأوامر الله عز وأجل التي تجمع كل خير للعباد هذه الآية قول الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون(.
في هذه الآية الكريمة ينادي الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين الذين هم أجدر وأولى بأن ينتفعوا بما أنزل الله سبحانه وتعالى لأنهم هم الذين لامس الإيمان شغاف قلوبهم ونور بصائرهم وفتح أذهانهم وهداهم إلى الله عز وجل وهم الذين بإمكانهم أن يستفيدوا مما أنزل الله تبارك تعالى والكتاب كله إنما هو رحمة للمحسنين وهدى وبشرى للمؤمنين فالذين يستفيدون بما أنزل الله تبارك وتعالى من وعظ وإرشاد وتوجيه هم المؤمنون وقد عبر الله سبحانه وتعالى عنهم بعبارات حسنة في مواضع متعددة تارة عبر عنهم بالمؤمنين وتارة عبر عنهم بالمحسنين وتارة عبر عنهم بالمتقين يقول تبارك وتعالى في وصف هذا الكتاب العزيز: ( هدى للمتقين ( وقال فيه : (هدى ورحمة للمحسنين ( وقال فيه: ( هدى وبشرى للمؤمنين ( فهو وإن كان ذكرا للعالمين إلا أن الذين يستفيدون منه هم المؤمنون والمحسنون والمتقون فجدير إذا بأي مؤمن تقرع مسامعه هذه الآية الكريمة وأمثالها أن يصيغ إليها سمعه فإنه نداء العلى الأعلى لعباده لأجل أن يبصرهم بما يأتون وما يذرون.
والله سبحانه وتعالى بعد أن حفز همم عباده الصالحين بندائهم بأحسن الألقاب وهو نداء الذين آمنوا في الآية الكريمة وجه إليهم أمره عندما قال لهم: ( اتقوا الله( وكلمة اتقوا الله تجمع كل خير من خيري الدنيا والآخرة فإن بدون تقوى الله سبحانه وتعالى تكون حياة الإنسان في دنياه حياة ضائعة متلاشية وأشبه بحياة السباع في غابها إذ لا يمكن للإنسان أن يضبط نزعاته المختلفة إلا بتقوى من الله سبحانه على أن تكوين الإنسان تكوين عجيب فإنه بطبعه متكون كما شاء الله سبحانه وتعالى من جسم وروح وعقل وقلب وضمير وغرائز وهذه الأشياء كلها مطالب مختلفة فالإنسان بسببها وقع بين تتدافع وتتجاذب فلذلك لا بد أن يكون عنده ميزان حتى يضع كل شيء موضعه وينسق ما بين هذه الجوانب المتباينة في حياته لتكون حياته كلها حياة منسجمة ثم بجانب ذلك أيضا الإنسان كائن مدني في كل فرد من أفراد المجتمع البشري بحاجة إلى جميع الأفراد من أجل ذلك جعل الله سبحانه وتعالى مصالح الناس متشابكة ومنافعهم متداخلة وبسبب ذلك لا بد أن يكون ما بين الناس تجاذب وتتدافع ولكن تقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تضبط حياة أفرادهم فيعمل الجميع لأجل مصلحة الجميع بحيث يكون الفرد متحركا في إطار المجتمع والأمة فكل حركة من حركاته ليست لصالح نفسه وإنما هي لصالح أمته ومجتمعه هذا بجانب كون الإنسان ليست حياته هذه كل شيء فرحلة الحياة هذه إنما هي مرحلة اختبار وامتحان تليها مرحلة الجزاء في الدار الآخرة هذا الجزاء إنما هو بحسب ما يقدم الإنسان هنا في حياته هذه وقطار الحياة يسير سيرا سريعا لا يتوقف في أي حال من الأحوال سواء كان هذا الإنسان في ذكر أو غفلة سواء كان في نوم أو يقظة سواء كان في سلم أو حرب إنما قطار الحياة يسر سيرا سريعا لا يهدأ بأي حال من الأحوال فكل نفس يتنفسه الإنسان إنما هو على حساب العمر وكل لحظة تمر به إنما تقربه إلى الله سبحانه وتعالى فإذا ما أجدر هذا الإنسان ان يتزود بزاد التقوى لأجل أن ينقلب لحسن العقبى في الدار الآخرة وتقوى الله تبارك وتعالى كلمة ذات مدلول واسع فإنها من حيث الدلالة اللغوية تدل على معنى التخلي ولكنها من حيث الدلالة الشرعية تدل على معنى التخلي والتحلي معا أما دلالتها اللغوية على التخلي فمن حيث أن كلمة التقوى تفيد التجنب والابتعاد يقال اتقي بمعنى تجنب إذ هذا الفعل الذي اتقي إنما هو مطاوع لوقى يقال وقيته أقيه فاتقى فإذا هذه المطاوع للفعل الذي هو وقى تدل على التجنب والابتعاد والشواهد التي جاءت في نصوص الكتاب العزيز وفي نصوص كلام العرب هي داله على ذلك فإن كلام العرب يدل على أن اتقي بمعنى تجنب وابتعد عن الشيء فالعرب تقول اتقي هذا الأمر بمعنى تجنبه ولا تقترب منه فمن ذلك قول الشاعر:
فتناولته واتقتنا باليد سقط النصيف ولم ترد إسقاطه أي تجنبت رؤيتنا إياها باليد وتقوى الله تبارك وتعالى كلمة مجازة لا يمكن أن يتجنب الإنسان ذات الله فإن الحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالاتصال بمخلوقاته ولا يوصف بانفصال عنها لأنه كان قبل خلق هذه المخلوقات فهو قد كان قبل خلق الأين وقبل خلق الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان لا يطلب بأين ولا يدرك بعيد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فإذا تقوى الله تبارك وتعالى ليس بمعنى تجنب الله وإنما تقواه بمعنى تجنب سخطه عز وجل ومثل ذلك قوله سبحانه: ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون( فإن اتقاء ذلك اليوم بمعنى تجنب المصير إليه أمر متعذر فكل أحد من الناس موعود بأن ينقلب على ذلك اليوم ويصير إليه فإذا ليس من المعقول أن يقوى أحد على تجنب ذلك اليوم وإنما هو تجنب ما يريديه في ذلك اليوم من المهلكات ولئن كان المراد بتقوى الله سبحانه وتعالى اتقاء سخطه فإذا اتقاء سخط الله يكون بفعل المأمورات وتجنب المنهيات وبهذا تكون كلمة التقوى في المدلول الشرعي دالة على الفعل والترك أو كما يقال دالة على التخلي والتحلي فهي دالة على التخلي عن كل المرديات التي تؤدي إلى سخط الله وعلى التحلي بكل الأمور الحسنة التي تؤدي إلى رضوان الله سبحانه وتعالى فما من شيء يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة إلا وفعله بعد اتقاء الله تبارك وتعالى لأنه اتقاء لسخطه عز وجل وكذلك ما من أمر يؤدي إلى سخط الله عز وجل إلا وتجنبه من تقوى الله لأن تجنبه يؤدي إلى نيل رضوان الله تبارك وتعالى فبهذا يكون الإنسان بفعله المأمورات واجتنابه المنهيات متقيا الله ولأهمية التقوى جاء الأمر في الكتاب العزيز بالتقوى في مواضع كثيرة إذ لم يؤمر الإنسان بشيء في الكتاب كما أمر بالتقوى فقد تكرر الأمر بالتقوى في مواضع كثيرة من كتاب الله سواء كان في موضع التشريع أو كان في معرض الوعد والوعيد أو كان في معرض الامتنان من الله سبحانه وتعالى على عباده فنجد أن الله تبارك وتعالى يقول: ( واتقوا الله إن الله شديد العقاب( فالله تعالى في هذه الآية يأمر عباده بأن يتقوه ويذكرهم بأنه شديد العقاب ويقول الله عز وجل
واتقوا الله الذي إليه تحشرون( ويقول تعالى
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( ويقول في معرض التخويف: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(ويقول سبحانه وتعالى في معرض الامتنان
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً(.
ونجد في الأوامر والنواهي الأمر بالتقوى وتبشير المتقين فالله سبحانه وتعالى عندما يأمر بشيء يؤكد على ذلك الأمر بالأمر بالتقوى فعندما ذكر أحكام الدين قال ( واتقوا الله ويعلمكم الله( وكذلك عندما ذكر الأحكام الزوجية في كتابه حتى عندما ذكر معاشرة الأزواج أمر سبحانه وتعالى بالتقوى في كل ذلك لأن على الإنسان أن يتقى الله على كل حال فالإنسان ليس مطالبا بتقوى الله في فترة من فترات حياته وفي ساعة من ساعات يومه بل هو مطالب بأن يتقى الله في يقظته ونومه وفي بيعه وشراه وفي سلمه وحربه ترون أن الآيات القرآنية عندما تحدثت عن أحكام الحرب مع أعداء الله وحضت عباد الله عز وجل على الجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمة الله أمر الله سبحانه وتعالى بالتقوى في معرض هذا الأمر فقد قال سبحانه بعد ذكر طائفة أحكام الجهاد وتحريض عباد الله المؤمنين عليه ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ( فإذا ما من حالة من الحالات التي يكون عليها الإنسان إلا وهو مطالب بأن يتقي الله تبارك وتعالى ووصف الله عز وجل في معرض الأمر بالتقوى وفي معرض حث المؤمنين على الاستمساك بأوامره والازدجار عن نواهيه بما وصف به تعالى في كتابه العزيز إنما يدل على أن الأمر بالتقوى في كتاب الله سبحانه وتعالى إنما جاء لأن الله سبحانه وتعالى هو أهل التقوى فهو جدير أن يتقى على كل حال لأن العبد لا يمكن أن يستغنى عنه في أي لحظة من اللحظات فهو الذي خلقنا من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما الرجال والنساء في هذه الأرض وكل ذلك مما تتوقف عليه حياة البشر ويستمر عليه الوجود الإنساني على ظهر هذه الأرض. فإذا هو جدير بأن نتقيه بسبب ذلك فهو وحده سبحانه وتعالى الذي وفر لنا الأرزاق وهيأ لنا الأسباب وأتانا ما أتانا من نعمه التي لو وقفنا حياتنا كلها من أولها إلى آخرها من أجل شكر أقل نعمة من هذه النعم لما وفينا بأي شيء تستحقه من الشكر فإذن الله تبارك وتعالى جدير بالتقوى وهو أيضا جدير بأن يتقى بسبب بطشه وعذابه فإن عذابه لا يشبهه عذاب وهو جدير بأن يتقى ولئن كان الإنسان مطالبا بتقوى الله تبارك وتعالى على أي حال فإذن هذه هي حقيقة التقوى الشرعية ومدلول التقوى في الشرع يشمل الإيمان وجميع أعمال البر التي هي ثمرات للإيمان ودلائل عليه وهي من مقتضياته إذ لا يمكن أن يستوفى الإنسان الإيمان بدونها وجميع أعمال البر داخلة في ضمن التقوى سواء كانت بدنية باللسان أو كانت بسائر الجوارح فالأقوال والأعمال كلها داخلة في ضمن التقوى إذا كانت وفق أمر الله عز وجل كذلك تجنب الإنسان لسخط الله تبارك وتعالى بازدجاره عن مناهيه سبحانه أيضا ذلك داخل في مدلول التقوى والأدلة على ذلك كثيرة في كتاب الله فنجد أن الله عز وجل في فواتح سورة البقرة وصف المتقين بقوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ( فإذا التقوى لا بد أن تكون قائمة على أساس الإيمان وبدون الإيمان لا يمكن أن يستوفى الإنسان معنى التقوى إذ لا يمكن أبدا أن يكون متقيا لربه وهو لم يؤمن به سبحانه ولم يؤمن بما يجب أن يؤمن به مما فرض الله تعالى به فالإيمان إذا أن يكون متقيا لربه وهو الأساس الأول لتقوى الله وبدونه لا يمكن أن يكون الإنسان من المتقين ووصف الله تعالى المتقين هنا بإقامة الصلاة وأنهم مما رزقناهم ينفقون وإنهم يؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل على من قبله من الأنبياء ويقول تبارك وتعالى أيضا في سورة البقرة في آية البر: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ( فقد وصف الله تعالى هؤلاء الذين استجمعوا هذه الصفات جميعا بأنهم الذين صدقوا وأنهم هم المتقون هؤلاء جمعوا بين الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبين إيتاء المال ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وبجانب ذلك أيضا هم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوفون بعهودهم إذا عاهدوا ويصبرون في البأساء والضراء وحين البأس هؤلاء هم الذين صدقوا وهم المتقون حقا فإذا التقوى تشتمل على هذه الحقائق التي ذكرت في الآية الكريمة بأسرها ويقول الله تعالى أيضا مبينا صفات المتقين: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ( فهؤلاء هم المتقون الذين وعدهم الله تعالى هذا الوعد العظيم وما أدراكم ما هذا الوعد الذي وعد الله تعالى به المتقين إنه جنة عرضها السماوات والأرض فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وقد بين الله تعالى أيضا صفات المتقين في معرض هذا الوعد في سورة آل عمران عندما قال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ( فالله تعالى وصف هؤلاء المتقين هنا بما وصفهم به في معرض هذا الوعد العظيم الذي وعدهم إياه وهو جنة عرضها السماوات والأرض وصفهم بأنهم ينفقون في السراء والضراء ويكظمون الغيظ ويعفون عن الناس وإنهم لا يصرون على معصية فلإن بدرت من أحد منهم هفوة تدارك نفسه فغسلها تغسيلا بطهور التوبة إلى الله عز وجل وقوى صلته بالله سبحانه وأناب إلى الله مستغفرا خائفا وجلا راجيا ثواب الله مطمئنا إلى وعد الله عز وجل هذه هي صفات المتقين ومما يدل على شمول التقوى لأعمال القلب بجانب أعمال الجوارح أن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام قال: التقوى هاهنا التقوى هاهنا ثلاث مرات وهو يشير إلى قلبه ولا يعني ذلك أن الأعمال البدنية لا تدخل في مدلول التقوى ولكن ذلك لأن صلاح باطن الناس هو سبب لصلاح ظاهره وإن من لم يصلح الباطن لم يصلح الظاهر فالله تعالى لا ينظر إلى الأشكال الظاهرة وإنما ينظر عز وجل إلى الحقائق الباطنة وبقدر ما يصح قلب الإنسان تصلح أعماله وتستقيم أحواله كيف والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ألا وإن في الجسد لمضغة إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب فبقدر ما يصلح هذا القلب ويكون سليما من الرياء والعجب والكبر والحسد والأشر والبطر وجميع ما يكدر صفوه ويغير اتجاهه يكون هذا القلب نقيا موصولا بالله ولا بد من أن يترتب على صلاح هذا الباطن صلاح الظاهر.
التقوى وثمرتها
هذا وتقوى الله عز وجل هي ثمرة للعبادات التي فرضها الله عز وجل فإن هذه العبادات المشروعة بأسرها إنما تؤدي إلى تقوى الله فكل عبادة شرعها الله سبحانه وتعالى تؤدي في هذه الحياة الدنيا إلى تقوى الله كما أنها هي وقود للنفس والذي يملأ حياة الإنسان كلها نورا وضياء فالله عز وجل ربط ما بين العبادة والتقوى في كتابه العزيز فقد قال تعالى
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( وليست لعل ها هنا للترجي: الترجي مستحيل على الله عز وجل فإنه القادر على كل شيء والعليم كل ما سيقع ويعلم كل ما لا يقع ولا يقع أي شيء في الكون إلا بإرادته سبحانه وتعالى وكل ما لا يريده لا يمكن أن يقع قط وكل ما يريده لا بد من أن يكون فالله تعالى على كل شيء قدير فإذا يستحيل عليه الرجاء وإنما لعل هاهنا للتعليل أي أعبدوا الله الذي خلقكم والذي خلق من قبلكم لتتقوه أي لتجعلوا هذه العبادة وسيلة إلى تقوى الله سبحانه وتعالى وكما أن الله عز وجل ذكر العبادة هنا مجملة مربوطة بالتقوى ذكرها تعالى أيضا مفصلة مربوطة بالتقوى فقد بين سبحانه وتعالى أن ، كلا من الصلاة والزكاة والصيام والحج يؤديان إلى تقوى الله فقد قال تعالى في الصلاة: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (وهذه هي حقيقة التقوى فإن تجنب الفحشاء وتجنب المنكر فعل أوامر الله هي حقيقة التقوى ويقول الله تعالى في الزكاة: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا( أي تنقيهم وتصفيهم من جميع أدران المعاصي بحيث يكونون موصولين بالله عاملين من أجل إرضائه سبحانه ويقول الله في الصيام
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( وعندما ذكر الحج ذكره مقرونا بالتقوى في آيات متعددة فقد قال الله تعالى
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ( إلى أن قال في خاتمة الآية ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ( وقال بعد ذلك: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ( ثم قال تعالى أيضا في آيات الحج في نفس السورة (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( وقال أيضا في سورة الحج في معرض ذكر أحكام الحج: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ( فإذا الغاية من العبادات التي فرضها الله وصول الإنسان إلى ساحة التقوى فكل عبادة من هذه العبادات تبعث عزيمة النفس على التقوى وتنهية النفس عن الوقوع في معاصي الله وكما أن تقوى الله سبحانه وتعالى سبب لوصول الإنسان إلى سعادة العقبى فإنها سبب لنيل الخير العظيم في هذه الدنيا فالله تعالى بين أن رزقه الطيب الحلال يهبه عباده المتقين وينفس لهم الكربات ويدفع عنهم الشدائد ويوصلهم إلى الغاية المطلوبة فقد قال عز من قائل: (ومَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ( وقال أيضا سبحانه وتعالى مبينا أن عاقبة الدنيا والآخرة للمتقين (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى( (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ( فالعاقبة في الدنيا بالانتصار والاستخلاف إنما هي للمتقين والعاقبة في الآخرة لتتبوأ الدرجات العلي في جنة عرضها السماوات والأرض بجوار الله سبحانه وتعالى وجوار رسله.
الأرض يرثها الصالحون
وفي قول الله تعالى: ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ( اختلف الناس هل المراد بالأرض هنا أرض الدنيا أو أرض الآخرة منهم من قال إن المراد بذلك أرض الدنيا فإن الله عز وجل وعد عباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن يستخلفهم فيها كما استخلف الذين من قبلهم وقد أنجز الله هذا الوعد للمتقدمين وسوف ينجزه للمتأخرين فإن وعد الله لا يتبدل وقيل إن هذه الأرض هي أرض الجنة وعدها الله عباده المتقين (ولقد كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ( اختلف في الذكر هل هو التوراة أو الكتب التي هي سابقة على الزبور أو هي ما أنزلها الله تبارك وتعالى على رسله من غير كتب وعلى كل حال فهذا الوعد لا بد من أن ينجزه الله أرض الآخرة يورثها عباده الصالحين وكذلك أرض الدنيا عندما يقومون بما أمرهم الله تعالى به ويوفون بوعدهم ويستمسكون بحبله ويأخذون الأشياء بأسبابها والله تعالى يدفع عن عباده المتقين شرور هذه الدنيا كما يدفع عنهم شرور الدار الآخرة فقد جاء فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من اتقى الله كفاه مئونة الناس ومن اتقى الناس ولم يتق الله سلط الله عليه الناس وخذله فالذي يتقى ربه سبحانه وتعالى يكفيه مئونة الناس ويهيئ له من أمره رشدا أما الذي يعمل عكس ذلك بحيث يتقي عباد الله ولا يتقي الله فإن العافية تكون عكس ما يأمل بحيث يسلط الله عليه أولئك الذين يقيهم ويخذله بحيث لا يتمكن من التخلص مما يأتيه من قبلهم من الشر.
الآيات التى تحدثت فيها عن التقوى:
{ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ }البقرة197
(وما تفعلوا من خير) كصدقة (يعلمه الله) فيجازيكم به ، ونزل في أهل اليمن وكانوا يحجون بلا زاد فيكونون كَلاً على الناس: (وتزودوا) ما يبلغكم لسفركم (فإن خير الزاد التقوى) ما يتقي به سؤال الناس وغيره (واتقون يا أولي الألباب) ذوي العقول 0
{ وتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }المائدة2
(وتعاونوا على البر) بفعل ما أُمرتم به (والتقوى) بترك ما نهيتم عنه (ولا تعاونوا) فيه حذف إحدى التاءين في الأصل (على الإثم) المعاصي (والعدوان) التعدي في حدود الله (واتقوا الله) خافوا عقابه بأن تطيعوه (إن الله شديد العقاب) لمن خالفه0
{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }الأعراف26
(يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا) أي خلقناه لكم (يواري) يستر (سوآتكم وريشا) وهو ما يتجمل به من الثياب (ولباس التقوى) العمل الصالح والسمت الحسن ، بالنصب عطف على لباسا والرفع مبتدأ خبره جملة (ذلك خير ، ذلك من آيات الله) دلائل قدرته (لعلهم يذكرون) فيؤمنوا فيه التفات عن الخطاب0
{لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ }التوبة108
(لا تقم) تصل (فيه أبداً) فأرسل جماعة هدموه وحرقوه وجعلوا مكانه كناسة تلقى فيها الجيف (لمسجد أسس) بنيت قواعده (على التقوى من أول يوم) وضع يوم حللت بدار الهجرة ، وهو مسجد قباء كما في البخاري (أحق) منه (أن) أي بأن (تقوم) تصلي (فيه فيه رجال) هم الأنصار (يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) أي يثيبهم ، فيه إدغام التاء في الأصل في الطاء ، روى ابن خزيمة في صحيحه عن عويمر بن ساعدة أنه صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال : إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به ، قالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا وفي حديث رواه البزار فقالوا : نتبع الحجارة بالماء فقال : هو ذاك فعليكموه0
{ لن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ }الحج37
(لن ينال الله لحومها ولا دماؤها) أي لا يرفعان إليه (ولكن يناله التقوى منكم) أي يرفع إليه منكم العمل الصالح الخالص له مع الإيمان (كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم) أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه (وبشر المحسنين) أي الموحدين0
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }الفتح26
(إذ جعل) متعلق بعذبنا (الذين كفروا) فاعل (في قلوبهم الحمية) الأنفة من الشيء (حمية الجاهلية) بدل من الحمية وهي صدهم النبي وأصحابه عن المسجد الحرام (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) فصالحوهم على أن يعودوا من قابل ولم يلحقهم من الحمية ما لحق الكفار حتى يقاتلوهم (وألزمهم) المؤمنين (كلمة التقوى) لا إله إلا الله محمد رسول الله وأضيفت إلى التقوى لأنها سببها (وكانوا أحق بها) بالكلمة من الكفار (وأهلها) عطف تفسيري (وكان الله بكل شيء عليما) أي لم يزل متصفا بذلك ومن معلومه تعالى أنهم أهلها0
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }المجادلة9
(يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون)0
{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ }المدثر56
(وما يذكرون) بالياء والتاء (إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى) بأن يتقى (وأهل المغفرة) بأن يغفر لمن اتقاه0
{أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى }العلق12
و إن كان آمرًا غيره بالتقوى أينهاه عن ذلك؟