شرح حديث . اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم .
بــاب
في المبادرة إلى الخيرات
رواية رياض الصالحين
عن الزبير بن عدي قال : أتينا أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ فشكونا إليه
ما نلقى من الحجاج . فقال : ( اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر
منه حتى تلقوا ربكم ) سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم . رواه البخاري
قال البخاري في صحيحه : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، قال : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّبَيْرِ
بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ : أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ فَقَالَ
" اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ "
سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
صحيح البخاري \ كتاب الفتن \ باب لا يأتي زمان إلا الذي
بعده شر منه \ رقم : 6541
يلاحظ أن رواية البخاري مطابقة لرواية رياض
الصالحين إلا بزيادة حرف الواو في رواية رياض الصالحين
( والذي بعده شر )
المكتبة المقروءة : الحديث : شرح رياض الصالحين المجلد الثاني
باب المبادرة إلى الخيرات
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن الزبير بن عدي ؛
أنهم أتوا إلى أنس بن مالك رضي الله عنه ؛ خادم رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قد عمر ، وبقى إلى حوالي
تسعين سنة من الهجرة النبوية ، وكان قد أدرك وقته
شيء من الفتن ، فجاءوا يشكون إليه ما يجدون من الحجاج
بن يوسف الثقفي ؛ أحد الأمراء لخلفاء بني أمية ، وكان
معروفاً بالظلم وسفك الدماء ، وكان جباراً عنيداً والعياذ بالله .
وهو الذي حاصر مكة لقتال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ،
وجعل يرمي الكعبة بالمنجنيق ؛ حتى هدمها أو هدم شيئاً منها ،
وكان قد آذى الناس ، فجاءوا يشكون إلى أنس بن مالك
رضي الله عنه ، فقال لهم أنس رضي الله عنه : اصبروا ؛
أمرهم بالصبر على جور ولاة الأمور ، وذلك لأن ولاة الأمور
قد يسلطون على الناس ؛ بسبب ظلم الناس ، كما قال تعالى :
( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأنعام:129) .
فإذا رأيت ولاة الأمور قد ظلموا الناس في أموالهم ، أو في
أبدانهم ، أو حالوا بينهم وبين الدعوة إلى الله عز وجل ، أو
ما أشبه ذلك ؛ ففكر في حال الناس ؛ تجد أن البلاء أساسه من
الناس ، هم الذين انحرفوا ؛ فسلط الله عليهم من سلط من ولاة
الأمور ، وفي الأثر ـ وليس بحديث ـ كما تكونون يولى عليكم .
ويذكر أن بعض خلفاء بني أمية ـ وأظنه عبد الملك بن مروان ـ
جمع وجهاء الناس ؛ لما سمع أن الناس يتكلمون في الولاية ،
جمع الوجهاء وقال لهم : أيها الناس ، أتريدون أن نكون لكم
كما كان أبو بكر وعمر ؟ قالوا : بلى نريد ذلك ، قال :
كونوا كالرجال الذين تولى عليهم أبو بكر وعمر ؛ لنكون لكم كأبي
بكر وعمر ، يعني أن الناس على دين ملوكهم ، فإذا ظلم ولاة الأمور
الناس ؛ فإنه غالباً يكون بسبب أعمال الناس .
وجاء رجل من الخوارج إلى على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ
وقال : ما بال الناس انتقضوا عليك ولم ينتقضوا على أبي بكر
وعمر ، قال : لأن رجال أبي بكر وعمر أنا وأمثالي ، ورجالي
أنت وأمثالك ؛ يعني أن الناس إذا ظلموا سلطت عليهم الولاة .
ولهذا قال أنس : اصبروا ، هذا هو الواجب ، الواجب أن
يصبر الإنسان ، ولكل كربة فرجة ، لا تظن أن الأمور تأتي
بكل سهولة ، الشر ربما يأتي بغتة ويأتي هجمة ، ولكنه لن
يدال على الخير أبداً ، ولكن علينا أن نصبر ، وأن نعالج الأمور
بحكمة ، لا نستسلم ولا نتهور ، نعالج الأمور بحكمة وصبر
وتأن ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (آل عمران:200) ، إن كنت تريد الفلاح
فهذه أسبابه وهذه طرقه ؛ أربعة أشياء : ( اصْبِرُوا وَصَابِرُوا
وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .
ثم قال أنس بن مالك : فإنه لا يأتي على الناس زمان إلا وما بعده
أشر منه ، حتى تلقوا ربكم ، سمعته من نبيكم محمد صلى الله
عليه وسلم . يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
( لا يأتي على الناس زمان إلا وما بعده أشر منه ) . شر منه
في الدين ، وهذا الشر ليس شراً مطلقاً عاماً ، بل قد يكون شراً
في بعض المواضع ، ويكون خيراً في مواضع أخرى وهكذا .
ومع هذا ؛ فإن الناس كما ازادوا في الرفاهية ، وكلما انفتحوا
على الناس ؛ انفتحت عليهم الشرور ، فالرفاهية هي التي تدمر
الإنسان ؛ لأن الإنسان إذا نظر إلى الرفاهية وتنعيم جسده ؛
غفل عن تنعيم قلبه ، وصار أكبر همه أن ينعم هذا الجسد الذي
مآله إلى الديدان والنتن ، وهذا هو البلاء ، وهذا هو الذي ضر
الناس اليوم ، لا تكاد تجد أحداً إلا ويقول : ما قصرنا ؟ ما سيارتنا ؟
ما فرشنا ؟ ما أكلنا ؟ حتى الذين يقرءون العلم ويدرسون العلم ،
بعضهم إنما يدرس لينال رتبة أو مرتبة يتوصل بها إلى نعيم الدنيا .
وكأن الإنسان لم يخلق لأمر عظيم ، والدنيا ونعيمها إنما هي
وسيلة فقط . نسأل الله أن نستعمله وإياكم وسيلة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ما معناه : ينبغي على
الإنسان أن يستعمل المال كما يستعمل الحمار للركوب ، وكما
يستعمل بيت الخلاء للغائط .
فهؤلاء هم الذين يعرفون المال ويعرفون قدره ، لا تجعل المال
أكبر همك ، اركب المال ، فإن لم تركب المال ركبك المال ،
وصار همك هو الدنيا .
ولهذا نقول : إن الناس كلما انفتحت عليهم الدنيا ، وصاروا
ينظرون إليها ، فإنهم يخسرون من الآخرة بقدر ما ربحوا من
الدنيا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله ما الفقر أخشى عليكم )
يعني ما أخاف عليكم الفقر ، فالدنيا ستفتح . ( ولكني أخشى أن
تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوا كما
تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتكم )(34) ، وصدق الرسول عليه
الصلاة والسلام ، هذا الذي أهلك الناس اليوم ، الذي أهلك الناس
اليوم التنافس في الدنيا ، وكونهم كأنهم إنما خلقوا لها لا أنها خلقت
لهم ، فاشتغلوا بما خلق لهم عما خلقوا له ، وهذا من الانتكاس
نسأل الله العافية .
وفي هذا الحديث وجوب الصبر على ولاة الأمور وإن ظلموا
وجاروا ، لأنك سوف تقف معهم موقفاً تكون أنت وإياهم على
حد سواء ؛ عند ملك الملوك ، سوف تكون خصمهم يوم القيامة
إذا ظلموك ، لا تظن أن ما يكون في الدنيا من الظلم سيذهب هباءً
أبداً ، حق المخلوق لابد أن يؤخذ يوم القيامة ؛ فأنت سوف تقف
معهم بين يدي الله ـ عز وجل ـ ليقضي بينكم بالعدل ، فاصبر
وانتظر الفرج ، فيحصل لك بذلك اطمئنان النفس والثبات ،
وانتظار الفرج عبادة ، تتعبد لله به ، وإذا انتظرت الفرج من
الله فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( واعلم أن النصر مع
الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً )(35) .
وفي هذا التحذير من سوء الزمان ، وأن الزمان يتغير ، ويتغير
إلى ما هو أشر . وقد قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذات يوم
لأصحابه : ( من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً )(36) وأظن أننا ـ
وعيشنا في الدنيا قليل بالنسبة لمن سبق ـ نرى اختلافاً كثيراً .
رأينا اختلافاً كثيراً بين سنين مضت وسنين الوقت الحاضر .
حدثني من أثق به ؛ أن هذا المسجد ـ مسجد الجامع ـ كان لا
يؤذن لصلاة الفجر إلا وقد تم الصف الأول ، يأتي الناس إلى
المسجد يتهجدون ، أين المتهجدون اليوم إلا ما شاء الله ؟ .
قليل !! تغيرت الأحوال ، كنت تجد الواحد منهم كما قال النبي
عليه الصلاة والسلام : ( كالطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً )(37)
إذا أصبح يقول : اللهم ارزقني ، قلبه معلق بالله ـ عز وجل ـ
فيرزقه الله ، وأما الآن ، فأكثر الناس في غفلة عن هذا الشيء ،
يعتمدون على من سوى الله ، ومن تعلق شيئاً وكل إليه .
نعم في الآونة الأخيرة ـ والحمد لله ـ لا شك أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ
فتح على الشباب فتحاً ؛ أسأل الله تعالى أن يزيدهم من فضله ،
فتح عليهم وأقبلوا إلى الله ، فتجد بين سنواتنا هذه الأخيرة ،
والسنوات الماضية بالنسبة للشباب فرقاً عظيماً ، قبل نحو
عشرين سنة ؛ كنت لا تكاد تجد الشباب بالمسجد ، أما الآن
ـ ولله الحمد ـ فأكثر من في المسجد هم الشباب ، وهذه نعمة
ولله الحمد ، يرجو الإنسان لها مستقبلاً زاهراً ، وثقوا أن الشعب
إذا صلح فسوف تضطر ولاة أموره إلى الصلاح مهما كان فنحن
نرجو لإخواننا في غير هذه البلاد ـ الذين من الله ـ عليهم بالصلاح
واستقاموا على الحق ـ أن يصلح لهم الولاة ، ونقول :
اصبروا فإن ولاتكم سيصلحون رغماً عنهم ، فإذا صلحت
الشعوب ؛ صلحت الولاة بالاضطرار .
نسأل الله أن يصلح للمسلمين ولاة أمورهم وشعوبهم ؛ إنه جواد كريم .
34_ أخرجه البخاري ، كتاب المغازي ، باب رقم (12) حديث رقم (4015) ،
ومسلم ، كتاب الزهد ، باب الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، رقم (2961)
35_ أخرجه أحمد في المسند (1/307) .
36_ أخرجه أبو داود ، كتاب السنة باب في لزوم السنة ، رقم (4607)
والترمذي ، كتاب العلم ، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676) ،
وابن ماجه في المقدمة ، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين ، رقم (42) ،
وأحمد في المسند (4/126-127) ، وقال الترميذي : حسن صحيح .
37_ أخرجه الترمذي ، كتاب الزهد ، باب في التوكل على الله ، رقم (2344) ،
وابن ماجة ، كتاب الزهد ، باب التوكل واليقين ، رقم (4164) ،
وأحمد في المسند ( 1/30 ،52) .