بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
فكما يقول صاحب الإحياء الإمام الغزالي رحمه الله- الحسد لا يكون إلا على النعمة، ويكون الحسد مذموما إذا تمنى العبد زوال النعمة عن المحسود، أما إذا تمنى أن يكون له مثل أخيه ولا يتمنى أن تزول النعمة عنه، فهذا حسد محمود ويسمى غبطة، والغبطة إن كانت في الطاعة فهي محمودة , وإن كانت في المعصية فهي مذمومة , وإن كانت في الجائزات فهي مباحة
والغبطة تسمى حسدا مجازا.
يقول فضيلة الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر-:
الحسد ـ كما عرَّفه بعض العلماء ـ هو تَمَنِّي زوال نعمة الغَيْر، سواء تَمَنَّى الحاسد تَحَوُّل هذه النعمة إليه دون المحسود، أو لم يَتَمَنَّ ذلك، وليس الحسد قاصرًا على ذلك، بل من الحسد فرح المرء لزوال النعمة عن غيره، أو إصابته بمصيبة أو حزنه لحصول غيره على نعمة وخير، وذلك حسد مذموم، إذ وَصَفَ الله تعالى الكافرين به بقوله: (إنْ تَمْسَسْكُمْ حسنةٌ تَسُؤْهُمْ وإنْ تُصِبْكُمْ سيئةٌ يَفْرَحوا بها.. ) أو حرصه على أن لا يصل الخير إلى الغير، أو تَمَنِّيه أن لا يصل إليه، وهذا حسد مذموم كذلك؛ لأن تمني عدم حصول النعمة مساوٍ لتمني زوالها بعد حصولها.
والحسد من أفعال القلوب؛ لأنه مجرد تمني زوال النعمة عَمَّن حدثت له، أو عدم حصوله عليها، أو الفرح لزوالها عنه، أو الحزن لحصوله عليها، أو الحرص القلبي على عدم حصوله عليها، هو من أفعال القلوب.
والحسد ـ بمعناه السابق ـ يختلف عن الغِبْطَة، رغم اشتراكهما في أن الحاسد والغابط ينظر كلٌّ منهما إلى ما عند الغير من نعمة، فإن الغبطة: هي تَمَنِّي المرء أن يكون له مثل ما لغيره من غير أنْ يَتَمَنَّى زوالَه عن الغير، والحرص على هذا يُسمَّى منافسة، وهي تُتَصَوَّر في الخير، فتكون محمودة، كما تُتَصَوَّر في الشر، فتكون مذمومة، وقد يُطلَق الحسد على الغِبْطة مجازًا، كما في حديث ابن مسعود عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "لا حَسَدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا، فسَلَّطَه على هَلَكَته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يَقْضي بها ويُعَلِّمها"؛ فالحسد في الحديث يُراد به الغِبْطة؛ لأن كلًّا من الرجلين تمنَّى لنفسه مثل ما عند الآخر، ولم يتمنَّ زوالَ النعمة عنه.
ومما ينبغي اعتقاده أن الله سبحانه لم يجمع النِّعَم الدنيوية عند أحد من خَلْقه، فقد يُعطي المرءُ مالاً وولدًا، ويُحرَم الصحة، أو يُعطى مالاً وصحة، ويُحرَم الولد، أو يُعطى الصحة والولد، ويُحرم المال، أو يُعطى ذلك ويُحْرم الاستقرار والسعادة، وهكذا فإن مَن أُعْطِي نعمة أو أكثر حُرِمَ ما سواها، وأَوْلَى بمَن حُرِمَ بعض النِّعَم أن لا ينظر إلى ما أنعم الله به على غيره مما حُرِمَ منه؛ حتى لا يصل به الحال إلى عدم شكر الله تعالى على ما أنعم به عليه، أو تَمَنِّي زوال هذه النعمة عن الغير، أو تمنِّي تحولها إليه دون غيره، بل ينبغي أن يَعتَبِر بقول الله تعالى: (ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ به بعضَكم على بعضٍ للرجالِ نصيبٌ مما اكْتَسَبوا وللنساءِ نصيبٌ مما اكْتَسَبْنَ واسْأَلُوا اللهَ مِن فضلِه.. )
وبقوله سبحانه: (ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنَا به أزواجًا مِنْهم زَهْرَةَ الحياةِ الدنيا لنَفْتِنَهُمْ فيه ورِزْقُ ربِّك خيرٌ وأبْقَى) ولا ينبغي أن ينظر إلى مَن فوقه في النِّعَم، بل ينظر إلى مَن دونه فيها، حتى لا يَزْدَري نعمةَ الله عليه، فقد رُوِيَ عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "انْظُروا إلى مَن هو أسفلَ منكم، ولا تنظروا إلى مَن هو فوقَكم؛ فهو أجدرُ أن لا تزدروا نعمةَ الله عليكم"؛ إذ المرء لا يكون على حال في هذه الدنيا، إلا وُجِدَ من أهلها مَن هو أدنى حالًا منه، فإذا تفكَّر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممَّن فُضِّل عليه بذلك، فيُلْزِمْ نفسَه شكرَ الله عليها، وأما نظره إلى مَن يَفُوقه في النِّعَم فهو باعث من بواعث الحسد، ولهذا كان الأجدر به أن ينظر إلى مَن دونَه فيها، وللحسد ـ بمعنييه الحقيقي والمجازي ـ حالات يختلف حكمه باختلافها:
الحالة الأولى: أن ينظر المرء إلى ما عند الغَيْر من نعمة دنيوية، فيتمنَّى زوالَها عنه، سواء تمنى انتقالها إليه أو لم يتمنَّ ذلك، وهذه الحالة هي المُرادَة بالحسد عند الإطلاق، وذلك حسد مذموم؛ لأن الحاسد كالساخط على قضاء الله تعالى، وهو مَنْهي عنه، فقد رُوِيَ عن أنس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الحسد يأكل الحسناتِ كما تأكل النارُ الحطب" ورُوِيَ عن معاوية بن حيدة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الحسد يُفْسِد الإيمان كما يُفْسِد الصبرُ العسلَ".
الثانية: أن ينظر المرء إلى ما عند الغير من نعمة أخروية كالتَّدَيُّن والعبادة والطاعة والذكر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والالتزام بشرع الله تعالى ونحو ذلك، فيتمنى زوالها عنه سواءً تمناها لنفسه أو لا، وذلك حسد مذموم كذلك للنصوص الدالة على حكمه، فإن استهان بهذه النعمة، وسخِر من صاحبها كما يفعل بعض الجُهَّال فقد أضاف إلى إثم الحسد إثمَ الاستهزاء، وفي هؤلاء يقول الحق سبحانه: (إنَّ الذين أجْرَمُوا كانوا مِن الذينَ آمنوا يَضْحَكون. وإذا مَرُّوا بهم يَتَغَامَزُونَ وإذا انْقَلَبُوا إلى أهْلِهُمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ. وإذا رَأَوْهُمْ قالوا إنْ هؤلاءِ لضَالُّونَ. وما أُرْسِلُوا عليهِم حَافِظينَ).
الثالثة: أن ينظر المرء إلى ما عند غيره من نعمة دنيوية، فلا يتمنى زوالها عنه، ولا يعمل على إزالتها، أو تحويلها عنه بالقول أو الفعل، ولا يتمنى زيادتها له، وإنما يتمنى مثلَها أو أحسنَ منها لنفسه، ويعمل على تحصيل ذلك بطرُق مشروعة، فهذا مباح، بل هو مطلوب لأن التنافس في اكتساب أسباب النِّعم يتحقق به إعمار الأرض ولا يَصدُق على هذه الحالة مُسَمَّى الحسد على وجه الحقيقة، وإنما هي غِبْطة.
الرابعة: أن ينظر المرء إلى ما عند الغير من نعمة أخروية، فلا يتمنى زوالها عن صاحبه، وإنما يتمنى لنفسه مثلَها أو أفضلَ منها، وتلك غبطة محمودة لحديث ابن مسعود السابق: "لا حَسَدَ إلا في اثنتين.. ".
ومِن ثَمَّ فإن الحسد الذي لا يكون فيه تمني زوال النعمة عن الغير هو في الحقيقة غِبْطة، فإذا كانت في طاعة كانت محمودة، وإذا كانت في معصية كانت مذمومة، وأما الحسد الذي يُتَمَنَّى فيه زوال نعمة دنيوية أو أخروية عن الغير، فهو مذموم للنصوص الواردة فيه.
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية
الغبطة في اللغة : حسن الحال والمسرة , وقد تسمى الغبطة حسدا مجازا.
وفي الاصطلاح : أن يتمنى الرجل أن يكون له مثل ما لغيره من نعمة , من غير أن تزول عن الغير .
والحسد هو أن يتمنى الحاسد زوال نعمة المحسود.
والفرق بين الحسد والغبطة : أن الحاسد يتمنى زوال نعمة المحسود وتحولها عنه , والغابط يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره , ولا يتمنى زوال النعمة ولا تحولها عن المغبوط .
قال الغزالي : اعلم أنه لا حسد إلا على نعمة , فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان : إحداهما : أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها . وهذه الحالة تسمى حسدا , فالحسد حده كراهة النعمة وحب زوالها عن المنعم عليه . الحالة الثانية : أن لا تحب زوالها , ولا تكره وجودها ودوامها , ولكن تشتهي لنفسك مثلها وهذه تسمى غبطة .
والغبطة إن كانت في الطاعة فهي محمودة , وإن كانت في المعصية فهي مذمومة , وإن كانت في الجائزات فهي مباحة . فتكون واجبة إن كانت النعمة دينية واجبة كالإيمان بالله تعالى والصلاة والزكاة ; لأنه يجب على المسلم أن يحب لنفسه ذلك , وإلا كان راضيا بعكسه وهو حرام . وقد تكون مندوبة كأن كانت النعمة من الفضائل , كإنفاق الأموال في المكارم والصدقات , فالغبطة فيها مندوب إليها .
وقد تكون مباحة , كأن تكون النعمة ينتفع بها على وجه مباح , فالمنافسة فيها مباحة . وقد تحرم , كأن يكون عند غيره مال ينفقه في المعاصي , فيقول : لو أن لي مالا مثل مال فلان لكنت أنفقه في مثل ما ينفقه في المعاصي .
والله أعلم.
منقول