تيقظ السلف الصالح رضوان الله عليهم لخطورة الطعن في الصحابة وسبهم، وحذروا من الطاعنين ومقاصدهم، وذلك لعلمهم بما يؤدي إليه ذلك السب من لوازم باطلة تناقض اصول الدين، فقال بعضهم كلمات قليلة، لكنها جامعة، أذكرها في مقدمة هذا المبحث، ثم أوضح - بعض الشيء - ما يترتب على السب غالبا.
وسأركز في الرد على السب من القسم الأول والثاني، من نسبة الكفر أو الفسق لمجموع الصحابة أو اكثرهم، أو الطعن في عدالة من تواترت النصوص بفضله كالخلفاء رضي الله عنهم.
قال الإمام مالك رحمه الله عن هؤلاء الذين يسبون الصحابة: { إنما هؤلاء اقوام أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في اصحابه، حتى يقال رجل سوء ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحون }. ( رسالة في سب الصحابة، عن الصارم المسلول ص580 ).
وقال الإمام أحمد رحمه الله: { إذا رأيت رجلا يذكر أحدا من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام }. ( البداية والنهاية 8 / 142، وأنظر المسائل والرسائل المروية عن أحمد في العقيدة الأحمدية للأحمدي 2 / 363، 364 ).
وقال أبو زرعة الرازي رحمه الله: { فإذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلم انه زنديق، وذلك ان الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم اولى وهم زنادقة }. ( الكفاية للخطيب البغدادي 97 ).
وقال الإمام أبو نعيم رحمه الله: { فلا يتتبع هفوات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزللهم ويحفظ عليهم ما يكون منهم حال الغضب والموجدة إلا مفتون القلب في دينه }. ( الإمامة لأبي نعيم 344 ).
ويقول أيضا: { لا يبسط لسانه فيهم إلا من سوء طويته في النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والإسلام والمسلمين }. ( الإمامة لأبي نعيم 376 ).
وتحذيرالعلماء هنا عام يشمل جميع الصحابة، وتأمل قول إمام أهل السنة: { يذكر أحدا من الصحابة بسوء }، وقول أبي زرعة: { ينتقص أحدا }، فحذروا ممن ينتقص مجرد انتقاص أو ذكر بسوء، وذلك دون الشتم أو التكفير، ثم في واحد منهم وليس جميعهم، فماذا يقال فيمن سب أغلبهم ؟!
وإليك أخي إيضاح لبعض لوازم السب:
أولا: يترتب على القول بكفر وإرتداد معظم الصحابة أو فسقهم إلا نفرا يسيرا، الشك في القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وذلك لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول، إذ كيف نثق بكتاب نقله إلينا الفسقة والمرتدون - والعياذ بالله - ولذلك صرح بعض أهل الضلال والبدع ممن يسب الصحابة بتحريف الصحابة للقرآن، والبعض أخفى ذلك.
وكذلك الامر بالنسبة للاحاديث النبوية، فاذا اتهم الصحابة رضوان الله عليهم في عدالتهم، صارت الأسانيد مرسلة مقطوعة لا حجة فيها، ومع ذلك يزعم بعض هؤلاء الإيمان بالقرآن.
فنقول لهم: يلزم من الإيمان بالقرآن الإيمان بما فيه، وقد علمت أن الذي فيه أنهم خير الأمم، وأن الله لا يخزيهم، وأنه رضي عنهم... ألخ، فمن لم يصدق ذلك فيهم، فهو مكذب لما في القرآن، ناقض لدعواه.
ثانيا: هذا القول يقتضي أن هذه الأمة - والعياذ بالله - شر أمة أخرجت للناس، وسابقي هذه الأمة شرارها، وخيرها القرن الأول كان عامتهم كفارا أو فساقا وإنهم شر القرون. ( الصارم 587 ) كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
ثالثا: يلزم من هذا القول، أحد أمرين: إما نسبة الجهل إلى الله تعالى عما يصفون، أو العبث في هذه النصوص التي أثنى فيها على الصحابة.
فإن كان الله عز وجل - تعالى عن قولهم - غير عالم بأنهم سيكفرون، ومع ذلك اثنى عليهم ووعدهم الحسنى فهو جهل، والجهل عليه تعالى محال.
وإن كان الله عز وجل عالما بأنهم سيكفرون، فيكون وعده لهم بالحسنى ورضاه عنهم عبث، والعبث في حقه تعالى محال. ( انظر إتحاف ذوي النجابة لمحمد بن العربي التباني ص75 ).
ويتبع ذلك الطعن في حكمته عز وجل، حيث اختارهم واصطفاهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فجاهدوا معه وآزروه ونصره واتخذهم أصهارا له، حيث زوج ابنتيه ذا النورين عثمان رضي الله عنه، وتزوج ابنتي الصديق وعمر رضي الله عنهما، فكيف يختار لنبيه انصارا واصهارا مع علمه بأنهم سيكفرون ؟!.
رابعا: لقد بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم جهودا خارقة في تربية الصحابة على مدى ثلاثة وعشرين عاما، حتى تكون بفضل الله عز وجل المجتمع المثالي في خلقه وتضحياته وزهده وورعه، فكان صلى الله عليه وسلم اعظم مرب في التاريخ.
لكن على العكس من ذلك، فإن جماعة تدعي الإنتماء إلى الإسلام ونبي الإسلام، تقدم لهذا المجتمع صورة معاكسة، تهدم المجهودات التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم في مجال التربية والتوجيه، وتثبت له إخفاقا لم يواجهه أي مصلح أو مرب خبير مخلص لم يكن مأمورا من الله، كما كان الشأن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ( صرح بعض من تولى كبر تلكم المزاعم والتهم والضلالات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينجح، وأن الذي ينجح في ذلك المهدي الغائب - مهديهم - ).
إن الإمامية ترى أن المجهودات التي بذلها محمد صلى الله عليه وسلم لم تنتج إلا ثلاثة او أربعة - وفقا لبعض الروايات - ظلوا متمسكين بالإسلام إلى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، أما غيرهم فقد قطعوا صلتهم بالإسلام - والعياذ بالله - فور وفاته صلى الله عليه وسلم، وأثبتوا أن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته اخفقت ولم يعد لها أي تأثير.
وهذا الزعم يؤدي إلى اليأس من إصلاح البشرية، وعدم الثقة في المنهج الإسلامي وقدرته على التربية وتهذيب الأخلاق، وإلى الشك في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الدين الذي لم يستطع أن يقدم للعالم عددا وجيها من نماذج عملية ناجحة بناءة، ومجتمعا مثاليا في أيام الداعي وحامل رسالته الأول، فكيف يستطيع أتباعه ذلك بعد مضي وقت طويل على عهد النبوة ؟!
وإذا كان المؤمنون بهذه الدعوة لم يستطيعوا البقاء على الجادة القويمة، ولم يعودوا أوفياء لنبيهم صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فلم يبق على الصراط المستقيم الذي ترك عليه النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه إلا أربعة فقط، فكيف نسلم أن هذا الدين يصلح لتزكية النفوس وبناء الأخلاق ؟ وانه يستطيع أن ينقذ الإنسان من الهمجية والشقاء، ويرفعه إلى قمة الإنسانية ؟.
بل ربما يقال: لو ان النبي صلى الله عليه وسلم كان صادقا في نبوته، لكانت تعاليمه ذات تأثير، ووجد هناك من آمن به من صميم القلب، ووجد من بين العدد الهائل ممن امنوا به بضع المئات ثبتوا على الإيمان، فإن كان أصحابه سوى بضعة رجال منهم منافقين ومرتدين - فيما زعموا - فمن دام بالإسلام ؟! ومن أنتفع بالرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وكيف يكون رحمة للعالمين ؟. ( صورتان متضادتان للشيخ أبي الحسن الندوي ص 13 -45 -58-99 ).