* بيانات النشر:
رسالة الخليج العربي ـ مكتب التربية العربي لدول الخليج ـ العدد 26 ـ السنة الثامنة، سنة 1408 هجرية / 1988م
مفهوم الاستشراق:ـ
ليس هناك اتفاق تام حول معنى الاستشراق وحدوده ومضمونا ته ، إلا انه يمكننا القول بان الاستشراق بمعناه العام يشير إلى الدراسات والأبحاث والأعمال الكتابية الأخرى التي قام بها المفكرون الغربيون عن الشرق ، فالاستشراق كما يعرفه(ادوارد سعيد) هو:علم الشرق في الغرب،ويمكن النظر إلى الاستشراق على انه فرع من فروع المعرفة في الثقافة الغربية موضوعه الشرق.
تطور الاستشراق ودوافعه:ـ
لقد بدأت الكتابة عن الشرق العربي الإسلامي في أوروبا حيث سارع رجال اللاهوت المسيحي في أوروبا مثل(يوحنا الدمشقي) بدراسة الإسلام لإبعاد أبناء دينهم عنه، أما الاستشراق المنظم فيختلف الباحثون في تحديد بدايته ،فمنهم من يرى انه بدأ في القرن العاشر الميلادي بالراهب الفرنسي(Jerhart de Oraliac) بينما رأى "رودى بارت "إن بدايات الدراسات الإسلامية و العربية في أوروبا تعود إلى القرن الثامن عشر الميلادي الذي تمت فيه ترجمة معاني القرآن الكريم لأول مرة.
وقد مر الاستشراق بمراحل مختلفة يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل متميزة:-
المرحلة الأولى:ـ
وتمتد من بداية الاستشراق حتى بداية عصر النهضة الأوروبية وكانت كتابات فردية غير منظمة واتسمت بالعداء للإسلام ،وكان الاستشراق في هذه المرحلة مظهرا َ للصراع الديني والايدولوجي بين العالمين الأوروبي المسيحي والشرقي الإسلامي.
المرحلة الثانية:ـ
أثرت في مفهوم الاستشراق عدة عوامل أهمها النزعة الإنسانية التي سادت في عصر النهضة حتى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي وحركة التنوير، فأدت هاتان النزعتان إلى دراسات للشرق الاسلامى أكثر موضوعية من ذي قبل.
المرحلة الثالثة :-
وتمتد هذه المرحلة من القرن التاسع عشر الميلادي حتى وقتنا هذا ،وشهدت هذه المرحلة ،وشهدت هذه المرحلة عدة تطورات في مفهومه وحركته،فقد عاد طابع العداء ليغلب على نظرة الغرب للشرق وكانت أهم العوامل التي أسهمت في تنمية هذه النظرة العدائية هي المصالح السياسية والاقتصادية والغربية في الشرق ولدى البحث عن دوافع المستشرقين في كتاباتهم عن العرب والمسلمين ،يلاحظ الدارس اتجاهين في الحركة الاستشراقية وتطورها أحدهما سلبي عدائي والآخر إيجابي ويتسم بالروح العملية .
وأتضح لأوروبا المسيحية في القرن الثاني عشر وما بعده أن الصراع العسكري مع الإسلام لا يكفى لإسقاطه فلا بد من فهم مضمونه ومحاولة نقضها.فكانت أهداف الأوروبيين في إقبالهم على دراسة الإسلام ضرب إرادة المقاومة عند الخصم عن طريق تشكيكه في صحة عقيدته.
وثمة دافع آخر للاستشراق في أوروبا ،وهو ذو طابع ديني أيضا ً،فعندما رغب المستشرقون في التبشير بدينهم بين المسلمين،اقبلوا على الاستشراق ليتسنى لهم تجهيز الدعاة و إرسالهم إلى العالم الإسلامي ،فالتقت مصلحة المبشرين مع أهداف الاستعمار، فمكن لهم واعتمد عليهم في بسط نفوذه في الشرق ونشأت رابطة وثيقة بين الاستشراق والاستعمار وعن طريق الاستشراق عمل الاستعمار على هدم المقاومة الثقافية للعرب والمسلمين.
ونهضت أوروبا وأصبحت في مركز قوة ثقافيا ًوسياسيا ً.كما أن الغرب يئس من تحويل المسلمين إلى مسيحيين.
فالدوافع الحالية للاستشراق هي إما عملية هدفها معرفة الشرق،أو سياسية ترمى إلى خدمة مصالح الغرب.
موقف المفكرين العرب والمسلمين من الاستشراق:ـ
إن موقف المفكرين العرب والمسلمين من الاستشراق هو موقف متباين متناقض فمنهم من يرفضه جملة و تفصيلا ً بوصفه "عدو للإسلام والمسلمين" ومنهم من يؤيده ويتحمس له. ولعل من الأمثلة الواضحة على ذلك" طه حسين " في كتابه "الشعر الجاهلي " و " مستقبل الثقافة في مصر"
تأثير الاستشراق على الثقافة العربية:ـ
لقد ضمت حركة الاستشراف عددا ً هائلا ًمن المستشرقين والمؤسسات و المجلات الاستشراقية،وقام المستشرقون بكتابة عدد لا حصر له من الكتب و الأبحاث والمقالات بلغات مختلفة وكان لهذا كله ـ بما شمل من تفسيرات وتصورات للتراث العربي الإسلامي و العقلية العربية المعاصرة ـ آثاره على الثقافة العربية وعلى مفهوم الذات للإنسان العربي،خاصة الذات المنعكسة (إدراك الإنسان لنفسه كما يراه الآخرون) وأصبحت النظرة الخارجية للإنسان العربي تؤثر على نظرته لنفسه،خاصة في هذا الوقت الذي يتوقف فيه الغرب بتقنيته ووسائل إعلامه ومؤسساته العلمية على العلم العربي
و الاستشراف سيف ذو حدين من حيث تأثيره على ثقافة العربي وشخصيته الثقافية،ولقد أسهم المستشرقون إسهاما ًواضحا في إحياء التراث العربي الاسلامي
كما انقسم المستشرقون من حيث موقفهم من التراث العربي و الإسلامي إلى فريقين : فريق ينتقد بشدة و يشوه وفريق ينصف ويمدح ويقول "مالك بن نبي" :إن الفكر الإسلامي أصيب بصدمة من الثقافة الغربية أدت إلى مركب نقص.ولقد نتج عن ذلك انقسام المفكرين العرب والمسلمين إلى معسكرين:-
احدهما :أصيب بشلل ثقافي ودفعه مركب النقص إلى الدعوة إلى تمثل الفنون والعلوم والأشياء الغربية حتى اللباس
والآخر:يحاول التغلب على مركب النقص بتناول حقنة اعتزاز من الماضي يعزى بها النفس وقد ركز بعض المستشرقين على وصف العربي بعدم القدرة على الإبداع كما ركز بعض المستشرقين على إبراز مجالات الخلاف والتفرقة المذهبية والفكرية وجوانب التطرف في التراث العربي الإسلامي .إن مثل هذه الأوصاف للإنسان العربي و التفسيرات و التصورات للحضارة الإسلامية والعربية ودورها في التاريخ الإنساني تترك بدون شك آثارا ًسلبية على شعور الإنسان العربي نحو ذاته وتراثه ، بالإضافة إلى رسم صورة مشوهة له ولتراثه في الخارج.