كتابة السنة في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم ثم تدوينها من بعده
لمحمد فتح كُولَنْ
إن الرأي القائل بأن بداية تدوين السنة كانت في عهد عمر بن عبد العزيز رأي صحيح ولكنه رأي ناقص، لأنه يهمل أمراً مهماً وهو أن بعض الصحابة كان يكتب السنة في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم مثلما كان بعضهم يكتب القرآن.
1- نفير القراءة والكتابة الذي بدأ بالقرآن الكريم
كان معظم العرب في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم يجهلون القراءة والكتابة، ولكن عدد من كان يقرأ ويكتب من أهل مكة لم يكن بالقليل، لأن أهل مكة كانوا على اتصال دائم بالقبائل الموجودة حواليها، وانفتحت أبواب القراءة والكتابة بعد بدء نزول القرآن، ذلك لأن كل مسلم كان في حاجة لقراءة القرآن ليعرف الأحكام والمعاني الواردة فيه كضرورة دينية، أي كان نزول القرآن الكريم إيذاناً ببداية نفير عام للعلم والثقافة. فقد وردت في طبقات ابن سعد أن عدد كتاب الوحي الذين كانوا يتواجدون حول الرسول صلى الله عليه و سلم كان يقارب الأربعين.[1] ولم يكن هؤلاء مجرد أشخاص يعرفون القراءة والكتابة، فمعنى كاتب الوحي هو الشخص الذي نذر نفسه لكتابة القرآن، أي بالتعبير الدارج اليوم نستطيع أن نقول إنه مدير قلم الرسول صلى الله عليه و سلم وسكرتيره.
كان هناك حث كبير وتشجيع على تعلم القراءة والكتابة في تلك الأيام، حتى أن فدية بعض أسرى بدر كانت قيام كل أسير بتعليم عشرة من الأفراد القراءة والكتابة.[2] كانت هذه حادثة فريدة وحادثة تعد متقدمة جداً في ذلك العهد. أجل، لقد بدأ الناس في تلك الأيام سباقاً نحو تعلم القراءة والكتابة، ذلك لأنه كان بين يديهم شيء جديد وشيء فريد.. كان هذا ديناً جديداً وكان هذا قرآناً.. كان هؤلاء الناس ظمأى لمعرفته وفهمه من جميع جوانبه ليضيفوا إلى حياتهم معنى جديداً مشرقاً.. لذا، كان القروي والحضري في انتظار وفي ترقب دائم ليدون ما يتنزل. وكان هذا شيئاً فريداً ويحدث لأول مرة بالنسبة لكتاب إلهي مقدس سوف يبقى محفوظاً وسليماً حتى يوم القيامة. فكما تم تدوين القرآن، كذلك تم تدوين سنة الرسول صلى الله عليه و سلم الذي فسر القرآن وشرحه، ففصل مجمله وأوضح مبهمه وقيد مطلقه وخصص أحكامه العامة. ذلك لأن السنة كانت المصدر الثاني للتشريع لذا، هيئ حفظها فأصبحت صالحة للتدوين العام وللتدوين الرسمي.
2- الأدلة ضد التدوين
لنلق نظرة على الأحاديث التي ساقها المستشرقون وبعض الكتاب المسلمين ممن تأثروا بهم كأدلة حول كون تدوين الحديث بعد عهد الرسول صلى الله عليه و سلم. ينقل أبو سعيد الخدري في “تقييد العلم” الرواية التالية: “استأذنّا النبي صلى الله عليه و سلم في الكتابة فلم يأذن لنا.”[3] لم يجد المتخصصون في علم الحديث قيمة كبيرة لهذه الرواية التي ساقها “غولتسهر (Goldziher)” ومقلدوه. ولاشك أن هناك رواية أخرى وردت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أيضاً: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه.»[4]
وهناك رواية أخرى في كتاب “تقييد العلم” عن الصحابي الجليل صاحب الذاكرة القوية أبي هريرة رضى الله عنه الذي كان يهتم اهتماماً كبيراً بالأحاديث وكان يرغب كل الرغبة في تدوينها غير أنه لم يكن في حاجة لذلك لقوة ذاكرته، فقد جاء في هذه الرواية أن الرسول صلى الله عليه و سلم جاء إليهم فوجد بعضهم يكتب فسألهم عما يكتبون، فقالوا بأنهم يدونون الأحاديث التي سمعوها منه فقال لهم الرسول صلى الله عليه و سلم: «أتدرون ما ضل الأمم من قبلكم إلا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله.»[5]
هذه الروايات التي نقلناها واضحة، فهي حفظ جميع الكتب الإلهية سواء أكان هذا الكتاب هو القرآن أم التوراة أم الإنجيل، حفظ هذه الكتب من الاختلاط بأي كلام أو كتابة أخرى. وبينما كان من الواجب عدم كتابة أي شيء سواء أكان ذلك للأنبياء أم للآخرين بجانب هذه الكتب إلا أنه لم يتم رعاية هذا الأمر وكانت النتيجة أن اختلطت كتابات كثيرة بالتوراة، كما ازداد عدد الأناجيل بعد عدة عصور من نزول الإنجيل الواحد وازداد حجمه إلى مجلدات، وهكذا انحرفت كلتا الجماعتين عن الصراط المستقيم وسلكتا طريق الضلالة. وتتجلى هذه الحقيقة بشكل واضح عندما يتم عرض الأحاديث الصحيحة التي تجيز كتابة الأحاديث بل تأمر بها، ويتبين أنها أكثر من الأحاديث التي تمنعها.
يقول أبو هريرة رضى الله عنه وهو الصحابي الذي نقلنا عنه رواية حول النهي عن كتابة الحديث: “ما من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أحد أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب.”[6]
كان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب كل ما يسمعه عن الرسول صلى الله عليه و سلم حتى قيل له: “أنت تكتب كل ما يقوله رسول الله صلى الله عليه و سلم، بينما هو بشر يغضب ويرضى.”[7] على إثر هذا الكلام ترك عبد الله بن عمرو كتابة الحديث وعرض الموضوع على الرسول صلى الله عليه و سلم فأشار الرسول صلى الله عليه و سلم إلى فمه المبارك قائلاً: «اكتب! فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق.»[8]
صحيح أنه كان بشراً، ولكنه كان نبياً أيضاً، فرضاه وغضبه كان لله تعالى، لذا كان يقول الحق على الدوام، لأنه لم يكن ينطق عن الهوى {وما ينطق عن الهوى ` إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 3-4). لقد التحمت فطرته مع وظيفته فكانت كلتاهما تحملان صفة النبوة.. لقد تم شرح صدره لذا، لم يبق هناك أي احتمال لتدخل طبيعته البشرية في مهام نبوته.. فكل ما قاله كان “ديناً”، لذا قال للصحابي: «اكتب.»
3- الأدلة على تدوين الأحاديث
عندما نطالع المصادر فيما يتعلق بكتابة الحديث نرى الروايات التالية: كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلى الله عليه و سلم فيسمع من النبي صلى الله عليه و سلم الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه، فقال له الرسول صلى الله عليه و سلم: «اِستعِنْ بيمينك» وأومأ بيده للخط.[9]
وسأل رافع بن خَديج من الرسول صلى الله عليه و سلم: يا رسول الله! أنا نسمع منك شيئاً أفنكتبها؟ فأجابه الرسول صلى الله عليه و سلم: «اكتبوا ولا حرج.»[10]
ونقرأ في سنن النسائي والدارمي أن الرسول صلى الله عليه و سلم استكتب بعض الأحكام حول القصاص والدية وحول بعض الشرائع وأرسلها إلى عمرو بن حزم في اليمن،[11] كما كتب كتاباً لوائل بن حُجر لقومه في حضرموت، فيه الخطوط الكبرى للإسلام وبعض أنصبة الزكاة وحد الزنا وتحريم الخمر وكل مسكر حرام.[12] كما نقرأ في مقدمة الإمام الدارمي قول الرسول صلى الله عليه و سلم: «قَيِّدوا العلم بالكتاب.»[13]
كما نقرأ رواية عن أبي هريرة رضى الله عنه وردت في كتب الأحاديث الصحيحة أن يمنيا اسمه أبو شاه استمع إلى خطبة للرسول صلى الله عليه و سلم بعد فتح مكة فقام فطلب من الرسول صلى الله عليه و سلم كتابة الخطبة له فقال الرسول صلى الله عليه و سلم لأصحابه: «اكتبوا لأبي شاه.»[14]
عندما اشتد بالنبي صلى الله عليه و سلم وجعه قبل وفاته بأيام قليلة قال لأصحابه: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده» فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: إن النبي صلى الله عليه و سلم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا.
كان هذا اجتهاد صحابي، أما ابن عباس فقد قال: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين كتابه.[15] ودام حزن ابن عباس رضى الله عنه من هذا الأمر طوال حياته، ولكنه لم يحمل ضغناً لعمر رضى الله عنه، بل بقي على الدوام بجانبه، وعندما يسمع أن عمرَ سيخطب حضر خطبته آتياً إليه من البلد الذي هو فيه سواء أكان في مكة أم في البصرة.[16]
لذا، يمكن القول أنه ما من قلب حمل كرها أو ضغينة على سيدنا عمر رضى الله عنه جراء هذا الأمر، ذلك لأن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يكرر طلبه، وسواء أكان طلب الرسول صلى الله عليه و سلم الكتابة لكي لا تقع أمته في الضلالة يتعلق بالخليفة الذي سيأتي بعده أم يتعلق بأمور أخرى فهذا لا نعرفه، نعرف أن الجميع -عدا شخصاً واحداً- بايعوا الخليفة الأول، وعندما جاء عمر رضى الله عنه إلى المقام نفسه تردد بعضهم في بيعته في بادئ الأمر ثم لم يبق هناك من لم يبايعه. أما في عهد عثمان وعلي رضى الله عنه فقد ظهر الخلاف، فهل كان ما ينوي الرسول صلى الله عليه و سلم كتابه هو العلم الذي عناه أبو هريرة رضى الله عنه عندما قال: “حفظت عن رسول الله وِعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قُطع هذا البُلعوم.”[17] أم كان يريد إفشاء الأسرار التي سبق وأن أودعها إلى الصحابي حُذيفة رضى الله عنه؟ صحيح أن ما كان ينوي الرسول صلى الله عليه و سلم كتابته بقي سراً، إلا أننا نستدل من هذه الحادثة على أن الأحاديث كانت تكتب في عهد النبوة، وأنه كان أحياناً يأمر بكتابتها.
كان هناك صحابة آخرون غير عبد الله بن عمرو بن العاص يكتبون الحديث، فمثلاً نرى أن علياً رضى الله عنه يعلق بجانب سيفه صحيفة تحتوي على بعض الأحاديث، فقد سأله أبو جحيفة: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله أو فهمٌ أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: وما في هذه الصحيفة قال: العَقْل،[18] وفكاك الأسير، ولا يُقتل مسلمٌ بكافر.[19]
كما كان لدى عمر بن الخطاب رضى الله عنه صحيفة كان يعلقها بجانب سيفه وتحتوي على أحكام زكاة السوائم.[20] ويذكر ابن سعد في طبقاته أن ابن عباس رضى الله عنه عندما توفي ترك وراءه حمل بعير من الكتب، وكان أكثرها عبارة عما سمعه من الرسول صلى الله عليه و سلم ومن الصحابة الكرام.[21] كما ينقل ابن هشام أن الرسول صلى الله عليه و سلم عندما شرف المدينة بمجيئه عقد معاهدة مع اليهود عدها البعض أول دستور قانوني إسلامي وكانت المعاهدة تبدأ هكذا: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه و سلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس...
...وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يُخاف فساده فإن مرده إلى الله عز و جل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم.»[22]
انتقلت الصحيفة التي أرسلها الرسول صلى الله عليه و سلم إلى عمرو بن حزم -التي ذكرناها سابقاً- حول الديات والقصاص[23] إلى حفيد حفيده أبي بكر بن محمد، كما انتقلت حزمة من الكتابة من أبي رافع -عتيق الرسول صلى الله عليه و سلم- إلى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث،[24] وهو من التابعين ومن كبار الفقهاء، وقد عد هذه الحزمة أكبر كنز حصل عليه طوال حياته.
كتبت هذه الأحاديث في زمن الرسول صلى الله عليه و سلم على القطع الخشبية وعلى العظام وعلى الجلود تماماً مثلما دوّن القرآن، ثم انتقلت إلى التابعين ومن ثم إلى تابع التابعين الذين حافظوا عليها ثم نقلوها إلى من جاء من بعدهم، كما نجد أن مجاهد بن جَبْر -وهو من كبار أئمة التابعين- يقول بأنه شاهد كتاب “الصحيفة الصادقة” وهي الصحيفة التي سجل فيها عبد الله بن عمرو بن العاص الأحاديث التي سمعها من الرسول صلى الله عليه و سلم. يقول مجاهد بأنه رأى تلك الصحيفة أمام عبد الله بن عمرو بن العاص وأنه مد يده إليها ولكنه لم يسمح له بلمسها،[25] ذلك لأن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يحافظ على صحيفته ويهتم بها أكثر من اهتمامه بعينيه، وحسب قول ابن الأثير فإن هذه الصحيفة كانت تحتوي على ما يقارب ألف حديث، وسند هذه الأحاديث هو عبد الله بن عمرو وابنه وحفيده أي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهناك 500 حديث عن طريق هذا السند في كتب الأحاديث الصحيحة، وتعد تقريباً بمنزلة ما يعده الكثير “السلسلة الذهبية” وهي سلسلة السند عن طريق زين العابدين عن الحسين عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] «السنة قبل التدوين» لمحمد عجاج الخطيب ص298
[2] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 2/22
[3] الترمذي، العلم، 11؛ «تقييد العلم» للبغدادي ص32-33
[4] مسلم، الزهد، 72؛ «المسند» للإمام أحمد 3/12؛ الدارمي، المقدمة، 42
[5] «تقييد العلم» للبغدادي ص34
[6] البخاري، العلم، 39؛ الترمذي، العلم، 12، المناقب، 46 ؛ «المسند» للإمام أحمد 2/249
[7] كتم رواة الحديث أسماء هؤلاء الأشخاص أدباً ثم لكونها غير ضرورية. (المترجم)
[8] أبو داود، العلم، 3؛ «المسند» للإمام أحمد 2/162؛ الدارمي، المقدمة، 43
[9] الترمذي، العلم، 12
[10] «مجمع الزوائد» للهيثمي 1/151؛ «كنز العمال» للهندي 10/232؛ وانظر إلى روايات أخرى في هذا الصدد إلى: «المسند» للإمام أحمد 2/215
[11] النسائي، القسامة، 46 ؛ الدارمي، الديات، 1، 3، 11، 12
[12] «الإصابة » لابن حجر 3/628 ؛ « السنة قبل التدوين» لعجاج الخطيب ص347؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 1/287
[13] الدارمي، المقدمة، 43؛ « المستدرك » للحاكم 1/106 ؛ « كنز العمال» للهندي، 10/249
[14] البجاري، العلم، 39، اللقطة، 7 ؛ أبو داود، العلم، 3؛ الترمذي، العلم، 12
[15] البخاري، العلم، 39؛ مسلم، الوصية، 22؛ «المسند» للإمام أحمد 1/325
[16] «عمر بن الخطاب: جوانبه المختلفة وإدارته للدولة» لشِبْلي النعماني 2/353
[17] البخاري، العلم، 42
[18] العَقْل: الدية.
[19] البخاري، العلم، 39؛ الترمذي، الديات، 16؛ «المسند» للإمام أحمد 1/100
[20] الترمذي، الزكاة، 4؛ أبو داود، الزكاة، 5؛ ابن ماجة، الزكاة، 9؛ «الكفاية» للبغدادي ص353، 354
[21] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 5/293
[22] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/8-9، 147
[23] النسائي، القسامة، 46-47؛ الدارمي، الديات، 12
[24] «الكفاية» للبغدادي ص330
[25] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 2/373 ؛ «أسد الغابة» لابن الأثير 3/350