بحث عن السياسة النقدية - بحث مفصل عن السياسه النقدية كامل بالتنسيق
مقدمة
الحمد لله رب العالمين, حمدا بلا غاية و شكرا بلا نهاية, ثم الصلاة و السلام على رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله الهادي الأمين وعلى آله وأصحابه الطاهرين الراشدين الذين سلكوا على منهجه القويم واتبعوا سنته المثلى وحملوا مشعل الإسلام وساروا به مشرقين ومغربين, فبصروا الناس بعد العمى واسمعوهم بعد الوقر, و أتم الله بهم نعمته, وأكمل بهم دينه, فكانوا على الناس حجة ثانية بعد الرسول عليه وعليهم أفضل الصلاة وأذكى التسليم, وبعد :
فإن المال هام في الحياة, فهو عصبها وشريان قلبها النابض ومصدر القوة للأمم والأفراد في السلم والحرب على حد السوء . فالإنسان لايستطيع أن يعيش عيشة كريمة, ولايقدر على الدفاع عن نفسه وحماية أرضه إلا إذا توافر لديه المال, والأمم كالأفراد كذلك .
ولقد بين الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم مدى حسب الناس للمال وأنهم يشتهونه كما يشتهون غيره من متع الحياة ويتفاخرون به ويتباهون, قال الله تبارك وتعالى في التنزيل:{وتحبون المال حبا جما} .
وقال تعالى أيضا في أية أخرى :{زين للناس حب الشهوات من الناس والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة...الخ} .
ولما كان للمال هذه المكانة في نفوس البشرية, ولماله دور خطير في حياتهم فقد اهتمت الشريعة الإسلامية به اهتماما بالغا وأولته عناية فائقة وسنت من الأحكام مايكفل المحافظة عليه, كما أن الشريعة الإسلامية قد اهتمت أيضا لكل جانب الحياة عقيدة كانت أو شريعة, نظرا لأن الإسلام عقيدة و شريعة . لذلك فإن الشريعة الإسلامية ترسم منهجا شاملا كاملا لكل مجال الحياة, بما فيها حياة الإنسان الاقتصادية, بوصفها وسيلة إلى أهداف أسمى, أبرزها ابتغاء مرضاة الله و إحياء سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام, فيتحقق بذلك سعادة الدنيا والأخرة .
كما لايخفى علينا, لقد شهد العالم تغيرا واضحا في مفهوم النقود ودخلت النقود الورقية و المصرفية وتوسعت المصاريف في توليد النقود .
ولكن من جهة أخرى, قد تعددت المشكلات التي تصيب اقتصاد الدول, مما يؤثر تأثيرا بالغا على أحوالها وعلاقتها واستقرارها, حتى يعود تأثيره أيضا على أوضاع أفراد المجتمع, في تعاملهم و استقرارأحوالهم, وشغل ذممهم .
وإن من أهم هذه المشكلات الاقتصادية المعاصرة اليوم : مشكلات انخفاض القوة الشرائية للنقود, أو ما يسمى بمشكلة التضخم . حيث يرخص النقد و تغلو السلع, فتأثر التزامات الدولة داخليا وخارجيا, فمابال التزامات الشخص بالأخر من التصرفات والمعاملات فبالأولى والأحرى أن تـتأثر . وبرزت أهمية السياسة النقدية في معالجة هذا التضخم كما عجزت السياسة النقدية في حياتنا المعاصرة في معالجته .
ويجر ذلك إلى مشكلات عديدة, وسنذكرها - إن شاء الله تعالى - في موضعه فيما بعد :
أهداف البحث
يهدف هذا البحث المقتصر المتواضع بشكل عام لدراسة أهداف السياسة النقدية ضمن إطار الاقتصاد الإسلامي بينما وجود النظام الوضعي في الوقت الحاضر, وبالتالي فإن الهدف من البحث يتناول في النقط التالية :
1) إلقاء الضوء على نشأة ظاهرة في تغير مفهوم النقود و تطوراته عنصرا أساسيا في الأنظمة النقدية المعاصرة التي تعتمد في أساسياتها على أنظمة النقد في العالم الغربي الرأسمالي الربوي
2) التعرف على التضخم الذي هو الداء القاتل المستفحل المسمى بسرطان الاقتصاد ووقع ضمن معاملتنا الاقتصادية اليومية على النحو التطبيق الذي عجزت أدوات السياسية في حياة المعاصرة في معالجته .
3) محاولة التعرف على الدور الذي يمكن أن تقوم به السياسة النقدية الإسلامية في معالجة التضخم وأهميتها في هيكل النظام النقدي الإسلامي .
ومن هنا كانت أهمية هذا البحث, رغم أن تحقيق الأهداف الدراسية السابقة تتمثل المشكلة حيث غاب النظام النقد الإسلامي عن التطبيق في وقتنا الحالي, ولذلك تبدأ خطوات هذا البحث بفرضية مقتضاها يمكن أن تقوم بدورها في معالجة التضخم, حيث تسعى هذه الدراسة لاختيار مصداقية هذه الفرضية .
وقد حاولت أن أبين حول " الالتزامات المالية العاجلة والآجلة في إطار السياسة النقدية الشرعية و الوضعية " في هذا البحث المقتصر المتواضع وهو بحث مختصر بالغ الاختصار, وفي سبيل إظهار أو إجلاء عناصر هذا الموضوع وإبراز أهم مسائله فإن الخطة التي نسير عليها دراسته ترد متمثلة على المباحث التالية :
أ- المبحث الأول
يتعرض عن دراسة وتحديد ماهية السياسة النقدية, حيث يتناول و يشمل البحث على أربعة مطالب:
المطلب الأول : مفهوم السياسة النقدية
المطلب الثاني : نشأة النقود
المطلب الثالث : تطور النقود
المطلب الرابع : أهداف السياسة النقدية في الإسلام
ب- ثم يليه البحث الثاني
ليشتمل عن التضخم النقدي, حيث يتناول بداية استعراض أهم مايتعلق به متمثلا على خمسة مطالب, على النحو التالي :
المطلب الأول : مفهوم التضخم النقدي
المطلب الثاني : أسباب حدوث التضخم
المطلب الثالث : آثار التضخم
المطلب الرابع : التضخم والربا وعلاقة ترتبط بينهما
المطلب الخامس : طرق علاج التضخم
ج- ثم انتقل البحث بعد ذلك على مايتعلق بالربا مشتملا على المطلبين الاثنين :
المطلب الأول : مفهوم الربا
المطلب الثاني : الأموال التي يثبت فيها الربا
وينتهي البحث إلى أن يتناول بعض شيء من الالتزامات المالية العاجلة والآجلة وتطبيقها في إطار السياسة النقدية و الوضعية على المطلبين الاثنين :
المطلب الأول : مفهوم الالتزامات المالية
المطلب الثاني : تطبيق السياسة النقدية والوضعية في الالتزامات العاجلة والآجلة
وختاما, فإن مما لاشك فيه أن هذا البحث من أهمية البحث بمكان, ولا يستطيع للطالب المقصر كمثلي أنا أن أسرد وأسيطر بكماله حتى يليق أن أقدم لشيخنا المبارك فضيلة الأستاذ الدكتور المكرّم نصر فريد محمد واصل حفظه الله تعالى وحياه الله, ولكن والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم كم قد بذلت فيه جهدي حتى غلب عني وقت غير يسير .
فإن كنت قد أصبت في عملي هذا فبفضل الله وتوفيقه, وإن كنت قد أخطأت فهو لعجزي وتقصيري باعتباري بشرا يخطئ ويصيب, إن أريد إلا الصواب والخير مااستطعت, وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
فأرجو الله الغفار أن يغفر لي خطيئتي وأن يسمح لي شيخي المكرّم على تقصيري, وجزاه الله عني وعن االمسلمين خير الجزاء .
والله الموفق إلى أقوم الطريق, والله أسأل أن يجعل هذا العمل المتواضع خالصا لوجهه الكريم وهو نعم المولى ونعم النصير .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات, وصلى الله على سيدنا محمد وصحبه وسلم أجمعين .
الطالب/ ابنكم : أحمد مهاجر بن عبد الرشيد الإندونيسي
المبحث الأول
السياسة النقدية
تمهيد
كما هو معلوم, أن الإسلام قد استثنى المعاملات المالية الضرورية أي التي يتحقق معها وجود الضروريات الخمس وهي الدين, والنفس, والعقل, والنسل, والمال . ولذلك راعى الإسلام في مجالات المعاملات المالية الأموال الضرورية لحياة الناس, وذلك لتحقيق الغرضين معا, وهما الإرادة و تحقيق المصلحة, والفائدة الكاملة للإنسان والمال معا لاستمرار خلافة الإنسان خلافة شرعية في هذه الحياة كما أمر الله به وأراد .
وأجناس الأموال الضرورية التي تحكمها القواعد الشرعية لنظام التعامل والتصرف فيها ستة أجناس, كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والإمام البخاري وهي : "الذهب, والفضة, والبر, والشعير, والتمر, والملح" . مع أن هذه الأجناس الستة تسمى بالأجناس المالية أي كونها ربوية في الشريعة الإسلامية, إلا أن الله تبارك وتعالى قد أحل في هذه الأجناس الستة من الأموال البيع والشراء وكل أنواع التملك والتجارات بالقيود التي يكون بعيدا عن الزيادة غير المشروعة المنهى عنها, والتي تدخل في دائرة الربا الذي حرمه الله ورسوله حرما قطعيا .
ونظرا لأن المال الذي يمتلكه الإنسان للحصول من ورائه على منفعة غيره من الأموال بطريق مباشر أو غير مباشر يتطلب الانتقال من يد إلى أخرى على وجه السرعة, فقد سمي مالا نقديا في الشرع . وعند ما يطلق النقدان عند الفقهاء, فالمراد به الذهب والفضة لأنهما في نظر الشرع جعلا معيارا شرعيا ثابتا ومنضبطا لبشر .
ومما لاشك فيه, فإن للنقود في حياة البشر أهمية كبرى إذ بها تقضي الحاجات, تذلل الصعوبات, وتيسر المبادلات, إلا أنها في كل أطوارها معرضة للتغير, وشأنها كشأن كل الموجودات, فبعضها أحيانا يكسد, وأحيانا تقوي قوته الشرائة, وأحيانا تنخفض...وهكذا
ولكي يتبين لنا جليا في هذاالبحث فسوف نتعرض بيانا مرتبا في المطالب الثلاثة الآتية :
المطلب الأول : مفهوم السياسة النقدية .
المطلب الثانى : نشأة النقود .
المطلب الثالث : تطور النقود .
المطلب الرابع : أهداف السياسة النقدية فى الإسلام .
المطلب الأول : مفهوم السياسة النقدية
السياسة لغة : القيام على الشيء بما يُصلحه , يقال ساس الأمر سياسة قام به, وسوسه القوم أى جعلوه يسوسهم .
النقود جمع نقد, والنقد في اللغة يطلق على عدة معان منها : الجيد الوازن من الدراهم, والنقر للاختبار, والتعييب و الاغتياب, ومايقابل النسيئة أي إعطاء الثمن معجلا . وكما تطلق كلمة النقد أيضا على المسكوك من الذهب والفضة . والنقدان : الذهب والفضة .
مفهوم السياسة النقدية فى الاصطلاح الشرعي :
السياسة فى الاصطلاح الشرعى : عرف ابن عقيل بأنها : ما كان من الأفعال, بحيث يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح, وأبعد عن الفساد, وإن لم يشرعه الرسول, ولا نزل به وحى.
وعرفها بعض العلماء المعاصرين :
اسم للأحكام والتصرفات التي تدار بها شؤون الأمة فى حكومتها وتشريعها وفضائها وفي جميع سلطاتها وعلاقاتها بغيرها من الأمم .
النقد فى الاصطلاح الشرعي :
يطلق النقد فى اصطلاح بعض الفقهاء : الذهب والفضة مضروبين أوغيرمضروبين, أو الدنانير أو الدراهم .
وعرفه عبد القديم زلوم, أحد المفكرين المسلمين المعاصرين بأنه : الشيء الذي اصطلح الناس
على جعله ثمنا للسلع, وأجرة للجهود والخدمات سواء أكان معدنا أم غير معدن .
وعرفه أيضا علماء الاقتصاد بأن النقود : أي شيء يلقى قبولا عاما بين الأفراد, كوسيط للتبادل, مقياس للقيم, ووسيلة للمدفوعات الآجلة .( النقود والبنوك والتجارية الدولية د.صلاح الدين فهمي محمود ص 28 .
وبناء على ماسبق يتضح لنا أن تعريف السياسة النقدية فى الاصطلاح الشرعي هو : مجموعة الإجراءات والتدابير التي تتخذها الدولة الإسلامية لتنظيم شؤون النقد وإدارتها, بشرط أن تكون تلك الإجراءات والتدابير متفقة وموافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية .
مفهوم السياسة النقدية فى الفكر الاقتصادى الوضعى المعاصر :
السياسة فى الفكر الوضعى المعاصر :
تدبير أمر عام, فى جماعة ما, تدبيرا يغلب فيه معنى الإحسان .
النقد فى الوضع الفكري المعاصر :
النقود : كل وسيط للمبادلة, ووحدة للحساب, ومقياس للقيم, يتمتع بقبول عام في الوفاء بالالتزامات1.
المطلب الثاني : نشأة النقود
خلافا لما قرره بعض العلماء, كالمقريزى, والمازندانى, من أن النقود وجدت مع وجود الإنسان, فإن النقود لم تظهر إلا بعد أن احتاج الإنسان إليها 2
ففي العصر الأول لم يكن الإنسان بحاجة إلى النقود, لأن جميع احتياجاته متوفرة أمامه - لقلتها- لا يمنعه منها أحد, ليبذل له مقابلا .
ولما كثرعدد الأفراد وتزايدت احتياجات وتعددت تصرفات الفرد شعرالإنسان أنه بحاجة إلى ما يستطيع تلبية رغبته من الاحتياجات التي كثرت وتعددت وتنوعت, ولم يكن بوسعه إشباعها كلها بمفرده, إما لعدم قدرته على ذلك, أو لعدم رغبته فى إنتاجها بنفسه .
وفي ظل هذه الظروف ظهر ما يسمى بالمقايضة, واستمرت هذه المرحلة من المبادلة حتى كثرت الصعوبات المترتبة عليها, وتزايدت المشكلات الناجمة عنها .
وبالتالي ظهر ما يسمى بالنقود السلعية, والواقع أن هذا الوسيط والمقياس لم يكن واحد عند جميع الشعوب, فكل قوم اصطلحوا على نوع معين من السلع, وجعلوه وسيلة للتداول, ومقياسا للقيم . على وفق عادات المجتمع وأذواقه, كما قد شاع استعمال الإبل والغنم كنقود في جزيرة العربية, وكذلك استخدام البقر والماعز فى بعض القبائل الأفريقية, وبعض المجتمعات استخدم القمح والشعير والأرز والذرة, وقد اتخذت الشعوب الأقمشة والسلح نقودا, وفي وسط أفريقيا اتخذوا الخز نقودا, وفي جزر المحيط الهادى اتخذوا الريش نقودا وهكذا .
المطلب الثالث : التطورالتاريخي للنقود
مرت النقود في تاريخ البشرية بأطوارعدة, فقبل أن تعرفها البشرية كانت تتعامل بنظام المقايضة, وهي معاوضة عرض بعرض أي مبادلة مال بمال كلاهما من غيرالنقود, أو مبادلة السلعة بالسلعة . والمقايضة وإن كانت تفي باحتياجات المجتمعات الفطرية و البدائة¸ إلا أنها مع اتساع نطاق المبادلة, وتطور المجتمعات عاجزة عن الوفاء باحتياجات الناس, وظهرت لها عدة عيوب, أهمها : صعوبة توافق الرغبات بين المتبادلين, وعدم قابلية بعض السلع إلى التجزئة, وعدم وجود مقياس موحد ترد إليه قيم السلع و الخدمات بشكل دقيق, وصعوب تخزين السلع والخوف من التلف وغيرذلك من العيوب و الصعوبات .
وأمام هذه الصعوبات وتلك المشكلات, فكرت البشرية في ابتداع وسيلة تتبادل بها ما تحتاجه من سلع وخدمات, تتحاشى بها تلك المشكلات, فاهتدت إلى النقود, فعرفت النقود السلعية, ثم المعدنية, ثم الورقية .
أ- النقود السلعية :
وهي سلع تعارفه الناس على استخدامها كوسيط في المبادلات, مثل الحيوانات, واللبن, والشاي, والتبغ, وغير ذلك . وقد اتخذت النقود السلعية أشكالا متعددة, وكانت تختلف باختلاف البيئة وطريقة الناس في العيش, ونوع المنتجات التي يحصلون عليه بجهدهم وعملهم . فالشعوب التي تعيش على شواطئ البحار, كانت تتخذ الأسماك نقودا, ...وهكذا, إلا أن هذا النوع من النقود – النقود السلعية – لوحظ عليه أنه لم يؤد إلى تلافي عيوب المقايضة, لأن مقصور على المجتمع الذي توجد فيه السلعة ولا يصلح لغيره من المجتمعات, مما يضيق من حجم التبادل التجاري بين المجتمعات البشرية .
ب- النقود المعدنية :
وهي أصناف من المعادن اهتدت إليها البشرية وسيطا في مبادلة السلع و الخدمات فيما بينهما .
واتخذ الناس نقودهم من المعادن الرخيص, حيث اتخذت بعض الشعوب نقودها من الحديد, واتخذها البعض الآخر من النحاس, في حين أن آخرين اتخذوها من معدن الرصاص أو القصدير أو الزنك أو الصفيح وغير ذلك . إلا أن أكثر المعادن رواجا كان النحاس نظرا لعلو قيمته بالنسبة لغيره من المعادن .
ويشير ديورانت إلى أن الآشوريين قد استعملوا الرصاص والنحاس فى التعامل . واستمر التعامل بهذه النقود المعدنية الرخيصة, حتى تم اكتشاف معدني الذهب والفضة, فبدأت تلك المعادن الرخيصة تتحجم ويقل التعامل بها .
ويذكر الباحثون أن أول من ضرب النقود ((كروسس)) ملك ليديا فى جنوب آسيا الصغرى فى القرن السابع فبل الميلاد . وقد انتقلت صناعة النقود من آسيا إلى اليونان, وثم إلى الرومان الذين اهتموا بسك النقود, وأدخلوا عليها تحسينات كثيرة, فصارت تحمل على الوجهين نقوشا أو رسوما ترمز إلى الحكومة التى قامت بسكها .
وكانت الإمبراطورية الرومانية تستعمل نقودها من الذهب وتسميها دينارا . وكانت الفرس تستعمل الفضة فى نقودها, وتسميها الدراهم .
وبحكم صلة العرب بهاتين الدولتين العظيمتين وصلت النقود المعدنية النفيسة إلى بلاد العرب واستعملوها فى معاملاتهم, وجعلوا منها مقياسا لقيم الأشياء لديهم . وحين جاء الإسلام أقر هذه النقود واستخدمها .
ثم أخذت النقود تتطور فى ظل الحضارة الإسلامية - لم يكن التطور فى جوهرها, إنما كان في هيئتها وشكلها - ويحدث البلاذري فيقول : (( كانت دنانير هرقل ترد على أهل مكة في الجاهلية, وترد عليهم دراهم الفرس البغلية, فكانوا لا يتبايعون إلا على أنها تبر, وكان المثقال عندهم معروف الوزن )) .
وكان العرب يطلقون على النقود الذهبية اسم : العين, وعلى النقود الفضية اسم : العرق .
وذكر الماوردى أن عمر بن الخطاب جعل الدرهم الإسلامي ستة دوانق . وأكثر المؤرخين على أن عبد الملك بن مروان, هو أول من ضرب الدينار الإسلامي . والله تعالى أعلى وأعلم .
ج- ثم بعد ذلك عندما اتسع نطاق التجارة, وزاد حجم المعاملات المالية, حلت النقود الورقية,
لأن الناس لجأ إلى إيداع أموالهم في خزائن لدى الصيارفةوالصاغة, وكان المودعون يحصلون
على صكوك بقيمة ودائعهم1 . ولقد وصف ج . ف . كراوزر اكتشاف النقود الورقية بأنه حدث عظيم لا يقل أهمية عن اكتشاف النقود بحد ذاتها, إذ يقول : (( إن الحدث الكبير الثاني في تاريخ النقود بعد وجود العملة هو اكتشاف النقود الورقية )) .
ولابد من الإشارة إلى نقطة مهمة, وهي أن تداول النقود الورقية لم يكن حديثا, وإنما دلت الأبحاث التاريخية أن ذلك كان شائعا ومقبولا عند بعض الشعوب منذ القدم .
فهناك من الوثائق التاريخية ما يدل على أن صيارفة البابليين قد استخدموا النقود الورقية قبل الميلاد بستة قرون, وقد ظهرت نقود ورقية في عهد تونغ أحد ملوك الصين في القرن التاسع الميلادي, وهذه النقود ذكرها الرحالة ابن بطوطة عند حديثه عن رحلته إلى الصين .
ولقد مرت النقود الورقية بعدة مراحل :
ففي المرحلة الأولى, ظهرت وثائق نقدية تدل على أنها بديل للنقود, وذلك لأن النقود المعدنية كانت معرضة للسرقة, خاصة إذا كانت بكميات كبيرة, ولقد لقيت تلك الوثائق رواجا وقبولا كبيرا بين الناس مما جعل الحكومات تتدخل لتنظيم مثل هذا الأمر وضبطه, حيث كانت هي المسؤولة عن إصدار النقود الورقية وتغطيته بما يقابله من ذهب وفضة .
حتى وصلنا إلى المرحلة التى نعيشها فى العصر الحديث, وذلك بعد مرورعدة أنظمة نقدية تمثلت فى :
أولا- قاعدة النقد السلعية :
* النظام المعدنى :
1. نظام المعدن الواحد وفيه كان الذهب ممثلا لقاعدة النقد السلعية .
ولقد تعددت أشكال هذا النظام كممثل للقاعدة النقد السلعية ذات المعدن الواحد, وهي بالترتيب :
* نظام المسكوكات الذهبية .
* نظام السبائك الذهبية .
* نظام الصرف بالذهب .
2. نظام المعدنين وهو ذلك النظام الذي تحددت في ظلة قيمة الوحدة النقدية بالنسبة لمعدني الذهب والفضة .
ثانيا- القاعدة الائتمانية للنقد ((نظام النقد الورق الإلزامي)) :
في ظل هذا النظام انفصمت العلاقة بين وحدة النقد الورقي وبين ما كانت تساويه من ذهب تحت نظام الذهب, لم يعد التغير في حجم ماتحتفظ به سلطاة الإصدار من احتيطى الذهب يحدد التغير فى حجم البنكنوت المصدر بل يمثل في معظم الحالات (عنصرا تاريخيا) وواحدا من الأصول المختلفة التي تمثل عناصر غطاء البنكنوت المصدر, ويتمثل دوره المعاصر في كونه مستودعا للقيمة ووسيلة دفع أولية .
ومن الواضح أن النقد الورقي الانتهائي تحت هذه القاعدة النقدية هو نقد محلي بطبيعته يستمد كيانه من القانون المحلي ويتداول في داخل الحدود السياسية للدولة التي تصدره والقيمة الخارجية للوحدة من هذا النقد تتحدد فى أسعار الصرف الحرة بالعوامل التي تحكم عرضه والطلب عليه, فالنقد الورق الإلزامي لبلد ما لا يقدم معيارا للقيمة على النطاق الدولي إلا إذا كان نقدا ارتكازيا توافرت المقومات الافتصادية للبلد الذي يصدره لتجعله يقبل قبولا عاما فى تسوية الالتزامات الدولية والاحتفاظ به كعنصر سياسي من عناصر السيولة الدولية .
فى ظل هذه القاعدة أصبحت النقود الورقية تتمع بقوة الإلزام القانوني وغير قابلة للتحويل إلى الذهب . ويمكن إرجاع سيادة هذه القاعدة إلى قرار الولاية المتحدة الأمريكية بإيقاف تحويل الدولار إلى الذهب فى عام 1971 من الميلاد . وبذلك يتضح الانفصال بين الأوراق النقدية والذهب والفضة, وأنها أصبحت مستقلة بذاتها 1.
المطلب الرابع: أهداف السياسة النقدية فى الإسلام
السياسة النقدية هي إحدى السياسات الإقتصادية العامة التي تتخذ ليتحقق من خلالها مقاصد الشريعة الكلية, وهي حفظ الدين, والمال, والعقل, والنسل, والنفس, وكل ما يمكن أن يحقق حفظ هذه الأشياء ويساعد على نمائها, فهو يحقق المصلحة العامة, ولهذا كانت السياسة النقدية في الشريعة الإسلامية سياسة حكيمة محققة دائما - عند الالتزام بها بالقواعد و الضوابط الشرعية الخاصة بها - كل الخير الرخاء المالي والمادي والاقتصادي, كما أن الإسلام في نظامه السياسي الحكيم يقبل دائما كل النظم السياسية الحاكمة العادلة ولا يطلب منها الآن إلا التنسيق العام فما بين الدول الإسلامية داخليا وخارجيا بما يحقق التكامل الاقتصادي والعدل السياسي والاجتماعي بين الجميع . {ويومئذ يفرح المؤمنون – بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم}.
وباختصار شديد فإنه يمكننا أن نتعرض أهم أهداف السياسة النقدية في الإسلام إجمالا بما يلى :
أولا : الوصول إلى العمالة الكاملة, وتحقيق معدل نمو أمثل ورفاهة اقتصادية عامة .
ثانيا : تحقيق العدالة الاقتصادية الاجتماعية, والتوزيع العادل للدخل والثروة.
هذا الهدف يتركز على مبدئين أساسيين من مبادئ الإسلام وهما :
1- مبدأ المساواة في الكرامة الإنسانية والأخوة بين الناس .
2- مبدأ كراهة تركز الثروة والدخار فىي أيدي فئة قليلة .
والمبدآن السابقان قررهما الله تعالى في كتابه العزيز بقوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ
مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
ثالثا : المحافظة على استقرار قيمة النقود.
رابعا : تحقيق التكامل المالي والاقتصادي والنقدي القائم والعدلي السياسي على الأسس الشرعية الحنيفة بين الجميع, تصديقا لقول الله تبارك وتعالى : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}
خامسا : العمل على تطوير سوق مالية , أولية , وثانوية , وتقديم كافة الخدمات المصرفية لأفراد الجمهور بطريقة فعالة تتفق وشرع الله .
سادسا : مراقبة التقلبات في أسعار صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية .
المبحث الثاني: التضخم النقدي
ويشتمل على خمسة مطالب :
المطلب الأول : مفهوم التضخم النقدي .
المطلب الثانى : أسباب حدوث التضخم .
المطلب الثالث : أثار التضخم .
المطلب الرابع : التضخم والربا وعلاقة ترتبط بينهما .
المطلب الخامس : طرق علاج التضخم .
المطلب الأول : مفهوم التضخم النقدي .
التضخم لغة : مأخوذة من الضخم وهو الغليظ من كل شيء .
وعرّفه فضيلة الأستاذ الدكتور نصر فريد واصل حفظه الله أنه : زيادة كمية النقود المتداولة دون أن تزداد بالنسبة نفسها السلع القابلة للتداول
أما التضخم عند علماء الاقتصاد أنه : الإفراط في الطلب على السلع والخدمات وباالتالى يؤدي إلى الارتفاع العام للأسعار , ويكون هذا الارتفاع نتيجة تدهور قيمة النقود . وفى الاقتصاد السليم يجب أن تتوازن تدفقات العملة النقدية مع تدفق السلع والخدمات. ويلاحظ أن النقود المتداولة تشتمل النقود المعدنية والنقود الورقية والودائع القابلة للتداول بشيكات. ومن هذاالمعنى يشترط وجود عنصرين ضرورين لوجود حالة التضخم وهما :
1. زيادة كمية النقود المتداولة .
2. عدم التقاء كمية السلع مع كمية النقود المتداولة فى زيادتها .
المطلب الثانى : أسباب حدوث التضخم
ينشأ التضخم عندما تعجز إحدى الحكومات عن مواجهة نفقاتها من الإيرادات التي تحصل عليها من الضرائب أو بالاقتراض من الجمهور, خاصة في أثناء الحرب حين تشتد حاجتها إلى المال, فتطلب من هيئة الإصدار إمدادها بماتحتاج إليه من نقود .
وفي أغلب الأحوال تلجأ الحكومة حينئذ إلى فرض السعر الإلزامي لأوراق البنكنوت التي يزداد إصدارها لتغطية نفقات الحرب, وكانت الحرب العالمية الأولى أكبر تجربة, فقد سارت الدول كثيرة شوطا بعيدا في إصدار النقود الورقية الإلزامية .
وقد نشأ التضخم في بعض الدول كإنجلترا, والولايات المتحدة حيث أن التضخم نشأ عند الاندفاع في إصدار الاعتمادات, و هكذا كانت مشتريات الحكومة تسدد عن طريق نقل مبالغ عن حسابات الحكومة إلى حسابات الأفراد, فتضخمت حسابات الأفراد دون أن يقابل ذلك زيادة في كمية السلع المتاولة . وكذلك في فرنسا فقد حدث التضخم في عام 1914 الميلادي .
وفي بعض الأحيان, قد يحدث التضخم في أوقات السلم على أثر اكتشاف مناجم الذهب أو استعمال وسائل جديدة في استخراجه تؤدي إلى زيادة المستخرج منه .
المطلب الثالث : آثار التضخم
كما نوهنا فيما سبق أن التضخم يتحقق عندما تصبح الزيادة في كميات السلع والخدمات المنتجة غير متناسبة مع حجم الزيادة في أدوات الدفع, وبالتالي حدوثه له الآثار الاقتصادية الذي يمكن إيجاز إبرازها فيما يلى :
1- يرجح التضخم التفضيل السلعي على التفضيل النقدي بسبب ارتفاع أسعار السلع وانخفاض قيمة النقود, مما يؤدي إلى ظهور الاحتكار والمضاربات .
2- يؤثر التضخم سلبيا على النقود, ويؤدي فشلها في تأدية وظائفها الأصلية كمقياس للقيمة, وأداة وفاء الديون والمدفوعات الآجلة .
3- يعمل التضخم على إعادة توزيع الدخل والثروة توزيعا عشوائيا, فآثار التغير في قيمة الفلوس تختلف من حيث اتجاه هذا التأثير ودرجته على أفراد المجتمع, ولذلك يمكننا أن نقول ونؤكد : بأن هناك طوائف تستفيد من الانخفاض في قيمة النقود, وطوائف أخرى تتضرر .
وأبرز المستفيدين هم :
أ- أصحاب المكتنزات الذهبية, والذين لا يؤثر عليهم تغير قيمة الفلوس بالانخفاض بل يؤدي ذلك إلى ارتفاع قيمة مكتنزاتهم الذهبية...
ب- أصحاب المشاريع, ويلحق بهم المستثمرون فهم يستفيدون من انخفاض القوة الشرائية للنقود, والتي يرافقها ارتفاع أسعار منتجاتهم وهذا يؤدي إلى ارتفاع معدل أرباحهم .
ج- المدينون فهم المستفيدون بالانخفاض لأنهم يسددون الدين بقيمته الاسمية عند الاستحقاق, والتي تكون أقل من قيمة الدين الحقيقة وقت الاستدانة .
وأما أبرز المتضررين فهم:
أ- أصحاب الدخول العقدية مثل العمال والموظفين, فهم الذين يتحملون آثار التضخم الضارة, لأن دخولهم ثابتة لا تتغير بتغير قيمة النقود, في حين أن دخولهم الحقيقة, أي قدرتهم على تحويل أجورهم إلى سلع وخدمات تتناقص .
ب- أصحاب المدخرات النقدية لدى الجهاز الصرفي, الذين تنخفظ قيمة مدخراتهم النقدية نتيجة التقلبات فى مستوى الأسعار .
ج- الدائنون فهم أول من يعانون من آثار الانخفاض في قيمة النقود, لأنهم ملتزمون بقبول ديونهم ممثلة لقوة شرائية أقل مما أعطيت .
4- التضخم يجعل أسعار المنتجات الوطنية القدرة على التنافس فى الأسواق الخارجية, وربما حتى في الأسواق الداخلية, وهذا يعنى زيادة في الواردات, ونقصا فى الصادرات, مما يزيد الاختلال في الميزان التجاري, ومن ثم ميزان المدفوعات .
5- يعمل التضخم على الحد من النمو الاقتصادي, وذلك لأن التضخم يؤدي الحافز للادخارو بسبب انخفاض أسعار الفائدة الحقيقة, فلا تعود هناك رغبة للأفراد بالادخار, إذا توقعوا نقصا في قيمة مدخراتهم قد يتجاوز الزيادة التى تضيفها الفائدة, هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فالتضخم والانخفاض في قيمة النقود لايترك للادخار نصيبا من الدخل, لأن زيادة الإنفاق الاستهلاكي لشراء نفس كمية السلع التي اعتاد الفرد شرائها يقتضي منه جزءا أكبر من الدخل .
المطلب الرابع : التضخم والربا وعلاقة ترتبط بينهما
ومما لاشك فيه, إن ظاهرة التضخم مقرونة بالربا المحرم والتوسع النقدي المصرفي الذي يغير طبيعة النقود ووظيفتها, فبدلا من أن تستقر كمستودع للقيمة والتبادل بين الناس, أصبحت سلعة ومنفعة بذاتها, تباع وتؤجر, وانتقل الدور في إصدار النقد من يد الدولة أو البنك المركزي إلى المصارف التجارية عن طريق النقود الائتمانية منها النقود الورقية .
فمن علاقة الربا بالتضخم :
1. إن الاهتمام الأكبر فى النظام الربوي موجه لضمان نات والانتظام في السداد, أما العقود الإسلامية فإن الاهتمام بالقرض والحل أمر لازم وكذلك محتم الربط دائما بين النفقات التمويلية والتدفقات السلعية في العقود الإسلامة, مما يؤدي إلى القضاء على الأعراض التضخمية .
2. إن العقود الإسلامية تنحو – غالبا – نحو استخدامات سلعية وهذا يختلف عن القروض الربوية الذي تضع نقودا تحت تصرف المقترضين .
3. النقود في النظام الرأسمالي تتحول إلى سلعة, فحقيقة الربا ذلك النظام تأجير للنقد, وإلغاء لوظيفته, فبدلا من أن تكون النقود حكما ومعيارا للقيمة ووسيطا للتبادل التجاري تصبح سلعة تطلب ذاتها, وهذا يخالف وظيفة وطبيعة النقد .
ويقول الإمام الغزالى رحمه الله تعالى في الإحياء فى هذا : "خلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال, حتى تقدر سائر الأموال بهما".
4. تعتبر أغلب الدول النامية ضبط التوسع النقدي والائتماني هدفين رئيسين لسياستها النقدية وذلك في مواجهة التضخم الذي أضحى من أهم الظواهر الاقتصادية المعاصرة .
حيث إن الزيادة في العرض النقدي يعتبر من أهم المتغيرات المؤثرة في وجود الظاهرة أو في زيادة حدتها, وكذا في نقص, أو ثبات العرض السلعي أو زيادته بنسبة أقل في مواجهة توسع مستمر في العرض النقدىيعتبر متغيرا هاما, ومؤثرا في النظام الربوي .