تعليم ، كتب ، الرياضة ، بكالوريا ، نتائج ، مسابقات ، أدب وشعر ، الهندسة الإلكترونية بكل أنواعها ، اللغات ، التعليم التقني والجامعي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
style
date الإثنين 15 مايو - 11:57
date الإثنين 8 مايو - 22:14
date الأحد 19 أغسطس - 16:42
date الأحد 19 أغسطس - 15:17
date السبت 18 أغسطس - 17:10
date السبت 18 أغسطس - 17:00
date السبت 18 أغسطس - 16:56
date السبت 18 أغسطس - 14:52
date السبت 18 أغسطس - 10:07
date الخميس 16 أغسطس - 17:02
date الخميس 16 أغسطس - 16:54
date الأربعاء 15 أغسطس - 18:13
date الأربعاء 15 أغسطس - 18:08
date الأربعاء 15 أغسطس - 10:21
member
member
member
member
member
member
member
member
member
member
member
member
member
member
style

شاطر
 

 حركات التمرد في مصر في بداية العهد العثماني 1517-1524م والنتائج المترتبة عليها

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Labza.Salem
Admin
Labza.Salem

عدد المساهمات : 43954
نقاط : 136533
تاريخ التسجيل : 12/09/2014
العمر : 29
الموقع : سيدي عامر

حركات التمرد في مصر في بداية العهد العثماني 1517-1524م والنتائج المترتبة عليها Empty
مُساهمةموضوع: حركات التمرد في مصر في بداية العهد العثماني 1517-1524م والنتائج المترتبة عليها   حركات التمرد في مصر في بداية العهد العثماني 1517-1524م والنتائج المترتبة عليها Emptyالجمعة 2 ديسمبر - 18:14



حركات التمرد في مصر في بداية العهد العثماني 1517-1524م والنتائج المترتبة عليها





د. أسامة محمد أبو نحل


الأستاذ المساعد في التاريخ الحديث ورئيس قسم التاريخ
كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الأزهر ـ غزة
1424هـ/2003م
--------------------------------------------------------------------------------
ملخص
تؤرّخ هذه الدراسة مرحلةٍ مهمة من تاريخ مصر العثمانية، التي شهِدت مرحلة التمرد في مصر في بداية العهد العثماني (1517 ـ1524م) والنتائج المترتبة عليها. فقد أفاض كثيرٌ من المؤرخين والباحثين في التأريخ لاستيلاء العثمانيين على مصر، غير إن قلة منهم تحدّثت باقتضاب عن حركات التمرد التي اشتعلت ضد الوجود العثماني فيها في بداية عهدهم بها، بينما تجاهلها الآخرون تجاهلاً يكاد يكون تاماً رغم أهميتها على قِصر مدتها الزمنية.
لم يبيّن هؤلاء المؤرخون الدوافع الرئيسة لتلك الحركات، مثل حركة تمرد المماليك عام 928هـ/1522م بزعامة جانم السيفي وأينال السيفي، وحركة تمرد والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن عام 930هـ/1524م.
أما النتائج التي ترتبت على تلك الحركات، فقد أسهبت الروايات التاريخية في سردها، وكان أهمها على الإطلاق ما أصدره السلطان سليمان القانوني من مجموعة تنظيمات إدارية، أو ما أُطلق عليه اسم "قانون نامه مصر".

المقدمة
أفاض الكثير من المؤرخين والباحثين في التأريخ لاستيلاء العثمانيين على مصر، وأفاضوا في سرد تفاصيل التنظيمات الإدارية التي اتبعوها في هذه الولاية المهمة، غير إن قلة منهم اهتمت ببحث حركات التمرد التي اشتعل أوارها ضد الوجود العثماني في مصر، بينما لم يولِها الكثير أدنى اهتمام، بل تجاهلوها تماماً رغم أهميتها على قِصر مدتها الزمنية.
وأهم ما ترتّب على تلك الحركات اهتمام العثمانيين من جديد بأهمية مصر وموقعها وخشيتهم من فقدانها، فقرر السلطان العثماني سليمان القانوني إصدار ما سُمي "بقانون نامه مصر"، في محاولةٍ للحد من نفوذ السلطات الإدارية المختلفة في الولاية المصرية، خاصة سلطة المماليك. وأولى الاضطرابات التي برزت في مصر مع مطلع الحكم العثماني لها، قادها الشيخ عبد الدايم بن أحمد بن بقر، شيخ العرب في إقليم الشرقية، وذلك في عام 924هـ/1518م، بعدما خرج عن طاعة والي مصر خاير بك. وكان من قبل قد خرج عن طاعة السلطان المملوكي قانصوه الغوري من قبل. ومما يلفت النظر أن حركة التمرد التي قادها المماليك بزعامة جانم السيفي وأينال السيفي عام 928هـ/1522م، لم يوضّح المؤرخون الذين أرّخوا لها الدوافع التي من أجلها قام المماليك بها، ويأتي على رأسها عداء الأمراء المماليك للسلطة الحاكمة الجديدة، وإحساسهم بفقدان امتيازاتهم، وأنهم أصبحوا أتباعاً بعدما كانوا متبوعين.
وفيما يخص حركة التمرد التي قادها والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن، فقد أهمل المؤرخون السبب الذي دعاه للقيام بها، وهو حقده على الصدر الأعظم إبراهيم باشا الذي سلبه هذا المنصب من وجهة نظره، فقرر الانتقام منه ومن الدولة بإعلان استقلاله بمصر وتحالفه مع شيخ العرب في إقليم الشرقية عبد الدايم بن بقر.

أما النتائج التي ترتّبت على تلك الحركات فقد أسهبت الروايات التاريخية في سردها، وكان أهمها إصدار السلطان العثماني سليمان القانوني مجموعة من التنظيمات الإدارية والقوانين ما سُمى "بقانون نامه مصر".
منهج الدراسة:
اعتمدت الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي للروايات التاريخية الخاصة بموضوع البحث على قلتها مع عدم إغفال المنهج السردي للأحداث التاريخية لِما لذلك من أهمية. وقد اعتمدت الدراسة على عددٍ من المصادر الأوّلية مثل: أخبار الأُول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول لمحمد ابن عبد المعطي الإسحاقي، والنزهة الزهية في ذكر ولاة مصر والقاهرة المعزية، والمنح الرحمانية في الدولة العثمانية، مخطوطين لمحمد بن أبي السرور البكري الصديقي، ونزهة الناظرين فيمن ولي مصر من الخلفاء والسلاطين، مخطوط لمرعي بن يوسف الحنبلي، وأوضح الإشارات فيمن تولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات، مخطوط لأحمد شلبي عبد الغني.
وكذلك المراجع الثانوية، مثل: العرب والعثمانيون لعبد الكريم رافق، وجذور مصر الحديثة لدانيال كريسيليوس، والحياة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر لإستيف.
إرهاصات حركات التمرد في مصر العثمانية:
بات من الأدبيات التاريخية ما يمكن اعتباره أن الفتح العثماني للأقاليم العربية التي كانت خاضعة من قبل لسيطرة السلطنة المملوكية، قد أصبح بداية عهد لأوج الدولة العثمانية، غير أن الباحث لتلك الفترة التاريخية المهمة في تاريخ المنطقة يجد أن العثمانيين قد ارتكبوا أخطاءً إداريةً كان أهمها في الإقليم المصري ما جعل نفوذهم فيه في مهب الريح لفترةٍ من الزمن.
صحيح أن الفتح العثماني للأقاليم العربية 922-923هـ (1516-1517م)، قد وضع نهايةً مؤلمة للسلطنة المملوكية في الشام ومصر، وبالتالي أعاد تشكيل شخصية واهتمامات الدولة العثمانية ذاتها، غير أن الاعتبارات والمصالح العثمانية تقدّمت على المصالح الطبيعية لمصر في الأقاليم المجاورة لمدةٍ طويلةٍ من الزمن، ومع ذلك فقد ظلت مصر هي القاعدة التي يشع منها النفوذ العثماني على أغلب هذه المناطق ذات الأهمية التاريخية بالنسبة لمصر(1).
ومما يجدر ذكره أن استيلاء العثمانيين على مصر وغيرها من الأقاليم العربية، قد حدث عندما وصلت دولتهم ذروة مجدها، وكادت تصل إلى أقصى حدود اتساعها، أي أن الاهتمام العثماني بالمنطقة العربية إنما حدث عندما اجتازت دولتهم عهد الشباب الدافق، ودخلت في طور الكهولة المكتملة، فوصلت إلى حدود التوسع والاعتلاء من الوجهتين المادية والمعنوية(2)، وهذا ما يؤكّد صحة ما ذكرناه آنفاً.
ولمّا استولى العثمانيون على مصر وغيرها من الأقاليم العربية لم يحاولوا صِبغة أهالي هذه الأقاليم بالصِبغة العثمانية أو يربطوهم برباط الحضارة العثمانية أو حتى أن يوجدوا بينهم شيئاً من التعاون المتبادل أو لوناً من النشاط المشترك، بل اتبعوا المبدأ نفسه الذي ساروا عليه في كل أملاكهم تقريباً، وذلك بأن تركوا العناصر الأصليّة في حكم البلاد المفتوحة بعد إجراء بعض التعديلات التي تضمن لهم بقاء السيادة والسيطرة، بحيث سارت شعوبها على ما ألِفته من عادات وتقاليد لا يضيرها إلاَّ تعسف ولاتها في بعض الأحيان ومفاسد الحكم والإدارة، وكانت عناصر هذا الفساد في أغلبها موروثة عن فترة الحكم المملوكي وليست كلها مستحدثة في العصر العثماني(3).
إن ما تميّز به الحكم العثماني في بداية عهده لمصر؛ أنه كان حكماً غير مباشر رغم مركزيته، لكنّه غير شامل، فالنظام الذي أسسه العثمانيون في مصر كان في حقيقته خليطاً من عناصر عثمانية ومملوكية، فالقوات المملوكية التي بقيت بعد هزائمها في مرج دابق في الشام والريدانية في مصر أُعطيت لها واجبات وتم دمجها في الوحدات العسكرية العثمانية أو شُكّلت في وحدات منفصلة خاصة واُستعين بها كقواتٍ احتياطية بمعرفة القادة العسكريين العثمانيين. ونجح النظام الإداري العثماني الجديد في امتصاص كل الموظفين العاملين في النظام المملوكي المهزوم، ويبدو أن الهدف من وراء هذا الدمج والامتصاص كان توفير الخبرة والاستمرار للنظام العثماني الجديد(4).
لقد منحت الإدارة العثمانية في مصر حكومات الأقاليم المصرية أو ما يُطلق عليه اسم السنجقيات والكاشفيات لبكواتٍ من المماليك، رغم أن العنصر المملوكي لم يكن عنصراً أصيلاً في حكم مصر، لكنه على أية حال أقدم من العنصر العثماني، والسيادة المملوكية على مصر كانت أسبق من السيادة العثمانية. وقد ظلت مصر تحيا الحياة التي كانت تحياها في عصر سلاطين المماليك فيما عدا الخزنة السنوية والخطبة والسكّة وملكية السلطان نظرياً للأرض(5). ومن أهم البكوات المماليك الذين تسلّموا منصب الكشوفية في بداية العهد العثماني لمصر، أينال السيفي وجانم السيفي(6).

يتضح لنا مما سبق ذكره أن تعيين البكوات المماليك في تلك المناصب المهمة؛ إنما كان تمشّياً مع مبدأ العثمانيين في إيجاد نوعٍ من التوازن بين القوى الحاكمة في مصر، لبقائها دوماً تحت سيطرتهم.
استمر السلطان سليم الأول في إدارة شؤون مصر وضبط خراجها في أثناء وجوده بها، رغم تعيينه لأحد وزرائه وهو يونس باشا كنائبٍ عنه في حكم الإقليم المصري، وكان يُلقّب بنائب السلطنة طيلة وجود سليم في مصر؛ لكن الأخير قُبيل مغادرته الأراضي المصرية عام 923هـ/1517م، عزل يونس باشا وعيّن عِوضاً عنه الأمير خاير بك أحد أمراء السلطان المملوكي قانصوه الغوري، بعدما أثبت له إخلاصه وأبقى على لقبه الذي كان يُلقّب به من قبل وهو "ملك الأمراء"(7). ويبدو أن سليماً وافق على جعل مصر تحت حكم خاير بك طيلة حياته(Cool بعدما ترك له بها من القوات العثمانية نحو خمسة آلاف فارس، إضافةً إلى نحو خمسمائة من الرماة(9).
نجح خاير بك إبان ولايته على مصر في استتباب الأمن فيها بعدما أطلق سراح عدد كبير من المماليك الجراكسة ومنحهم الأمان، وفي هذا يقول المؤرخ ابن إياس: "… وفي يوم السبت خامس عشرينه (أي شهر شعبان 923هـ) نادى خاير بك في القاهرة بأن المماليك الجراكسة تظهر وعليهم أمان الله تعالى. فظهر منهم الجمّ الغفير وهم في سوء حال"(10).
ويبدو أن خاير بك جابه خلال فترة ولايته اضطراباً أمنياً محدوداً من جانب القبائل العربية في إقليم الشرقية قادها شيخ العرب عبد الدايم بن بقر، وقد فشل خاير بك في استمالته، مما اضطره إلى تعيين والده الشيخ أحمد بن بقر في مشيخة جهات الشرقية، فازدادت الاضطرابات بعدما نهب الشيخ عبد الدايم وأعوانه منية غمر وأحرقها وغيرها من القرى في الشرقية، ويؤكّد ابن إياس ذلك بقوله: "وفي يوم السبت تاسعه (أي شهر صفر 924هـ) قويت الإشاعات بعصيان عبد الدايم؛ وأن قد التفّ عليه عربان كثيرة من الشرقية والغربية، وطرد أباه الأمير أحمد من الشرقية، واضطربت أحوال الشرقية إلى الغاية"(11).
وبعدما توفى خاير بك عام 928هـ/1522م، تعاقب على حكم مصر عدة ولاة منهم مصطفى باشا زوج أخت السلطان سليمان القانوني الذي نعته البعض بأنه عنجهيٌ، متعاظم على المصريين، ومترفّعٌ عن التعرّف بهم(12). بينما نعته آخرون بأنه متديّنٌ، محبٌ لعمله، وحسن السيرة(13)، وفي عهد هذا الوالي حدث أول تمرد مملوكي في مصر، وهو ما سنأتي على تفاصيله.
تمرد أينال السيفي وجانم السيفي على الحكم العثماني:
يحق للمرء التساؤل عن الدوافع التي دعت اثنين من قادة المماليك للتمرد والثورة على الحكم العثماني في مصر. فالدافع الأول لهذا التمرد هو أن بعضاً من الأمراء المماليك رغم انهيار سلطنتهم تماماً عام 923هـ/1517م، فإنهم ظلوا يكنّون العداء والضغينة للعثمانيين؛ ومما يدلّل على ذلك انضمام الكثيرين منهم لحركة التمرد التي قادها والي الشام جان بردي الغزالي، الأمير المملوكي الذي عيّنه السلطان سليم الأول في أثناء عودته للآستانة، وهؤلاء كانوا من المماليك الناقمين على والي مصر خاير بك، الذي بطش بهم فيما بعد(14).
أما الدافع الثاني أن بعضاً من المماليك قد أحسّوا؛ أنهم في ظل العهد الجديد قد فقدوا امتيازاتهم وجاههم، بينما قبِل البعض الآخر سياسة الأمر الواقع بالخضوع للحكم العثماني(15). ويتمثّل الدافع الثالث وهو الأهم؛ أن متزعمي التمرد كانوا من المخلصين لآخر سلاطينهم طومان باي حتى بعد إعدامه حيث عمد أحدهم وهو أينال السيفي لقتل الشيخ حسن بن مرعي وأخيه شُكر وهما اللذان سلما السلطان طومان باي للسلطات العثمانية لتقوم بدورها بإعدامه(16).
نستنتج مما سبق ذكره أن ولاء المماليك المهزومين للحكام الجدد لم يكن قد ترسّخ بعد، مما دعاهم للقيام بحركات تمرد ضدهم في محاولةٍ لإعادة مجدهم الذي داسه العثمانيون، فأصبحوا أتباعاً بعدما كانوا متبوعين، لهم الصولة والجولة.
ومهما يكن من أمر، فإنه طيلة فترة ولاية خاير بك على مصر لم تأخذ أية ثورة على السيادة العثمانية مكانها، لكن بعد وفاته أصبحت سلطة السلطان الجديد سليمان القانوني على المحك، حيث بدأ بمجابهة حركات التمرد التي لم تظهر في عهد أبيه سليم، فقضى في عام 927هـ/1521م على حركة والي الشام الأمير جان بردي الغزالي، وبعدها بعام جوبه بحركة جديدة في مصر تزعمها اثنان من قادة المماليك هما أينال السيفي كاشف الغربية التي تقع في الجزء الغربي من الدلتا على الضفة اليمنى لفرع رشيد من النيل، وجانم السيفي كاشف البهنسا والفيوم في مصر الوسطى(17). وكان تعيين السلطان سليمان لمصطفى باشا والياًَ على مصر بعد خاير بك في محله، فقد كان ذا شأنٍ بما فيه الكفاية؛ إذ لم يكن من نخبة المماليك وإنما عثمانياً ذا مكانة سامية مرموقة وصهراً للسلطان وكفواً لمواجهة الخطر المحدق بأهم الولايات العثمانية في الشرق(18).
ويبدو أن قادة التمرد قد استحسنوا التعبير عن رؤيتهم للنخبة العسكرية لقدامى المماليك وذلك بتباهيهم بشجاعتهم وبسالتهم وازدرائهم للأسلحة النارية الحديثة التي بواسطتها تمكّن العثمانيون من قهر سلطنتهم، وتقليلهم من شأن السلطان سليمان الذي كان صغير في السن، وذلك بقولهم أنه لو قدِم بنفسه لمحاربتنا فسوف نهزمه، فنحن لن نترك هذه البلاد لهؤلاء التركمان الذين لا يعرفون قتال الفروسية(19).

وجاهر الثائرون بعدم طاعتهم للسلطان العثماني وتوجهوا نحو إقليم الشرقية الواقع إلى الشرق من دلتا النيل وهي منطقة استراتيجية حيث يكون في مقدورهم قطع المواصلات بين مصر وبلاد الشام، كما أنهم تحكموا بطريق المواصلات والمؤن بين الصعيد والقاهرة(20).
وكان أينال السيفي قد وصل إلى الشرقية قبل جانم السيفي، وقد انضم إليه بعض المماليك وبعض القبائل العربية بالشرقية، فصمم الوالي مصطفى باشا على قمع هذا التمرد قبل أن يتفاقم أمره ويخرج عن السيطرة والتوجه بنفسه لمقاتلتهم، غير أن القاضي موسى بن بركات والمعروف في المصادر التاريخية باسم الزيني بركات(21) ألحّ على الباشا بالتريث في شأن القتال، وطلب منه أن يكتب لزعماء التمرّد كتاباً بالأمان والعفو ووعده بإحضارهم إليه، فاستجاب الباشا لطلبه، وتوجه إلى معسكر المتمردين لإقناعهم بالتسليم، غير أن فصاحته فشلت في إغراء أينال السيفي، الذي قطع رأسه كخائنٍ للقضية المملوكية(22).
وفي اليوم التالي انضم جانم السيفي إلى حليفه أينال وبقيا معاً في الشرقية في انتظار وصول أعيان المماليك الذين كانوا على علمٍ مسبق بالمؤامرة وتخلّفوا عنهم، ولمّا سمع مصطفى باشا بمقتل الزيني بركات اشتاط غضباً وأمر بتشكيل حملة مسلحة مؤلفة بالكامل من الفرق العثمانية وجعل قيادتها لموسى أغا الإنكشارية وسليمان أغا التفكنجية، وفي الشرقية دارت رحى معركة انتهت بمقتل جانم بعدما تعثّر عن فرسه ووقع فقطع العثمانيون رأسه، بينما تمكن أينال من الفرار باتجاه غزة واختفى نهائياً ولم يعُدْ له ذكر، وادّعى البعض من الجهلة السذّج، أنه ارتدى طاقية غير مرئية لا يراه أحد إذا لبسها(23).
أمر مصطفى باشا بتعليق رأس جانم السيفي على باب زويلة في القاهرة لإرهاب من تسوّل له نفسه من المماليك في الخروج عن طاعة السلطة العثمانية، ثم أرسلها فيما بعد إلى السلطان سليمان في الآستانة، الذي شكره بدوره على صنيعه وأرسل له قفطاناً هديةً وأمر بترقية جميع العساكر الذين أسهموا في القضاء على التمرد(24).
تمرد والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن
بعد أن تمكن مصطفى باشا من إنهاء حركة التمرد التي قادها المماليك هدأت الأمور في مصر؛ لكنه هدوءاً مؤقتاً؛ إذ سرعان ما تفاقمت حركة تمرد جديدة بعد ما يزيد عن العام، فبعد عام وعشرة أشهر من تولي مصطفى باشا الولاية في مصر تم عزله في 16 ذي الحجة 928هـ، وحلّ محله قاسم جزل باشا الذي بقي والياً على مصر لمدة عام واحد فقط ثم عُزل وتولى منصبه أحمد باشا في صفر 930هـ(25).
وثمة سببٌ أدّى إلى تولي أحمد باشا ولاية مصر، فقد أسهم المذكور في الفتوحات العثمانية في أوروبا، خاصةً في البلقان، وطمِع في تولي منصب الصدارة العظمى بسبب المرض العضال الذي ألمّ بالصدر الأعظم محمد باشا الصدّيقي، فأعجزه عن الحركة وطلب إعفائه من الخدمة، وعيّن مكانه "أود باشا"، وكان أحمد باشا أقدم منه وكان يتوقع أن يتولى هو المنصب، غير أن منافسه إبراهيم باشا نجح في الحصول على هذا المنصب؛ ولكي يُبعِد أحمد باشا عن الآستانة، عيّنه والياً على مصر بعد موافقة السلطان تعزيةً له عن المنصب الأهم ـ الصدارة العظمى، ويبدو أن هذا التعيين لم يمنع حالة العداء المستحكم بين الرجلين لفارق الأهمية بين منصبيهما(26).
ومهما يكن من أمر؛ فقد استمر أحمد باشا فور توليه حكم مصر في إلحاق الموظفين والقوات المملوكية في جهازه(27) لأمرٍ دبّر له على ما يبدو هو الانتقام لذاته من الخيبة في الحصول على منصب الصدارة العظمى.
ويبدو أن أحمد باشا كان من الرعونة بمكان، أنه تعجّل إعلان تمرده على السلطان العثماني قبل أن يُكمل استعداداته بفعل قوة الحقد والعداء الذي يكنّه للصدر الأعظم إبراهيم باشا فانفجر في أعماقه الضغط النفسي الدفين وتذرّع بذريعةٍ واهيةٍ لإعلان تمرده لكسب الأنصار من حوله؛ بادّعائه أن السلطان سليمان أرسل تعليماتٍ لقائد الإنكشارية في القاهرة باغتياله وقتل أمراء المماليك، كما ادّعى أنه ألقى القبض على حامل الكتاب الذي به تلك التعليمات، ومن ثمّ أصبح ذا مزاجٍ حاد ومستبد، وقام بمصادرة ثروات أعيان مصر وأمر بقتل كبار الضباط العسكريين(28).
وقد توفر لأحمد باشا في مصر العديد من عناصر الثورة والتمرد الضرورية، في مقدمتها بُعد مصر الجغرافي عن مركز الدولة العثمانية، ثم يلي ذلك ما تتمتع به مصر من غنىً وكِبر مساحتها، ووجود المماليك الناقمين فيها على الحكم العثماني، والذين يجمع بينهم وبينه النسب الجركسي القوقازي(29)، متوهماً أن تلك العناصر كفيلة بتحقيق نجاحٍ باهرٍ في تهديد الوجود العثماني في مصر.
ومن بين الذين استهدفهم غضب أحمد باشا، الأمير جانم الحمزاوي(30) ذو الأصل المملوكي ومن كبار الأمراء في مصر ومحمود بك، وعندما حاول قائد الإنكشارية التوسّط لديه من أجل إطلاق سراح جانم الحمزاوي، اعتقله بدوره ثم قتله(31). والواقع إن تخلص أحمد باشا من قائد الإنكشارية لم يكن حادثاً عرضياً بل متعمداً لسببين اثنين هما: اعتقاده أولاً بأن هذا القائد هو الذي رشحه السلطان سليمان لتولي نيابة مصر عوضاً عنه بعد التخلص منه. وثانياً أن فرق الإنكشارية كانت موالية للسلطان العثماني وتمكنت من كسب ثقته بصورةٍ مطلقة، ويبدو أن أحمد باشا أراد تحطيم الروح المعنوية لتلك الفرق العسكرية عن طريق قتل قائدهم(32).
إن الإجراءات السالف ذكرها أقنعت أحمد باشا أن علاقته بالسلطة المركزية العثمانية قد وصلت إلى نقطةٍ لا يجوز له العودة عنها، وأن قانون المرحلة يقتضي منه الاندفاع قُدماً في مخططه إلى آخر الشوط مهما كلفه الأمر، معتمداً على أعوانه الذين ربما منّوا أنفسهم بإمكانية تحقيق الانفصال عن الدولة العثمانية، وأن يُصبح لهم شأوٌ ذو أهمية في الدولة المنتظرة.
انتقل أحمد باشا فيما بعد للشروع في الثورة، في مطالبته بحقه في سلطنة مصر وإصراره على امتيازاته الملكية في ذكر اسمه في خطبة الجمعة وسك اسمه على العملة. وفي تلك الأثناء ابتنى جيشاً خاصاً به غالبيته إلى حدٍ بعيد من المماليك، وطلب من الإنكشارية التي تحصّنت في قلعة القاهرة بالانصياع له، فلما رفضت فرض عليها الحصار، وأمام قسوة الحصار اضطر هؤلاء من شق طريقهم عن طريق نفقٍ سري تحت الأرض داخل الحصن، فسقطت القلعة بيد أحمد باشا في 7 شباط (فبراير) 1524م، ثم أعلن نفسه سلطاناً في الثاني عشر من الشهر نفسه، وذكر اسمه في الخطبة وعلى السكّة(33).
بعدما تغلّب أحمد باشا على مناوئيه الخطيرين، حاول فعل أي شيء لإضفاء الشرعية على مركزه ومنصبه الجديد؛ بأن طلب من فقهاء المذاهب الأربعة في مصر ومن سليل البيت العباسي ابن آخر خليفة عباسي مهمش حلف اليمين له. ولم تذكر المصادر التاريخية إطلاقاً كم كان عدد المؤيدين لحركته والذين وثِقوا به؛ لكن الواضح أنه أكثر من مصادرة الأملاك وممارسة الابتزاز ضد اليهود والمسيحيين، كما عمد لكسب حلفاء جدد له من خارج القاهرة فمنح حق ضرائب الأراضي الزراعية لمنطقة الشرقية لشيخ العرب عبد الدايم بن بقر، الذي كان قد ثار من قبل على حكومة خاير بك، وقد أدّى هذا التحالف إلى تهديد الحدود المصريةـ الشامية(34).
وأمام تفاقم الأوضاع في مصر وتدهورها وخشية السلطة المركزية العثمانية من فقدان أهم ولاياتها في الشرق الإسلامي عمدت إلى استخدام سلاح لا يقل خطورة عن السلاح الذي يُستخدم في المعارك الحربية؛ إن لم يضاهه أهميةً ويفوقه وهو سلاح الدعاية (أو ما يُطلق عليه في أيامنا باسم حرب الشائعات). ويبدو أن العثمانيين نجحوا في استخدامه إلى حدٍّ بعيد، حيث أشاع العثمانيون في القاهرة أن أحمد باشا الذي تم تلقيبه بالخائن على علاقةٍ وطيدة بالصفويين الذين يحكمون في بلاد فارس ويعتنقون المذهب الشيعي، وأنه تحت إغراء ظهير الدين الأردبيلي تحوّل عن المذهب السّنّي، وأصبح من أتباع الشاه إسماعيل الصفوي. وكان ظهير الدين الأردبيلي قد استقر في إحدى المقاطعات العثمانية وتظاهر بولائه للمذهب السُنّي وقد رأى الأردبيلي أن من المناسب الكشف عن سرّه وماهيته وإظهار حقيقة أمره لكي يُحوّل أحمد باشا إلى اعتناق المذهب الشيعي، وليؤكّد بأن أملاك السّنّة قد أصبحت غنائم شرعية(35).
ويبدو أن العثمانيين استخدموا تلك الوسيلة الدعائية بمهارة لتشويه سمعة أحمد باشا بين أتباعه من ناحية والأهلين في مصر من ناحية أخرى؛ ذلك لخشيتهم من قيام تحالفٍ فعلي بين والي مصر والشاه إسماعيل الصفوي(36). ونجحت الدعاية بالفعل واتت أُكلها رغم افتقارها إلى الدليل المادي في إثارة الأهلين ضد أحمد باشا، وأعلن قضاة المذاهب الأربعة كفره وأوصوا بالجهاد ضده(37).
وكان من النتائج التي ترتبت على هذه الدعاية انهيار قوة أحمد باشا بشكلٍ فُجائي وعلى نحوٍ دراماتيكي؛ إذ حدث انقلابٌ مضاد تم تخطيطه من جانب الأمير جانم الحمزاوي الذي نجح في فك أسره مع أحد المسئولين العثمانيين إضافةً لأحد الأعيان المماليك، فنصبا صنجقاً (رايةً) سلطانياً، وناديا من أطاع الله ورسوله والسلطان فليقف تحت هذا الصنجق، وتمكنا من جمع الكثير من الأهلين وفاجأوا أحمد باشا في 23 شباط (فبراير) 1524م/930هـ، وهو في الحمّام. وبينما كانت قواتهم تشتبك مع مؤيديه نجح في الفرار من خلال الأسطح ولم يكن بعد قد أتمّ حلاقة رأسه، وتمكن من الوصول إلى الشرقية والتجأ عند الشيخ عبد الدايم بن بقر، ونهب أعداؤه كل ما يملكه من عتادٍ وسلاح(38).
تمكن أحمد باشا خلال وجوده في الشرقية من تأسيس قوة عسكرية قوامها في الغالب من العربان والجراكسة وبعض العثمانيين، وتعهّد لهم باسترداد القاهرة ونهبها، كما كفل للقبائل العربية الإعفاء التام من الضرائب لمدة ثلاث سنوات، وفي تلك الأثناء كان المجلس السياسي الموالي للعثمانيين في القاهرة قد تولّى الإدارة، وعيّن مجلسُ الأعيان العسكريُّ الأمير جانم الحمزاوي لقيادة الإنكشارية وزملاءهُ المماليك لقيادة قوات الخيالة الجراكسة، كما تم تعيين القائد العثماني كحاكمٍ للقلعة، وأُعلنت في القاهرة التعبئة العامة للجيش للمشاركة في التخلص من أحمد باشا الذي تم وصمه بالخيانة والكُفر لموالاته الشاه إسماعيل الصفوي(39).
تسارعت الأحداث فيما بعد بصورةٍ حثيثة وأرسلت الحكومة الجديدة التي تم تعيينها في القاهرة حملة صغيرة لإلقاء القبض على أحمد باشا، لكنها باءت بالفشل، مما اضطر الأمير جانم الحمزاوي لقيادة حملة عسكرية مؤلفة من ألف مقاتل مع تسعة مدافع لمواجهة المتمردين. ويبدو أن تلك الحملة ساعدها الحظ في النجاح بسبب الانشقاق الذي دبّ بين الجماعات العربية المنشقة المنافسة التي ترامى لمسامعها أن نحو ألف من الجند الإنكشارية قد نزلوا إلى الإسكندرية، فحثّ كلاً من والد الشيخ عبد الدايم وأحد أبنائه، عبد الدايم عن التخلي عن أحمد باشا لكي يحفظوا أنفسهم من الدمار والقتل الذي سيلحقه بهم العثمانيون.

وأمام إلحاح أقاربه اضطر الشيخ عبد الدايم للإذعان، فأخذت قوات أحمد باشا بالتلاشي تدريجياً، مما أدّى إلى إلقاء القبض عليه في أثناء القتال وقطع رأسه في 6 آذار 1524م/930هـ، وحُملت رأسه إلى القاهرة وتم تعليقها على باب زويلة، وبعد فترة تم إرسالها إلى الآستانة ليتأكد السلطان من الإجهاز على تمرده، ويعتبر أحمد باشا الأول من عدة ولاة حمل لقب ثابت وبارز هو الخائن(40).
وقد شاءت الصدفة أن يُلاقي أحمد باشا مصيره بالقتل بعد أسبوع فقط من مقتل ظهير الدين الأردبيلي، الذي قُتل في 20 ربيع الأول 93هـ/26 شباط (فبراير) 1524م(41).
النتائج المترتبة على حركات التمرد:
أدّى القضاء على حركات التمرد السالفة الذكر إلى نتائجَ غايةً في الأهمية؛ فقد أحسّت السلطة المركزية في الآستانة بضرورة إجراء تعديلات إدارية في أنماط الحكم في مصر خشيةً من فقدانها للأبد، أو استهانة المماليك والولاة ذوي النزعة الانفصالية في مقدرة الدولة العثمانية على إبقاء مصر تحت سيطرتها، فاستلزم الأمر من العثمانيين إعادة فتح مصر مرة أخرى، لكن هذه المرة ليس فتحاً عسكرياً بل إدارياً، فأرسلت الدولة جيشاً عثمانياً تحت قيادة الصدر الأعظم "إبراهيم باشا" الذي حمل لقب والي مصر أيضاً، كما منحته الدولة أيضاً حق إجراء تنظيم البلاد من جديد بواسطة مجموعة التنظيمات الصادرة تحت رعاية السلطان سليمان القانوني والمُسماة "قانون نامه مصر" عام 1524م(42).
بقي إبراهيم باشا في مصر أسابيع عدّة فقط (شهرين وأربعة وعشرين يوماً)، لكنه ترك فيها ذكرى طيبة لولايته من خلال قانون نامه مصر، هذا المرسوم الذي جمع القوانين الإدارية ونسّقها وعمل على تطبيقها(43). وقد أكّد محمد بن أبي السرور البكري الصديقي بقوله: "وقد أحاط (أي إبراهيم باشا) بأحوال مصر ورتّب الديوان والعساكر والجيوش وكتب قانوناً لطيفاً وارتفاع الأقاليم وضبط مقاطعاتها وطينها من السلطاني والأوقاف، وجعل لها قطايع معلومة بموجب دفاتر الجراكسة القديمة (السلطنة المملوكية السابقة) وأودعها ديوان مصر"(44).
وبناءً على ما سبق، فالدولة العثمانية قررت بذلك وضع نظام معقّد من التوازنات والاختبارات العسكرية والبيروقراطية في محاولةٍ منها لتقليل فرص طموحات ولاتها في مصر في المستقبل(45).
ويتكوّن قانون نامه مصر من جزء ين رئيسين: الأول ـ يتناول المؤسسة العسكرية في مصر، وتألّف من ست فرق من الجنود أو ما سُمي بالأوجاقات(46)، وبيانها كالتالي:
1ـ أوجاق الإنكشارية (المستحفظان): ووظيفته حراسة القاهرة ومداخلها، إضافةً إلى تولي مهام الشرطة في العاصمة وبعض المدن المصرية الكبرى.
2ـ أوجاق العزبان: ومهامه كثيرة ومماثلة لمهام المستحفظان. وهذا الأوجاق يتولى حراسة أعمال الدورية في النيل بالقوارب، لكن هذا الأوجاق أقل عدداً ورواتبَ من المستحفظان.
3ـ أوجاق الجاووشان (الجاويشية): ويعمل كحرسٍ خاص للوالي ويؤدي وظيفة حمل الأوامر الصادرة عن الوالي إلى الجهات المُرسلة إليها.
4ـ أوجاق التفنكجيان (التفقنجية): وهم عبارة عن رماة.
5ـ أوجاق الجوكلليان (الهجّانة): وينطقها المصريون "الجموليان" بمعنى راكبي الجمال، وهم من المتطوعين الذين عملوا في الأقاليم.
6ـ أوجاق الجراكسة: وهم الخيّالة من بقايا النظام المملوكي ومهمتها مشابهة لمهام أوجاقي الخيّالة التفنكجيان والجوكلليان.
وقد أُضيفت فيما بعد لتلك الأوجاقات، أوجاق آخر في عام 1554م هو المتفرّقة وهو الحرس الخاص للوالي أيضاً بحيث مكّنه من المحافظة على سلطته بين الأوجاقات العسكرية حتى القرن السابع عشر الميلادي(47).
والواضح أن السلطان سليمان إنما أراد بتأسيس تلك الأوجاقات ودعمها، أن تكون بمثابة جيشٍ احتياطي(48) يمكن الاستعانة به وقت الحاجة إليه في حروب الدولة العثمانية الخارجية.

أما الجزء الآخر من هذا القانون فهو وصف للإدارة المدنية التي ورثت بعض السمات من السلطنة المملوكية السابقة(49)، وهي مختصة بإدارة البلاد. ويكون على رأس هرم هذه الإدارة والٍ يقيم في قلعة القاهرة وهو الموظف التنفيذي الأول وممثل السلطان العثماني في ولاية مصر، ويحمل لقب باشا، وله القيادة الاسمية لقوات الحامية العثمانية فيها؛ لأن سلطته على هذه القوات كانت غامضة وضعيفة. وكان يتم اختياره وتعيينه بواسطة الديوان السلطاني في الآستانة من بين الوزراء الكبار في الدولة، ومن المهام الصعبة المُلقاة على كاهله في مصر المحافظة على النظام والانضباط بين قوات الحامية العسكرية، وكشف أية مطامح عسكرية لدى الزعامات المملوكية(50).
كان الوالي بناءً على قانون نامه يباشر مهامه ويُصدر أوامره من خلال الديوان(51) في مصر، وهو مجلس مكوّن من كبار الموظفين الدينيين والإداريين والعسكريين في الجهاز العثماني في ولاية مصر(52)، وسلطة الوالي (الباشا) متمثلة في رئاسته للديوان والتصديق على قراراته وإعطاء الأوامر لوضعها موضع التنفيذ، وكان الهدف من إنشاء هذا الديوان الحد من سلطة الباشا(53)، الذي كان يساعده في الحكم الكيخيا (الكتخدا)(54) والدفتردار(55) حيث كانا يتلقيان منه الأوامر قبل المداولات ثم يحيطانه علماً بالقرارات التي أعقبت أوامره(56).
لم يكتفِ السلطان بوضع والٍ على مصر يحكمها نيابةً عنه؛ لذا أنشأ سلطات عدّة أخرى للحد من نفوذه، فكان قاضي القضاة هو الموظف القانوني الأول في الولاية ويتم انتخابه من بين طائفة العلماء بواسطة السلطات في الآستانة، ثم يتم إرساله إلى مصر لإدارة النظام في المحاكم العثمانية، وكان من بين واجبات قاضي القضاة مراقبة أعمال الوالي والتأكّد من صحة تنفيذه الأوامر السلطانية وإحاطة الديوان السلطاني علماً بسلوك هذا الوالي، وكان احتجاج قاضي القضاة إلى الديوان السلطاني بشأن تصرفات الوالي كفيلاً بإقالة الأخير من منصبه وإعادته إلى الآستانة(57).
وهنالك الروزنامجي(58) الذي كان رئيس الديوان المختص بجمع الأموال الأميرية التي يتم تحصيلها من الأرض والجمارك، ويُسمى هذا الديوان ديوان الروزنامة. ويُشار إلى أن الروزنامجي كان يتم تعيينه من الآستانة مباشرةً حتى النصف الثاني من القرن السابع عشر، عندما تدهورت الإدارة العثمانية في مصر، فوقع المنصب تحت سيطرة البيوت المملوكية خلال القرن الثامن عشر(59).
كما أنشأ السلطان سليمان مناصب إدارية جديدة قوامها 24 رتبة "بك طبلخانة" ـ أي يكون لأصحابها الحق في أن تصحبهم فرقة موسيقية. وقد أُسندت لاثني عشر منهم مهام خاصة ومحددة ، بينما أُوكلت للآخرين مهامٌّ استثنائيةٌ أو أن يحلّوا محل زملائهم الذين كانت تزول عنهم وظائفهم بعد مضي عام من ممارستهم لها. والإثنا عشر بكاً الأوائل فهم الذين تتشكّل منهم الإدارة المحلية لمصر وهم: كيخيا الباشا ـ أي نائبه، وأمير الحج ووظيفته مراقبة شؤون الحج ومرافقة الحجاج وتوزيع الهبات على فقراء المدن المقدسة في الحجاز، والخازندار ومهمته حمل الخراج سنوياً إلى الآستانة ويُسمى أمير الخزنة، والقبودانات وعددهم ثلاثة يحكمون ثغور الإسكندرية ودمياط والسويس، إضافةً إلى الروزنامجي كما سبق الإشارة(60).
ولم يكن كل البكوات الكبار وعددهم 24 بكاً والذين رُفّعوا إلى هذه الرتبة من جانب الدولة العثمانية في القرن السادس عشر الميلادي من طبقة المماليك، فقد كان البعض كالدفتردار والقبودانات الثلاثة قادة الأساطيل في المدن المذكورة آنفاً يتم تعيينهم من بين أصحاب الرُّتب العثمانيين(61).
ويبدو أن المماليك رغم حركة التمرد التي قادها جانم السيفي وأينال السيفي لم تهتز مكانتهم كثيراً، ولم يتأثروا بنتائج تلك الحركة، فقانون نامه مصر قد يوحي للوهلةِ الأولى بهيمنة النظام العثماني وسيطرته على البناء المملوكي المهزوم، إلاَّ أن هذا النظام كان في حقيقته نوعاً من الحكم العثماني ـ المملوكي الثنائي؛ لأن المماليك تم منحهم مناصب سلطوية رفيعة في هذا النظام الجديد، بل اندمجت السلطة العثمانية واقعياً مع القوة العسكرية والإدارية المملوكية، ورغم أن تقدماً ملموساً وملحوظاً قد تم في أعقاب إعلان قانون نامه مصر فيما يتعلق بعثمنة الإدارة في مصر وخاصةً في شأن إجراءات جمع الإيرادات فإن عدم قدرة النظام العثماني الجديد على كبح جماح المطامح السياسية المملوكية أدّى فيما بعد إلى فقدان الدولة العثمانية السيطرة الفعّالة على مصر بشكلٍ عام مع مطلع القرن السابع عشر(62).
والحقيقة التي لا يختلف بشأنها اثنان أن السلطة التنفيذية بقيت في أيدي البكوات المماليك، فأسند إليهم السلطان حكم مديريات الولاية المصرية، لكنه حرمهم من التعيين في الديوان. وما كان ذلك من جانب السلطان إلاَّ لخلق عدة قوى متنافسة أحياناً ومتصارعة أحياناً أخرى، ولكي يصعُب عليها الاتفاق فيما بينها على سياسةٍ واحدةٍ تتعارض مع سياسة الدولة العليا(63).

وقد استمر هؤلاء البكوات المماليك الذين أصبحوا يحكمون مديريات الولاية المصرية يُسمون بنفس ألقابهم القديمة زمن السلطنة المملوكية ـ أي كُشّافاً وتُسمى مديرياتهم سناجق، وكانت واجباتهم الرئيسية تتعلق بصيانة أعمال الري التي يعتمد عليه رخاء البلد، وجمع الضرائب التي يدفعها الفلاحون، وإقامة الترع والمصارف والجسور، لِما لذلك من أهميةٍ تتعلق بنمو الحاصلات الزراعية التي تُعتبر عماد ثروة البلاد(64).
وشملت قوائم قانون نامه مصر أسماء أربعة عشر من نواب الولايات باسم كُشّاف. ثلاثة عشر منهم حكموا في مصر السفلى ومصر الوسطى وآخر حكم في واحة الخارجة النائية في الصحراء الغربية، بينما بقيت مصر العليا من أسيوط جنوباً تُحكم إدارياً بواسطة شيوخ العرب من بني عُمر الذين وُصفوا في قانون نامه بأنهم يؤدون مهاماً شبيهةً بوظائف الكُشّاف. ورغم أنه كان يقع بين الفينة والأخرى اصطدامٌ بين الإدارة العثمانية ومشايخ القبيلة، فإنهم لم يُجرّدوا من نفوذهم إلاَّ عام 1576م، عندما تم تعيين أحد البكوات كحاكمٍ على مصر العليا(65).
وبناء على سياسة العثمانيين تجاه المماليك وعدم القضاء عليهم وعلى نفوذهم، بل عدم الممانعة في جلب الكثير منهم إلى مصر ستتكرّر ثوراتهم ضد الوجود العثماني في المستقبل(66) وسيزداد نفوذ البيوت المملوكية مما أدّى إلى حركات تمرد واسعة النطاق بعد منتصف القرن الثامن عشر، كحركة شيخ البلد المملوكي علي بك الكبير، وازدياد نفوذ كلٍّ من إبراهيم بك ومراد بك حتى وصول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798م.
وتبقى الإشارة إلى أنه قامت في مصر في أعقاب الفتح العثماني لها عدة ثورات للقبائل البدوية، لكنها لا تتساوى من حيث الأهمية مع ثورات المماليك، لكونها مألوفة في تاريخ المنطقة التي شهدت باستمرار الصراع الأزلي بين سلطات المدن والقوى البدوية. ويكون رجحان طرفٍ على الآخر بمقدار ما يكون عليه كلٌّ منهما من قوةٍ وضعف، كما أنه من الطبيعي أن تكثُر ثورات البدو عندما تنتقل السلطة من دولةٍ إلى أخرى، بغُية الحصول على ما يمكنها من امتيازات. وكان من الطبيعي ألاَّ تقف الدولة العثمانية موقف المتفرج إزاء تلك الثورات كي لا تتطور الأمور إلى الأسوأ، وقد لعبت القبائل العربية في مناطق الشرقية والغربية والبحيرة حيث سيطر على التوالي بنو بقر وبنو بغداد وبنو مرعي دوراً مهماً في تأييد أو تقويض قوة الثائرين على سلطة الدولة العثمانية، كما كان الحال في حركة تمرد المماليك بزعامة أينال السيفي وجانم السيفي أولاً وحركة تمرد والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن ثانياً(67).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.sidiameur.info
 
حركات التمرد في مصر في بداية العهد العثماني 1517-1524م والنتائج المترتبة عليها
استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» حركات التمرد في مصر في بداية العهد العثماني 1517-1524م والنتائج المترتبة عليها
» العهد , بحث عن العهد جاهز للطباعة
» بحث عن السلطان العثماني عبد الحميد الثانى - بحث علمى عن السلطان العثماني عبد الحميد الثانى
» بحث عن العهد المكي - بحث علمى عن العهد المكي كامل بالتنسيق
» بحث عن الآثار المترتبة على الزيادة السكانية - بحث شامل عن الآثار المترتبة على الزيادة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
سيدي عامر إنفو :: القسم الدراسي والتعليمي :: التوظيف والمسابقات دروس و البحوث :: البحـوث والكتب الجـامعية والمـدرسيـة الشـاملة-
انتقل الى: