بحث عن العلاقة بين علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية
دكتور إبراهيم عبد الرحمن رجب
وكيل كلية الخدمة الاجتماعية بجامعة حلوان
هذا مقال كنت قد كتبنه في عام 1982 ، ونشر في كتاب نماذج ونظريات تنظيم المجتمع (دار الثقافة للطباعة والنشر بالقاهرة ، 1983) ، وقد أعادت طباعته دار عالم الكتب بالرياض في عام 1985 ، ثم في عام 2003 (والمقال منشور هنا كأصله، بتصرف قليل)
هذه دراسة للعلاقة بين علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية، سواء من الناحية التاريخية، أو من الناحية النظرية التصورية -- هذه العلاقة التي مرت بالعديد من المراحل، وتأثرت بالعديد من العوامل والأوضاع، الداخلية أو الخارجية بالنسبة لكليهما.
وسنبدأ هذا العرض بمحاولة لتحديد المفاهيم الأساسية ووضعها في الإطار الذي ستستخدم فيه خلال هذه الدراسة، وبعد ذلك نتتبع المراحل التاريخية المختلفة لعلاقة علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية، مع تحليل العوامل التي أثرت عليها في كل مرحلة ، ونختم عرضنا بتحليل العلاقة بينهما من الناحية النظرية أو التصورية.
أولا : المقصود بعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية
(1) علم الاجتماع
هناك اتفاق على أن علم الاجتماع هو " الدراسة العلمية للسلوك الاجتماعي أو الفعل الاجتماعي الذي يقوم به البشر"(1) ، أو أنه " دراسة التجمعات الاجتماعية والجماعات في إطار ما تعيش فيه من نظم، ودراسة تلك النظم نفسها وكيف تنشأ ، مع دراسة أسباب التغيرات التي تطرأ عليها، ونتائج تلك التغيرات"(2) ، ومن الواضح أن هذه تعريفات عامة تكاد تقتصر على تحديد المجال العام لعلم الاجتماع – أما ما وراء هذا القدر المتفق عليه – وخصوصا فيما يتصل برسالة هذا العلم ومهامه الأساسية – فان هناك اختلافات واسعة في وجهات النظر ، لدرجة أن اثنين من علماء الاجتماع قد وجدا أنه من الضروري لهما أن يصدِّرا بحثا لهما بالقول " أن ما نقوله يجب أن ينظر إليه على أنه ملاحظات اثنين فقط من رجال علم الاجتماع اللذين – وبالمناسبة – قد اكتشفا حتى أنهما لا يتفقان علي بعض القضايا المعينة.. وباختصار فإن أي عالم اجتماع لا يمكن أن يتحدث باسم علم الاجتماع كله" (3).
غير أن هذه الاختلافات في تصور رسالة علم الاجتماع وأهدافه الأساسية ومنطلقاته النظرية لن تغرينا بالإغراق في الدخول في تفصيلات الخلافات بين رجال علم الاجتماع إلا بالقدر الذي يؤثر على تناولنا لموضوعنا، أي أننا سنعني فقط بالمداخل والتصورات التي تأخذ مواقف محددة من المشكلات الاجتماعية ومن مهنة الخدمة الاجتماعية بصفة عامة ، وفي هذا الصدد فإنه يمكننا أن نتكلم عن ثلاثة اتجاهات متمايزة في إطار علم الاجتماع المعاصر :
الاتجاه الأول : علم الاجتماع الأكاديمي (الوظيفيون):
يمكننا أن نتبع الأصول الأولي لهذا الاتجاه الأكاديمي(4) النظري بشكل خاص لنبدأ التأريخ له من الدعوة التي وجهها أوجيست كونت Compte لاستخدام منهج البحث العلمي (الذي نجح في العلوم الطبيعية) في دراسة العلوم الإنسانية، ويري أصحاب هذا الاتجاه أن مهمة العلم يجب أن تقتصر على جمع الحقائق عن الظواهر الاجتماعية ووصفها وصفا موضوعيا محايدا ، مع ترك هذه الحقائق أمام المصلحين الاجتماعيين للاستفادة منها في وضع السياسة الإصلاحية العامة وبهذا يكون علم الاجتماع في نظرهم علما نظريا خالصا(5) .
ولقد ساد هذا الاتجاه إلى حد كبير لدي رجال علم الاجتماع حتى أواخر القرن التاسع عشر ، وارتبط بنظرة تفاؤلية راضية عن النظم الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الغربي، مع تصور غامض بأن هذه النظم تضمن تلقائيا تحقيق التقدم والنمو ، وقد ازدهر هذا الاتجاه في أوائل القرن العشرين وخصوصا بفضل جهود تالكوت بارسونز ومتابعيه من أصحاب النظرية الوظيفية، الذين اهتموا أساسا بدراسة متطلبات بقاء واستمرار الاتساق الاجتماعية أكثر من اهتمامهم بدراسة التغير والصراع، مما أدي إلي اتهامهم بالمحافظة والعمل على تدعيم النظم القائمة ، ومما هو جدير بالذكر أن أصحاب هذا الاتجاه هم غالبا ممن يقومون بتدريس علم الاجتماع في الجامعات والذين يمثلون أغلبية المتخصصين في علم الاجتماع (70% منهم)(6) ، ومن الواضح أن هؤلاء -بحكم اهتمامهم ببناء النظرية- لا يبدون اهتماما كبيرا بالتطبيقات لمواجهة المشكلات الاجتماعية ، ولذلك فإنهم لا يشاركون رجال الخدمة الاجتماعية في اهتمامهم ولا يدخلون معهم في علاقات تذكر، اللهم إلا في حدود الدراسة السوسيولوجية للخدمة الاجتماعية في إطار دراستهم للمهن والاتجاه للمهنية فيما يعرف بنظرية المنظمات.
الاتجاه الثاني : النقديون (مدرسة الصراع):
يري أصحاب هذا الاتجاه أن المهمة الأساسية للعلوم الاجتماعية هي مساعدة الإنسان في السيطرة على المجتمع، وليس فقط مجرد جمع الحقائق عن الظواهر الاجتماعية ووصفها كما هي عليه؛ وإذا كان هذا الاتجاه موجودا باستمرار وان لم يكن سائدا دائما ، فأنه قد اكتسب أبعادا جديدة مع تعقد المجتمعات ووضوح المشكلات الاجتماعية المترتبة على التصنيع وبصفة خاصة مع الكساد الاقتصادي الذي اجتاح العالم في ثلاثينات القرن العشرين، فقد بدأ نوع من التشكك في التنظيمات الاقتصادية والاجتماعية القائمة، ومن هنا جاء تركيز أصحاب هذا الاتجاه على التغيير الجذري في المجتمع ، وعلى بناء المجتمعات من جديد بما يحقق تغيير مراكز القوة(7) ، ومن الواضح أن بعضهم قد تأثر بآراء ماركس وخصوصا الباكرة منها، و يسميهم البعض بأصحاب اليسار الجديد( ، ومقتضي هذا الاتجاه إذن أن علم الاجتماع لا يجب أن يقف موقفا سلبيا أو حتى حياديا مما يجري في المجتمع ، وإنما عليه أن يأخذ موقفا تقويميا نقديا يعبر في كل لحظة عن نضال المجتمع الإنساني للتخلص من كل ما علق به نتيجة للاضطهاد أو الاستغلال أو الانتهازية(9).
ويتبنى هذا الاتجاه بصفه خاصة مجموعات من شباب الباحثين من دارسي علم الاجتماع الذين يؤمنون بأن عالم الاجتماع لا يجب أن ينعزل عن واقع حياة الناس ومشكلاتهم الملحة للحفاظ على مكانة أكاديمية زائفة، و إلا فإنه يكون بهذا جزءا من الوضع القائم، مستقطب أو مستغل لخدمة أهداف ذوي المصالح في هذا الوضع، وإنما واجبه العلمي أن يتخذ موقفا نقديا صارما، وأن يعمل على إحداث التغيير الثوري في النظم الاجتماعية والاقتصادية القائمة لصالح الطبقات المستغلة ولهذا يسمى هؤلاء بالثوريين.
وهذا الفريق يتشكك بعنف في قدرة الخدمة الاجتماعية كمهنة على تحقيق التغيير الاجتماعي المقصود الذي تسعي لتحقيقه ، بل ويرون أن الجهود التي تبذل في محيط الرعاية الاجتماعية تكون عادة جزئية ومفتتة، لا تستهدف صالح الفئات المستغلة، وإنما تؤدي -بقصد أو بغير قصد- إلي تمييع قضايا التغيير، وإلى امتصاص السخط الاجتماعي، وبالتالي سلب الثورة من أحد عناصر قوتها الدافعة.
الاتجاه الثالث : علم الاجتماع التطبيقي :
مع ازدياد الطلب على علماء الاجتماع لشغل وظائف المستشارين لعدد كبير من المؤسسات الصناعية والعسكرية والاجتماعية ، ومع مطالبة المجتمع بوجود دور ايجابي فعال لعلماء الاجتماع في مواجهة المشكلات الاجتماعية الحادة التي أخذت تجتذب اهتمام قطاعات عريضة من السكان ابتداء من خمسينات القرن العشرين، فقد قوي ذلك الاتجاه الذي يري أن عالم الاجتماع لا يجب أن ينعزل في برجه العالي لبناء النظريات كما يتصور أصحاب الاتجاه الأول ، كما لا يجب أن يتولى مهمة السياسيين المتطلعين إلى التغيير الثوري لنظم المجتمع كما يتصور أصحاب الاتجاه الثاني ، وإنما يجب أن يستخدم أقصي ما لديه من علم ومعرفه بالظواهر الاجتماعية لتحسين أداء النظم والمؤسسات القائمة لوظائفها ، وبهذا يسهم عالم الاجتماع في تقدم المجتمع وتخفيف المشكلات الاجتماعية ، ومن هنا فإن أصحاب هذا الاتجاه هم أقرب الفئات الثلاثة إلى الاهتمام بالتعاون بين علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية.
(2) الخدمة الاجتماعية
رغم أن لدينا العديد من التعريفات للخدمة الاجتماعية فإن معظم تلك التعريفات لا زال قاصرا عن تقديم مفهوم جامع مانع لها ، فبعض التعريفات واسع جدا يضم جوانب لا تدخل بطبيعتها في نطاق الخدمة الاجتماعية، وبعضها أضيق من أن يشمل جوانب تعتبر جزءا لا يتجزأ منها(10) ، ولعل هذا هو ما حدا بالجمعية القومية للأخصائيين الاجتماعيين بالولايات المتحدة NASW للاتجاه إلى محاولة التوصل إلى ما أصبح يسمى بالتعريف العامل "لممارسة" الخدمة الاجتماعية عام 1958، وذلك على أساس تحليل الممارسة إلى مجموعة من المكونات: هي القيم المهنية، والمعارف، والأغراض، والطرق الفنية، والمصادقة المجتمعية(11). وعلى أي حال فقد يكون من المفيد أن نعرض هنا تعريفين نظريين يعكس كل منهما مرحلة من مراحل تطور المهنة في إدراك رسالتها :
1- لقد عرّف والتر فريدلاندر الخدمة الاجتماعية بأنها "خدمة مهنية مبنية على المعارف العلمية، وعلى مهارات العلاقات الإنسانية ، تعمل على مساعدة الأفراد كأفراد أو كأعضاء في جماعات ليصلوا إلى تحقيق الرضاء النفسي والاجتماعي مع الاعتماد على أنفسهم في المستقبل (12).
2- كما عرفها فينك وزملاؤه على أنها "المهنة التي تهتم بتسيير وتدعيم العلاقات الاجتماعية الأساسية بين الأفراد أو الجماعات أو النظم الاجتماعية، ونتيجة لذلك فإنها تتحمل مسئولية العمل الاجتماعي سواء بحكم وظيفتها الاجتماعية أو بحكم ما تملكه من معرفة مهنية"(13).
ونحن نلاحظ أن التعريفين يؤكدان على أن الخدمة الاجتماعية كمفهوم تعتمد على المعرفة العلمية المتراكمة وأنها تستهدف تحسين نوعيه الحياة الإنسانية سواء عن طريق تيسير العلاقات المرْضية أو عن طريق العمل على إشباع الاحتياجات الاجتماعية ، إلا أن مستويات التدخل المهني في كل من التعريفين تختلف قليلا في نقطة تركيزها ، وهما بهذا يعكسان موقفين أو مرحلتين من مراحل نمو المهنة.
(أ) الخدمة الاجتماعية التقليدية :
كان الموقف التقليدي لمهنة الخدمة الاجتماعية يركز أساسا على التدخل على مستوي الفرد أو الجماعة، ولا يعطي اهتماما كبيرا للتدخل على مستوي المجتمع المحلي أو على مستوي المجتمع العام والنظم الاجتماعية الأساسية، ويرتد هذا الموقف إلى الأصول الأولي للجهود التطوعية التي حاولت منذ منتصف القرن التاسع عشر مواجهة المشكلات المترتبة على الثورة الصناعية -- تلك الجهود التي تصورت أن أسباب المشكلات تكمن في الأفراد أنفسهم دون أن تشكك في دور البناء الاجتماعي ذاته كسبب محتمل للمشكلات الاجتماعية. وفي هذا الإطار ازدهرت طريقة خدمة الفرد ازدهارا كبيرا، وكانت الأغلبية الساحقة للأخصائيين الاجتماعيين تتخصص باستمرار في هذه الطريقة، والحقيقة أن هذا الموقف ظل سائدا حتى بداية الستينات من القرن العشرين (ولا زال قائما حتى الآن في واقع الممارسة في الولايات المتحدة وإن انحسر على مستوي النظرية) حين بدأ الاتجاه للاهتمام بالتغيير الاجتماعي الواسع النطاق، ولقد ظل الكثيرون من رجال علم الاجتماع ردحا طويلا من الزمن يتعاملون مع هذا التصور للخدمة الاجتماعية(14)، ولا زال البعض حتى الآن متأثرا بدرجة أو بأخرى بهذا التصور التقليدي التاريخي للخدمة الاجتماعية.
(ب) الخدمة الاجتماعية الحديثة :
كان المدخل الإصلاحي الذي يهتم بتغيير النظم والسياسات والتشريعات موجودا بدرجة أو بأخرى في تاريخ الخدمة الاجتماعية وإن لم تكتب له السيادة، وقد ارتبط مدى بروزه بنظرة المجتمع إلى نظمه الاجتماعية، فاكتسب قوة دافعة كبيرة في أزمات الكساد المالي والحروب العالمية، حيث بدأ التشكك في قدرة النظم الاجتماعية والاقتصادية القائمة على إشباع حاجات الناس تلقائيا، ومن هنا بدأت المطالبة بالتغيير الاجتماعي الواسع النطاق، الذي يتم على مستوي النظم الاجتماعية نفسها بدلا من الاقتصار على مستوي الأفراد والجماعات؛ وهذا هو الاتجاه الحديث في مهنة الخدمة الاجتماعية، حيث بدأت أعداد أكبر وأكبر من الأخصائيين الاجتماعيين في الاهتمام بالمسائل المتصلة بالسياسة الاجتماعية والتخطيط الاجتماعي -بالإضافة إلى الاهتمامات الفردية التقليدية التي لا زالت لها الغلبة سواء فيما يتصل بأعداد الطلاب أو بمكان خدمة الفرد في المناهج أو في الممارسة(15).
وينبع هذا الموقف من إدراك الارتباط الوثيق بين مختلف مستويات الحياة الاجتماعية، والتفاعل بين أوجه حياة الإنسان كفرد أو كعضو في جماعة أو منظمة رسمية أو مجتمع محلي أو مجتمع قومي، ومن هنا ضرورة التدخل على كل مستوي من تلك المستويات إذا أردنا تحقيق أهداف المهنة بشكل فعال، ولهذا كله فقد بدأت المهنة تبلور لنفسها أساليب وأدوار جديدة تلائم العمل على مختلف تلك المستويات(16).
(3) الخدمة الاجتماعية والاجتماع التطبيقي
إذا كانت الخدمة الاجتماعية تركز في تدخلها المهني على محاولة إحداث تغييرات في الأفراد أو في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات أو في المجتمعات المحلية والنظم الاجتماعية، وكان علم الاجتماع التطبيقي يتضمن استخدام المعرفة السوسيولوجية لإحداث تغييرات في العلاقات والمؤسسات والنظم الاجتماعية، فإن التساؤل يثار عادة حول ما إذا كانت الخدمة الاجتماعية والاجتماع التطبيقي شيئا واحدا أو أنهما أمران مختلفان، وفي هذه الحالة يلزم توضيح الفروق بينهما.
(1) المنطلقات القيمية: يجب أن نوضح بادئ ذي بدء أن الحاجة للخدمة الاجتماعية كطريقة للتدخل لإحداث التغييرات المشار إليها نشأت لمواجهة المشكلات الاجتماعية التي ترتبت على الثورة الصناعية، وأن مثل هذا التدخل يجد تبريره أساسا في مجموعة القيم الدينية والإنسانية وقيم الديمقراطية والمساواة، مع الإيمان بإمكانية تغيير الأفراد وترقيه أحوالهم المادية والاجتماعية من خلال علاقة علاجية وهذا هو ما يطلق عليه البعض أيديولوجية الرعاية الاجتماعية التي تستند إليها الخدمة الاجتماعية(17) وما يهمنا هنا هو أن نؤكد أن الخدمة الاجتماعية تمثل انحيازا قيميا معينا واضح المعالم ومعترفا به من المهنة والمجتمع.
أما بالنسبة لعلم الاجتماع التطبيقي فالوضع يختلف إلى حد كبير، فلقد كان علماء الاجتماع تقليديا يسعون للوصول إلى الحقائق الموضوعية عن الظواهر الاجتماعية دون دخول في مجال القيم وينظرون إلى من يتجه للإصلاح الاجتماعي على أنه قد تخلي عن صفته كعالم اجتماع، وهذا جولدنر(18) يوضح لنا أنه منذ وقت قريب كان تعبير "المهندس الاجتماعي" أمرا لا يشرّف صاحبه، باعتبار أنه يحمل بين طياته الشك في أن مثل هذا العالم الاجتماعي قد حنث بعهده بأن يكون موضوعيا غير منحاز، وأنه يكون قد باع مواريث العلم في مقابل شهرة جماهيرية لا قيمة لها. ولقد أثر هذا الموقف تأثيرا كبيرا على علم الاجتماع التطبيقي، حيث ظل رجاله يتحرجون طويلا من اتخاذ موقف قيمي من عملائهم مكتفين بتقديم مشورتهم في حدود أهداف العملاء -- ولكن واقع الممارسة كان يفرض عليهم أن يقرروا لأنفسهم ما إذا كانت لهم قيمهم المهنية التي قد تختلف عن قيم عملائهم، وعلى أي حال فقد تأخر اتخاذهم القرار في هذا الشأن كثيرا، في الوقت الذي كانت الخدمة الاجتماعية متخففة من هذا العبء إلى حد كبير، ولقد ساعد هذا على انتشار الخدمة الاجتماعية وتطورها بأكثر مما كان عليه الحال بالنسبة للاجتماع التطبيقي، وليس أدل على ذلك من أن موضوع الالتزامات القيمية لعلم الاجتماع التطبيقي هو موضوع اليوم بالنسبة لهذا الفرع الذي انتظر حتى وقت قريب(19) لكي يتفق رجاله على أن الأوْلى بالالتزام هو المبادئ الأخلاقية للمجتمع ككل، ثم قيم المهنة التي يستقر عليها الزملاء السوسيولوجيون، وأخيرا قيم العميل أو المنظمة التي يعمل فيها رجال الاجتماع التطبيقي.
(2) مستويات العمل: إن مجالات اهتمام كل من الخدمة الاجتماعية والاجتماع التطبيقي وإن كانت متقاربة إلى حد كبير إلا أنها ليست متطابقة. ولو أننا أخذنا بتفرقة تالكوت بارسونز بين المستويات الثلاثة للأنساق(20) وتقسيمها إلى:
(أ) أنساق ثقافية : ويختص بدراستها علم الانثروبولوجيا.
(ب) أنساق اجتماعية : ويشترك في دراستها كل من علم الاجتماع وعلم الاقتصاد وأيضا العلوم السياسية.
(ج) أنساق شخصية Personality Systems : ويختص بدراستها علم النفس.
فإننا نجد أن اهتمام عالم الاجتماع النظري – والتطبيقي أيضا فيما يبدو – منصبا على النوع الأوسط من الأنساق وهي الأنساق الاجتماعية (مع أخذ فكرة التأثير المتبادل بين الأنساق في الاعتبار بطبيعة الحال) أما رجل الخدمة الاجتماعية فإن اهتمامه ينصب على الموقف ككل – وهذا يفترض اهتمامه بكل مستويات الأنساق، وبهذا تكون الخدمة الاجتماعية أقرب إلى أن تكون علوما سلوكية واجتماعية تطبيقية موجهة قيميا منها إلى أن تكون مجرد علم اجتماع تطبيقي.
(3) طبيعة المهمة: إن رجل الاجتماع التطبيقي يستطيع أن يقف عند حد "التوصية بالتغيير" دون أن يقوم بنفسه بالتدخل لتنفيذ توصياته، أما الأخصائي الاجتماعي فهو يتحمل مسؤولية "التدخل للتغيير" بنفسه، مستخدما ذاته المهنية ومهاراته الفنية في الاتصال والتأثير، ومن هنا فإنه يكون غارقا لأذنيه في مشكلات الواقع الذي يفرض اتخاذ إجراء ما في الحال دون انتظار لنتائج البحوث، وهو بذلك لا يملك رفاهية التوقف وتعليق الحكم حتى يصل إلي نتائج محققة ذات عمومية، وإنما يضطر للاعتماد على بعض المؤشرات أو المبادئ العامة التي تراكمت من خلال الممارسة المهنية مستهديا بالقيم المهنية والمجتمعية، وهو أحيانا قد يلجأ إلى رجل الاجتماع التطبيقي طالبا مشورته. أما رجل الاجتماع التطبيقي فغالبا ما يتقدم إليه عملاؤه بمشكلاتهم وهم لا يتوقعون منه أن يبدي رأيه فورا وبهذا يمنحونه الوقت الكافي لإجراء دراساته وبحوثه وينتظرون حتى يتم له بلورة مشورته ثم يتخذون قرارهم مسترشدين بها. كما أن رجل الخدمة الاجتماعية غالبا ما يتعامل مع الموقف بما يتضمنه من عوامل واعتبارات سياسية متصلة بالقرار، ويتحمل مع العملاء مسئولية الدخول في عملية تفاعلية تضمن أخذ مصالح الفئات الأخرى المرتبطة بالمشكلة في الاعتبار، على حين يتوقف دور رجل الاجتماع التطبيقي عند حد إبداء المشورة.
ونخلص من هذا كله إلى أن الخدمة الاجتماعية والاجتماع التطبيقي يشتركان في الاهتمام بالعمل على إحداث التغيير في العلاقات والنظم الاجتماعية ولكن في الوقت الذي نزلت فيه الخدمة الاجتماعية إلى ميدان الممارسة وخاضت فيه في قلب المشكلات الاجتماعية في حدود ما هو متاح لها من معرفة وبتوجيه من إطار قيمي محدد ومعترف به من جانب المجتمع مما ساعدها على بلورة وتطوير أساليبها الفنية في تقديم الخدمات فإن علم الاجتماع قد تحرج عن النزول إلى ميدان الممارسة حفاظا على موضوعية العالم النظري، وبهذا لم يكن لعالم الاجتماع مكان قوي في الممارسة حتى الحرب العالمية الثانية(21) ، كما أن انهماك الأخصائيين الاجتماعيين في مواجهة مشكلات الواقع استلزم عدم التقيد بالحدود بين التخصصات التي يلتزم بها كل علم من العلوم السلوكية والاجتماعية، وبهذا كانت الخدمة الاجتماعية أوسع من أن تكون مجرد علم اجتماع تطبيقي، وأخيرا فإننا نستطيع التفرقة بين الاجتماع التطبيقي والخدمة الاجتماعية على أن الأول يتمثل غالبا في تقديم "التوصية بالتغيير" في حين أن الخدمة الاجتماعية تمثل "التدخل للتغيير".