الإثنين 15 مايو - 11:57 الإثنين 8 مايو - 22:14 الأحد 19 أغسطس - 16:42 الأحد 19 أغسطس - 15:17 السبت 18 أغسطس - 17:10 السبت 18 أغسطس - 17:00 السبت 18 أغسطس - 16:56 السبت 18 أغسطس - 14:52 السبت 18 أغسطس - 10:07 الخميس 16 أغسطس - 17:02 الخميس 16 أغسطس - 16:54 الأربعاء 15 أغسطس - 18:13 الأربعاء 15 أغسطس - 18:08 الأربعاء 15 أغسطس - 10:21
المرأة في الغزل الصوفي (عبد القادر الأسود) الباب الثالث (2)
كاتب الموضوع
رسالة
Labza.Salem Admin
عدد المساهمات : 43954 نقاط : 136533 تاريخ التسجيل : 12/09/2014 العمر : 29 الموقع : سيدي عامر
موضوع: المرأة في الغزل الصوفي (عبد القادر الأسود) الباب الثالث (2) السبت 18 مارس - 21:08
فالمحبُّ هو الروحُ ، لأنُّه لا يُتَصَوَّرُ حُبٌّ مِن مَيْتٍ البتَّةَ ، والمحبوبُ هو الروحُ أيضاً ، لأنَّ الموت ينهي هذه العلاقةَ ، فالمرءُ مهما بلغَ في حبِّ محبوبه لا يَستطيع أنْ يبيتَ معه ليلةً واحدةً وهو جُثَّةً هامِدةً لا روحَ فيها ، إذاً ، فالحبُّ للروح لا للجسدِ، والمحبُّ كذلك هو الروحُ وليس الجسدُ ، والروحُ في الكونِ واحدةٌ ، فمن المحبُّ ، إذاً ، ومن المحبوبُ؟ سؤالٌ يحتاجُ إلى نظرٍ .
يقول الأستاذُ محمدُ الراشد : ((ومِن هنا كان الحُبُّ السَرْمَدِيُّ هو الفناءُ في اللهِ ، إلى درجةٍ يمتلِكُ اللهُ فيها ذاتَ الصوفيِّ ليُعيدَ لَهُ ذاتَهُ ، بحَسَبِ مَوقِفِ الجُنيدِ ، وهذا الإحساسُ لا يمتلكُهُ الصوفيُّ إلاّ عَبْرَ الوَجْدِ المُتعالي ، دُخولاً في حالاتِ الانْخِطافِ الرُّوحيِّ والانْفتاحِ على الكونِ ، رُقْيّاً إلى المحبوبِ الأسْمى )). (46)
فلا بد من العشق في طريق الحق ليصل الطالب إلى السر المطلق و ((مجرد الأمنية مَنيّة ، والسفينة لا تجرى على اليبس )) كما قالت السيدة رابعة العدويّة ( رضي الله عنها) والحبَّ على ثلاثةِ أقسام:
ــ الأوّلُ إلهيٌّ : وهو حبُّهُ ( تعالى ) إيّانا لنفسِهِ وحُـبُّهُ إيّانا لنا ، فأمّا حُبُّهُ (تعالى) إيّانا لنفسِهِ ، فحتّى نعبُدَه ونَعرِفَه ، قال ( تعالى ) في كتابِه العزيز :
(وما خلقتُ الجنَّ والإنس إلاّ ليعبدون) . (47) الآية ، والعبادةُ طاعة ، والطاعة لا تكون إلا بعد معرفة ولا تكمُلُ ألاّ بالمحبّة ، ويقول اللهُ تعالى في الحديث القدسيِّ : (كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببتُ أن أُعرفَ..)(48)إي ليصير الإنسان مظهراً للصفات الكمالية الإلهية. أي : فخلقت الخلق ليكونَ مرآةً أشاهِدُ فيها جمالي .
فما خَلَقَنا اللهُ إلاّ لنفسِهِ لنعبُدَه ونعرِفَه ، وأَمّا حبُّهُ لنا فبما مَنَّ علينا من نِعْمَتـيِّ الإيجادِ والإمدادِ وما عرَّفنا إيّاه ، ممّا فيه مصالِحُنا وسعادتُنا في الدنيا والآخرة.
ــ الثاني روحاني : وهو أنْ يكونَ هَمَّ المحبِّ رضا محبوبه ذاهلاً عن رَغَباتِ نفسِه ومَصْلَحتِها ، ومنه حبُّ السيّدةِ رابعةَ العدويّة {رضي الله عنها} التـي تقول :
أحببتُك حبّين حُبَّ الهوى
وحبّاً لأنَّك أهلٌ لذاكـــــــا
وتقول أيضاً : ( والله ما عَبَدْتُكَ حُبّاً بجنَّتك ولا خوفاً من نارِك ولكنْ عَبَدْتُكَ لأنّكَ تستحقُّ العبادة) (49) ذلك لأنَّها استغرقتْ في حبَّها للحقِّ، {جلَّ وعلا} ، وشهودِ عَظَمَتِه فلم تَشْهَدْ سِواه ، ولم تلتفتْ إلى ثوابٍ ولا إلى عقابٍ ، لأنَّ الإحساسَ بلَذَّةِ شهودِهِ {سبحانَهُ}حَجَبَها عن كلِّ إحساسٍ ، وفي مثلِ هذا قال سلطانُ العاشقين ، عمرُ بنِ الفارض { رضي اللهُ عنه } :
ليس سُؤْلي من الجِنانِ نَعيماً غيرَ أَنّي أُحِبُّهــــــــــا لأراكا
فإنَّ همَّهُ الوحيدَ هو رؤيةُ محبوبِه ، فهو يحبُّ بحبّهِ كلَّ ما يَخصُّهُ،أو يُشبِههُ في شيءٍ ، أَو يَلوذُ بِهِ ، أو يَصْدُرُ عنه ، وعلى ذلك أفئدةُ سائرِ المحبّين المخلصين عُشّاقِ الحضرةِ الإلهيّة .
فالحبُّ إذا استولى على قلبِ المحبِّ طهّرَهُ من أيِّ وُجودٍ لغيرِ المحبوبِ ، لأنَّ نارَ حُبِّهِ تُنقّي القلبَ وتصفِّيهِ من كلِّ الأدْرانِ والشوائبِ، كما تَصهَرُ النارُ الذَهَبَ فتُحْرِقُ الشوائبَ وتُنظِّفُهُ من الخَبَثِ ، ثم إنّ للحبِّ من الأحوالِ والأحكام ما ليس للعقلِ ، بلْ إنَّ العقلَ لا يَقبلُ الكثيرَ من أحوالِ المحبّين ، ولا يوافِقُ عليها. يقولُ أبو العبّاسِ الكَسّاد{رحمه اللهُ }الحُبُّ أَمْلَكُ للنفسِ من العقول ) . (50) وقالوا لا خيرَ في حُبٍّ يُدَبَّرُ بالعقل ، من ذلك ما وقعَ لنا ذاتَ ليلةٍ ، حيثُ رأيتُ مجموعةً من الكلابِ مقبلةً من حَيِّ مَنْ أُحِبُّ ، فأَبصرتُ فيها جمالاً أَخّاذاً وشَعرتُ نحوَها بحبٍّ لم أعهدْهُ مِن قبلُ ، فأطْعَمْتُها وسَقَيْتُها ، وقلتُ في ذلك :
أحببتُ في حبِّها أقوامَهـا النُجَبــــا
ومَن لأَقوامِها قد كان مُنْتَسِبـا
حتّى الكلابُ إذا مَـــــــــرَّتْ بحيِّهِـــــــمُ
فإنَّ حُبّي لها،يا صاحِ، قد وَجَبــا
وقد كَرِهْــتُ الأُولى لم تَهْــوَ فاتنـتـي
حتّى ولو كَرِهَتْ أقواميَ العَرَبا
أحببتُ في حبِّها الأحجارَ ،وا عَجَبي
وذُقتُ في عِشقِهـــا الأهوالَ والعَجَبا
فاليومُ إنْ حَدَّثتْني فيــــهِ كانَ لــــهُ
ما لليـالي التي تَقْــديسُهــــا طُلِبـا(51)
وقد سبقنـي إلى ذلك الكثيرُ الكثير من العشاق حيث قال أحدهم:
أحب بنـي القوام طرّاً لحبِّها ومن أجلها أحببت أخوالهَا كَلْبا
(52)
أمّا قيس بن ذَريحٍ فيقول :
وداعٍ إذْ نحـن بالخيف من مِنًى
فهيّـج أشجانَ الفؤادِ وما يَدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنّمــــــا
أهاج بليلى طائراً كان في صَـدري
(53)
ومثلُ هذا كثيرٌ في سِيَرِ العاشقين ، ورحم الله الشيخ عيسى البيانوني الذي كان يختم كلّ خماسيّةٍ من خماسيّاته بقوله ( جنوني في محبَّتكم فنون ) لأنّ الجنونَ فنونٌ ، يقول:
ويَذكر أمراً في الحبِّ غايةً في الطرافة،وهو استشرافُ النفوس للحبِّ،وهو أنْ تَشعُرَ بحالِةِ حُبٍّ شديدٍ دون محبوبٍ مُعيَّنٍ ، ثمَّ تراهُ بعد ذلك فتعرِفُ أنَّ هذا هو المحبوبُ الذي شُغفتَ بهِ قبلَ أنْ تَراهُ ، وهذا الحالُ مِن استشرافِ النفسِ الأمورَ قبلَ حُصُولها في الواقع ، فكثيراً ما يشعرُ الإنسانُ بحالٍ من القبضِ دونما سببٍ حاضر ، ثمَّ يقع له ما يَكرهُ ، فيعرفُ أنَّهُ سببُ حالِ القَبْضِ الذي شَعَرَ بِهِ ، ويقع مثلُ ذلك في حال البَسْطِ ، حيثُ تَسْتَشْرِفُ نفسُكَ الأمرَ قبل حُصولِهِ ، فتَفرحُ وتَنْبَسِطُ دونما سببٍ ظاهرٍ ، في حينِهِ ، إنّما يَقَعُ بعد ، وذلك لاسْتشرافِ النفسِ الأمورَ مِنْ قبلِ تكوينِها في تَعَلُّقِ الحواسِّ الظاهرةِ ، وهي مُقَدِّماتُ التكوين، ويُشبِهُ ذلك أخذَ الميثاقِ على الذُريَّةِ بأنَّهُ {سبحانه}ربُّنا، فلم يَقْدِرْ أحَدٌ على إنكارِهِ بعدَ ذلك ، فتجِدُ في فِطرةِ كلِّ إنسانٍ افتقاراً لمُوجودٍ يَسْتَنِدُ إليه وهو اللهُ ، ولا يشعرْ به . ولهذا قال : (يا أيُّها الناسُ أنتمُ الفقراءُ إلى الله ..)(55) يقولُ لهم ذلك الافتقارُ الذي تجدونَهُ في أنفُسِكم مُتَعَلَّقُهُ اللهُ ، لا غيرُهُ ولكنْ لا تَعرفونَه ، يقول :
ويعتبر الشيخ الأكبرُ هذه الحالةَ ألطف ما يكون من المحبّة ، وهي أسما وألطف من حُبِّ الحُبِّ وهو الشغلُ بالحُبِّ عن مُتعلّقِهِ ، كما حصلَ لمجنون ليلى حين أعرضَ عنها شغلاً بحبِّها ، وقد سبق ذكرُها.
وهذا ما قد يبدوا غريباً مُسْتَهْجَناً في زمنٍ طَغَتْ فيه المادةُ ، ونَدَرَ فيه إخلاصُ المحبين ، حتى الحُبُّ الماديُّ الشهوانيُّ ــ وهو القسم الثالث ــفقد قلَّ وجودُه ، في زمنٍ عُبِدَ فيهِ الدولارُ إلهاً من دون اللهِ ، فهو عندهم اليومَ الهدفُ المنشودُ والغايةُ القصوى ، وإليه يتوجَّه الاهتمام وبه تتعلَّق القلوب، وإذا أحبَّ امرأةً فإنما يحبُّها حبَّ البهائمِ ليروّي غريزتَه ويُطفئَ نارَ شهْوته وحَسبُ ، فإذا قضى منها وطره ، شغل عنها بمعبوده (المال) وإذا أحبَّ رجلاً فلأنَّهُ ذو مالٍ أو جاهٍ ليفيد من مالِهِ أو جاهِهِ ، فإذا انتهتْ حاجتُه إلى ما عنده انتهى حُبُّهُ ، وربمّا انقلبَ الحبُّ بغضاءَ وكراهيةً ، وقد حذَّرَ الرسولُ الكريمُ من هذا الوباء ورغَّبَ بالحبِّ الخالي من المنافع ، المترفِّعِ عن البهيميّةِ فقال ...وأنْ يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلاَّ لله ) (57) كما جاء في الحديث القُدْسيِّ الذي رواه الرسولُ الكريمُ عن ربِّ العزّة ، فقال : (المتحابّون في جلالي لهم منابرٌ مِنْ نورٍ يَغْبِطُهم النَبيّون والشُهَداء).(58)وقرَّر بأنَّه من السبعة الذين سيظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاّ ظلُّه:(ورجلان تحابّا في الله،اجتمعا عليه وتفرّقا عليه ).(59)
فما بالكَ إذا حدَّثتهم عن الحبِّ الإلهي وأحوالِ هؤلاءِ العاشقين ، فأنت كمن يتحدّثُ بلغةٍ غير مفهومةٍ أو كأنّكَ تتحدَّثُ بالألغاز والطلاسم أو تقرأ قصيدةً حَـداثيَّـةً لشاعرٍ مُحدِث .
وهذا ابنُ الفارض ، سلطانُ العاشقين {رحمه الله} يُبيّنُ لنا أَخطارَ المحبَّة وينبّه إلى أَضرارِها وما تسبِّبه للمحبِّ من أمراض وأسقام ، ومع ذلك فهو ينصحنا بأن نحبَّ وبأنّ نخالفَه ، قائلاً :
هو الحبُّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل
فمـــــا اختاره مضنًى به وله عقـــــــــــــــــــــــــل
والمحبّون ، برأي الشيخ الأكبر ، على نوعين : طائفةٌ منّا نظرتْ إلى المثال الذي هو في خيالها من ذلك الموجودِ الذي يظهرُ محبوبُه فيه ، ويُعاينُ وجودَ محبِوبِه ، وهو الاتصالُ به في خيالِهِ ، فيُشاهدُهُ متّصلاً به اتّصالَ لُطفٍ أَلطفَ منه في عينِه ، في الوُجودِ الخارجِ ، وهو الذي اشْتغل به قيْسٌ المجنونُ عن ليلى حين جاءتْهُ من خارجٍ فقال لها :{ إليْكِ عَنّي} لِئلاّ تَحْجُبُه كثافةُ المحسوسِ منها عنْ لُطفِ هذه المُشاهدةِ الخَياليَّةِ ، فإنّها أَلْطَفُ منها في عينِها وأَجملُ ، وهذا المحَبَّةُ ، وصاحبُ هذا النَعْتِ لا يَزالُ مُنَعَّماً ، لا يشكو الفِراقَ .. فإنَّ مِثْلَ هذا في المحبّين عزيزٌ لِغَلَبَةِ الكَثافَةِ عليهم .
وسببُ ذلك عندنا أَنـَّهُ مَن اسْتفرغَ في حُبِّ المعاني المجرّدةِ عن الموادِّ فغايتُهُ ــ إذا كَثَّفها ــ أَنْ يُنْزِلهَا إلى الخَيالِ ، ولا يَنْزِلُ بها أَكْثَرَ ، فمَن كان أكثفَ حالِهِ الخيالُ فما ظنُّك بلطافتهِ في المَعاني؟ والذي هذا حالُهُ يمكنُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ فإنَّ غايتَهُ في حُبِّهِ إيّاهُ ــ إذا لم يجرِّدْهُ عن التشبيهِ ــ أَنْ يُنزِلَهُ إلى الخَيالِ، وهو قولُهُ {عليهِ الصلاةُ والسلامُ}: {اِعْبُدْ رَبَّكَ كأنَّكَ تَراهُ} فإذا أَحببْنا ــ ونحن بهذه الصفةِ ــ مَوْجُوداً ، فإنّما نُحِبُّ ظُهورَ مَحْبوبِنا فيهِ ، مِن المحسوساتِ {عالمَ ِالكثافةِ} ونُلَطِّفُهُ ، بأنْ نَرْفَعَهُ إلى الخَيالِ، لنكسوَهُ حُسْناً فوقَ حُسْنِهِ ، ونَجْعَلَهُ في حَضْرةٍ لا يمكنُهُ الهجرُ مَعَها ولا الانْـتِقالُ عنْها فلا يَزالُ في اتِّصالٍ دائم :
ما لمجنــون عامرٍ في هــــــواهُ غير شكوى الابتعادِ والاغْتِرابِ
وأنا ضِـــــدَّه فـــــــإنَّ حبيبي في خيالي فلم أَزَلْ في اقتـرابِ (61)
ولي في هـذه الحالِ من لَطافةِ الخيالِ ، حيث يكون المحبُّ أبعد ما يكون عن الكَثافَةِ ، فلا يَضيقُ به أحدٌ ، بل لا يَشْعُرُ أحدٌ بوجوده البتّةَ ، غيرُ سُلطانِ عِشْقِهِ ، وفيضِ مشاعِرِه ، ونقاءِ حِسِّه ، وطُهْرِ طَويَّتِه ِ، وطِيبِ أُنْسِهِ، أَقول:
أُسافرُ والخَيــــالُ سفينُ روحي أطيرُ بِــهِ إلى مرسى الأمـــانِ
إذا مـا النفسُ ســاورَهــا مرامٌ ظَفِرْتُ به ولم أبرحْ مَكــاني
فلا كفٌّ تُشــيرُ له فيَــــــأتي ولا أَحتــاجُ تحريكَ اللِّســانِ
وإنْ أحببتُ حِبّاً ليس يَدري بحُبّي ، أو إذا خِلٌّ جفـــاني
رحلتُ إليه أو حَمَلَتْـه كفّي فنلتُ مُرادَ نفسي في ثَوان
لطيفٌ لا يُشاهدني رقيبٌ سريعُ الخطوِ إنْ أُطْلِقْ عِناني
خفيٌّ عن عذولي ليس يـدري بسرّي غـــيرُ ربّي مَـنْ بَراني
(62)
وقد سمعتُ شيخَنا العارف بالله الكبير ، الشيخ عبد الرحمن الشاغوري {رحمه الله تعالى } يُردِّدُ ، أكثر من مرّة ، عبارةً للإمامِ : الحارثِ الُمحاسبـيِّ {رحمة الله عليه}فيقول : ( ما قادك مثلُ الوَهْمِ)، لِذلك فنحن نُلَطّفُ المحبوبَ فنَرفَعُهُ منْ عالَمِ الحِسِّ إلى عالَمِ الخيالِ بل ربّما لم نَرَهُ بعـينِ الحِسِّ البتّةَ، فنحبُّهُ ونعشقُهُ ونجالسُهُ ونسامرُه فنتلَّذذُ بوصالِهِ ، فنُروّي جوارحَنا ونُرهف حِسَّنا ومشاعرَنا، ونسمو بأنفُسِنا وعواطفِنا ، (وهو أي المحبوب) لا يدري بنا أبداً ، ولا غايةَ لنا من ذلك سوى أنْ تَرِقَّ قلوبُنا وتسموَ أرواحُنا بالحبِّ الذي هو غذاؤها، ومبرِّرُ وجودِها ، وهل في ذلك من محظورٍ ؟ وهل على الخيالِ من رقيبٍ أو حسيب ؟ وفي ذلك أقول :
إن كان حبُّك يا فريــدةُ حُلْما فلْيُمْسِـكِ اللهُ الصبــاحَ لَديْــهِ
أو كان تقبيلي خيـــالَك جُرْمـــا فلْيُغْلِقــوا كلَّ الدُروبِ إليـهِ
أو كان عشقُكِ في فؤادي سَهْمَا فلْتنطبقْ كلُّ الضلـــوعِ عليْـهِ
مَن كان قلبـي في يديْـهِ رهينـــةً فعواطفي ومشـاعري بيديهِ (63)
فأنا ما نظرتُ فريدةَ ، هذه ، أبـداً ، ولا اجتمعت بها مطلَقاً ، ولا خاطبتُها إلاّ في خيالي ، وهل في ذلك من حرج ؟ وهل عليَّ من بأس؟
ومن ذلك ما رُويَ عن عاشقِ أمِّ عمرٍو : فقد حُكي عن الجاحظ أنه قال ألفت كتاباً في نوادر المعلمين وما هم عليه من التغفُّل ثم رجعت عن ذلك وعزمت على تقطيع ذلك ، فدخلت يوماً مدينةً فوجدت فيها معلماً في هيئة حسنة فسلمت عليه فردّ عليّ أحسنَ ردِّ ورحّب بي ، فجلست عنده وباحثتُه في القرآن فإذا هو ماهرٌ فيه ثم فاتحتُه في الفقه والنحو وعِلم المعقول وأشعارِ العربِ فإذا هو كامل الآداب ، فقلت : هذا والله مما يُقوّي عزمي على تقطيع الكتاب ، قال فكنتُ أختلف إليه وأزوره ، فجئتُ يوماً لزيارته فإذا بالكُتّاب مغلق ولم أجدْه ، فسألت عنه فقيل مات له ميّت فحزن عليه وجلس في بيته للعزاء ،فذهبت إلى بيته وطرقتُ الباب ، فخرجت إلي جارية وقالت ما تريد؟ قلت : سيّدَك فدخلت وخرجت وقالت: باسم الله ، فدخلت إليه وإذا به جالس ، فقلت: عظّم الله أجرَك ، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، كلُّ نفس ذائقةُ الموت ، فعليك بالصبر ، ثم قلت له: هذا الذي توفي ولدُك؟ قال: لا ، قلت: فوالدُك ؟ قال: لا قلتُ فأخوك ؟ قال: لا ، قلت: فزوجتُك؟ قال: لا ،فقلت: وما هو منك ؟ قال: حبيبتـي ، فقلت في نفسي هذه أوّلُ المناحس ، فقلت : سبحان الله ، النساءُ كثيرٌ وستجدُ غيرَها ، فقال: أتظنُّ أنّي رأيتُها ؟ قلتُ وهذه منحسة ثانية ، ثمّ قلت: وكيف عشقت من لم ترَ ؟ فقال: اعلم أنّي كنتُ جالساً في هذا المكان وأنا أنظر من الطاق إذ رأيت رجلاً عليه بُرْدٌ وهو يقول:
لا تأخذين فؤادي تلعبين بِهِ فكيف يلعب بالإنسان إنسانا
فقلت في نفسي لولا أنّ أمَّ عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها ما قيل فيها هذا الشعر فعشقتُها فلما كان منذ يومين مرَّ ذلك الرجل بعينه وهو يقول:
لقد ذهب الحمارُ بأمِّ عَمْرٍو فلا رجعت ولا رجَـعَ الحمارُ
فعلمت أنها ماتت فحزنت عليها وأغلقت المكتب وجلست في الدار ، فقلت: يا هذا إنّي كنت ألّفتُ كتاباً في نوادركم ــ معشر المعلمين ــ وكنتُ حين صاحبتُك عزمت على تقطيعه ،والآن قد قوّيتَ عزمي على إبقائه وأوّل ما أبدأ أبدأ بك إن شاء الله تعالى.(64) وظنُّنا بأنَّ هذا المعلِّم من أولئك العُشّاق الذين نتحدَّثُ عنهم ، عشّاق الروح لا عُشّاق الجسد ، غير أَنّ الجاحظ لا درايةَ له بهذه الأحوال ، وإلاّ لما كان صنّفَ ذلك العاشق ، الذي سَبَقَ أنْ شهِدَ له برجاحة العقلِ وسَعَةِ العلم ، في المجانين ، نعم قد يأخذُ الحبُّ القلبَ فيطيش العقلُ فيتكلم اللسان كلامَ مَن جُنَّ أو خُمِرَ أو غلى دمُه أو أُغشى عليه وإذا كان مثلُ هذا العالم النبيهِ مجنوناً ، فمن العاقلُ إذاً ؟
ولقد ذكر ابن حزمٍ في كتابه الشهير (( طوق الحمامة)) هذا النوع من العشق بقوله:(( من غريب أصول العشق أن تقع المحبة بالوصف دون المعاينة)) .(65)
لكنَّ الناسَ يطلقون هذه الصفةَ ـ أحياناً ـ على كلِّ مَن خالفَ طبعُه طباعَهم، وأتى بما لم يعتادوا عليه ، ولا يستطيعونه ، ويكفي هؤلاء شرَفاً أنَّ سيد العقلاءِ محمَّداً بن عبد الله {عليه الصلاةُ والسلامُ} قد أطلق عليهِ كُفّارُ قريشٍ هذه الصفةَوقالوا يا أيها الذي نُزّل عليه الذِكرُ إنّكَ لمجنون) (65)مكرر لأنّهُ إنّما أتى بما لم يأتِ بهِ بشرٌ ، وكذلك الشعراءُ المبدعون الذين يبدعون ما لا يستطيعهُ عامّةُ الناسِ ، فإنَّ الناسَ غالباً ما يصمونَهم بالجنون ، وكثيراً ما يصف الناسُ الزهّادَ والعبّادَ الذين يبلغون في زهدهم وعبادتهم وتضحيتهم في سبيلِ الله ، ما لم يَبلغْهُ أكثرُ الناسِ ، كثيراً ما يتهمونهم بالجنونِ ، ولذلك جاء في الحديث الشريف أكثِروا ذكرَ اللهِ حتى يقولوا مجنونٌ ) (66) . والذكر علامة الحبّ فمن أحبَّ شيئاً أكثر من ذكره . يقول أحد المحبّين :
عجبت لمن يقول ذكـرت ربي وهل أنسى فأذكر من نسيت أموت إذا ذكرتك ثم أحيــــــا ولــولا ماءُ وصـلِك ما حَييتُ
شربت الحب كأساً بعد كأسٍ فمـا نَفِـدَ الشراب وما رويتُ (67)
وفي هذه الحالةِ يَتَعَشَّقُ المحبُّ روح َمحبوبِهِ وربّما أَلبَسَها مِنَ حُلَلِ الجمال وعباءات الكمالِ والصِفاتِ المُثلى ما لا تَتّصِفُ بِهِ في الواقعِ ، ورُبَّما اكْتَشَفَ أنّ محبوبَهُ بعيدٌ كلَّ البُعدِ عن هذه الصفات التي صوّرَها لهُ خيالُهُ ، وفي ذلك أقول:
راحت تُقَطِّفُ أطيافاً من الغَلَسِ وَلْهى ، تُلَمْلِـمُ أشتاتاً لِمُنْـدَرِسِ حَرَّى فؤادٍ وما عهدي به كَلِفاً بلْ كِدْتُ أَحْسَبُهُ ثَلْجاً من القَرَسِ
عتْبى عليَّ ! فــــــلا والحُـبِّ ما خُلُقي
هَجْــرُ الحبيبِ ولا وِدّي بمُنْعَــــــــكِسِ
هذا الغرامُ فكوني طوعَ شِرعتِــــــــــــــــــهِ
أو فاستعدّي لثـــــــأرِ الحُبِّ واحترسي
إنّي اصطنعتُكِ من وهمي مقدَّســـــــــــــةً
إني غسلْتُـــــــك يا سُعدى من الدَنَسِ
إنّي جعلتُــــــــك في محراب صومعتـي
طُهراً يُلازمُ خَفْقَ القـــلبِ كالنفسِ
عتْبى عليَّ وكنتِ الهَـــــمَّ يَسْحقنـي؟
ها قد بَرِئْتُ من الأوهامِ والرَجَسِ (68)
وقد حدَّثتنـي فتاةٌ ، يوماً ، أنَّها تحبُّ الأدبَ والأُدباء كثيراً ، لكنَّها تُحُبَطُ كلَّ ما اقتربت من أديبٍ ، أو عَرَفتْ واحداً منهم عن كثَبٍ ، لأنَّهُا لا تجدُه كما كانت تتصوَّرُ ، فأجبتُها بأنَّ الذي في خيالها هو من عالم المثالِ لا عالَمِ الواقع ، من عالم الروح لا عالم البشر . وفي الحب الروحي يقول الشيخ الأكبر في فتوحاته:
المهمُّ أنْ يرقَّ قلبُ الإنسانِ ، ويَرْهُفَ حسُّهُ ، فيتغلَّبُ عالَمُ لطافتِهِ على عالَمِ كثافتِهِ ، ويعرُجَ خيالُهُ بِروحِهِ في عوالمِ الحُبِّ ويترقّى في مدارجِ الشوق والوجد .
والحبُّ مقدَّرٌ على الإنسان ليس بيده جلبُه ولا دفعُه لما جاء في الحديث الشريف عن الرسول { صلى الله عليه وسلم }أنّه قال(الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)). (70) وقالوا بأنّ الأرواح عندما خلقها الله في عالَم الذَرّ ِ،كان منها المتقابلُ ومنها المُتدابرُ ، فما تقابَلَ في عالم الذَرِّ تآلف في الدنيا ، وما تدابر هناك تجافى هنا ، واستناداً إلى هذا الحديث الشريف والحديث الآخر الذي يقول فيه المصطفى{عليه الصلاةُ والسلامُ}القلوبَ بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاءُ ) . (71) قلت :
فالحسنُ مظهـــرُه والقلبُ في يــــــدِهِ
والحبُّ قسمتُه،من يغلب القَدَرا؟ [/size]
المرأة في الغزل الصوفي (عبد القادر الأسود) الباب الثالث (2)