يسم الله والصلاة على سيدنا رسول الله ومن والاه وبعد . هذا هو الباب الأول من كتابي ( المرأة في الغزل الصوفي الذي وعدت بنشره وسأوافيكم به تباعاً إن شاء الله تعالى :
المقدمة:
بسم الله الذي لا إله سواه ، وله الحمد حمداً يحبّه ويرضاه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنّ سيدَنا محمّداً رسولُ اللهِ وعبدُه وحبيبُه وصفيُّه ومصطفاه ، وعلى كلِّ عبدٍ له منيبٌ وبحبّه أواه ، أمّا بعد .
لَطالما تَطَلّعتُ إلى جَلاءِ حقيقةٍ مَنَّ اللهُ عليّ بفهمِها عن أهلِها الذين مَنَّ عليَّ بصحبتِهم والانتظامِ في سلكِهم ، وأَكرمني بمحبَّتِهم وتَذَوُّقِ شَرابِهم ، فعَرَفْتُ منـذ عام /1964/ المربيَ الكبيرَ الشيخَ عبدَ القادرِ عيسى ــ تغمّده اللهُ برحمتِه ، وجزاهُ عنّي خيرَ ما جازى شيخاً عن مُريدِه ــ وكان الشيخ عبد القادر خليفةَ الوَليِّ العارفِ بالله السيد محمد الهاشمي {رضي الله عنهما} في حلب ، وكنتُ حينَها في السادسةَ عشْرةَ من عُمري ، فتربّيْتُ على يديْه ، ورأيتُ الكثيرَ من كراماته ، على عادةِ أهلِ اللهِ في تثبيتِ قلبِ المُريدِ لِيَثِقَ بهم ، لأنّ الثقةَ بالطبيبِ لازمةٌ للانتفاع بدوائه .
ثم أنهيتُ دراستي ، ودُعيتُ لأداءِ خِدمةِ العلم ، وشاءت العِنايةُ
الإلهيّةُ أنْ تكون خِدمتي في دمشقَ ، وأنْ أَسكُن في الَحيِّ الذي كان يسكنه السيد الهاشمي ((شيخ شيخي)) {رحمة الله عليهما} ، وكان يسكن في ذاك الحيِّ ((المهاجرين)) كوكبةٌ من محبي الشيخ ومريديه الذين كانوا قد آثروا جِوارَه ، فانتفعتُ بهم ، ولاسيّما خليفتُه في دمشق العارف بالله الكبير المرحوم المرشد الشيخ عبد الرحمن الشاغوري الذي أَفدتُ الكثيرَ من علومِه ومعارفِهِ ، وعلى يديه دخلتُ الخُلوةَ ، كلُّ ذلك كان بترتيبِ الحكيمِ العليمِ وتدبيرِهِ ، ولم يكن لي فيه أيّةُ إرادةٍ أوكَسْبٍ ، وكان الشيخُ عبد الرحمن شاعراً ومنشداً ، إضافةً إلى علومِهِ الجَمَّةِ التي أخذها عن مشايخه ، وبخاصةٍ السيدُ الهاشميُّ ، وهذا ما جعلني أحبُّه أكثرَ ، وجعلني منه أقربَ ، فأغدق عليَّ ما قسمَهُ اللهُ تعالى لي من علومِ القومِ وأذواقِهم وأحوالهم .
ونظراً لشغفي بالشعر والإنشاد ، فقدكنتُ أقرأ أشعارَ السادةِ الصوفيّة وغزلَهم ، والشروحَ لها والدراساتِ عليها ، فلا أجد فيها ما يتّفقُ معَ ما أخـذتُه عِلْماً وذوقاً عن العالِم العارِفِ الشاعرِ الصوفيِّ الشيخ عبد الرحمن {تغمده الله برحمته} ، وأتحدّث في ذلك مع بعضِ إخواني وأصحابي .
ثمَّ عزمتُ على أن أُحرّرَ هذا الفهمَ في رسالةٍ وجيزةٍ تعميماً للفائدةِ ، وحتّى لا أَدخُلُ فيمن كَتَمَ عِلماً عندَه ، ولمّا شَرَعتُ في ذلك وجدتُ من الخيرِ أنْ أبدأَ بالحديثِ عن القومِ وطريقِهم في محبّةِ اللّهِ ، ثم أتحدّث عن نَظَرِهم إلى خلق الله ، ولمّا أخذتُ أُقلّبُ صفحاتِ المراجعِ والمصادِرِ ، وقفتُ على الكثير مما هو مُشوّقٌ ومُفيدٌ من قَصصِ الُمحبّين والعُشّاقِ ، فأحببتُ أنْ أَنقُلَ بعضَهُ إلى إخوتي القراء ، وما كان نقلي لهذه القَصَصِ نقلاً حرفيّاً ، إنّما حذفتُ منها ما لا يتّفقُ والغايةِ المتوخّاةِ ، وأَضفتُ وهذّبتُ ، وصحّحتُ ما فيها من أخطاء نحْويّةٍ أو إملائيّةٍ أولُغَويّةٍ ما استطعتُ ، وأشرتُ إلى مسائلَ في النحوِ واللّغةِ ما قدّرتُ نفعَه ، لاسيّما في قِصّةِ عشقِ السيّدَةِ زُليخا لسيدِنا يوسفَ {عليهما السلام} ، مما استفدتُهُ من المراجع التي أشرتُ إليها .
ثمّ بدا لي أن أُضيفَ باباًأضمّنُه مختاراتٍ شعريَّةٍ لبعضٍ من كبارِ رجالِ التصوُّفِ مع ترجمةٍ مختصرةٍ لكلٍّ منهم تعريفاً به وبمكانتِه العلميّةِ والأدبيّةِ ، فأصبح الكتابُ مقسّماً على ستّةِ أبوابٍ : بابٌ للتعريفِ بالتصوّفِ ، وبابٌ للاطلاعِ على نظرةِ الصوفيّين إلى الوُجود ، كلِّ الوُجودِ ، وبابٌ للتعرُّفِ على نظرةِ الصوفيّين إلى المرأةِ كواحدٍ من مكوّناتِ هذا الوُجود ، وكيف نَظَرَ إليها الشرعُ الإسلاميُّ ، وما هي أحكامُ معامَلتِها وعشقِها منْ قِبَلِ العامّةِ ومن قِبَلِ رجالِ التَصوّفِ ، وبابٌ لباقةٍ منَ الغَزَلِ الصوفيِّ . وبذلك أصبح الكتابُ ــ كما أراه ــ ممتعاً ومفيداً وضّحَ للناسِ الكثيرَ ممّا جهِلَهُ منهمُ الكثيرُ .
وقد بدأتْ رحلةُ هذااكتاب في ربيع عام /2007/م عندما طَلبت منّي جمعيّةُ العاديّات بإدلب محاضرةً ، فأعطيتُ هذا العنوان {المرأةُ في الغزلِ الصوفيِّ} ، وأَعددتُ فيه بحثاً موجَزاً يَصلُح للمُحاضرةِ ، لكنّ وعكةً صِحيّةً أَلَمّتْ بي ، حينها ، فاعتذرتُ .
ثمّ دُعيتُ بُعيْدَ ذلك إلى مدينةِ أَنطاكيّةَ ــ وكنتُ وقتئذٍ رئيساً لفَرع اتحاد الكتاب العرب بإدلب ــ للمشاركةِ في مهرجانٍ أدبيٍّ ، فشاركتُ بقصيدةٍ لفتتْ نظرَ الشاعرةِ الدكتورة السيدةِ : بهيّة كوسال ، عميد كلّيّةِ الآداب في جامعة غازي عنتاب ، لما فيها من أبعادٍ للفكر الصوفيُّ ، فقد جرى بعدَها حوارٌ بيني وبينها ، وعَرَضتُ عليها نَصَّ الُمحاضرةِ إياها ــ وكانت معي على جهاز الحاسوب ــ فأُعجبتْ بها أَيّما إعجابٍ ، ودَعَتْني إلى النزولِ ضيفاً على جامعةِ غازي عنتاب لإلقاءِ مُحاضرتي تلك في كُلّيّة الآداب التي هي عميدُها ، فأجبتُ دعوتها وحاضرتُ بحضورِها وحضورِ رئيس الجامعةِ ولفيفٍ من أساتيذِ الجامعةِ وطلابِها ، وجرى بعدَها حِوارٌ قيّمٌ . ثم منحتُ شهادةً تقديريَّةً من إدارةِ الجامعةِ نظراً لجِدَّةِ المَوضوع وحداثةِ الطرحِ وعظيمِ الجُهدِ . الأمرُ الذي شجّعني على متابعةِ بحثي حتّى ظهرَ هذا الكتابُ بهذه الحُلّةِ القشيبةِ . وأظنُّ أنَّ مَنْ يتصفّحُهُ سوف يحبّه ولن يستغنيَ عنه أبداً.
راجياً جزيلَ ثوابِهِ {سبحانَه} ، ودعوةً مخلصةً من أخٍ كريمٍ ، بظَهْرِ الغيبِ ، أَوْ أُختٍ كريمةٍ ، عسى أنْ يكون لي ذلك خيراً جارياً وعملاً مستمرَّ الأجرِ والمَثوبة بمنّه تعالى وكرمِهِ وجودِه . ولا أدّعي في ذلك عصمةً ولا كمالاً ، فإنّ العصمةَ للأنبياء{عليهم السلام} ، وإنَّ الكمالَ لله وحدَه {جلَّ وعلا} ، فما من عملٍ لمخلوقٍ يخلو من نقصٍ أو عيبٍ ، حيث لا يُتصوّرُ أنْ يَصدُرَ كمالٌ عن ناقص البتّة , كما لا يُتصوّرُ أنْ يَصدُرَ نقصٌ عن كمالٍ ، ورحم اللهُ المتنبي ؛ حيث قال:
ولم أرَ في عيوب النَّاس عيباً كنقص القادرين على التَّمامِ
وصلى الله على سيد الأولين والآخرين ، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
زحلة : 25/ربيع الثاني/1430هـ ــ 21/نيسان/2009 م
عبد القادر الأسود
تمهيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي تجلّى على من أَحَبَّ من خلقِهِ بخاصَّة العبوديَّةِ له ، وفتح لهم أبواب الفهمِ عنه والتلقّي منه ، وسَلَكَ بهم سُبُلَ الهِداية إليه وأَكرمَهم بدِلالةِ خَلْقِه عليه ، والنظرِ في عالمَيْ مَلكوتِه ومُلْكِه ليعرفوه في جميعِ تجليّاتِهِ بأسمائِه وصفاتِه ، وقَدَّسَ قلوبَهم بأنوارِ ذاتِه .
والصلاةُ والسلامُ الأتمّان الأكمَلان على ، أكملِ خلقِهِ ، وصَفْوَةِ أنبيائه ورُسُلِهِ ، إمامِ المتّقين ووليِّ المؤمنين وحبيبِ رَبِّ العالمين ، وعلى جميعِ إخوانِهِ من النبيّين والمرسلين وعلى آلِ كلٍّ وصحبِ كلٍّ أجمعين ، وبعد .
ثَمَّةَ طائفةٌ من المؤمنين ، والعلماءِ العاملين ، يُسَمَّوْنَ بالصُوفيّين اصْطَفَتْهُمُ الذاتُ العليّةُ إلى حضرةِ قدسِها ، وأَسْبَلَتْ عليهم جَلابيبَ محبَّتِها وأَسْبَغَتْ عليهم رِداءَ مَعرِفتِها ، وأَسَرَتْ قلوبَهم بجمالِها ، ومَنَّتْهم بوِصالهِا, فتَعَلَّقتْ بها أفئدتُهم , وانْغمَستْ في بحارِ أنَوارِها أرواحُهم , وانْطَمَسَتْ في مجالي ظُهورِها ذَواتُهم ، وماتتْ فيها نفوسُهم وانْشَغَلتْ بدَقائق أَسرارِها أَفكارُهم واشْتَعَلَتْ بالشوقِ إليها قلوبهم ، وسكنت إليها جَوارِحُهم ، وحارتْ في مَعْناها عُقولُهم . إنْ نَظَروا فإليْها وإنْ سَكَتوا فبِها ، وإنْ حَدَّثوا فعنْها ، وقد تَرْجَمَتْ أحوالَهم ألسنتُهم وأقلامُهم .
و نَظَر الناسُ في كلامِهم فقَصُرتْ عنْه أَفهامُهم ، وعَجَزتْ عنَ بلوغ مراميه مَداركُهم ، لِبُعْدِهم عنهم ، فكان الناسُ فيهم على طريقين : تأوَّلَ لهمُ الصالحون ، واعْتَرَضَ عليهم المُرْتابون . وكنتُ فيمن أَكْرمَهُ اللهُ بمعَرفِتِهم وصُحبتِهم والأخذ عنهم ، وشُربِ فضَلاتِ كؤوسِهم ، فسَكِرْتُ بشَذا خمرَتِهم ، وتَعلّقتْ روحي بهم ، وتَشَوَّفَتْ نَفْسي إلى مغانيهِمُ ، واسْتَشْرَفَ عَقلي ولُبّي مَعانيهِمُ . فإليك ــ عزيزي القارئ ــ الفصلَ في قَضِيَّةٍ شَغَلَتِ الكثيرين ممن قرؤوا أَشعارَهم ، واسْتَمعَوا إلى غَزَلِهم . واللهُ الموفّقُ إلى صالحِ الأعمالِ فهو القصدُ وعليه التُكْلان . ربّنا افتحْ بيننا وبين قومِنا بالحقِّ وأنتَ خيرُ الفاتحين . اللّهمَّ عَلِّمْنا ما ينفعُنا وانفعْنا بما عَلَّمتَنا إنّك على كلِّ شيءٍ قدير ، وبالإجابة جدير ، ربَّنــــا عليك توكلْنا وإليك أنَبْنا وإليكَ المصيرْ .
الثالث من ذي الحجة 1429هـ عبد القادر الأسود
أبواب الكتاب :
1- لمحـــــــــــة عن التصــــــوّف .
2- نظرة الصوفيّـين إلى الكــون .
3- الحبُّ عند الصـــــوفيـــــين .
4- نظرة الصوفيــّين إلى المرأة .
5- مـــــن قصص المحبّــــــــين .
6- مختارات من الغزل الصوفيّ .
الباب الأول:
لمحة عن التصوّف الإسلامي
التصوُّف هو الركنُ الثالثُ من الدين الإسلاميِّ الحنيف {الإحسان} لأنَّ أَرْكانَ الدين الإسلاميِّ ثلاثةٌ ، بإجماعِ الأُمَّةِ ، لما وَرَدَ في الحديثِ الشريفِ الذي أخرجه الإمامُ البخاري والإمام مسلم {رحمهما الله} في صحيحَيْهما ، وهما أصدقُ الكتب نصّاً وأصحُّها روايةً ــ بعد كتاب الله {جلّ في علاه} وقد أخرجه الإمام مسلم في كتاب الإيمان من صحيحِه ِ، عن سيدنا عمرَ بنِ الخطابِ {رضي اللهُ عنه} ، وكذلك أخرجه الإمامُ البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه ، وهذه روايته عن أبي هريرة {رضي الله عنه} . قال :((كان النبيُّ {صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم} بارزاً يوماً للناس ، فأتاه رجلٌ فقال : ما الإيمان ؟ قال الإيمانُ أنْ تؤمنَ باللهِ وملائكتِهِ وبلقائه وبرسلِه وأن تؤمن بالبعث . قال : ما الإسلامُ ؟ قال : الإسلامُ أن تعبُدَ اللهَ ولا تُشرِكَ به ، وتقيمَ الصلاةَ ، وتُؤتيَ الزكاةَ المفروضةَ ، وتصومَ رمضان . قالَ ما الإحسانُ ؟ قالَ : أن تعبُدَ اللهَ كأنَّكَ تراهُ ، فإنْ لم تكنْ تَراهُ {سبحانه وتعالى} فإنَّه يراك . قال : متى الساعةُ ؟ قال : ما المسئولُ عنها بأَعلمَ من السائلِ ، وسأخْبرُك عن أشراطِها : إذا وَلَدَتِ الأَمَةُ ربّها ، وإذا تطاوَلَ رُعاةُ الإبِلِ البَهْمِ في البُنيانِ ، في خمسٍ لا يعلَمُهُنَّ إلاّ اللهُ , ثمَّ تلا النبيُّ {صلى الله عليه وآلِه وسلّم} : {إنَّ اللهَ عندَه عِلمُ الساعةِ} الآيةَ ، ثمَّ أَدْبَرَ ، فقالَ رسولُ الله{صلى الله عليه وسلّم} : رُدُّوهُ فلم يَرَوْا شيئاً ، فقال : (هذاَ جبريلُ أتى يُعلِّمُ الناسَ دينَهم) . (1)
فالدين ــ إذاً ــ بنصّ الحديثِ الصحيحِ السابقِ ، إيمانٌ وإسلامٌ وإحسانٌ ، والإحسانُ مراقبةُ المرءِ للهِ {عَزَّ وجلَّ} في عاداتِه وعباداتِه وفي جميعِ أحوالِه ، وتقديمُهُ الإخلاصَ للهِ {تعالى} في أعمالِهِ ، وفي جميع حَرَكاتِهِ وسَكناتِهِ .
يقول العلاّمةُ الحافظُ أبو عبد الله محمد صِدّيق الغِماريُّ {رحمه الله} وقــد سُئلَ عن أوّل مَنْ أسّسَ التصوُّفَ ، وهل هو بوحيٍ سماويٍّ ؟ فأجاب :
(أمّا أوَّلُ من أسَّسَ الطريقةَ ، فلْتَعلمْ أنَّ الطريقةَ أسّسها الوحيُ السماويُّ ، في جملةِ ما أسّسَ من الدين المحمّدي ، إذ هو بلا شكٍّ مَقامُ الإحسانِ الذي هو أَحَدُ أَركانِ الدينِ الثلاثةِ التـي جعلها النبيُّ {صلى الله عليه وسلّم} ــ بعد ما بيّنَها واحداً واحداً ــ ديناً بقوله : (هذا جبريلُ أتاكم يعلّمُكم دينَكم) وهي الإسلامُ والإيمانُ والإحسانُ .
فالإسلامُ طاعةٌ وعِبادةٌ ، والإيمانُ نُورٌ وعقيدةٌ ، والإحسانُ مَقامُ مُراقبةٍ ومُشاهدةٍ ، إلى أنْ يقول:فمن أَخَلَّ بهذا المقـام {الإحسان} الذي
هو الطريقةُ ، فدينُه ناقصٌ بلا شكٍّ ، لتركِهِ رُكْناً من أركانِهِ .
فغايةُ ما تدعوا إليهِ الطريقةُ وتُشيرُ إليْه هو مَقامُ الإحسـانِ بعد تَصحيحِ الإسلامِ والإيمانِ ) . (2)
وقد جاء في الحديثِ الذي رَواهُ البَزَّارُ ورَواهُ الطَبَرانيُّ في الجامعِ الكبيرِ ، من حديث ِسيّدنا أَنسٍ بنِ مالكَ {رضي الله عنه} أنَّ سيِّدَنا رسولَ الله {صلى الله عليه وسلَّم} سألَ الصحابيَّ الجَليلَ سيِّدَنا حارثَةَ {رضي اللهُ عنه}فقال : (كيف أصبحتَ يا حارثةَ ؟ فقال حارثةُ : أصبحتُ مؤمناً حقّاً يا رسول الله ، قال رسولُ الله : اُنْظرْ ما تَقولُ فإنَّ لكلِّ أَمْرٍ حقيقةٌ ما حقيقةُ إيمانك ؟ فقال حارثةُ: عَزَفَتْ نفسي عن الدنيا فأسهرتُ ليلي ، وأظمأتُ نهاري ، وكأنّي أَنظرُ إلى عرشِ ربّي بارزاً ، وكأَنّي أَنظُرُ إلى أهلِ الجنَّةِ في الجنّةِ يَتزاوَرونَ ، وإلى أهلِ النارِ في النارِ يَتعاوُون ، فقال النبي {صلى الله عليه وسلَّم} : (عَرَفْتَ فالْزَمْ عَرَفْتَ فالْزَم)، وهذا هو التصوُّف الحقُّ وهذه غايتُه . وقــد جاء في كتاب اللُّمَـع لأبي نصرٍ السَراج الذي حقّقـــهُ إمـامُ الأزهرِ الشريفِ الدكتورُ عبـدُ الحليمِ محمود {رحمه الله} ما نَصُّه : (الصوفيّةُ أرْبابُ أَحوالٍ وسلوكٍ ، منها الاعتراضُ لِسلوكِ سُبُلِ الأَولياء ، والنزولُ في منازِلِ الأَصفياء) ويقول إمام الطائفتين ــ أهل الحقيقة وأهل الشريعة ــ الجُنيدُ{رضي الله عنه} في حَدِّ التصوّفِ : (أَن تكونَ مع اللهِ بِلا عَلاقةٍ) وقيل : (هو العِصْمَةُ عن رؤيةِ الكَوْن). (3)
وقال أبو فيروزٍ الكَرْخِيُّ المتوفى سنة /200/ للهجرة النبويّة وهو من {الطبقة الأولى من رجال التصوُّفِ} في حَدِّ التصوِّفِ ، بأنّ التصوُّفَ: (هو الأخـذُ بالحقائقِ واليأسُ مما في يَدِ الخلائق) . (4) كما قال رُوَيْمٌ بنُ أحمدَ البغداديُّ المتوفّى سنة /303/ هـ {وهو من الطبقةِ الثانية}: (إنّه ، أي التصوُّفُ ، اسْتِرْسالُ النفسِ مع اللهِ {تعالى} على ما يُريد). (5) أمّا أبو محمد الحريري المتوفّى سنة /311/ هـ {وهو من الطبقة الثالثة} فقد عَرّفَ التصوُّفَ بقوله : (هو الدخولُ في كلِّ خُلُقٍ سَنـيٍّ والخروجُ من كلِّ خُلُقٍ دَنيٍّ). (6)
وقال بعضهم : (التصوُّفُ كلُّه أخلاق ، فمن زاد عليك بالأخلاق ، زاد عليك بالتصوُّف) . (7) ذلك لأنّ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول إنّما بُعِثْتُ لأتمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ ، والصوفي الحَقُّ هو مَن جعلَّ همَّه اتّباعَ رَسولَ الله {صلى الله عليه وسلّم} في جميعِ أَقوالِهِ وأفعالِهِ وأَحوالِهِ ، والتخلُّقَ بأخلاقه .
ويقول أبو بكرٍ الشِبْليُّ{وهو من الطبقة الرابعة}المتوفى سنة/334/ للهجرة : (التصوُّفُ هو الجلوسُ مع اللهِ بِلا هَمٍّ) . ( ويقولُ إمامُ الطريقةِ الشاذليّة الشيخُ أبو الحسن الشاذِليُّ {رضي الله عنه} : (التصوُّف تدريبُ النفس على العبوديَّة ورَدُّها لأحكامِ الرُبوبيّة) . (9) وقال الشِبْليُّ أيضاً : (الصوفيُّ مُنْقَطِعٌ عن الخلقِ متَّصلٌ بالحقِّ ، لقولِهِ {تعالى} :(واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسي) . (10)
أمّا مَنْ هو الصوفيُّ فقد قال أبو تُرابٍ النَخْشَبـيُّ/245/ هـ {وهو من الطبقة الأولى} في تعريفه : (الصوفـيُّ لا يكدٍّرُهُ شيءٌ ويَصفو به كلُّ شيءٍ) . (11) ومن {الطبقة الثانية} يقول أبو الحَسَنِ النُورِيُّ /295/ هـ بأَنَّ مِن وَصْفِ الصوفيِّ : (السكونُ عندَ العَدَمِ والإيثارُ عند الوُجودِ) (12) ومن {الطبقة الثالثة} يقول الحلاّجُ /309/هـ : (الصوفي وَحْدانيُّ الذاتِ لا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ ولا يَقْبَلُ أَحَداً) . (13) ومن {الطبقة الرابعة} يقول السرّاج /378/ هـ في صِفةِ الصوفيَّةِ : (الصوفيّةُ همُ العلماءُ بأحكامِ اللهِ ، العاملون بما علَّمَهُمُ اللهُ ، المتحقّقون بما اسْتَعْمَلَهُمُ اللهُ ، الواجدون بما تحقَّقوا، الفانون بما وَجَدوا) . (14)
مما تقدّم يتبين لنا أنَّ التصوّف هو لبُّ الدين الإسلاميِّ الحنيف
وروحُه على مقتضى الشريعة السمحة والملّة الحنيفيّة ، وأنَّ المتصوّفين هم العاملون بظاهر الشريعة المتحقّقون ببواطنها وغاياتها ، وأنّهم في ذلك كلِّه مقتدون بمن نزلت عليه هذه الشريعة سيد الوجود محمد بن عبد الله {عليه الصلاة والسلام} .ولذلك فقد عَدَّ الإمامُ الشعرانيُّ {رضي الله عنه} مُنكِرَ طريقِ القومِ كافراً من حيثُ لا يشعُرُ ، لأنّهُ إنّما يَكْفُرُ بِشرْعِ ربّهِ الذي نَزَّلَ على عبدِهِ {عليه أفضلُ الصلاة وأتمُّ السلام} يقول في (كتابه لواقح لأنوار القدسيّةِ في بيان العهود المحمّدية) ما نصُّه : (وإيّاك أن تقول بأنَّ طريق الصوفيَّة لم يأتِ بها كتابٌ ولا سُنَّةٌ فإنَّه كفرٌ ، فإنَّها كلَّها أخلاقٌ محمّديّةٌ سَداها ولُحمتُها منها) . (15)
وقد فصّل في ذلك العلاّمة العارف الشيخ عبد الغنـي النابلسي {طيّب الله ثراه} في رسالة له سمّاها (أنوارُ السلوك) فقال : (اِعلم أنَّ هذه الشريعةَ المحمّديَّةَ والمِلَّة الإسلاميّةَ ليست كغيرها من الشرائعِ المتقدِّمة المنسوخةِ ــ الآن ــ والمِلَلِ المعهودةِ عند أهلِ الباطل ، فإنَّ الشرائعَ المُتقدِّمةَ كانت الأنبياءُ {عليهمُ السلامُ } إذا جاؤوا بها إلى أُمَمِهم يكون المتّبِعُ لها منهم طوائفَ قليلين ، وجماعاتٍ ، بالنسبةِ إلى هذه الأمّةِ ، ليسوا بالأكثرين الأَجَلّين ، فغايةُ ما يتقرَّرُ عندَهم ، بعد الإيمان بأنبيائهم ، أحكامُ الشرائعِ الظاهرةِ والأعمالِ المنوطةِ بالعوام ، من الاعتقادات الإجماليّة والأعمال البدنيّة ، والحِكَمِ المتعلِّقةِ بالأخلاقِ والأحوالِ القلبيّةِ ، وهذا غايةُ ما يكونُ ، دون الأسرارِ الربّانيَّة والحقائقِ العِرفانيّة التي اختُصّ بحَوْزِها أولياءُ هذه الأمَّةِ ، وتوجّهت إليها بواطنُ السالكين بالنيّةِ الخالصةِ وصدْقِ الهمَّةِ ، فيكونُ أفضلُ الرجالِ بينهم (أي بين الأمم المُتقدّمة) من يعملُ بالظواهرِ من الطاعات ويترقّى إلى الاتِّصافِ بحُسنِ الأخلاق القلبيَّةِ . والنادرُ القليلُ جدّاً من يتحقّقُ ببعضَ الحقائقِ الإلهيّةِ والتجلّيات الربّانيَّةِ ، وأما هذه الشريعةِ المحمّديّة والملّةِ الإسلاميّةِ ، فإنّها ــ ولله الحمدُ والمنّة ــ عظيمةُ المقدار شريفةُ الآثارِ ناسخةٌ لجميع الشرائع الماضيةِ ، لتضمّنها لها مع زياداتٍ كثيرةٍ وفضائلَ جَمَّةٍ ..) إلى أنْ يقول : (وقد أخذت الصوفيَّةُ السالكون على منهجِ الأعمال الصالحة والتقوى علومَ الطريقةِ المحمّديّةِ وقرّروا الأخلاقَ القلبيّةَ ، والأحوالَ الإنسانيّةَ .. ثمّ يتابع : وأخذ المحقّقون العارفون بالله {تعالى} على التحقيق والكشفِ والعيان ــ بحسبِ الاستعداد الوَهْبـيِّ ــ علومَهم ومعارفَهم وحقائقَهم من بواطن أسرارِ الشريعةِ المحمّديّة ، وإشاراتِ الكتابِ والسُنّةِ ، ونشروها في هذه الأمّةِ) . (16)
وقيل بأنَّ التصوّف من الصفاءِ وتَزْكيَةِ النفسِ ، وإفْرادِ القلبِ لله {تعالى} يقول أبو الفتحِ البَسْتـيُّ {رحمه الله} :
تَنَازَعَ الناسُ في الصوفيِّ واختلفـــــوا
وظَنَّهُ البعضُ مُشْتَقّــاً من الصـــوفِ
ولست أمنحُ هذا الاِسمَ غير فـــتـى
صَفــا فصُوفيَ حتّى سُمِّيَ الصُــــوفي
(17)
جاء في كتاب البرهان المؤيَّد أنّ السيد أحمد الرفاعي (رضي الله عنه) قال : ((التصوف الإعراض عن غير الله ، وعدم شغل الفكر بذات الله ، والتوكل على الله ، وإلقاء زمام الحال في باب التفويض وانتظار فتح باب الكرم والاعتماد على فضل الله ، والخوف من الله في كل الأوقات ، وحسن الظن به في جميع الحالات)) . (18)
يقول شيخُنا المُربي الكبيرُ والعارِفُ بالله الشيخ عبد القادر عيسى {رحمه الله تعالى} في كتابِهِ حَقائق عن التصوّف ما نَصُّه : (ونحن إذْ نَدْعو إلى التَصوُّفِ إنّمـا نَقصـد بـه تَزْكيَـةَ النفوسِ ، وصَفاءَ القلوب وإصلاحَ الأخلاقِ ، والوصولَ إلى مَرْتَبَةِ الإحسان) . (19)
ويقول الإمامُ الصاويُّ (رحمه الله) : (فَأَهْلُ الشُّكْرِ صَفْوَةُ اللَّهِ تَعَالَى) اصْطَفَاهُمْ وَخَلَّصَهُمْ مِنْ كَدَرِ الْقَلْبِ وَيُقَالُ لَهُمْ : صُوفِيَّةٌ : مِنْ صَفَا يَصْفُو إذَا خَلَصَ ، أَوْ مِنْ صُوفِيَ إذَا صَافَاهُ غَيْرُهُ ، أَوْ نِسْبَةً لِلُبْسِ الصُّوفِ ؛ لِأَنَّهُ شَأْنُهُمْ تَبَاعُدًا عَنْ التَّرَفُّهِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيُّ : الصُّوفِيُّ مُرَكَّبٌ مِنْ حُرُوفٍ أَرْبَعَةٍ فَالصَّادُ صَبْرُهُ وَصِدْقُهُ وَصَفَاؤُهُ وَالْوَاوُ وَجْدُهُ وَوُدُّهُ وَوَفَاؤُهُ وَالْفَاءُ فَقْدُهُ وَفَقْرُهُ وَفَنَاؤُهُ وَالْيَاءُ لِلنِّسْبَةِ إذَا تَكَمَّلَ نُسِبَ إلَى حَضْرَةِ مَوْلَاهُ ، وَقَالَ عَلِيٌّ {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ} : لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَا يَـكُونُ الصُّوفِيُّ صُوفِيًّا حَتَّى لَا يَكْتُبَ عَلَيْهِ كَاتِبُ الشِّمَالِ شَيْئًا عِشْرِينَ سَنَةً أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْهُ ذَنْبٌ ، بَلْ كُلَّمَا أَذْنَبَ تَابَ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِمْهَالِ: أَيْ أَنَّهُ لَا قَرَارَ لَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ) . (20)
وقــد ظهرتْ ، فيمـا بعــدِ عهدِ النبوَّةِ ، تَسْمِياتٌ كثيرةٌ اقتضَتْها الحاجةُ وفَرَضَها التطوُّرُ والاختصاصُ ، ولم يعترض عليها أحَد ، كالفُقهاء ِ: وهمُ المُختَصُّونَ باسْتِنباطِ أَحكامِ الشريعةِ مِن مَصادِرِها المعروفة ، والمفسِّرين : وهم الذين تَخَصّصوا بعلمِ تفسير القرآن ، والمحدِّثين : الذين تَفرَّغوا لجمعِ حديث رسول الله {صلى الله عليه وسلّم } وتصنيفه وحفظِه بإسنادِهِ وتدوينِهِ وبيانِ صحيحِه مِن ضعيفِهِ ، وما هو موضوعٌ كَذِباً وافْتِراءً على رسول الله {صلى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم}وكعِلْمِ النحوِ ، وعلمِ البَلاغةِ ، وعلم العَروضِ ، وغيرِ ذلك من علومٍ مُسْتَحْدَثَةِ الأسماءِ، وكلُّها مِن أَصْلِ الشَريعةِ والدينِ ، فهل يُعْقَلُ أَنْ نَقولَ بأنَّ عِلْمَ الحديثِ ، مثلاً ، هو علمٌ دَخيلٌ على المِلَّةِ والدينِ؟
أو هل يجوز أنْ نَقولَ : إنَّ الرسولَ {صلى الله عليه وسلم} لم يكنْ فصيحاً بليغاً ، وأَنَّ صحابَتَهُ {رضوانُ الله عليهم} لم يكونوا على دِرايَةٍ بهذهِ العلومِ ، لمِجَرَّدِ كَوْنِ هذهِ الأسماء مُستحدثة ؟
أوْ هل يَسوغُ لنا القولُ بأنَّ امْرُؤَ القَيْسِ ، وسِواه مِن شُعَراءِ العربِيَّةِ في الجاهليَّةِ ، لم يكونوا على دِرايةٍ بالشِعْرِ لأَنَّ عِلْمَ العَروضِ لم يَكنْ مَعروفاً في عصرِهم ، وهُمُ الذين اسْتُنبطَ عِلْمُ العَروضِ مِن أَشعارِهم ؟ المُهمُّ هو المُسَمَّياتُ وليست الأسماء .
وإذا دقّقتَ في التاريخِ الإسلاميِّ ، وجَدْتَ مُعْظَمَ أهلِهِ ، من مَشاهيرِ الرجالِ في كلِّ مجَالٍ هُمْ مِن المُتَصَوِّفَة ِ، سواءً أكان ذلك في مَيادينَ العِلمِ والزُهدِ والتَقوى ، أوْ في مجالِ الجهادِ والتضحيةِ بالغالي النفيس في سبيلِ اللهِ ، ابتغاءً لمَرْضاتِهِ {سبحانَه} سواءً بقول الحقِّ والدعوة إليه ، أو في ميادين القتال لإعلاء كلمة الله والذود عن حياض الدين و المقدّسات .
وتاريخُنا القديمُ الأوسطُ والحديثُ حافلٌ بهؤلاء الأبطال ، الذين قارعوا الغزو الاستعماريَّ لبلادنا ، من أمثال الأمير شكيب أرسلان الدمشقي ، الذي قاوم الغزوَ الصليبـيَّ ، والأمير عبد القادر الجزائري ، الذي قاوم الاستعمار الفرنسيَّ ، وعمر المختار ، الذي قاوم الاستعمار الإيطاليّ ، وصلاح الدين الأيوبي ، الذي شجّع المدارس الصوفيّة ليُعدَّ الجيش الذي حرّرَ به القدسَ الشريفَ
وقضى على الحملة الصليبيّة ، وطردَ الغزاةَ من بلادنا . والشيخ سعيد البرهانيّ الذي كان في جيش البطل يوسف العظمة ، وشيخُنا الشيخ عبد الرحمن الشاغوريّ ، الذي شارك في الثورة السوريَّة على الاحتلال الفرنسي لبلادنا العزيزة {رحمةُ الله عليهم جميعاً} . ولو أردنا تَعداد أسماءِ الصوفيّين في ميادين الجهاد والبطولة لقصُر القلمُ ولضاقت الصفحات ، وما ثورةُ السادة النقشبنديَّة اليوم في العراق ، إلاّ صفحةٌ ناصعة البياض في تاريخ الحركات الصوفيّة .
يقول الداعية الإسلامي المعروف الحبيب بن علي الجفري : (وتشكيكُ البعضِ في الصوفيَّةِ لن نسكتَ عنه ... لأنّ هذا يجنـي على الأمَّةِ بأكملِها , فاليوم تحويل صورة التصوف في أذهان الناس على أنّه باطل وضلال وشرك وكفر ، وخطة يهودية تُبثُّ بيننا , .. لأنَّ هذا الكلام معناه عدم الثقة بالقرآن ولا السنة , ولِمَ ؟ لأنّ جميع أسانيدنا نحن أهل الإسلام في رواية الكتاب والسنة مليئة بأئمة التصوف , لا يستطيع أحد ، بل يعجز ، أن يَروي سنداً صحيحاً في إجازة قراءةٍ من القراءات السبع أو العشر للقرآن الكريم إلا وفي أثناء السند إمام من أئمّة التصوّف .. فإن كانوا ضُلاّلاً مشركين أهلَ سوءٍ ، إذاً رواياتنا للقرآن مشكوكٌ فيها)) . (21)
وهاهو حجّةُ الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي {رحمه الله تعالى} يُبدي رأيه في السادة الصوفيَّة {رضي الله عنهم} بعد أن خَبرهم عن قربٍ ، وعرَفهم عن كثبٍ ، وهو حجةُ الإسلام الذي ذاد عن حياض الشريعة وبيّن خطلَ الفرق الضالّة الكثيرة التـي ظهرت في زمانه وحذّر من زيغها وضلالها ، وهو إمام المدرسة النظاميّة التـي كانت تخرِّج علماءَ الأمَّةِ وفقهاءَ الشريعةِ الإسلاميَّة ، الدعاةَ الذين يبيّنون للناس طريقَ الحقِّ ، والذي كان إذا جلس للدرس حضر مجلسَه أربعُ مئةٍ كلُّهم علماء ، بالإضافةِ إلى كبار ِرجالِ الحِكْم ، يقول : (( إنّي علِمتُ يَقيناً أَنَّ الصُوفيَّةَ همُ السالكونَ لِطريقِ اللهِ {سبحانَه وتعالى} خاصّةً .. وأَنَّ سيرتَهم أَحسنُ السِيَرِ وأنّ طَريقَهم أَصوبُ الطُرُقِ ... وأنَّ أَخلاقَهم أَزْكى الأَخْلاقِ ... بل لو جُمِعَ عَقْلُ العُقَلاءِ وحِكمةُ الحُكَماءِ ... وعِلمُ الواقفين على أسرارِ الشَرْعِ مِن العلماءِ لِيُغَيِّروا شَيئاً مِن سِيرَتِهم وأخلاقِهم ، ويُبَدِّلوه بما هو خَيرٌ منه ... لم يجدوا إليه سبيلاً ... فإنَّ جميع حَرَكاتِهم وسَكناتِهم ، في ظاهِرِهم وباطنِهمة مُقْتَبَسةٌ مِن نُورِ مِشْكاةِ النُبوَّةِ .. وليس وراءَ نورِ النبوّةِ على وجهِ الأرضِ نورٌ يُستضاءُ بِهِ.
وبالجُملةِ ماذا يقولُ القائلون في طريقَةٍ أَوَّلُ شُروطِها تَطهيرُ القلبِ بالكُلِّيَّة عَمّا سِوى اللهِ {سبحانَه وتَعالى } .. ومِفتاحُها الجَاري مِنْها مَجْرَى التحريمِ في الصلاة .. اسْتِغْراقُ القَلْبِ بالكُلِّيَةِ بذكرِ اللهِ {سبحانَهوتعالى} وآخرُها الفَناءُ بالكُلِّيَةِ التامَّةِ في اللهِ ؟) . (22) ورحم الله سيدي الغوث أبو مدين الذي يصفهم بقوله :
قومٌ كرامُ السجايا حيث ما جلسوا
يبقى المكــــــــــانُ على آثارهم عَطِرا
يُهدي التصوفُ من أخلاقهم طرقاً
حُسْنُ التآلف منهم راقنـي نَظَــرا
ورحم اللهُ القائلَ فيهم :
لله قومٌ إذا حلّـــــــــــــــــــوا بمنزلـــةٍ
حلَّ السرورُ وسار الجودُ إنْ ساروا
تحيــــا بهــــم كلُّ أرضٍ ينزلون بهـــا
كأنَّهـم في بقـــــــــــــاع الأرضِ أمطـــارُ
وتشتهي العينُ منهم منظراً حسنـاً
كأنّهــم في عيون النـــــــــــاس أقمـــــارُ
لا غيّب الله عنّــــــــا وجهكم أبداً
يا من لكم في الحشا والقلب تَذكارُ
وهذه شهادةٌ قيّمة لواحدٍ من كبار صحابة سيدنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأحد كتاب الوحي الموثوقين عنده ألا وهو سيدُنا معاوية {رضي الله عنه وعن أصحاب رسول الله أجمعين} أوّلُ خلفاء بني أميّة وقد أتت في معرض تأنيبه لابنِ عمّه وأحد كبار قادته وعمّاله على خطأٍ ارتكبه، يقول :
قد كُنت تُشبه صُــوفياً له كُتبٌ
من الفـــــــرائض أو آيات فرقانِ
(23)
وواضح أنّه كان ينظر إلى الصوفيّة بإجلال واحترام لأنهم أهل علم وقرآن ، وواضح أنّ التصوّف كان موجوداً زمن الصحابة ، وفي ذلك أبلغ ردٍّ على من ينكر وجود التصوف زمن رسول الله وأصحابه وأنه بدعة مستهجنة لاصلة لها بالشرع الحنيف وأنَّ أصحابه ضالون مضلّون جهلة ، وهو ما ادّعته الفئةُ الضالّة التي كان وما زال همُّا فرقة المسلمين وشقّ صفوفهم ليكونوا لقمة سائغةً لأعداء الإسلام والمسلمين ، علموا ذلك أو جهلوه .
ونختم هذا الباب بشهادة لواحدٍ من كبار مثقفيِّ هذا العصر ، المفكر الإسلامي النابه ، والصِحافيِّ اللاّمع صديقنا الأستاذ محمد الراشد {حفظه الله} إذ يقول في كتابه {وحدة الجود من الغزاليّ إلى ابن عربيّ} ما نصُّهُ : ((الصفاءُ مِن الإنسان كالشُعاعِ من الشمسِ وكالأَريجِ مِن العِطْرِ ، وكالبَراءةِ من الطُفولةِ ، لذا ؛ كنتُ وما زِلْتُ أُصِرُّ ، وبِضَرْب مِن الحَزْمِ والتأْكيدِ ، بأنَّ التَصَوُّفَ صفاءٌ في القلبِ وسُموٌّ في الشُعورِ ... أمّا لِبسُ الصوفِ وتَرقيعُ الثيابِ والزهدُ المتَعَسِّفُ ، والرُكونُ والخمولُ والكَسَلُ في الزوايا .. ذلك كلُّهُ ليس مِن الصُوفِيَّةِ في شيءٍ)) .
(23)
ونحن نُثَنّي على قولِ الأُسْتاذِ الراشِدِ ، ونقولُ بقولِه ، ونَشُدُّ على يَدِهِ ، فالتصوُّفُ ــ برأينا ــ إيمانٌ وعلمٌ وعملٌ وحَسْب .
مصادر الباب الأوّل:
1ــ جواهرُ البخاري بشرح الإمام القسطلاّني ص53- 55
2ــ حقائق عن التصوّف ص22-23 الشيخ عبد القادر عيسى
3ــ إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عجيبة ص /4 / .
4ــ الرسالة القُشَيْرِيَّة ص/126/ .
5ــ المصدر السابق .
6ــ المصدر السابق .
7ــ حقائق عن التصوّف ص/ 14 / .
8ــ المصدر السابق ، نفس الصفحة .
9ــ المصدر السابق ،نفس الصفحة.
10ــ إيقاظ الهمم ص/5/ .
11ــ الرسالة القشيرية ص/128/.
12ــ المصدر السابق .
13ــ المصدر السابق .
14ــ المصدر السابق .
15ــ كتاب أشرف الوسائل في تحقيق أدقّ المسائل للسيد محمّد أبو الهدى الصيّادي ص 259 .
16ــ المصدر السبق ص 260ــ 262 .
17ــ حقائق عن التصوّف ص/16/ .
18ــ البرهان المؤيد - (ج 1 / ص 130)
19ــ حقائق عن التصوّف ، ص/18/ .
20ــحاشية الصاوي على الشرح الصغير - (ج 11 / ص 231)
21 ـ معالم السلوك للمرأة المسلمة للشيخ الحبيب علي الجفري ص/69/
22 ــ المضنون الصغير ص 25 .
23 ــ نهاية الأرب في فنون الأدب /ج 2 / ص 17 .
24 ــ وحدة الوجود من الغزالي إلى ابن عربي للأستاذ محمد الراشد ص23.