بحث عن الدولة والأحزاب السياسية فى مصر الواقع والآفاق - بحث شامل عن الدولة والأحزاب السياسية فى مصر الواقع والآفاق
عبد الغفار شكر
تمهيد:
انتقلت مصر فى أقل من ربع قرن (1953-1976) من نظام تعدد الأحزاب إلى نظام الحزب الواحد ثم عادت مرة أخرى إلى نظام تعدد الأحزاب وفى كل مرة كان الانتقال يتم بقرار من الدولة.
عرفت مصر نظام تعدد الأحزاب منذ بداية القرن العشرين، ونشأت على امتداد النصف الأول من القرن العشرين تكوينات حزبية عديدة ومورست أنشطة سياسية متنوعة تجسيداً لقدر واسع من التعددية السياسية التى تعبر فى الحقيقة عن الواقع الطبقى القائم، الذى يضم كبار ملاك الأراضى الزراعية (الإقطاعيون) وكبار الرأسماليين والفئات الوسطى (متوسطى ملاك الأراضى الزراعية والمهنيون والصناعيون) والبورجوازية الصغيرة والعمال وفقراء الفلاحين والحرفيين. فكانت هناك أحزاب سياسية تعبر عن مصالح النخب المالكة والحاكمة من كبار ملاك الأراضى الزراعية وكبار الرأسماليين (حزب الأحرار الدستوريين والحزب السعدى)، وأحزاب أخرى تعبر أكثر عن الفئات الوسطى (حزب الوفد والحزب الوطنى) وأحزاب تميل فى مجملها إلى أفكار ومصالح البورجوازية الصغيرة (حزب مصر الفتاة والحزب الوطنى الجديد والإخوان المسلمون) وأحزاب تعبر عن مصالح العمال وفقراء الفلاحين والحرفيين (الأحزاب الشيوعية مثل الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى، والحزب الشيوعى للعمال والفلاحين، والحزب الشيوعى المصرى).
وشهدت الفترة من 1923 إلى 1952 قيام نظام ملكى دستورى وفق رؤية ليبرالية واضحة، لكن خضوع البلاد للاستعمار البريطانى واحتكار فئة محدودة للثروة واستئثارها بالجزء الأكبر من الدخل القومى، والخلل الكبير فى توزيع الدخل القومى لصالح هذه الفئة على حساب أغلبية محرومة من أبسط ضرورات الحياة وخاصة فقراء الريف، والاستغلال الرأسمالى الذى مارسته الشركات الرأسمالية الأجنبية والمصرية على عمال الصناعة، كل هذا أفسد التطور الليبرالى الديمقراطى فى مصر، وحال دون التطور إلى نظام ديمقراطى دستورى حقيقى. ولعب القصر الملكى والسفارة البريطانية وأحزاب الأقلية الحاكمة دوراً واضحا فى تزوير الانتخابات البرلمانية، وحرمان حزب الأغلبية (الوفد) من تولى الحكم رغم أحقيته فى ذلك أكثر من مرة. ونمت نتيجة للاحتلال والفقر والتخلف والفساد والاستبداد حركة شعبية واسعة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 قادتها الأحزاب البورجوازية الصغيرة والتنظيمات الشيوعية والطليعة الوفدية (شباب حزب الوفد)، وسرعان ما تجاوزت الحركة الوطنية الشعبية مطالب تصحيح أوجه القصور فى نظام الحكم إلى المطالبة بالإطاحة به لتحقيق الأهداف الوطنية الكبرى وعلى رأسها جلاء قوات الاحتلال الأجنبى وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية لرفع مستوى معيشة المواطنين وخاصة الفقراء والمعدمين بالإضافة إلى تحقيق ديمقراطية سليمة وتحت ضغط الحركة الوطنية والشعبية استولت على السلطة جماعة الضباط الأحرار يوم 23 يوليو 1952 فيما عرف فيما بعد باسم ثورة 23 يوليو سنة 1952، وجماعة الضباط الأحرار هى تنظيم سياسى تكون داخل الجيش المصرى من مجموعة من الضباط الوطنيين الشبان لبعضهم ارتباطات قوية بالاتجاهات الفكرية والسياسية النشطة مثل الإخوان المسلمين والشيوعيين.
وفى الشهور الأولى للثورة حدثت مواجهة بين الحكام الجدد والأحزاب السياسية القائمة تصاعدت حدتها تدريجيا انتهت بصدور قرار من مجلس قيادة الثورة فى 10 ديسمبر 1952 بإلغاء الدستور وبدء مرحلة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، وصدر قراراً آخر فى 16 يناير 1953 بحل الأحزاب السياسية، ثم صدر قرار ثالث فى 23 يناير 1953 بقيام تنظيم سياسى واحد هو هيئة التحرير أمينه العام جمال عبد الناصر مؤسس تنظيم الضباط الأحرار والقائد الحقيقى لثورة 23 يوليو سنة 1952. بذلك انتقلت مصر إلى نظام الحزب الواحد بقرار من سلطة الدولة. ورغم مقاومة الأحزاب السياسية لهذا التوجه إلا أنها خسرت المعركة ليس فقط بسبب اعتقال أهم قادتها فى ذلك الوقت، بل لأن جماهير الشعب كانت مهتمة أكثر بقضايا جلاء قوات الاحتلال وتحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين مستوى المعيشة والقضاء على مظاهر الفساد التى كثر الحديث عنها فى السنوات الأخيرة من عمر النظام السابق، وكانت الثورة قد أثبتت مصداقيتها لدى الشعب عندما أصدرت فى الشهور القليلة التى انقضت من توليها السلطة قانون الإصلاح الزراعى الذى يقضى بتوزيع أراضى كبار الملاك الإقطاعيين على فقراء الفلاحين وإلغاء الألقاب، مما يعنى التزامها العملى، بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، فضلا عن طرحها لنهج جديد فى مواجهة الاحتلال الأجنبى. بينما كانت الأحزاب السياسية قد فقدت مصداقيتها لدى الشعب لعجزها عن إيجاد حل حقيقى لهذه القضايا، وانغماسها فى الصراع الحزبى على حساب القضايا والمشكلات الأكثر أهمية شعبياً.
عاشت مصر تحت حكم نظام الحزب الواحد أو التنظيم السياسى الواحد حسب التعبير المفضل لدى قادة الثورة ما يقرب من ربع قرن، ورغم تغير اسم التنظيم من هيئة التحرير سنة 1953 إلى الاتحاد القومى 1956 إلى الاتحاد الاشتراكى العربى سنة 1962 إلا أن جوهر الصيغة الجديدة للحكم بقى كما هو: احتكار الحكم لتنظيم سياسى واحد، وتحريم التعددية الحزبية، وإلغاء أى مظهر للمنافسة السياسية العامة.
ونتيجة للتطورات التى شهدها المجتمع المصرى فى بداية السبعينيات فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وما ترتب عليها من تغير فى سياسة مصر الخارجية وتغير تحالفاتها الإقليمية والدولية عادت مصر مرة أخرى فى مارس 1976 إلى نظام التعددية السياسية بقرار من رئيس الجمهورية. أى أن الدولة هى التى ألغت التعددية السياسية عام 1953 وهى التى أعادتها عام 1976. وكما سيطرت الدولة على التنظيم السياسى الواحد لمدة 24 سنة وحددت دوره فى الحياة السياسية وموقعه من الحكم، وطورته حسب المتغيرات التى شهدها المجتمع المصرى، فإنها تحرص على القيام بنفس الدور بالنسبة للأحزاب السياسية المستجدة، وتحرص على التحكم فى مسيرة التعددية الحزبية ووضع الأحزاب السياسية تحت سيطرتها، وتستخدم أدواتها التشريعية والإعلامية والأيديولوجية والقمعية لإحكام سيطرتها على هذه الأحزاب. ورغم مضى أكثر من 25 سنة على قيام التعددية الحزبية من جديد إلا أنها لم تحقق تطوراً ملموسا عن نقطة البداية بسبب سيطرة الدولة عليها ولأسباب أخرى سوف نعالجها فيما بعد.
تكتسب التجربة الحزبية الراهنة فى مصر أهمية خاصة بالنسبة لأفريقيا، فالتعددية الحزبية فى مصر تأتى بعد فترة طويلة من الحكم الشعبوى (السلطوى) غابت فيه الحقوق المدنية والسياسية الفردية وكذلك الحقوق الجماعية الاقتصادية والاجتماعية، ولم تكن هناك فرصة حقيقية فى ظل الحكم الشعبوى لتنمية ثقافة ديمقراطية أو توفير الظروف الملائمة لغرس القيم الديمقراطية فى المجتمع وفى سلوك المواطنين، كما غابت عن المجتمع المصرى لفترة طويلة المؤسسات والآليات التى تمارس من خلالها المنافسة السياسية العامة. وفى العديد من المجتمعات الأفريقية أوضاع مشابهة مما يعطى أهمية لدراسة التجربة الحزبية المصرية واستخلاص الدروس المستفادة منها بالنسبة للتطور الديمقراطى فى أفريقيا، وتكتسب التجربة الحزبية الراهنة فى مصر أهميتها أيضاً بسبب الدور المركزى للدولة فى هذه التجربة وما يترتب عليه من تعويق للتطور الديمقراطى.
من هنا فإننا نقدم هذه الدراسة عن "الدولة والأحزاب السياسية فى مصر- الواقع والآفاق" لعلها تساهم فى إلقاء الضوء على هذه التجربة وما تنطوى عليه من دلالات كجزء من دراسات مماثلة تجرى حول الأحزاب السياسية فى بعض الأقطار الأفريقية. وسوف نجيب فى هذه الدراسة على التساؤلات التى تطرحها حالة مصر فى انتقالها من التعددية إلى الحزب الواحد إلى التعددية مرة أخرى بقرار من الدولة، وفى مقدمة هذه التساؤلات:
1-إلى أى حد تتأثر الدولة عموما بالمصالح الطبقية؟ وما هى الظروف والتطورات التى دفعت الدولة المصرية للقيام بدور مباشر فى الانتقال عام 1976 من نظام الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية؟
2-كيف ساهمت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتشريعية القائمة فى مصر عام 1976 فى تحديد طبيعة النظام التعددى، وحدوده، وخريطة الأحزاب السياسية الجديدة؟
3-ما هى التحديات التى واجهت التعددية الوليدة؟ وما مدى تأثيرها على مستقبل التعددية الحزبية؟
4-إلى أى حد نجحت الأحزاب السياسية فى ممارسة نشاط سياسى فعال يمكنها من التحول إلى قوى جماهيرية مؤثرة وبناء قوتها الذاتية؟ وما هى علاقتها بالحركة الجماهيرية ومنظماتها الأساسية؟
5-ما هو حصاد التجربة الحزبية فى مصر؟ وما مدى مسئولية الأحزاب عن أوضاعها الحالية؟
6-ما هى آفاق المستقبل بالنسبة للتعددية الحزبية فى مصر؟ وكيف يمكن إخراجها من مأزقها الراهن؟