رجال ومناهج في الفقه الإسلامي الأئمة الأربعة - بحث علمى عن رجال ومناهج في الفقه الإسلامي الأئمة الأربعة
تأليف
محمد زكي الدين محمد قاسم
التقديم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد :
فإن وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت قد وضعت في حسابها مسئوليتها عن بيان منهج الإسلام السوي وطريقه الحق الذي لا يعرف الضعف والتخاذل.
ولا يقر الجموح والشطط في شتى القضايا ومختلف الجوانب التي يعيشها المسلم، وفي كل أطواره وأحواله.
ولما كانت قضايا الحياة الإنسانية ومشاكلها ومطالبها لا تكاد تتوقف ولا تنتهي إلى حد معين.
وإنما هي متجددة تجدد الليل والنهار، متطورة تطور الحياة الإنسانية بكل ما يواكبها من سنن التطور الفكر ي، والحضاري، والصناعي.
ثم إنها تعيش – ولا شك – مشكلة التقارب العجيب الناشئ من كل ما أنتجه العلم من وسائل في عالمي المواصلات والاتصال ونقل الفكر والثقافة بكل ما له من تأثير على سلوكيات المجتمعات وأخلاقيات الأسر والأفراد.
وكان طبيعياً ما نراه من يقظة إسلامية تدب في أوصال كل أطراف المجتمع الإسلامي وخاصة في الشباب المستنير منهم.
بل لا نبالغ إذا قلنا : إن هذه اليقظة الرائعة باتت موضوع الدراسة والترقب في كثير من مراكز الدراسة والتتبع في شتى بلاد العالم.
الأمر الذي يجعل رعاية هذه اليقظة أمراً حتمياً، وتوجيهها إلى أن تؤتى ثمارها اليانعة فريضة لازمة على كل قادر عليها في أمة الإسلام، وعلى الأخص الجهات المعنية برعاية الشئون الإسلامية، ونشر ثقافة الإسلام وتراثه الفكري، والتمكين له بما يحقق له الذيوع والانتشار أملاً في استضاءة الدنيا كلها بنور الله وهديه العظيم.
وهذه الوزارة تعمل جاهدة في أن تقوم بدورها في هذا المجال العظيم، وندعو الله تعالى تمام التوفيق فيه وحسن المثوبة عليه.
وكان من ملاحظتها لمجريات الأحداث رؤيتها لكثير من صور الفهم الذي قد يحتاج إلى كشف بعض الزوايا لتصحيح فكرة فيه، أو بيان خطأ في تقديره، أو ردّ إلى منهج الإسلام السمح الذي يقوم على عدالة الحكم ونصاعة الفهم، وتقدير الفضل لأهله، و ردّ الأمر إلى أصحابه، الأمر الذي حدا بالوزارة العمل على إصدار سلسلة من الكتب المبسطة والرسائل الموجزة تحت عنوان :
(ثقافتك الإسلامية)
تراعي في تقديمها إلى جانب أن يكون الموضوع مما تمس الحاجة إليه جوانب محددة منها :
- جودة المادة
- سهولة العرض
- يسر الأسلوب
- وضوح الهدف
ذاك لأن القضايا المطروحة على الساحة، والمسائل التي قد تصل في بعض الأحيان من خلال التمسك بها أو المعارضة لها إلى حد المشكلات، ليست إلا إعادة لمسائل قديمة، وفكر درس – أو على الأقل –قياسًا عليها وتشبهًا بها.
وإن الرد عليها ومناقشة أبعادها وحسم الأمر ببيان وجه الحقيقة أمر موفور المصادر غني المآخذ وفي المكتبة الإسلامية من ذلك الكثير.
لكن القارئ الحديث – بكل ما يموج به العصر – لم يعد قادراً أو على الأقل متفرغاً لدراسة المصادر والبحث في الأمهات والأصول. فكان لابد من تقديم هذا الزاد له، بالأسلوب الذي يناسبه، ومن المصدر الذي يثق به ويطمئن إليه.
ولهذا فقد عهدت الوزارة بهذه المهمة إلى مجموعة مختارة من العلماء المتخصصين في الفكر الإسلامي ودراسة قضاياه، أملاً في الوصول إلى ما نرجوه من رفعة للإسلام وخير للمسلمين.
وإنه ليسعدنا أن نقدم في مستهل هذه السلسلة هذا الكتاب (رجال ومناهج في الفقه الإسلامي)- للشيخ محمد زكي الدين قاسم وقد تناول الكتاب بالدراسة والتحليل زوايا عديدة مما نحتاجه في فهم قضية من أهم القضايا المثارة : كالاجتهاد، والتقليد، والاتّباع، ونحوها من خلال الدراسة للأئمة الأربعة – رحمهم الله تعالى – في سيرتهم، وحياتهم الخاصة بما تفيض به من استقامة وطهر، ودورهم العلمي وما بذلوا فيه من جهد وما تركوا من تراث عظيم وأثر كريم.
وجهادهم في سبيل الحق وصبرهم عليه، وبلائهم فيه، مع التركيز على قواعدهم في الاجتهاد، وأصولهم في الاستنباط ومناهجهم في الفتوى.
فجزاهم الله عن الإسلام ودينه خير الجزاء، ورضي الله عنهم و أرضاهم.
وجزى الله كاتب هذه الرسالة على ما بذل فيها من جهد جزاء الصادقين.
كما نسأله تعالى أن يهيئ لنا وله ولجميع المسلمين إخلاص المقصد. وحسن الختام.
وهو حسبنا ونعم الوكيل
وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وإمام المرسلين.. سيدنا محمد وعلى آله وصحبه : الهداة المهديين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
وبعد :
فهذه وريقات في سيرة الأئمة الأربعة – رضوان الله تعالى عليهم – أعددتها بادئ ذي بدء بطلب من إذاعة القرآن الكريم بدولة الكويت.
راعيت في إعدادها المنهج الإذاعي. والوقت المحدد للإذاعة لمثل هذا البرنامج.
فكان لابد – والحالة هذه – أن يجيء البحث موجزًا والدراسة مختصرة، وأن يستهدف ذلك خطوطً معينة، وآفاقاً محددة. في حياة هؤلاء العمالقة العظام. الذين أخلصوا لله تعالى عملهم، وبذلوا في سبيل مرضاته وإعلاء كلمته جهدهم وطاقاتهم، وتحملوا في سبيل ذلك شتى صنوف البلاء، وأقسى ألوان المحن ( فما وهنوا لما أصابهم في سبيل، وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ) ( ) فجزاهم الله تعالى عن دينه، وشريعته أحسن الجزاء.
ولقد كانت الخطوط البارزة التي استهدفتها الدراسة إنما تعني: نسبهم وبيئتهم ونشأتهم وعصورهم ومعيشتهم.. بالإضافة إلى معارفهم وشيوخهم، ومناهجهم في استنباط الأحكام، وقواعدهم في استخراج المسائل، ومذاهبهم في المناظرة والفتوى.. مع الإشارة إلى تلامذتهم الذين كان لهم دور بارز في نشر مذاهبهم، ومع إيضاح العوامل التي حدت بهم إلى أن يكونوا أصحاب ( مذاهب) معينة في الفقه. أو (مدارس) محددة في الاجتهاد والاستنباط.
كل ذلك في عرض موجز، وأسلوب سهل: لا يستعصي على العامة، ولا ينبو عن الخاصة.
وإن كان – في الحقيقة – غير مستوعب لأطراف المسائل ــ وإنما يشير إليها ، ولا مستقصٍ لجوانب الموضوعات ، وإنما يُلمح إلى أهم مطالبها ومصادرها.
وشاء الله تعالى أن يتم إعداد هذه الدراسة في ثلاثين حلقة إذاعية، ثم تسجيلها وإذاعتها ( من إذاعة القرآن الكريم )ثم رؤي أن تعاد إذاعتها مرة أخرى في ( البرنامج العام والبرامج الموجهة باللغة الأردية ).
وكنت – والحمد لله وحده- في كلتا الحالتين أرى من المستمعين إليها : على مختلف أعمارهم، وثقافتهم، واتجاهاتهم ، وسواء أكان ذلك بالمشافهة، أم الاتصال الهاتفي، أم المراسلة، ما يعطي هذا الجهد من التقدير فوق ما قدرته له، ومن الثناء عليه فوق ما أظن أنه يستحقه.
ثم كان – من فضل الله تعالى علي – ما طلبه مني كثير من الإخوة في الله تعالى من نشرها مكتوبة لزيادة الفائدة وتيسير النفع.
مما حدا بي إلى إعادة النظر فيها من جديد :ليربط بعضها ببعض لكي تناسب النشر المكتوب، مع التقدمة لها ووضع العناوين اللازمة لإيضاح جزئياتها وتعليق هوامشها.. ونحو ذلك.
ولعله من دوافع هذه الدراسة – منذ إعدادها للإذاعة – ثم وفي حالة إعدادها للنشر :
أن تعطي مفهوماً صالحاً للشباب المسلم، لمسألة يكثر الخلاف حولها والتصارع من أجلها وهي : ( مسألة الاجتهاد والتقليد )
حتى لقد وصل الأمر بالبعض إلى رفض كل ما نسب إلى الأوائل وإن تعذر عليه ذلك من أمرهم – والنيل مما قدم أولئك الأماثل وإن كبر شأنهم على أن ينال الناس منهم.
ذلك أنهم – رضوان الله عليهم – بما قدموا من جهد، وما أبلوا من بلاء حسن فوق طعن الطاعنين وقدح القادحين.
فكان شأن كل من يحاول الانتقاص منهم ما قال القائل:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
بل ولقد بلغ من بعض الناس – لسبب أو لآخر أن ينسب إلى المذاهب الفقهية أنها السبب في عدم تطبيق الشريعة الإسلامية !
نعم لقد بلغ الأمر هذا الحد من غمط الحق، وإلباسه ثوب الباطل.
أو بهرجة الباطل وتزويره في ثوب الحق، ( والله من ورائهم محيط).( )
على أن ذلك المنهج قد دفع كثيرًا من الشباب المسلم، والدعاة الصادقين إلى التصدي لهذه الفِرَى بالتمحيص والرد، وإيضاح جوانب الحقيقة.
بما أخذ عند النقل عنهم، صورة الطرف المناهض للفريق الأول أو المعادي له.
وإن كنا لا نشك أن في هؤلاء وأولئك رجالا صادقين مخلصين لدينهم وربهم، وإن اختلفت المعايير وتباعدت أوجه النظر.
وبهذا انتقلت المسألة إلى صورة الخلاف في المجتمع الإسلامي، وبين الشباب المسلم الذي يحمل لواء البعث والحركة من جديد.
وكأن المسلمين ما زالوا في حاجة إلى ألوان جديدة من الصراع والتحزب، وإلى أنماط جديدة من الخلاف والتمزق.
والعجيب حقًا في المسألة : إن الكل ( ) إنما يدعو إلى تطبيق الكتاب والسنة.
وهنا يأتي سؤال مُلح :
وهل كانت المذاهب الفقهية يوماً من الأيام تسلك منهجاً غير الكتاب والسنة.
أو كانت – يوماً – تدعو إلى العمل بخلافهما متى اتضحت مفاهيمُ الكتاب. إن كانت قد خفيت عليهم ، أو صحّت السنة إن لم تكن قد ثبتت لديهم،
ولقد كان الأمر الذي ينبغي التعاون عليه – فيما أرى – هو ضرورة التداعي إلى إبراز التشريع الإسلامي المشرق.. وبيان أهمية الحاجة إليه.
ومن وسائل ذلك ما يلي : -
أولاً :تكثيف الجهود على تحقيق مصادر السنة، وتصنيفها وفهرستها واستخدام الأساليب والوسائل العلمية الحديثة في تقريبها وتيسير التعرف عليها.
ولا شك أن ذلك العمل فوق طاقة الأفراد مهما أوتوا من طاقة، وإخلاص.
وأن العمل الجماعي فيه أجدى للإسلام والمسلمين في كل مواطنهم وأزمانهم من كل ما عداه.
ولقد كان من دواعي السرور : ما تم الإعلان عنه : من أن دولة قطر قد تبنت مسئولية الموسوعة الحديثة، وبدأت بالفعل في تنفيذ الفكرة بأسلوب علمي مخطط، نرجو الله تعالى أن يأجر الساعين فيها، وأن يعين العاملين بها، وأن يتمم لهذا العمل التوفيق والنجاح.
ثانياً : تخريج ما استند إليه الفقهاء من أدلة النقل، وإيضاح أوجه الاستدلال بها مع بيان الأحكام التي لم يصل قائلوها إلى الأدلة من النقل الصحيح، والتي قد وصلت إلى غيرهم، أو أنها لم تثبت لديهم وإنما ثبتت عند من عداهم.
ثم يأتي دور الأحكام التي ليس لها دليل من النقل، وتمت إقامتها على أصول الاستنباط الأخرى كالقياس والمصالح المرسلة.. أو غيرها ، وذلك ولا شك دور الموسوعات الفقهية وهي والحمد لله تقوم بدور مشكور وعمل مأجور إن شاء الله تعالى.
وسوف يبين ذلك – ولا شك – مقدار عظمة الأئمة السابقين. ومبلغ ما بذلوا من جهد، أو حققوا من مقاصد تنقطع دونها الهمم، وتكل دون بلوغها شم العزائم.
ثالثاً : توحيد الجهود في العمل على ما يحقق الفصل بين المذاهب ومناهجها.
وبين ما ألحقته بها عصور التخلف والانحطاط العلمي، التي جعلت من المذاهب مناهج للتعصب الحاقد، والشقاق الممقوت، وخلقت بذلك فتناً ومعارك تبرأت منها المذاهب وأصحابها ويمقتها الإسلام ومنهجه المعصوم.
ولقد كان أصحاب المذاهب، وحواريُّوهم، ومن حذا حذوهم : أشد الناس تحذيراً من هذه الانحرافات باسم المذهبية والاتباع، وأقوالهم في ذلك مشهورة موفورة.
رابعاً : التعريف بقواعد الاجتهاد وأدواته، وحقيقة المجتهد، ووسائله، ومعنى المقلد، وحدوده... الخ.
وبيان هذه المسائل بصورة تضع كل شيء في موضعه الصحيح، وترد كل ذي غاية إلى حجمه المعقول.
وذلك حتى لا تكون الأمور على الحال الذي نراه، والذي من أمثلته :
أنك ما تفتأ ترى طاعنًا على المذاهب وأئمتها. أو من يرى في نفسه القدرة على الاجتهاد، ويدعي الفقه والانتصار للسنة.
وهو لا يحفظ شاهدة من الكتاب على مسألة، ولا يتقن مجرد قراءة نص ما يحتج به من حديث في قضية.
فضلًا عن أن يكون عالماً -بل ملماً- بما ينبغي أن يعلم من معرفة الناسخ والمنسوخ، والمقدم والمؤخر، والمطلق والمقيد والمجمل والمفصل، والعام والمخصص، والمنطوق والمفهوم و.. و.. الخ.
ولو أننا على سبيل المثال، وتقريبًا لمنهج الحق قد استعرضنا في جدول موجز أصول المذاهب الأربعة لما وجدنا أحداً منهم يقدم على الكتاب والسنة شيئاً.
بل لقد أعلن جميعهم في تأكيد وحزم أنه لا اجتهاد مع النص، وكان من الضوابط الأصولية الثابتة قول بعضهم :
والاجتهاد إنما يكون في كل ما دليله مظنون
أمّا الذي فيه الدليل القاطع فلا اجتهاد فيه، ولا منازع
وإليك على سبيل المثال سرد أصولهم لترى وجهة الحق فيما يراد بالإسلام بالنيل منهم.. رضي الله عنهم وأرضاهم.
وذلك حسب ترتيبها عندهم :
المذهب أصول وقواعد الاستنباط في المذاهب
المذهب الحنفي الكتاب السنة فتاوى الصحابة القياس الاستحسان العرف
المذهب المالكي الكتاب السنة إجماع أهل المدينة القياس قول الصحابي المصالح المرسلة العادات سد الذرائع الاستصحاب الاستحسان
المذهب الشافعي الكتاب والسنة الإجماع قول بعض الصحابة دون مخالف قول بعض الصحابة عند الاختلاف القياس
المذهب الحنبلي الكتاب السنة الإجماع فتاوى الصحابة الاستصحاب المصالح المرسلة سد الذرائع
ومن هنا نعلم ما يلي :
أولاً : أنه لا خلاف بين أحد منهم على الكتاب والسنة أو تقديمهما على كل ما عداهما.
ثانياً :أن الاتفاق بعد ذلك قائم على الأخذ عند عدم وجود الدليل من الكتاب أو السنة بما يلي :
فتاوى الصحابة – الإجماع – القياس – وإن قدم بعضهم ما أخره الآخر منها.
ثالثاً : أن الأصول الأخرى – التي قد اختلفوا فيها – مردودة غالبًا إلى ما سبق من الأصول.
رابعاً : أن وجود الاختلاف في وجهات النظر بالنسبة للنص قد يكون قائماً على تقديم القياس على الحديث الضعيف، أو عكسه.حسب ما هو مبين في صلب الرسالة، وهو في المصادر الأصيلة للمذاهب أوفى وأشفى.
هذا ولا يسعني هنا – إنصافاً للحق وتقديراً لأهله- إلا أن أسجل اعترافي البين : بأنني عندما كنت أُعد هذه الدراسة.. وكلما رجعت إلى مرجع وانتهيت إلى إثبات شيء منه.وجدت الإمام المرحوم أبا زهرة قد سبق إليه :
عرضاً وتمحيصاً ونقداً وموازنة ثم انتهى فيه إلى الرأي العلمي المحقق الحاسم.
ومن هنا فلا أبالغ إذا قلت :إن ما كتبه رحمه الله عن الأئمة الأربعة إنما يمثل جوهر هذه الدراسة ومرجعها الأصيل.
فجزاه الله عن الإسلام وحملته والدعاة إليه خير الجزاء.
وختامًا :
فإنني بقدر ما بذلت من جهد، فإنني لا أدّعي أنني قد أوفيت على الغاية في التعريف بهم.
أو أنني قد وفيت هؤلاء القمم الشوامخ بعض حقهم في التعريف بمناهجهم.
وإنما هي عجالة يسيرة، بمثابة إرشاد إلى الغاية.. أو تشويق إلى البحث.
وإن كنت أظن أنها كافية في حسم الخلاف لمن أراد وجه الحق وجمع الكلمة لمن ابتغى إلى ذلك سبيلاً، ودحض الشبه والمفتريات عند من أراد الحقيقة، وتجرد من الهوى والتعصب للرأي
فإن كان فيما سطرته في هذه الرسالة خير
فهو من الله وله الحمد والمنة،
وإن كان غير ذلك ،
فهو من الشيطان ومني،
وأسأله تعالى العفو عنه والمغفرة له.
سائلا الله جل وعلا أن يجعلها مقبولة عنده نافعة لي وللمسلمين
والله من وراء القصد
وهو حسبي ونعم الوكيل
الكويت في مساء يوم الأحد : 21 من رجب الحرام 1404هـ - 22 من أبريل 1984
محمد زكي الدين محمد قاسم
بين يدي الكتاب
أمة تميزت بصنع الرجال
تطور الفقه الإسلامي ونشأة
المذاهب الفقهية
ظاهرة التقليد.. وأسبابه
أمة تميزت بصنع الرجال :
الناظر المتدبر في تاريخ الأمم والديانات والمذاهب لا يجد أمة حفلت بالرجال، وصنع الأجيال من الأبطال وصناع الحضارة وقادة الأمم كما يجد ذلك في أمة الإسلام التي تأدبت بأدب القرآن الكريم، وتربت في مدرسة النبوة على هدي محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم – معلمها الأول.
ويمكننا أن نتعرف على هذا الإعجاز في هذا الدين
إذا ما رجعنا إلى بداية نزوله،
وتعرفنا على الفئات الأولى التي تلقته بالقبول وأخذت على عاتقها مسؤولية الدفاع عنه، وحمل رسالته، والتبشير بهدى دعوته.
إذ إنه من الأمور البدهية المجمع عليها .
إن هذه الرسالة نزلت على النبي الأمي – صلى الله عليه وسلم – الذي يخاطبه ربه تبارك وتعالى فيقول :
" وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون" ( )
وقد كانت بوادر هذا الدين وتكاليف وأعباء هذه الرسالة إلى قوم أميين تغلب عليهم الأمية والرعي، وتسيطر عليهم البداوة والجفوة.
والقلة القليلة منهم هي التي كانت قد تعرفت على أطراف يسيرة من حضارات الأمم المجاورة لهم في رحلات التجارة المحدودة، التي لم يستوعبوها لعدم قناعتهم بها.. أو لعدم ملاءمتها لهم.
واحتفظوا على التاريخ الطويل ببداوتهم، وعروبتهم و أميتهم حتى ليقول القرآن الكريم فيهم :
( هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم يتلو عيهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين* وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ) ( )
وقد كانت تلك الدعوة بالفعل مفتاح الإشعال لكل تلك الطاقات الكامنة في الإنسان العربي.
وإشارة البدء لعمل العقل لديه بعد أن زكاه الله بالإسلام ، وأشرقت جوانبه بنور القرآن، ودربه على العمل المثمر هدي النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم.
فانطلق العرب الأميون في كل بقاع الأرض، وكل آفاق الدنيا وشتى ميادين المعرفة والحياة يقودون الناس بنور الإسلام.
فكان منه من لا تستطيع الأجيال أن تأتي بمثله ،
فمنهم خالد بن الوليد القائد المنتصر الذي لم يهزم في معركة قط وما استعصت عليه في الحرب مشكلة، ولا حالت بينه وبين تحقيق النصر معضلة، حتى ُسمّي بحق
" أستاذ السرعة والمفاجأة " بأحدث ما وصلت إليه نظريات الحرب في العصور الحديثة، وحتى قال عنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه :
أعجِزتْ النساء أن يلدن مثل خالد؟
بل وقد بلغ به ذلك أن نال أسمى أوسمة القيادة بما سماه به الرسول صلى الله عليه وسلم : ( سيف من سيوف الله ). ( )
ومنهم عمرو بن العاص رضي الله عنه : المثال البارز في السياسة والكياسة والدهاء حتى قال عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد أوفده في إحدى المهام البالغة إلى الروم:
( رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب. فانظر عما تنفرج )
وكان منهم علي بن أبي طاب كرم الله وجهه :والذي كان في علمه، وفهمه وإدراكه لفقه القضايا ومشكلات المسائل وإدراك حلولها ما جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما يعرض عليه الأمر المشكل الذي يصعب حله يقول :
( قضية ولا أبا حسن لها )
وهكذا أخرج الإسلام من هذه النماذج المضيئة ما أعجز التاريخ أن يأتي بمثله.
ثم جاء الذين من بعدهم وقد ولدوا على مائدة الإسلام ورضعوا من المهد معارفه، ونشؤوا على موائد هدايته،
فيسر لهم ذلك أن يستوعبوا إلى جانب معارف العرب ثقافات الفرس والرومان، وحضارات مصر واليونان وفلسفات الإغريق وغيرهم.
ثم تحولت المعرفة في مجتمع الإسلام إلى مدارس متنوعة.
في كل مجالات المعارف الإنسانية والعملية، إيذانًا ببدء مرحلة التخصص في العلوم والفنون ،
فهذه مدارس للقرآن وعلومه، وتلك مدارس للحديث والرواية والنقل والجرح والتعديل، وأخرى للفقه والأصول واستنباط الأحكام. ورابعة للطب، وغيرها للكيمياء والطبيعة وأخرى للفلك ثم للفلسفة والجدل وهكذا.
ولكل مدرسة من المدارس رجالها المسلمون الذين لا يجارون، وعلماؤها البارزون الذين لا يبارون.
ولقد انقضت عصورهم، وانتهت آجالهم وأجيالهم، وما زالوا عمالقة يقودون الدنيا بعلمهم، ويتعلم الباحثون من بعض معارفهم ما يصلون به إلى مناصب القيادة وكراسي الريادة.
أرأيت إلى من يتيسر له القيام بتحقيق كتاب من كتبهم أو رسالة من رسائلهم؟
إنه يحصل بذلك على أعلى الدرجات العلمية في العصور الحديثة : " درجة الدكتوراه "
نعم لقد ذهب أولئك العباقرة ، ماتت أجسادهم.. ولكنهم خلدوا بنتاج عقولهم، وأضاؤوا الدنيا بثمرات فكرهم وصدق القائل :
كم راحل سكن القبور وذكره
باق يطاول منكب الآباد
ومعمر سكن القصور فما رنا
طرف إليه ولا بكى لبعاد
وإذا كان لنا أن نقترب ملياً من تلك النماذج الرائعة، وأن نلم قليلًا بتلك المثل الرفيعة. فلنأخذ كمثال لها بعض رجالات المدارس الفقهية تلك المدارس التي حققت الأصول، وفرعت المسائل، ووضعت الفروض، وقننت الأحكام، وفصلت القواعد.
حتى إن أعلمنا اليوم : هو من يعرف مناهجهم، أو من يسلك مسالكهم ويقتفي آثارهم أو يقترب من رحابهم. وقليل ما هم .
تلك المدارس التي خرجت لنا أمثال : أئمة المذاهب الأربعة، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والأئمة : ابن القيم، وابن حزم وغيرهما.
ومن قبلهم سفيان بن عيينة، والليث، وغيرهم، وغيرهم ( )
ولئن كان أولئك وأمثالهم حملوا جميعاً لواء الفقه في الدين وقادوا مدارس الاجتهاد والفتوى.
فلقد تلقت الأمة بالقبول من هذه المذاهب ما وصل إليها منها، والتي كان لها حواريون دونوا مسائلها وصنفوا نفائسها وشرحوا حواشيها وقننوا أصولها وفروعها،
ولعله من أبرز هذه المدارس هذه المذاهب الأربعة، والتي نشأت مع اقتراب نهاية القرن الأول الهجري، ثم توالت وتتابعت حتى وصل إلينا تراثها، ونفائس مصنفاتها
ورواد هذه المذاهب إنما هم الأئمة الأربعة المجتهدون :
أبو حنيفة النعمان واليه ينسب المذهب الحنفي
ومالك بن أنس إمام دار الهجرة وإليه ينسب المذهب المالكي
ومحمد بن إدريس بن شافع المطلبي وإليه ينسب المذهب الشافعي
وأحمد بن محمد بن حنبل الإمام المحدث الصابر الممتحن،وإليه ينسب المذهب الحنبلي. رضي الله عنهم و أرضاهم.
متى وكيف نشأت المذاهب الفقهية؟
وهنا وقفة لابد منها وهي :
كيف تفرقت الأسماء، وتشعبت المذاهب، حتى صارت في فترة من الزمان أشبه ما تكون بالأحزاب المتناحرة، والفرق المتصارعة :
يطعن بعضهم في بعض، ويكيل كل فريق التهم جزافاً للفرق الأخرى.
كيف حدثت هذه الفرقة تحت اسم الإسلام. الذي لا تعرف مبادئه الفرقة ولا تقر التفرق؟
هذا الإسلام الذي يقول كتابه الحكيم :
( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) ( )
والحقيقة : أن الإسلام في جوهره والمذاهب الفقهية في نشأتها وتطورها، والأئمة في مناهجهم وأصولهم التي أقاموا عليها مذاهبهم وفقههم فيها .
كل هؤلاء بريئون كل البراءة من عمى المتعصبين وحمق المقلدين، وتمزيق الجاهلين.
يقول الشيخ سيد سابق:
" فلما جاء أئمة المذاهب الأربعة تبعوا سنن من قبلهم ، يعني في الالتزام بمنهج الاستنباط من الكتاب والسنة.
ثم يقول :
إلا أن بعضهم أقرب إلى السنة – كالحجازيين – الذين كثر فيهم حملة السنن ورواة الآثار.
والبعض الآخر كان أقرب إلى الرأي كالعراقيين الذين قل فيهم حفظة الحديث لتنائي ديارهم عن منزل الوحي.
بذل هؤلاء الأئمة أقصى ما في وسعهم، في تعريف ا لناس بهذا الدين وهدايتهم إليه،
وكانوا ينهون عن تقليدهم..ويقولون:
[ لا يجوز لأحد أن يقول قولنا من غير أن يعرف دليلنا ]
وصرحوا أن مذهبهم هو : الحديث الصحيح، لأنهم لم يكونوا يقصدون أن يُقلَدوا كالمعصوم صلى الله عليه وسلم.
بل كان قصدهم أن يعينوا الناس على فهم أحكام الله. إلا أن الناس بعدهم فترت هممهم، وضعفت عزائمهم، وتحركت فيهم غريزة المحاكاة والتقليد.
فاكتفى كل جماعة منهم بمذهب معين ينظر فيه ويعوّل عليه ويتعصب له، ويبذل كل ما أوتى من قوة في نصرته، وينزل قول إمامه منزلة قول الشارع،
ولا يجيز لنفسه أن يفتي في مسألة بما يخالف ما استنبطه إمامه.
وقال أيضاً :
وبالتقليد، والتعصب للمذاهب فقدت الأمة الهداية بالكتاب والسنة،
وحدث القول بسد باب الاجتهاد وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء مبتدعاً....!!
إلى أن قال: وكان من آثار ذلك : أن اختلفت الأمة شيعاً وأحزاباً.
كما كان من آثاره انتشار البدع، واختفاء معالم السنن، وخمود الحركة العقلية، ووقوف النشاط الفكري، وضياع الاستقلال العلمي.
الأمر الذي أدى إلى ضعف شخصية الأمة، وأفقدها الحياة المنتجة، وقعد بها عن السير والنهوض.
ووجد الدخلاء بذلك ثغرات ينفذون منها إلى صميم الإسلام ا هـ. كلامه ( )
الإمام الأعظم
أبو حنيفة النعمان
رضي الله عنه
بعد تلك المقدمة الموجزة حول أثر المدرسة الإسلامية في تخريج الرجال ومنهج الإيمان في صنع الأبطال.
وبعد هذه الإشارة الخاطفة إلى أساس المدرسة الفقهية، وأسباب ما يبدو في أفق الحياة الإسلامية من صور التعدد والخلاف المذهبي نعود إلى أساس مطلبنا وهدفنا الذي استهدفناه من هذه الدراسة وهو : التذكير بتلك الشخصيات الفريدة من أسلافنا والقمم الشامخة في تاريخنا من الأئمة المجتهدين :أئمة المذاهب الأربعة.
نسب أبي حنيفة. ونشأته:
ولا شك أن أسبقهم إنما هو الإمام الأعظم أبو حنيفة.
إمام أهل الرأي، وفقيه العراق.
واسمه : النعمان بن ثابت بن زوطى الفارسي
كان جده من أهل " كابل " فهو فارسي النسب، التقى أبوه ثابت بن زوطى بالإمام على كرم الله وجهه، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته.
والمشهور أن أبا حنيفة النعمان ولد بالكوفة، في سنة ثمانين من الهجرة. وتوفي سنة خمسين ومائة من الهجرة عن عمر بلغ سبعين عاماً. أمضاها في طلب العلم، وتحصيله
والبراعة فيه.
حتى بلغ فيه وبه مبلغًا يفوق شرف النسب ومجد الأصل.
إذ هو المولى الذي استطاع بجده ومواهبه في هذا الميدان أن يصل إلى ما وفقه الله تعالى له، وأعانه عليه من منزلة الإمامة.. ومكانة الأسوة في الاجتهاد.
وأن يكون أحد ملامح البشرى للموالي الصادقين في الإسلام :
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
كنّا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة :
( وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم )
قال : قلت : من هم يا رسول الله؟
فلم يراجعه حتى سأله ثلاثاً – وفينا سلمان الفارسي – وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال : " لو كان الإيمان عند الثريا لنا له رجل من هؤلاء ( )
وقد نشأ – رضي الله عنه – في مدينة الكوفة، في بيت إسلام حسن، ويسار، إذ تفيد الأخبار أن أباه ولد مسلماً وأنه كان من التجار، كما يغلب على الظن أنه كان تاجر خز كما يقول الباحثون، وعنه ورث أبو حنيفة هذه المهنة، فقد بدأ بالتجارة قبل التفرغ للعلم والدراسة والبحث.
ثم بقي طوال حياته تاجرًا للخز وارثاً لهذه المهنة عن أبيه "
ولقد حفظ القرآن الكريم، وأخذ القراءة عن الإمام عاصم أحد القراء السبعة،
وكان مدمنًا لقراءة القرآن ملازمًا لها خاصة في شهر رمضان المعظم.
كيف سلك طريقه إلى العلم؟
لقد كانت العراق في عهده – وخاصة مدينة الكوفة – مجالاً نشطاً لحركة مدنيات قديمة، ومدارس مختلفة :
انتشرت فيها – إلى جنب المدارس الإسلامية – فلسفة اليونان، وحكمة الفرس، ومدارس الجدل، ومختلف النحل، والمذاهب الكلامية، والفرق الدينية.
وكان أبو حنيفة يسمع ذلك كله ويراه، ولا يأبه له قبل أن يتجه إليه.
وإنما كان مشغولا بتجارته، وإن كانت ملامحه وصفاته تنم عن ذكاء مزخور، وذهن متوقد، وفكر قادر على اجتياز اللجج، والسبح في تيار العطاء السخي.
يقول أبو حنيفة :
مررت يوماً على الشعبي وهو جالس، فدعاني فقال لي :
إلى من تختلف؟
قلت : اختلف إلى السوق
قال: لم أعن الاختلاف إلى السوق إنما عنيت الاختلاف إلى العلماء؟
فقلت له : أنا قليل الاختلاف إليهم. فقال لي : لا تفعل، وعليك بالنظر في العلم، ومجالسة العلماء فإني أرى فيك يقظة وحركة.
قال : فوقع في قلبي من قوله، وتركت الاختلاف إلى السوق، وأخذت في العلم، فنفعني الله بقوله.
كيف اختار منهجه وطريقته؟
لقد تحول أبو حنيفة عن التفرغ للتجارة إلى طلب العلم.
وان كانت علاقته بالتجارة، وصلته بها قد بقيت معه ما عاش حياته، ولكن كيف كان منهجه في الدراسة؟ وكيف كانت طريقته في تحصيل العلم والمعرفة؟
كيف برع في ذلك؟ ونبغ في فنونه- وخاصة فن الفقه – وكيف توجه إليه ذلك التوجه الذي جعل منه إماماً؟
وإذ أؤكد – سلفا – أن كل ما ذكرناه في هذا الصدد إنما تم عرضه في إيجاز شديد وإلماح خاطف إلى تلك الحياة السامقة العملاقة المليئة بالدروس والعبر.
فإنما نشير إلى أننا إنما نعرض ذلك ليرى أبناؤنا : كيف كان أسلافهم؟ وكيف كانت أمجادهم؟
فتمتلئ نفوسهم بعزة الإسلام، وتمتلئ حياتهم بالمثل الأعلى من سلف المسلمين.
وعندها يقف أحدهم شامخ الرأس، علىّ النفس ليتحدى فكر الدنيا وحضارات الأمم وهو يقول :
( أولئك آبائي.. فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع )
ونعرض ذلك أيضاً لتكون تلك الملامح الوضيئة من سلفنا الصالح منهجاً يحتذى للعمل، ومسلكا يرتاد للتفوق والسبق والإبداع.
وشعارنا في ذلك ما قال القائل.
إنا وإن أحسابنا كرمت
لسنا على الآباء نتكل
نبني كما كانت أوائلنا تبني
ونفعل مثلما فعلوا
وإذن.. فماذا فعل أبو حنيفة وهو يبني الحياة لنفسه ولأمته؟
كيف اختار منهجه وطريقته؟
لقد رأيناه يحفظ القرآن، الكريم على إمام في القراءة وهو الإمام عاصم أحد القراء السبعة،
ثم تتحول حياته إلى المجال العلمي بنصيحة الشعبي.
ثم إذا به يعرف قدراً من الحديث.. وقدرًا من النحو، والأدب والشعر، ومن علم الكلام. ومناهج الجدل في مسائل الاعتقاد كان يرحل في سبيل هذا الجدل وتلك المناقشة إلى البصرة فيقيم بها من أجل ذلك السنة ونحوها؛ ليستطيع بعد ذلك أن يحدد مساره إلى المستقبل.
منهج يصاحبه التوفيق..
وتحدد مساره لفتات القدر.
نعم لقد مكنه أخذه من أطراف العلوم أن يحدد لنفسه مجال التخصص بتوفيق الله تعالى. وما يجعله مفتاحه إلى طريق الفقه في الدين والتبحر في علوم الشريعة.
يروى تلميذه أبو يوسف- رحمه الله – عنه أنه سئل كيف وفقت إلى الفقه؟
فقال للسائل : أخبرك.. أمّا التوفيق فكان من الله ، وله الحمد كما هو أهله ومستحقه.
إني لما أردت تعلم العلم جعلت العلوم كلها نصب عيني فقرأت فناً منها وتفكرت في عاقبته، وموضع نفعه.
فقلت : آخذ في الكلام،
ثم نظرت : فإذا عاقبته عاقبة سوء، ونفعه قليل وإذا كمل الإنسان فيه، لا يستطيع أن يتكلم به جهاراً ويرمى بكل سوء، ويقال صاحب هوى.
ثم تتبعت أمر الأدب والنحو،
فإذا عاقبة أمره أن أجلس مع صبي أعلمه النحو والأدب ثم تتبعت أمر الشعر،
فوجدت عاقبة أمره المدح، والهجاء، وقول الكذب، وتمزيق الدين،
ثم تفكرت في أمر القراءات،
فقلت : إذا بلغت الغاية فيه اجتمع إلى أحداث يقرؤون علىّ والكلام في القرآن ومعانيه صعب.
فقلت : أطلب الحديث.
فقلت : إذا جمعت منه الكثير احتاج إلى عمر طويل حتى يحتاج الناس إليّ، وإذا احتيج إلي ّلا يجتمع إليّ إلا الأحداث.
ولعلهم يرمونني بالكذب، وسوء الحفظ فيلزمني ذلك إلى يوم الدين.
ثم قلبت الفقه،
فكلما قلبته.. وأردته لم يزدد إلا جلالة ولم أجد فيه عيباً ورأيت الجلوس مع العلماء، والفقهاء، والمشايخ البصراء والتخلق بأخلاقهم.
ورأيت أنه لا يستقيم أداء الفرائض، وإقامة الدين، والتعبد إلا بمعرفته، وطلب الدنيا والآخرة إلا به ومن أراد أن يطلب به الدنيا طلب به أمراً جسيما وصار إلى رفعة منها،
ومن أراد العبادة والتخلي لم يستطع أحد أن يقول : تعبد بغير علم، وقيل : إنه فقيه، وعمل بعلم.
وأبو حنيفة في هذا الاستقصاء والتحري والبلوغ في النهاية إلى هذا الاختيار، إنما كان موفقا من الله إليه ومهدياً – بفضله – إلى اختياره.
وحسبه بذلك شرفاً ومنزلة.. ،فإن الله تعالى يجمع لصاحب الفقه أطراف الخير كلها في الدنيا والآخرة:
فعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ويلهمه رشده "
كيف اختار أستاذه ؟
وإذا كان ذلك منهجه في اختيار مجال تخصصه فكيف اختار أستاذه فيه؟ وكيف كانت منزلته عنده؟ وكيف كانت منزلته عند أستاذه؟
أمّا كيف اختار شيخه؟
فقد كان ذلك بلفتة من تلك اللفتات التوجيهية التي أرادها الله تعالى له، ولازمته في كثير من أطوار حياته.
فلقد تحولت همته من التجارة إلي طلب العلم والإمامة فيه بلفتة من التوفيق أجراها الله تعالى إليه على لسان الشعبي.
فكيف كان الأمر هنا؟
يحدثنا تلميذه زفر – رحمه الله – بالرواية عنه فيقول :
كنت أنظر في الكلام. حتى بلغت فيه مبلغاً يشار إلي ّ فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن أبي سليمان.
فجاءتني امرأة يوما فقالت : رجل له امرأة، أراد أن يطلقها للسنة.كم يطلقها؟
يقول أبو حنيفة : فأمرتها أن تسأل حماداً ثم ترجع إليّ فتخبرني.
فسألت حماداً فقال : يطلقها وهي طاهرة من الحيض والجماع تطليقة.
ثم يتركها حتى تحيض حيضتين. فإذا اغتسلت فقد حلت للأزواج. فرجعت يعني فأخبرته.
فقال :لا حاجة لي في الكلام.
يقول : وأخذت نعلي فجلست إلى حماد.
منزلته عند أستاذه.
وقد بين لنا كيف كانت منزلته عند شيخه بقوله بعد ذلك :
فكنت أسمع مسائله، فأحفظ قوله. ثم يعيدها من الغد فأحفظ ويخطئ أصحابه.
فقال: لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة.
ومنزلة أستاذه عنده.
ويحدثنا هو رضى الله عنه عن ذلك – أيضاً – فيقول :
صحبته عشر سنين ، ثم نازعتني نفسي الطلب للرياسة، فأردت أن اعتزله، وأجلس في حلقة لنفسي.
فخرجت يوما بالعشي وعزمي أن افعل.
وهنا تعرض له أيضاً لفتة قدرية تكبح لديه جماح هذه الرغبة حتى لا يفعل ما اعتزمه من ذلك.
وحتى يبقى تابعاً لشيخه ينهل من علمه ومعرفته حتى يتم نضجه ويكتمل فقهه فيقول:
فلما دخلت المسجد ورأيته لم تطب نفسي أن أعتزله،فجئت وجلست معه،
فجاءه في تلك الليلة نعى أحد قرابة له قد مات بالبصرة، وترك مالاًوليس له وارث غيره.
فأمرني أن أجلس مكانة، فما هو إلا أن خرج حتى وردت مسائل لم أسمعها منه،
فكنت أجيب واكتب جوابي، ثم قدم فعرضت عليه المسائل وكانت نحواً من ستين مسألة
فوافقني في أربعين وخالفني في عشرين.
فآليت على نفسي ألا أفارقه حتى يموت، فلم أفارقه حتى مات رحمه الله.