بحث عن وقاية المجتمع من تعاطي المسكرات والمخدرات - بحث علمى عن وقاية المجتمع من تعاطي المسكرات والمخدرات
للدكتور / عبد الله قادري الأهدل
حقوق الطبع والنشر محفوظة للكاتب
(يجوز الاقتباس والاستشهاد بشرط النسبة إلى الكاتب)
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران: 102]
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيباً [النساء: 1].
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً [الأحزاب: 70-71].
أما بعد فإن المسلم لا يشك في أن تطبيق منهج الله في الأرض، كما أراد الله، يحقق لمن طبقه السعادة والرضا والاطمئنان في الدنيا، وينيله رضا الله وثوابه والفوز بنعيمه المقيم في الآخرة، وفي البعد عن تطبيق منهجه الشقاء في الدنيا والآخرة.
ويقين المؤمن بهذا يدل عليه أمران:
الأمر الأول: قول الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقوله صدق ووعده حق، وقد قال تعالى: قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشرهم يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى [طه: 123-127].
الأمر الثاني: الواقع التاريخي الذي دل على ما دل عليه كتاب الله فإنه ما طبق منهج الله أمة إلا كانت عزيزة الجانب سعيدة الحياة سليمة من القلق والاضطراب ولا فقد تطبيق ذلك المنهج في أمة إلا أذلها الله وأنزل بها من المصائب والويلات ما يقلقها وينغص حياتها وإن بلغت ما بلغت من الغنى والتمتع المادي بأنواع المتع وها هي أمم الأرض الآن تذوق وبال أمر بعدها عن الله.
وما مؤتمرنا هذا [المؤتمر العالمي الثاني لمكافحة المسكرات والمخدرات الذي انعقد في مدينة إسلام أباد في جمهورية باكستان الإسلامية في 27 شوال سنة 1409هـ وافتتحه رئيس الجمهورية وقد أعد هذا البحث للمشاركة فيه وقدم المؤلف خلاصة له في المؤتمر] إلا أحد الأدلة على مرض واحد من الأمراض الفتاكة التي شملت الأرض عامة، وشعوب المسلمين خاصة وقد عجزت عن مقاومته والوقاية منه وعلاجه أجهزة الدول العالمية: كبراها وصغراها، فضلاً عن الأمراض الأخرى التي يصعب حصرها وحصر مؤتمراتها وندواتها والجهود المبذولة لمقاومتها.
واعتراف المريض بمرضه واهتمامه به خطوة طيبة في سبيل علاجه، وعليه أن يفكر في أسباب وجود هذا المرض فقد يكون أهم أسبابه تقصيره في الوقاية منه فيجب أن يتلافى ذلك التقصير، وهو إذ يبحث عن علاج له عليه أن يعرض نفسه على الطبيب المختص الذي عنده المقدرة على تشخيص الدواء ووصف الدواء فإذا تمكن من ذلك فيجب أن يتناول الدواء الذي وصفه له ذلك الطبيب.
وها نحن نعترف بالمرض وهو تعاطي المسكرات والمخدرات ونبحث عن الطبيب الذي يشخص الداء ويصف الدواء ولعلنا نعترف هنا جميعاً أن طبيبنا هو شرع الله الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة مما يحتاج الناس فيه إلى هداية إلا بينها وجلاها كما أنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من أسباب الفساد في الأرض إلا حذر منها وعراها، وإذا كانت هذه أو تلك قد تخفي على من بعد عن التفقه في هذا الدين، فإنها غير خافية على فقهائها، ولكل مجال رجال.
هذا وقد اخترت الكتابة في هذا الموضوع – وهو وقاية المجتمع من تعاطي المسكرات والمخدرات – لأن الأصل هو الوقاية من المرض، كما أن الوقاية قد تكون العلاج الحاسم للمرض بعد وقوعه.
وهذا البحث من هذا القبيل، إذا طبق ما تضمنه فإنه وقاية وعلاج، وقاية للمريض وغيره، وعلاج للمريض وما يكون وقاية وعلاجاً خير مما يكون علاجاً فقط.
هذا وقد اشتمل على سبعة فصول:
الفصل الأول: غرس الإيمان في النفوس، وتربية المجتمع على تطبيق الإسلام في الحياة.
الفصل الثاني: الاهتمام بتربية الأسرة.
الفصل الثالث: وجوب السعي لتحقيق الأهداف العليا التي تحيا بها الشعوب.
الفصل الرابع: صرف الشباب إلى ميادين التزكية والجهاد.
الفصل الخامس: إقامة قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الفصل السادس: جعل منهاج التعليم والإعلام محققة لمقاصد الإسلام.
الفصل السابع: الحكم بما أنزل الله.
وإني لأرجو أن يكون هذا البحث نافعاً للوقاية من كل الأمراض الوبيئة التي تفشت في مجتمعاتنا الإسلامية وفي غيرها.
وإذا كانت التجربة كما يقال خير برهان فليجرب من يريد للشعوب الإسلامية السعادة والنجاة من كل شر تطبيق ما تضمنه هذا البحث.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وهو حسبي ونعم الوكيل.
الفصل الأول
غرس الإيمان في النفوسوتربية المجتمع على تطبيق الإسلام في الحياة.
وفي هذا الفصل مبحثان:
المبحث الأول: غرس الإيمان في النفوس.
تمهيد في بيان معنى الإيمان:
الإيمان في اللغة: التصديق [ينازع بعض العلماء في أن المراد بالإيمان في اللغة التصديق ولكن المقام لا يتسع لمناقشة ذلك، راجع الفتاوى لابن تيمية (7/123)]، ويتعدى باللام كقوله تعالى: وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين [يوسف: 17] أي وما أنت بمصدق لنا.
وأما الإيمان في الشرع فالراجح أنه: (تصديق بالقلب وقول باللسان، وعمل بالجوارح) فإذا أطلق شمل ذلك كله.
فالمراد بالإيمان ما عناه الله تعالى في القرآن الكريم والسنة وفهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم من السلف الصالح وهو التصديق الجازم بكل ما أخبر الله به من الغيب، وهو يشمل أصول الإيمان الستة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وما تفرع عنها مما ورد به الكتاب والسنة الصحيحة وليس المراد بالإيمان مجرد ما تعرف عليه أهل الأديان المنحرفة الذي مضمونه علاقة شخصية بين الإنسان وربه لا شأن له بنشاطه في الحياة.
فإن هذا ليس هو الإيمان الذي جاء به القرآن، إذ الإيمان الذي نزل به لا ينفك عنه العمل الصالح المبني على العلم النافع، كما قال تعالى: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [الحجرات: 15].
هذا ولست أريد أن أطيل هنا الكلام على أصول الإيمان الستة كلها، فضلاً عما يتفرع منها، وإنما أريد أن أضرب أمثلة فقط يتضح بها أن غرس الإيمان في النفوس هو أعظم واق من أمراض المعاصي، ومنها تعاطي المسكرات والمخدرات، وهذه الأمثلة تتعلق بالإيمان بالله، والإيمان بكتاب الله الذي هو القرآن، والإيمان باليوم الآخر.
الإيمان بالله:
ولست أيضاً بمطيل في الكلام عن الإيمان بالله بذكر كل ما يتعلق بذاته تعالى من كونه خالقاً ورباً وإلهاً، وإنما أضرب لذلك مثالين:
أحدهما: يتعلق بعلمه الشامل المحيط بكل شيء.
والثاني: يتعلق بقدرته التامة على كل شيء.
غرس الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء وأثره في الوقاية من إرتكاب المعاصي وبخلاصة المسكرات والمخدرات.
لقد كثر في القرآن الكريم ذكر علم الله المحيط بكل شيء بأساليب شتى، والمقصود منها إشعار الإنسان بأن أعماله لا تخفى على الخالق، وأنها محفوظة مكتوبة محاسب عليها صاحبها، كما قال تعالى في أهل الكتاب الذين حذر بعضهم بعضاً من الاعتراف بما في كتبهم مما يوافق القرآن الكريم ويؤيد صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لئلا يكون اعترافهم بذلك حجة للمسلمين عند الله، قال تعالى عنهم: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون، أَوَلا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون [البقرة: 76-77].
وقال تعالى: إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء [آل عمران: 5].
وقال تعالى: قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه واله رؤوف بالعباد [آل عمران: 29-30].
تأمل هاتين الآيتين الأخيرتين: هل تجد شيئاً يمكن إخفاؤه على الله الذي أحاط علمه بما في السماوات وما في الأرض، وما يخطر للمرء في صدره، وهل يقدر الإنسان أن ينكر شيئاً مما عمل في الدنيا عندما يلاقي الله فيجد عنده كل عمل خير أو سوء؟.
إن الإنسان ليقدر أن يحتال على الناس وعلى كل الوسائل التجسسية في الدنيا ويفلت منها، وكذلك يقدر أن يحتال على القضاء والقوانين، وعلى المحامين وأساليبهم وعلى الشرطة ووسائلهم وسجونهم ويخرج من عندهم جميعاً بريئاً، وهو في الواقع غير بريء، ولكنه لا يقدر على ذلك بالنسبة للخالق، كما قال تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً، واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً، ها أنتم هؤلاء جادلتم عنه في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً، ومن يعمل سواءً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً، ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً، ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً [النساء: 105-112].
قل لي بربك لو أن مريد مخالفة القانون في أي بلد يعلم أن آلة التصوير مسلطة عليه في منزله وفي سيارته وفي الشارع وفي بيت الخلاء وفي أي مكان تحرك أو سكن فيه، وأن صورته تظهر على حقيقتها على مرآة التلفاز أمام مراقبين يتابعونه هل تراه يستطيع أن يخالف القانون ويفعل ما سيعاقب عليه من قبل السلطة القادرة على القبض عليه وعلى معاقبته؟.
فكيف إذا علم العبد وآمن أن الله محيط به يعلم كل حركاته وسكناته وخطرات قلبه في كل لحظة من لحظات حياته؟
فلو أن الإنسان يربى على العلم بهذه الصفة الإلهية والإيمان بها وما يترتب على ذلك من صغره فنشأ على ذلك لما كان يجترئ أغلب من رُبِّي على ذلك على ارتكاب المعاصي والاعتداء على الحقوق سواءً كانت حقوق الله أو حقوق عباده ولكان المؤمن بهذه الصفة يحقق الإحسان الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) [مسلم (1/36-37)].
وقال الأستاذ أبو الأعلى المودودي رحمه الله في هذا المعنى: (وأهم شيء وأجدره في هذا الصدد أن الإيمان بلا إله إلا الله يجعل الإنسان مقيداً بقانون الله ومحافظاً عليه، فإن المؤمن يكون على يقين بسبب اعتقاده بهذه الكلمة أن الله خبير بكل شيء، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه إن أتى بعمل في ظلمة الليل، أو حالة الوحدة فإن الله يعلمه، وأنه إن خطر بباله شيء جميل فإن علم الله محيط به، وأنه إن كان من الممكن له أن يخفي أعماله على كل واحد في الدنيا فإنه لا يستطيع إخفاءها على الله عز وجل، وإن كان يستطيع أن يفلت من بطش أي كان فإنه لا يستطيع أن يفلت من الله عز وجل.
فعلى قدر ما يكون هذا الإيمان راسخاً في ذهن الإنسان يكون متبعاً لأحكام الله قائماً عند حدوده، لا يجرؤ على اقتراف ما حرم الله ويسارع إلى الخيرات والعمل بما أمر الله ولو في ظلمة الليل أو حالة الوحدة والخلوة، فإن معه شرطة لا تفارقه حيناً من أحيانه، وهو يتمثل دائماً أمام عينيه تلك المحكمة العليا التي لا يكاد الإنسان ينفذ من دائرة حسابها) [مبادئ الإسلام ص98 طبع الاتحاد الإسلامي للمنظمات الطلابية].
فإذا فقد الإنسان العلم والإيمان بهذا المعنى فإنه سيرتكب كل ما يهواه عندما يشعر أنه لا يعلم به القادر على تأديبه وسيكون الموظف المسئول عن متابعة المجرمين مجرد ما يتعاطى هو بنفسه المسكرات والمخدرات أو يخفي جرائم المتاجرين في ذلك والذين يتعاطونه إذا نال منهم فائدة مادية، وهذا أمر يعرفه أهله أما من علم هذا المعنى وآمن به فأمانته يعرفها ذوو الخبرة في هذه الأمور.
غرس الإيمان بقدرة الله التامة على كل شيء:
إن المجرم إذا علم أن أحداً يعلم جريمته إذا ارتكبها، ولكنه يعلم أن هذا العالم بجريمته عاجز عن متابعته وعقابه فإنه يستطيع أن يرتكب تلك الجريمة وينجوا من عقاب ذلك العالم بجريمته ولو كان يبغضها غاية البعض، لكنه إذا اجتمع عنده العلم والإيمان أن أحداً يعلم بما يرتكبه من معصية ويقدر على متابعته ومحاسبته وعقابه لا يقدر أبداً على الإفلات منه فإنه لا يقدم على ارتكاب المعصية التي يعلمها ويعاقبه عليها.
ولهذا جمع الله سبحانه بين علمه المحيط بكل شيء، وقدرته التامة على كل شيء في قوله تعالى: قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير [آل عمران: 29].
وقال تعالى: أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً [فاطر: 44].
فمن أراد أن يوجد من يجتنب ما يضره ويضر مجتمعه من الجرائم، بل من أراد أن يكون الشعب كله حارساً على مصالحه في السر والعلن فليرب من أراد منه ذلك على العلم والإيمان بقدرة الله التامة على كل شيء مع إحاطته تعالى علماً بكل شيء.
ولعل هذا يبين حكمة أمر الله تعالى عباده أن يعبدوه بأسمائه الحسنى التي تملأ القلب المؤمن حباً لله وخوفاً ورهبة منه فيقدم على ما يحب ويبتعد عما يكره، كما قال تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [الأعراف: 180].
لأن كل اسم من أسمائه تعالى يحمل من المعاني ما لو فقهه المؤمن وثبت في قلبه لازداد تقرباً إلى الله بطاعته بأداء حقوقه وحقوق عباده، وترك معصيته بعدم الاعتداء على حقوقه وحقوق عباده.
ولهذا كان المكثر من حفظ أسماء الله الحسنى المتعبد بها جديراً بوعد الله أن يدخله الجنة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)) [البخاري (3/185) ومسلم (4/2062) وفي مسلم زيادة في رواية: (من حفظها)].
وقال ابن القيم رحمه الله: (ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت منه المحبة التامة عليها، وهل مع المحبين محبة إلا من آثار صفات كماله فإنهم لم يروه في هذه الدار، وإنما وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه فاستدلوا بما علموه على ما غاب عنهم) [طريق الهجرتين وباب السعادتين ص:561-562 طبع قطر].
غرس الإيمان بكتاب الله في النفوس:
إن هذا القرآن لم ينزل إلا لهداية البشر وإقامة الحجة عليهم، قال تعالى: ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [البقرة: 1-2]، وقال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9]، وقال تعالى: وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [الصف: 9].
فإذا ربي الإنسان على الإيمان بأن هذا القرآن كلام الله وانه لا اهتداء إلا به في هذه الحياة، وأن ما شرعه الله فيه يجب أن يطاع أمراً كان أو نهياً، وأنه لا يجوز أن يطاع أحد في معصيته وأنه يجب أن يُتَعلم حلاله وحرامه، ويُطَبق في واقع الحياة أن الإنسان إذا ربي على ذلك فسيكون إنساناً صالحاً يحب الخير ويدعوا إليه ويأمر به، ويبغض الشر ويحذر منه وينهى عنه، ومن ذلك المسكرات والمخدرات التي حذر الله تعالى منها.
وإذا لم يرب المسلم على ذلك فأي قانون قادر على قيادته بسهولة ويسر غير هذا القرآن؟
لقد كان لهذا القرآن أثره في نفوس الذين أخذوه علماً وإيماناً وعملاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت لهم بذلك السعادة والعزة والأمن والاستقرار والإيثار والمودة والإخاء، وهذه المعاني هي التي ينشدها العالم اليوم، لفقدها أو ضعفها التي يكاد يكون كالفقد، ولا يمكن أن تعود هذه المعاني إلى الأرض إلا إذا سلك المسلمون مسلك سلفهم الصالح في تعلم كتاب الله والإيمان به وتطبيقه في حياتهم.
قال ابن كثير رحمه الله: (قال الأعمش: عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن، وقال عبد الله السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرؤننا أنهم كانوا يستقرؤن النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً) [تفسير القرآن العظيم (1/3) وانظر الفتاوى لابن تيمية رحمه الله (13/331)].
هكذا كان تأثير القرآن على النفوس التي آمنت به، كانوا يقفون عند آياته تلاوة وتفهماً لمعانيها وتطبيقها لأوامرها ونواهيها.
وسنة رسول الله صلى اله عليه وسلم وسيرته كالقرآن في التكليف ووجوب الإيمان بها، فهي وحي مثله في ذلك، والواجب الإيمان بما صح منها والعمل بها كالقرآن، لأن الله قد أمر بطاعة رسوله كما أمر بطاعته، قال تعالى: قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين [النور: 54].
فإذا غرس الإيمان بالكتاب والسنة في نفوس الناس تغيرت نفوسها من الجنوح والفسوق إلى الإقبال إلى الله والطاعة.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لشدة إيمانهم بهذا القرآن قال لهم الله عز وجل: فهل أنتم منتهون [المائدة: 91، تفسير القرآن العظيم (2/92)] قالوا: انتهينا يا رب، وكان ذلك في أم الخبائث كلها وهي الخمر.
غرس الإيمان باليوم الآخر في النفوس:
إن علم الإنسان وإيمانه أنه سيموت فقط غير كاف في تربيته على فعل الخير وترك الشر، لأنه لا يوجد عاقل في الأرض إلا وهو يعلم علم اليقين أهن سيموت، فلا بد لتربية الإنسان على فعل الخير وتر الشر من غرس الإيمان باليوم الآخر في نفسه وتعليمه ما يكون فيه من أهوال وجزاء، وإلا فالذي لا يؤمن باليوم الآخر كلما ذكر الموت ازداد ضراوة وشراهة في التمتع بالشهوات وازداد تمرده على القوانين وحقوق الناس ما لم يتيقن من وجود رادع له بالمرصاد.
ولهذا تجد الإيمان باليوم الآخر يقترن بالإيمان بالله تعالى في الإثبات وما يترتب عليه وفي النفي وما يترتب عليه في القرآن والسنة معاً.
كما قال تعالى: ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين [البقرة: 8] وقال تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجر عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة: 62] وقال تعالى: وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن بالله واليوم الآخر قال فمن كفر فأُمتِّعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير [البقرة: 126] وقال تعالى: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين … [البقرة: 177] وقال تعالى: ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر [البقرة: 232] وقال تعالى: ليسوا سواء، من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهمن عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين [آل عمران: 113-114] وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً [النساء: 59] وقال تعالى: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين [التوبة: 18].
وقال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]، وقال تعالى: لا يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون [التوبة: 44-45]، وقال تعالى: وماذا عنهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقكم اله وكان الله بهم عليماً [النساء: 39].
هذه الآيات واضحة أنه يترتب على الإيمان بالله واليوم الآخر العمل الصالح في الدنيا والجزاء الحسن في الآخرة، ومعنى هذا أن الذي يغرس في نفسه الإيمان باليوم الآخر فيؤمن به حقاً لا يرتكب معصية الله تعالى خوفاً من عذابه في ذلك اليوم، ويسارع إلى طاعة الله طمعاً في ثوابه ورضاه في ذلك اليوم.
وقد أجمل الله سبحانه وتعالى رحلة الإنسان وأطوارها خاتماً بالبعث بعد الموت فقال: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاماً، فكسونا العظام لحماً، ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون [المؤمنون: 12-16].
فالتذكير باليوم الآخر بما فيه من أهوال البعث والحشر والجزاء من أهم ما يوقظ الغافلين، والذي يؤمن بذلك حق الإيمان لا بد أن يطلب رضوان الله بفعل أوامره وترك نواهيه، كما أنه لا بد أن يفر من سخطه كذلك، ولهذا عني القرآن الكريم بذلك، كما قال تعالى: ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد [الحج:1-2]، وقال تعالى: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون [الأنبياء: 1-3].
فالذي لا يؤمن بالآخرة أو يغفل عنها لا يرجى منه خير ولا إقلاع عن الشر والفساد في الأرض.
قال المودودي رحمه الله: (فإنكار الإنسان للحياة الآخرة أو الإقرار بها له تأثير في حياته، فإن الذي فطر عليه الإنسان أن يصبوا إلى عمل أو يعرض عنه إلا على قدر ما يرى فهي لنفسه فائدة أو ضرر، فأنى للذي لا يغدوا نظره فائدة هذه العاجلة وضررها أن ينشط لعمل صالح لا يرجوا منه فائدة في هذه الدنيا، أو يجتنب عملاً سيئاً لا يخاف منه على نفسه ضرراً في هذه الدنيا؟ أما الذي ينفذ بصره إلى نتائج الأعمال ولا يقف عند ظواهرها، فلا يرى نفع هذه العاجلة أو ضررها إلا شيئاً عارضاً، فيؤثر الحق على الباطل والخير على الشر، نظراً إلى فائدة الآخرة أو مضرتها الأبدية ولو كان الخير يعود إلى نفسه بأقدح ضرر والسيئة بأعظم منفعة في هذه الدنيا.
فانظر إلى ما بين هذين الرجلين من الفرق العظيم والبون الشاسع، فالخير في نظر الأول ما يحصل نفعه في هذه الحياة الفانية … والشر عنده ما ينتج أو يخشى أن ينتج شيئاً مكروهاً في هذه الدنيا … بينما الخير في نظر الرجل الثاني ما يرضي الله والشر ما يسخطه، وهو يرى أن الخير في كل حال وإن لم ينفعه في هذه الحياة الدنيا … وأن الشر في كل حال وإن لم يذق، أو لم يخف أن يذوق وباله في هذه الحياة الدنيا) [مبادئ الإسلام ص:115-117].
فإذا ما أردنا الأمن والسعادة وانقياد الناس للخير وابتعادهم من الشر، ومن ذلك تعاطي المسكرات والمخدرات فعلينا أن نغرس في نفوسهم الإيمان بالله وبكتابه وباليوم الآخر، وغيرها من أصول الإيمان وفروعه، فإن الإيمان يغير النفوس من شريرة إلى خيرة، ولا يمكن لغير الإيمان أن يغير تلك النفوس ذلك التغيير.
المبحث الثاني: تربية المجتمع على تطبيق الإسلام.
إن الإيمان الصادق لا بد أن يثمر العمل الصالح، والعمل الصالح هو أصول الإسلام الخمسة وما تفرع عنها: الشهادتان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام وكلما أوجب الله على المسلم عيناً أو كفاية وكذلك اجتناب ما حرمه الله تعالى عليه، بل إن المؤمن الحق هو الذي يفعل المندوبات ويترك المكروهات ويترك المباحات التي يخشى أن تؤدي به إلى ما فيه بأس.
ويجب أن يربى المجتمع المسلم على القيام بالعمل الصالح من فعل واجب أو ترك محرم، كما يستحب أن يربى على فعل المندوبات وترك المكروهات، وأن يكون العمل الصالح هذا هو المسيطر على هذا المجتمع وأن يكون ولاة أمور المسلمين وهم الحكام والعلماء قدوة حسنة في ذلك للمجتمع فإن تطبيق معاني الإسلام في المجتمع تجعل الخير فيه مألوفاً وتجعل الشر منكراً.
يشعر المجتمع المسلم عندما يطبق فيه الإسلام بالارتياح والطمأنينة لكل عمل مشروع ويحب صاحبه ويقدره، كما يشعر هذا المجتمع بالنفور من أي عمل سيء ويبغض صاحبه، فيظهر بذلك الخير والخلق الحسن ويختفي الشر والخلق السيء فلا يوجد في هذا المجتمع سوق نافقة للمعاصي والمنكرات فلا زناً ولا رباً ولا قتل ولا قتال ولا ظلم ولا خمر ولا مخدرات ولا غيرها.
وهذا بخلاف ما إذا اختفى تطبيق الإسلام أو ضعف فإن المجتمع لا يغضب لمنكر ولا يتأذى منه، بل إنه يستسيغه وقد يؤيده كثير من أفراده.
التطبيق للإسلام يدفع المجتمع المسلم إلى التعاون على البر والتقوى، وعدم تطبيقه يدفع إلى التعاون على الإثم والعدوان، أو على السكوت عن الإثم والعدوان، والسكوت في النتيجة تعاون على الإثم والعدوان.
وأرى أن أقتصر في هذا المبحث عل ما مضى، لأنه سيأتي في الفصول والمباحث الآتية ما يمكن أن يغني عن الإطالة هنا في هذا الموضوع.