بحث عن تاريخ الحروب الصليبية - بحث مفصل عن تاريخ الحروب الصليبية جاهز
ناصر بن محمد الأحمد
في السابع والعشرين من شهر نوفمبر من عام 1995م اختارت الدول الأوروبية الواقعة على سواحل البحر الأبيض المتوسط هذا اليوم ليكون موعداً لانعقاد مؤتمر موسع في برشلونة بأسبانيا يضم 15 دولة أوربية و12 دولة متوسطية من بينهما 8 دول عربية إضافة إلى تركيا وقبرص ومالطة ودولة العدو الصهيوني، ما مناسبة هذا المؤتمر؟ ولماذا عقد؟ وهل جاء هذا الموعد في زمانه ومكانه محض مصادفة؟.
الجواب: أن كل هذا الترتيب وفي هذا الموعد بالذات لم يكن مصادفة، إن هذا الموعد يوافق بالتمام والكمال ذكرى مرور 900 سنة على بدء الحروب الصليبية، ففي مثل ذلك اليوم من ذلك الشهر في عام 1095م، أطلق بابا النصارى "أوربان الثاني" دعوته لبدء الحملات الصليبية على البلدان الإسلامية الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسط بغرض الاستيلاء على بيت المقدس. وكان مما قيل في ذلك المؤتمر ما صرح به "ويلي كلاوس" حيث قال: "إن الأصولية خطيرة كما كانت الشيوعية، ونرجوكم ألا تقللوا من شأن هذا الخطر". وقال أيضاً: "إن الخطر الأصولي الإسلامي هو من أهم التحديات التي تواجه الغرب بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، ومن واجبنا أن نتعاون مع الدول التي تواجه ذلك النوع من الصعوبات". فهل كان هذا المؤتمر تحضيراً لحروب صليبية جديدة؟ ألم تنته الحروب الصليبية بعد؟ ألم يقل القائد "اللنبي" بعد استيلاء الإنجليز على القدس في الحرب العالمية الثانية وهو واقف على قبر صلاح الدين: "الآن انتهت الحروب الصليبية"! هل كان مخطئاً؟ يبدو ذلك، بل بالتأكيد كان مخطئاً، هذا إن أحسنّا به الظنّ، ولم يكن يعلم أن النصرانية لم تشبع بعد من دماء المسلمين ولم تكفها سبع أو ثماني حملات في القرون الوسطى لإشفاء غليلها من المسلمين الموحدين، ولم تشفها الحملات المعاصرة قبل وبعد الحربين الكونيتين في النصف الأول من هذا القرن، بدليل أن صيحاتهم باتت تصم الآذان منذرة بقيام المزيد من الحروب الصليبية بين العالم الإسلامي والعالم النصراني، وأنها لم تنته بعد، صرّح بذلك مؤخراً كبيرهم الذي علمهم السحر.
إن القائد "اللنبي" قال: إن الحروب الصليبية انتهت باستيلاء النصارى على القدس في القرن العشرين، ولكن جاء الصرب وافتتحوا حملات جديدة حتى قال وزير إعلامهم بالحرف الواحد في إعلان شهير له: "إن الصرب في معاركهم في البلقان إنما يمثلون طليعة الحرب الصليبية الأخيرة لاستئصال شأفة الإسلام". إن العالم قد رأى بعينيه الصلبان تحفر على صدور ورقاب المسلمين في البوسنة، فهل تستحق هذه الحرب وصفاً آخر غير الحرب الصليبية؟!.
لقد فرغ النصارى من أمر أكثر الدول والأنظمة في العالم العربي والإسلامي تقريباً، ثم أقبلوا الآن على الشعوب المسلمة ذاتها ليناصبوا كل من بقي على الوفاء للدين العداء، والأصولية أو الإرهاب التي نصبوها عدواً بديلاً بعد سقوط الشيوعية ما هي إلاّ تعبير عن رغبة قطاعات عريضة من الشعوب الإسلامية في العودة لأصول الدين. هذه الأصولية بهذا المعنى هي المستهدفة بالحرب الشعواء التي بشّر الغرب بقيامها، ثم باشر البدء فيها فعلاً أحياناً بالقوة العسكرية وأحياناً بالمحاصرة الاقتصادية، وفي أحايين أخرى بالتسلط الدولي تحت مسمى الشرعية الدولية، ومهما حاول الصليبيون الجدد ستر أغراضهم وأحقادهم الدينية بالأقنعة السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو تحت ذريعة محاربة الإرهاب فإن تلك الأقنعة تسقط ويظهر الوجه الحقيقي للصراع وأنها حرب صليبية، قال الله تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) وقال تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وقال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) وقال تعالى: (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون). إن القرآن لم يحدثنا عن الأطماع الاقتصادية أو الأهداف السياسية والعسكرية أو الحضارية للنصارى واليهود، ولكنه ركز على الأغراض الدينية لهم، أما الأغراض الأخرى فتأتي بالتبع، لقد كانت هتافات الجنود النصارى الزاحفين على بيت المقدس أيام الحروب الصليبية الأولى: أمر الله، إنها إرادة الله. وباسم هذا الإله المُدّعى ذبح النصارى المسلمين العُزّل وقت دخولهم القدس في الحملة الصليبية الأولى حتى بلغ عدد القتلى من المسلمين في ساحات الأقصى وطرقات المدينة نحو سبعين ألفاً، وهذا ما يريده النصارى الجدد في حروبهم الصليبية القادمة التي أعلنوا عنها. وتخبرنا الروايات الصليبية نفسِها بأطراف من المأساة، فيقول أحدهم وهو: "ريمون داجيل" في رواية موثقة لدى أدعياء المسيحية السمحة طرفاً من الحدث فيقول: "وقعنا على مشاهد لم يسبق لها مثيل، فقد قُتِل عدد كبير من أبناء المدينة فكانوا يُرمَون بالنبال أو يجبرون على القفز جماعات من فوق الأسوار، كما عُذّب بعضهم قبل أن يُرمَوا في النار، شوارع المدينة كانت مليئة بالرؤوس والأيدي والأرجل، وكان الجنود في كل مكان يسيرون فوق الجثث، لقد كانت مجزرة رهيبة، بعدها كنا نسير في بحيرات من الدم، لقد نهب الصليبيون حتى ارتووا". وقال نصراني آخر: "إن النساء كن يقتلن طعناً بالسيوف والحراب، والأطفال الرضع يُختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم ويقذف بهم من فوق الأسوار أو تهشّم رؤوسهم".
ولماذا نذهب بعيداً فقد رصد التاريخ الإسلامي الحدث ذاته بكثير من التفصيل والدقة سردها الإمام ابن الأثير رحمه الله في كتابه الكامل: وذكر أن المذبحة استمرت طوال يوم الدخول وليلته واقتحم النصارى المسجد الأقصى في صباح اليوم التالي وأجهزوا على من احتموا فيه، وصبغت ساحات المسجد بدماء العبّاد والزهّاد الركّع السجود، وتوجه قائد الحملة في الضحى لدخول ساحة المسجد متلمساً طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبته، وكان النظر لا يقع إلا على أكوام من الرؤوس والأيدي والأقدام المقطعة في الطرقات والساحات، ونهب النصارى جميع الأمتعة وخربوا أثاث المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ونهبوا القناديل التي بلغت نيفاً وأربعين قنديلاً، كل قنديل وزنه ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا نيفاً وعشرين قنديلاً من ذهب. وأبادوا أهل أنطاكية وخربوا حمص وبعلبك وحماة وعسقلان وقِنّسرين وطبرية وغيرها من البلاد وهجَّروا أهلها منها وفعلوا الأفاعيل العظيمة التي استحى حكماؤهم ومؤرخوهم منها.
إن هذا بل وأكثر ليس بغريب أن يفعله النصارى لو تمكنوا من رقابنا، بل لماذا نذهب بعيداً ففي خلال الأعوام الماضية القريبة كم قُتل من مسلمي البوسنة وطاجاكستان وألبانيا والشيشان، بل كم قُتل من شعب الصومال والسودان والعراق على أيدي النصارى الصليبيين، وإلى الآن لم يرتووا ولو حصل لهم فرصة أخرى لأحرقوا الأخضر واليابس.
أعود لتاريخ المؤتمر، إنه اليوم الذي أرادوا أن يكون عيداً يحتفلون به على أنقاض أرض الأندلس الضائعة، بل ليتهم أرادوا الاحتفال بالذكرى فحسب، بل أرادوا أن يجعلوها بداية انطلاق لبدء رحلة جديدة من الحروب الصليبية، وقبل ذلك بالتعاون مع العدو القديم اليهود، الذين أصبحوا اليوم أعز أصدقاء النصارى الصليبيين وأخلص معاونيهم، حتى إن الغرب النصراني كله قد أجمع على تحويل الأرض المقدسة إلى ترسانة ضخمة من الأسلحة النووية والكيميائية والجرثومية الموجهة إلى صدور كل شعوب المنطقة الإسلامية، وإن دولة اليهود إسرائيل هي الفرس الذي يعتليه النصارى ويوجهونه، واليهود يعرفون دورهم هذا تماماً وهم يعلمون أن النصارى يدخرونهم ليوم معلوم، قد يحاول المسلمون فيه استعادة كرامتهم ومقدساتهم. ولهذا فإن المراقب المسلم لا يمكنه أن يتجاهل الدور اليهودي في التبشير بالصراع القادم، ودق الطبول للحرب المرتقبة، وتصريحاتهم القديمة في ذلك كثيرة ومتواترة، ولا يزال قادتهم يرددون وبقوة أشد التحذيرات والصيحات والنذر، من خطورة عودة الروح إلى الإسلام على يد دعاة الأصولية.
إن النصارى الجدد يريدون أن يستمروا في إراقة الدماء ولو كان دماء شيوخ ونساء وأطفال، المهم أنهم مسلمون، وقد يخترعون مسرحية أم شماعة يعلقون عليها أهدافهم. إنها حرب صليبية ولا تفسير لها إلاّ ذلك.
إن الإسلام هو دين الله عز وجل، فلا خوف على الإسلام من الحرب الصليبية الجديدة، إنما الخوف على موقفي أنا وأنت من هذه الحرب التي قد دُقت طبولها، ماذا قدمنا وماذا سنقدم؟ وما هو الدور الذي يجب أن يقفه كل مسلم؟ أما الإسلام فهو كتلك الحبة التي تبقى في باطن الأرض عشرات السنين فإذا نزل المطر نبتت من جديد، وهذا الأمر واقع في الدنيا كلها، فلقد عمل أعداء الإسلام للقضاء على دين الله بكل الوسائل: أباحوا المحرمات، حاربوا التعليم الإسلامي، همشوا لغة القرآن، ألغوا تطبيق الأحكام الشرعية، شجعوا كل أنواع الملاهي المفسدة للشباب، جعلوا من وسائل الإعلام معاول لهدم الأخلاق، نشروا الصحف والكتب التي تشكك حتى في الإيمان بالله، ومع ذلك فهل تم القضاء على الإسلام؟.
لقد انتشر الإسلام على يد الأتراك العثمانيين في مقدونيا وألبانيا وكوسوفا والبوسنة والهرسك، وأصبحت المآذن في كل هذه الأرجاء تردد صباح مساء نداء: الله أكبر، ومنذ عام 1912م والمخططات تعمل للقضاء على الإسلام في تلك الإنحاء، فالحكم الشيوعي حارب الإسلام حرباً لا هوادة فيها، حتى وصل الأمر في ألبانيا إلى منع الأسماء الإسلامية وفي مقدمتها اسم: محمد، ونشأت أجيال تحت الحكم الإلحادي الكافر القاضي بقهره وسفكه لدم كل من يُظهر شيئاً من الإسلام، حتى ظن أعداء الإسلام أنهم قد قضوا تماماً على أي وجود إسلامي، لكنهم فوجئوا كما فوجئ الغرب بنور الإسلام يشع في تلك الأرجاء بمجرد انحسار الحكم الشيوعي، فما إن سقطت الأنظمة الشيوعية حتى ارتفعت المآذن وامتلأت المساجد وظهر الشباب الحافظ لكتاب الله والمتقن للغة العربية وتيقن أعداء الإسلام أن نور الله لا ينطفئ أبداً، كيف ينطفئ وقد قال الله عز وجل: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).
لقد ارتكب النصارى جرائم وحشية في حق مسلمي الأندلس، أجبروهم على التنصر، وحوّلوا مساجدهم إلى كنائس، وأتلفوا كتبهم ومصاحفهم، واعتبروا أطفالهم نصارى، فعمّدوهم بالقوة ومحوا شعائرهم وشعاراتهم، ومنعوا تقاليدهم وعاداتهم، ونكثوا العهود والمواثيق، فقتلوا وعذّبوا ونكَّلوا وشرَّدوا. وفي القرن المنصرم فعل الاستعمار الصليبي في بلاد المسلمين من قتل وتشريد وفساد وإفساد وتخريب ودمار ونهب للأموال والممتلكات ما تقشعر له الأبدان، وحُرم المسلمين من أدنى الحقوق التي لا تحرم منها الدواب والبهائم، وليست مذابح البوسنة والهرسك ومجازر كوسوفا منّا ببعيد. وها هم اليوم يتغنون كذباً وزوراً بالأمن والسلام والوحدة والوئام، فهذا مجلس الأمن، وذاك مبعوث السلام، وهذه خطة أمن، وتلك صِلاة سلام، فبالله عليكم متى علمتم الوحوش الضارية استأنست؟ ثم هل تلد الوحوش غير الوحوش؟ والأعجب أن المسلمين لا يعتبرون من التاريخ، وما يزال البعض يثق بالنصارى ويصدق بأنهم عادلون منصفون يرعون حقوق الإنسان، وصدق الله العظيم: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا).
لقد بدأت محاولات الغزو الصليبي الحديث منذ القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي، بعد أن طَرد الأوروبيون الإسلام من الأندلس بعد معارك وحشية طويلة، بارك البابا الانتصار الصليبي وشجع الصليبيين على متابعة المسلمين لطردهم من بقية بلاد الإسلام، يدفع إلى ذلك حقدهم الدفين على الإسلام والمسلمين، ثم تبعتها الرحلات الاستكشافية تحت غطاء العلم، لأن المقصود من تلك الرحلات هو تطويق العالم الإسلامي آنذاك، وقد صرح بذلك الرحالة "فاسكوداجاما" الذي استعان بالبحّارة المسلم "ابن ماجد" الذي أَمَدّه بالمعلومات والخرائط وقاد معه سفينته نحو جُزر الهند الشرقية، فلما وصل قال ذلك الصليبي الحاقد بعد إتمام الرحلة: "الآن طوقنا رقبة الإسلام ولم يبق إلا جذب الحبل فيختنق ويموت". ثم تتابعت الرحلات الأخرى التي قام بها الصليبيون في العالم الإسلامي يدرسون مداخله ومخارجه، هذه الرحلات التي نُدرِّسها لطلابنا على أنها من أعظم الرحلات وأنها كانت رحلات علمية.
أما اليوم فها هو التبشير والتنصير قد أنشب أظفاره وكشر أنيابه وهو نتيجة من نتائج التعصب الصليبي المسلّح، ومولود من مواليد القوة الطاغية، التي تُسمِي كل ما ترضى عنه من الأعمال المنكرة حرية دين، أو حرية فكر، أو حرية رأي، وتُسمي كل ما لا ترضى عنه من المطالبة بالحقوق المغصوبة وغير ذلك، تسميه إرهابًا وعنفًا وأصوليةً وتشددًا.
إن عداوة أهل الكتاب للمسلمين قضية مقررة محسومة، وعقيدة راسخة معلومة، بينها الله في القرآن الكريم، وشهد بها التاريخ والواقع الأليم، فمن لم يقنع ببينة القرآن ولم يكفه شاهد العيان فلا حيلة إليه.
لقد غزت أوربا النصرانية بلاد المسلمين بجيوش جرارة لأحقاد دفينة ترفضها جميع الأديان السماوية، وأرادوا تحقيق أغراض توسعية لمصلحة الكنائس الغربية واستغلالاً لخيرات بلاد المسلمين.
إن الدافع الأول من أهداف الحروب الصليبية القديمة والجديدة هو الدافع الديني، ومن أشهر من تبنى الدعوة إلى الحروب الصليبية، هو البابا نفسه والذي يعتبر المسؤول الأول عن الترويج لحرب المسلمين، وقد وعد البابا الجموع المشاركين بالحرب برفع العقوبات عن المذنبين منهم، وإن كانت حملاتهم لا تخلوا من مآرب اقتصادية لاستغلال خيرات العالم الإسلامي. فهل توقفت الحملات الصليبية الآن؟.
أنّى لها أن تتوقف، وأحقاد القوم لا يطفئها إلا الانتقام وإراقة الدماء. الحروب الصليبية لم تتوقف أبداً منذ مطلع الدعوة الإسلامية وحتى عصرنا الحاضر (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر).
يعود تاريخ الحروب الصليبية إلى بداية المواجهة ضد النصارى في غزوة مؤتة، واستمر هذا الصراع مع حملة الصليب عبر الأندلس وصقلية وفلسطين وسواحل بلاد الشام. غزوة مؤتة كانت مثالاً للصراع المبكر بين المسلمين والنصارى في السنة الثامنة من الهجرة، وكان الصليب هو شعار الروم آنذاك، واستمر الصراع فجاءت معركة اليرموك بقيادة كبار الصحابة، ورُفعت رايات الإسلام على بلاد الشام خفّاقة مشرقة، ودخل الإسلام أرض الكنانة. ومن المعارك الفاصلة في تاريخ الصراع الصليبي مع المسلمين، موقعة ملاذكَرد، انهزم فيها النصارى هزيمة ساحقة وامتلأت الأرض في آسيا الصغرى بجثث القتلى، وأُسر الامبرطور نفسه على يد القائد المسلم ألب أرسلان. ثم جاءت الحروب الصليبية الشهيرة واستمرت قرنين من الزمان، وكانت الحملات فيها تتوالى من الغرب الصليبي على بلاد المسلمين كالأمواج المتلاطمة، وكان الصليب فيها شعارهم، فكانت عدواناً صارخاً حاقداً ليس له نظير في تاريخ الحروب العالمية، إذ خلّفت الخراب والدمار، وكانت سمتها المجازر الوحشية، مما يعتبر وصمة عار في تاريخ العالم النصراني. وكل حملة من هذه الحملات كانت توجه لبقعة من أراضي المسلمين، فجاءت الحملة الصليبية الأولى نحو بيت المقدس، ثم الثانية، ثم الثالثة، وهكذا حتى جاءت السابعة بقيادة ملك فرنسا موجهةً إلى مصر، فتصدى لهم المجاهدون قرب المنصورة، وألحقوا بهم هزيمة ساحقة، بلغ فيها عدد القتلى من الصليبيين ثلاثين ألفاً، أما الأسرى فحدث ولا حرج والحمد لله. والحملة الثامنة توجهت نحو المغرب ونزل في تونس، وبعد أربعة أشهر نزل وباء قضى على أكثر الجيش الصليبي والحمد لله.
أما الدولة العثمانية فتاريخها مع الحروب الصليبية النصرانية تاريخ عريق، فلم تنس أوربا النصرانية هزيمتها أمام الدولة العثمانية، أحرز فيها العثمانيون نصراً مؤزراً، فقد قُتل من النصارى الكثير، وغرق آلاف منهم في نهر الدانوب والحمد لله. ولن تنسى أوربا النصرانية سقوط القسطنطينية بيد السلطان محمد الفاتح رحمه الله، ومنذ ذلك التاريخ وقادة أوربا النصرانية يضعون الخطط للإجهاز على الدولة العثمانية واقتسام تركتها، واستمر القوم يتآمرون ويتعاونون مع جمعيات الماسون السرية التي كانت تضم المجرمين من اليهود والصرب واليونان، حتى تمكنوا من عزل السلطان عبدالحميد وإسقاط الخلافة، ليتحكم فيها جماعة الاتحاد والترقي ومعظم قادتها وأعضائها من يهود الدونمة، فتمكن الاستعمار الخبيث من القضاء نهائياً على الخلافة، واصطناع الحدود بين أقطارها عن طريق اتفاقية "سايكس بيكو" الشهيرة عام 1915م، وتم إلغاء الخلافة الإسلامية وطَرْدِ الخليفة خارج الحدود، ومصادرة أمواله، وإعلان علمانية الدولة، وإلغاء الشريعة الإسلامية. ولم يكتف الصليبية النصرانية بكل هذا، بل استمروا في حربهم الصليبية ضد المسلمين واستغلوا خيرات بلاد المسلمين من المغرب العربي إلى مصر وبلاد الشام، فلم تسلم دولة إسلامية من ذلك حتى باكستان وأندونيسيا.
لقد أشرقت شمس الرسالة على أهل الأرض ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فكانت لهم سراجاً منيراً، فأنعم الله بها عليهم نعمة لا يستطيعون لها شكوراً، وأهل الكتاب وقتئذ مترقبون ينتظرون، فلما أشرقت من مكة شمس الرسالة ببعثة محمد بن عبدالله الهاشمي، كفروا بها وجحدوها إلا قليلاً منهم، وكانوا هم أولى باتباع النبي لما يجدونه مكتوباً عندهم في كتبهم، قال الله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل). وخص الله سبحانه أهل الكتاب من اليهود والنصارى بدعوة خاصة فقال تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم) فناداهم بـ(يا أهل الكتاب) تشريفاً وتكريماً، وليكون ذلك أدعى لقبول ما جاء به محمد ، فكان منهم من أسلم فسلِم، وآمن فأمِن، وكُتب له الأجر مرتين، وكان منهم من أخذه الكبر والحسد فكفر وجحد ومع ذلك أقرهم الإسلام على دينهم، وأذن للمسلمين في الإحسان إليهم، وعَصَم دماءهم وأموالهم، وحفِظ لهم حقوقهم وأبقاهم بين المسلمين رجاء الخير لهم بإسلامهم وإيمانهم. فكان الإسلام عليهم نعمة والمسلمون لهم رحمة. إن أهل الكتاب ما نعموا بعدل ولا سعدوا بأمن إلا تحت حكم المسلمين وشواهد التاريخ على ذلك كثيرة: من ذلك أنه لما انسحب أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه من حمص بعد أن فرض عليها الجزية بكى النصارى في حمص وقالوا: "يا معشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا ولكنهم - أي الروم - غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا". هكذا كان الإسلام لهم، وهكذا أَمَرَ الله ورسوله المسلمين أن يكونوا لهم. وفي مقابل هذا البر والإحسان والرحمة والإنعام كيف كان أهل الكتاب للمسلمين؟. إن تاريخ النصارى في التعامل مع المسلمين تاريخ أسود كله.
كانت الحرب الصليبية الأولى عام 489هـ بقيادة بطرس الناسك بتحريض من رجال الدين لاحتلال بيت المقدس، ثم جاءت الحرب الصليبية الثانيه عام 541هـ بقيادة ملك ألمانيا، والثالثة كانت عام 585هـ بقيادة ريشارد قلب الأسد ملك انكلترا، وفيليب ملك فرنسا بحجة استعادة بيت المقدس بعد الانتصارات التي حققها البطل المجاهد صلاح الدين الأيوبي، ثم كانت الحرب الصليبية الرابعة عام 594هـ بقيادة أمراء فرنسيين انتهت بالفشل، أما الحرب الصليبية الخامسة فكانت عام 615هـ، ثم السادسة عام 625هـ بقيادة ملك ألمانيا انتهت بتسليم بيت المقدس إلى الصليبيين، والحرب الصليبية السابعة كانت عام 637هـ، أما الحرب الصليبية الثامنة فهي الهجمة الصليبية مع بداية القرن المنصرم والتي من خلالها تم تدمير الخلافة الإسلامية وتفكيك العالم الإسلامي إلى دويلات متفرقة وجثوم الصليبين على قلب العالم الإسلامي، ومن ثم تسليم فلسطين لأخوان القردة والخنازير، وفيها ركل القائد الانكليزي قبر صلاح الدين وقال قولته المشهورة: "ها قد عدنا يا صلاح الدين". قالها بعد سبعمائة سنه من آخر حملة. وقد ذكر بعض المؤرخين المعاصرين أن الحرب الصليبية التاسعة والتي كانت عام 1422هـ هي الهجوم على بلاد الأفغان. وهناك من يقول بأن العاشرة قد دقت طبولها في العراق، وأن الحروب الصليبية لم تنته بعد.
إن الدول الغربية تفتعل أي سبب لكي تضرب أية دولة أو لتشن حرباً صليبية جديدة، حالهم في ذلك حال ذلك الذئب الذي كان يشرب من أحد الأنهار، فأبصر حملاً فطمع في افتراسه، ولكنه أراد أن يراعي شريعة الغاب حتى يكون افتراسه موافقاً لقرارات الأمم المتحدة، فيبدأ بتقديم مسوّغ لافتراس ذلك الحمل يقنع به باقي الوحوش! فما إن رأى الحمل يجترّ بفمه، حتى بادره قائلاً: أتهزأ بي لا أبا لك! قال الحمل: أبداً، إنما اجترُّ بعض الطعام. قال: فلماذا كدرت عليّ ماء النهر أثناء شربي؟. قال الحمل: وكيف وأنت أعلى النهر وأنا أسفله. قال: إذاً أنت الذي قتلت أبي في العام الماضي! قال الحمل: أبداً، فلم أولد إلا قبل أشهر! قال: فأبوك إذاً هو الذي قتله!. ثم هجم عليه وافترسه!. هكذا يتعامل الغرب اليوم مع الشعوب المسلمة لكي يغطوا عورتهم في الحرب الصليبية الجديدة.
إننا نرجو من الله سبحانه وتعالى أن تكون في هذه الحملات الصليبية من المحن المحملة بالمنح، وأن يصدق فيها قول الله تعالى: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)، ولعلها تكون كذلك من ناحيتين:
الناحية الأولى: أن تكون موقظة للأمة من غفلتها: فإن الأمة تعاني من أمراض عظيمة، من حب الدنيا، وكراهة الموت، والابتعاد عن الشرع، والخلود إلى الأرض، فأعجزها ذلك عن الحراك، وسلط عليها الكفار من كل جنس، وعلاجها والله أعلم لا يكون إلا بصدمات قوية متتابعة، بقوة ما هي عليه من مرض، فلعل هذه الحملات الصليبية تحمل بين أظهرها علاج هذه الأمة فتجعلها تفيق من غفلتها، وتنهض من كبوتها، وقد رأينا كيف كان الاجتياح الشيوعي الأحمر لأفغانستان قبل أكثر من عشرين سنة من أعظم أسباب إحياء شعيرة الجهاد في سبيل الله بين المسلمين في العصر الحاضر، وما يدريك أن حملة بني الأصفر الحالية على المنطقة أن تحيي الجهاد في هذه المنطقة أيضاً ويحصل ما كان يخشاه الغرب، وتوقظ قلوب المسلمين، وتكون طريقاً لإظهار الإسلام على الدين كله ولو كره الكافرون، وما ذلك على الله بعزيز.
الناحية الثانية: أن تكون طريقاً لنهاية بعض الدول التي تُسمى بالدول العظمى، إنها تمر الآن بأزمات اقتصادية متتابعة خانقة، ولو تورطوا بحملة صليبية جديدة، فإن ذلك يحتاج إلى ميزانية ضخمة، بالإضافة إلى ما يسببه الاعتداء على مناطق النفط من أزمات عالمية ستتضرر منها هذه الدول، وهذا يؤذن بأفول نجم هذه الدولة بحول الله وقوته، إذ إن قوامها قائم على الاقتصاد، والتاريخ الحديث فضلاً عن القديم يشهد لذلك، فأين هي الاتحاد السوفيتي الآن بعدما تورطت في دخولها بلاد الأفعان.
أما نحن المسلمين فإننا مأمورون أيام الفتن بتقوى الله سبحانه والرجوع إليه، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، والاهتمام بأصل الدين ولبه توحيد الله وتعلمه وتعليمه، ودعوة الناس إليه، وهجر الشرك كله صغيره وكبيره، وتحذير الناس منه، والتمسك بالسنة واتباعها، والحذر من البدع وأهلها، والمعاصي والتحذير منها، والبراءة من الكفر وأهله، فإن هذه الأمور من أعظم أسباب النصر قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم).
في الثاني والعشرين من إبريل عام 1993م لم يكن مضى على استلام الرئيس الأمريكي "بل كلينتون" للحكم أكثر من ثلاثة أشهر، حين أقام احتفالاً في العاصمة الأمريكية بمناسبة افتتاح متحف المحرقة اليهودية وبحضور عدد من رؤساء أوروبا بشرقها وغربها، وقف رئيس وزراء الكيان الصهيوني الهالك "رابين" في ذلك الحفل خطيباً وقال: "إننا لسنا متأكدين بعدُ من أن الرئيس كلينتون وفريقه يدركان تماماً خطر الأصولية الإسلامية والدور الحاسم لإسرائيل في محاربتها، إن مقاومتنا ضد الإرهابيين المسلمين القتلة مقصود منها إيقاظ العالم الذي يرقد في سبات عميق على حقيقة أن هذا خطر جاد وحقيقي يهدد السلام العالمي".
ولو رجعنا قليلاً إلى الوراء إلى بُعيد الحرب العالمية الثانية، حيث ما يسمى بحلف شمال الأطلسي "الناتو"، كان هدف إنشاء هذا الحلف في بداية أمره ليكون وسيلة دفاعية ضد ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي، وكانت دول أوروبا وحلفاؤها تشعر بالقلق تجاه السياسة السوفيتية التوسعية، وازدادت المخاوف عندما فرض السوفييت أشكالاً من الحكومات الشيوعية على العديد من دول وسط أوروبا وشرقها، ونتيجة لذلك سعت الحكومات الغربية إلى تحالف جديد لفترة ما بعد الحرب العالمية لتأمين الدفاعات الأوربية ضد احتمالات التهديد السوفييتي، فنشأ ما يسمى بحلف "الناتو".
دكّ مجاهدو أفغانستان تلكم الإمبراطورية ولم يعد للاتحاد السوفيتي وجود الآن، فلماذا بقي الحلف موجوداً والهدف الأساسي الذي من أجله أُقيم قد زال؟ بل السؤال الأهم: لماذا التوسع الآن في هذا الحلف؟.
الجواب في كلمة مختصرة: أن هدف الحلف تحوّل الآن ضد التيار الإسلامي. هذه هي حقيقة القصة والقصة الحقيقية.
إن أي حلف يوجد على وجه الأرض لا بد أن يكون له عدو، وإلا ما كان لوجوده أي فائدة، والإسلام للغرب النصراني عدو دائم وليس عدواً جديداً، وهو الخطر القادم بعد زوال الشيوعية كما يصرحون هم بذلك.
فالمسلمون اليوم لا يواجهون حلفاً من ست عشرة دولة أول ما قام حلف "الناتو"، ولكننا نواجه حلفاً يتكون من أربع وأربعين دولة بعد التوسع، وهو يعتبر أكبر تحالف في التاريخ، فإن ثمة مجلساً ظهر يسمى "المجلس الأوروبي للتعاون الأطلسي"، وقد عقدت اجتماعاته عقب قمة مدريد بحضور الدول الست عشرة المعلنة، وثمان وعشرين دولة أخرى وقّعت مع الحلف ميثاقاً خاصاً، ومن بينها كل دول الاتحاد السوفييتي السابق. وعلى هذا فالمسلمون أمام أربع وأربعين دولة، مجهزة بأحدث الأسلحة، وتتحكم في 70% من إنتاج العالم بزعامة حلف الأطلسي، فحسبنا الله ونعم الوكيل. فهل نحن مدركون لهذا الواقع؟ وهل نحن على وعي تام لما يراد بنا ولنا؟ وهل نحن على مستوى هذه التحالفات؟.
إلى كم يُهان الدين والعلج يطربُ وحتى متى يا قوم ننعى ونشجب
وحتى متى يستأسد الفأر في الربى ويزرع فينا الخوفَ والحقَّ يَسلب
أفي كل يوم يشتكي الظلم إخوتي وفي كل صقعٍ من بلادي معذّب
وفي كل يوم تستباح حقوقنا وما عاد فينا من يذود ويغضب
أللخائن العربيد ألفُ تحية وللعالِم المغوار سيفٌ مذرّب
أننعم والإسلام يشكو مصابهُ ونضحك والرحمن للحق يغضب
فمن يا ترى للحق يأسو جراحه ومن في سبيل الله للنفس يُتعب
أهذا أوان النوم يا ابن عشيرتي ودمع ذوي القربى على الخد يُسكب
أهذا أوان النوم يا شبل خالدٍ وأنفاسنا في اللوح تحصى وتكتب
فقم يا حفيد الصحب واثأر لأمةٍ يسوم لها الباغي وفي المجد يلعب
وقل لبني الإسلام واصرخ بجمعهم سأنصر دين الله والحقَّ أطلب
سأثأر للحق الذي بات يشتكي فلا القيد يثنيني ولا السوط يُرهب
سأنصر هذا الدين مهما تكالبت عليه الأعادي أو العود أُصلب
سأثأر على أن أموت مجاهداً شهيداً إلى الجنات أسعى وأذهب
فمن يا ترى للذل يحني جبينه ومن ذا عن الهيجاء يرضى ويرغب
لئن كان للشر المبجّل صولةٌ فإن هدى الرحمن أعلى وأغلب
إن من صور الحروب الصليبية الجديدة، تعاون أوربا النصرانية مع الصهيونية، وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل، فقد التقت مصلحة الصليبيين مع مصلحة الصهاينة من أجل تمزيق وحدة العالم الإسلامي بغرس النبتة الغريبة المسمى بإسرائيل في فلسطين، لتفصل بين مصر وشمالي أفريقيا عن بلاد العرب في آسيا، وحتى لا يفكر المسلمون بالعودة إلى مجاهدة الغزاة المستعمرين وطردهم من بلادهم. لقد احتضنت بريطانيا الحركة الصهيونية منذ بداية القرن العشرين ووافقت على تسليم فلسطين صافية إلى اليهود، لقد التقت المصالح القومية لبريطانيا مع الخلفية التوراتية لكثير من سكانها النصارى ذوي المنطلقات الأصولية التوراتية لتبني الكيان الصهيوني في فلسطين. وفعلاً سلمتها بريطانيا لليهود عام 48م بعد أن اطمأنت إلى قوتهم، ومن ثم أسرعت كل من أمريكا وروسيا واعترفتا بدولة إسرائيل، وأخرجوا المسلمين من ديارهم وألقوا بهم لاجئين خارج وطنهم ليعيشوا في الخيام. إنها حرب صليبية.
ومما يدعم الحرب الصليبية دور الولايات المتحدة في حماية إسرائيل: فها هي تستلم حماية إسرائيل وتمدها بالمال والسلاح وتسخر هيئة الأمم لمصلحة الصهاينة المعتدين. والاتجاه القومي في الولايات المتحدة في العصر الحديث يتلخص في اعتقاد النصارى الإنجيليين التوراتيين بأن أرض فلسطين هي أرض الميعاد، وسوف تكون عليها المعركة الكبرى الفاصلة، وأنها ستكون معركة نووية تكون نهايتها دمار العالم وانهيار حضارته، ويعتقد هؤلاء أن نهاية المعركة ستكون انتصاراً للنصارى وتدميراً كاملاً للمسلمين. يؤمن بهذا الوعد المحرّف سبعة من رؤساء الولايات المتحدة الذين جاءوا قبل بوش الأب. ويعتقدون أن أرض فلسطين هي الأرض الموعودة لليهود، وأن الواجب الديني يقتضي تحقيق هذا الوعد، وهو وعد محرف عندنا ولا شك، لأنهم سيكونون من جنود المسيح الدجال، وسوف يقتلهم المسلمون بقيادة عيسى عليه السلام تحقيقاً لا تعليقاً.
ولا أظن أن أحداً نسي ما حصل من مذابح في تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وجنين وباقي المخيمات الفلسطينية. أما مذبحة المسجد الإبراهيمي فقد حصد المجرمون عشرات المصلين وهم ركع سجود في شهر رمضان المبارك من عام 1414هـ، كل ذلك يتم تحت مظلة النظام العالمي الجديد الذي يغض الطرف عن هذه المجازر وعن مثيلاتها في كشمير والفلبين والصومال وأرتريا وأفغانستان والشيشان والعراق وغيرها.
وأما ما حصل من حرب صليبية في البوسنة، فأمر كشف أشياء وأشياء عن أحقاد القوم، وبانت سوءة الغرب في تلك الحرب التي فاقت وحشية المغول والتتار، فقد عذبوا أئمة المساجد، وطالبوهم بالكفر بالإسلام والإيمان بالنصرانية، وأجبروا كثيراً من المسلمين في مخيمات الأَسْر على أكل لحم الخنـزير، وكان الإعدام الجماعي من سمات وحشيتهم، شمل ذلك الرجال والأطفال والنساء، بل كانوا يستنـزفون دماء المسلمين لإمداد الصرب الجرحى بالدم المسلم. وكانت جائزة كل صربي يَقتل مسلماً ما يعادل 300 جنيه استرليني. وأما اغتصاب المسلمات العفيفات فأمر يندى له الجبين. وبلغ عدد اللاجئين الهاربين من هذه الوحشية أكثر من مليونين ونصف تلقفتهم الأيدي بين قابل ورافض. ولم يعرف العالم الأوربي لذلك مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية. إن مسلسل الإجرام الصليبي واحد لا يتغير مع توالي القرون، ومنذ عهد مجازر الحملات الصليبية الأولى، مروراً بمحاكم التفتيش ومجازر البوسنة وانتهاءً على آخر الحروب الصليبية هذه الأيام التي ما زالت في علم الغيب، نسأل الله تعالى أن يكفي بلاد المسلمين شرها.
في بداية حرب البوسنة صرح وزير الإعلام الصربي قائلاً: "نحن طلائع الحروب الصليبية الجديدة" وهذه المقولة شبيهة بمقولة سمعها العالم قبل مدة نطق بها كبيرهم الذي علمهم السحر، فما أشبه الليلة بالبارحة.
قال الرئيس الفرنسي السابق عند زيارته لمطار سرايفو: "لن أسمح بقيام دولة أصولية إسلامية في أوربا".
وأما موقف بريطانيا فكما هو واضح الآن، فقد كان واضحاً أيضاً في الحرب الصليبية البوسنية فقد قال رئيس وزرائهم: "إن الهدف النهائي لنا هو تقسيم البوسنة، ومنع قيام الدولة الإسلامية في أوربا، وهو الأمر الذي لا يمكن أن نسمح به أبداً".
وهل يشك عاقل أن حصار غزة منذ عدة أشهر، صورة من صور الحرب الصليبية الجديدة. تلك الحملة التي خَطط لها ورتب فصولها أعداء هذا الدين من المحافظين الجدد، وساسة البيت الأبيض، بالتعاون مع إخوانهم الصهاينة المستعمرين لأرض فلسطين. فقد نشرت وكالات الأبناء قبل أحداث غزة العديد من التقارير التي تحدثت عن مخطط أمريكي صهيوني يهدف إلى عزل غزة عن بقية أرض فلسطين المحتلة، وممارسة الحصار عليها بشتى أنواعه وأشكاله، وتقسيم البلاد هناك إلى معسكرين أحدهما ينعم بالمساعدات الدولية وبالرخاء والأمن وعدم ملاحقة القاطنين فيه، والآخر يُحاصر ويمنع من المعونات ويعزل سياسياً، تمهيداً لتصفية حركات الجهاد ورجال المقاومة الشريفة الذين يرابطون في ذلك الثغر العظيم. ولم يعد هذا الأمر سراً، بعدها بدأت طلائع تلك الحرب الظالمة تبدو للعيان، وشاهد العالم الغارات تلو الغارات، ومارسوا بحقهم أقسى أنواع العزل والحصار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وتخرج الطائرات الصهيونية لتغتال من تشاء من أبناء تلك البقعة المباركة، ويستمر مسلسل التجويع وقطع المعونات ومنع التعاملات المالية، حتى وصل الحال بإخواننا هناك إلى وضع مأساوي عظيم، إذ عُدمت الأغذية، وانقطعت الأدوية، وحل البلاء، ونزل الكرب، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم.
إنها صورة من صور الحرب الصليبية في صورة حصار إرهابي مقرف، لا تزال تفرضه المؤسسة الاحتلالية الإسرائيلية وطواغيت البيت الأبيض على مليون ونصف مليون من أهلنا في قطاع غزّة الصابرة الصامدة. وسيبقى هذا الحصار وصمة عار أبدية لا تُمحى عن جبين المؤسسة الاحتلالية الإسرائيلية وعن جبين طواغيت البيت الأبيض وعن جبين المارقين والانتهازيين من المطبّلين والمزمّرين الذين باتوا يردّدون هتافات الذلّ والعار والخزي والمهانة تأييداً لهذا الحصار. وسيبقى هذا الحصار لطخة سوداء بحجم الجبل في جبين هيئة الأمم المتحدة التي باتت تستقوي على الضعفاء فتحتلّ أرضهم في السودان باسم حلّ مشكلة اللاجئين في دارفور، وتحتلّ أرضهم في الصومال باسم التصدّي لمد الإرهاب الإسلامي، وتحتلّ أرضهم في أفغانستان باسم محاربة قوى الشرّ، وتحتلّ أرضهم في العراق باسم تصدير الديمقراطية، وكلها في حقيقتها حرب صليبية.
مرة أخرى: هل نحن مدركون لهذا الواقع؟ وهل نحن على وعي تام لما يراد بنا ولنا؟ وهل نحن على مستوى هذه التحالفات؟.
والحمد لله أولاً وآخراً .