سقوط القدس بأيدي الصليبيين""""""********
مثّلت الحروب الصليبية مرحلة من مراحل الصراع بين الشرق والغرب، ولا يزال هذا الصراع مستمراً بأشكالٍ عديدة وأساليب مختلفة.
لقد استمرّت الحروب الصليبية فترة طويلة ناهزت القرنين، منذ أن انطلقت أولى حملاتها السبعة في العام 488هـ/1095م، إثر خطبة مثيرة ألقاها البابا أوربان الثاني في فرنسا دعا فيها إلى القيام بحملة إلى الشرق من أجل الاستيلاء على بيت المقدس وتحريرها من سيطرة المسلمين، ووعد المتطوعين في الحملة بحياة أفضل في الدنيا، وبغفران ذنوبهم إن قتلوا.
وصلت هذه الحملة إلى أسوار القدس في 15 رجب 492هـ/7-6-1099م، بعد أن سيطرت على الجزء الأكبر من بلاد الشام.
حصار القدس
كانت بيت المقدس في ذلك الوقت خاضعة للدولة الفاطمية، وكان عليها "افتخار الدولة" مع حامية المدينة، فاتخذ مجموعة من الخطوات لتعزيز صمودها في وجه الصليبيين، فسمم الآبار وقطع موارد المياه، وطرد جميع من في المدينة من المسيحيين لشعوره بخطورة وجودهم أثناء الهجوم الصليـبي، وتعاطفهم معهم، وقوَّى استحكامات المدينة.
كانت قوات الصليبيين التي تحاصر المدينة المقدسة تقدر بأربعين ألفًا، وظلت ما يقرب نحو خمسة أيام قبل أن تشن هجومها المرتقب على أسوار المدينة الحصينة، وكان الجند في غاية الشوق والحماسة لإسقاط المدينة، فشنوا هجومًا كاسحًا في يوم الإثنين الموافق 20 رجب 492هـ/ 12 -7- 1099م انهارت على أثره التحصينات الخارجية لأسوار المدينة الشمالية، لكنَّ ثبات رجال الحامية الفاطمية وشجاعتهم أفشل الهجوم الضاري، وقتل الحماس المشتعل في نفوس الصليبيين، فتراجعت القوات الصليبية بعد ساعات من القتال.
كان موقف الصليبين سيئاً، إذ كانوا يعانون العطش وقلة المؤن، ولكن وصول سفن حربية من جنوه إلى يافا قدمت المساعدة للصليبيين بالمؤن والإمدادات والأسلحة والمواد اللازمة لصناعة آلات وأبراج الحصار، رفعت من معنويات الصليبيين، وقوت عزائمهم وثبتت قلوبهم، وطمعوا في النصر، هذا في الوقت الذي كانت تغيب فيه عن ساحة الدعم أي إمكانية لتقديم مساعدة من جانب الحكام المسلمين، الذين تركوا المدينة تواجه مع تلك الحامية الصغيرة قدرها المحتوم، وإن أرسلت بعض الإمدادات والقوات، فإنها وصلت بعد فوات الأوان وسقوط المدينة.
اقتحام المدينة
تأهَّب الصليبيون لمهاجمةَّ أسوار المدينة بعد أن نجحوا في صناعة أبراج خشبية ومعها آلات دك الأسوار، وعجّل من الإسراع بالهجوم ما وصل إلى الصليبيين من أن الوزير الفاطمي الأفضل الجمالي في طريقه من مصر على رأس جيش ضخم لإنقاذ مدينة بيت المقدس.
اختار الصليبيون أضعف الأماكن دفاعًا عن المدينة لمهاجمتها بأبراجهم الجديدة، ولم يكن هناك أضعف من الجزء الشرقي المحصور بين جبل صهيون إلى القطاع الشرقي من السور الشمالي، وكان منخفضًا يسهل ارتقاؤه، وحرك الصليبيون أبراجهم إلى السور الشمالي للمدينة.
وفي مساء الأربعاء الموافق 21 من شعبان 492 هـ/ 13 -7- 1099م شن الصليبيون هجوما حاسماً، ونجح "افتخار الدولة" في حرق البرج الذي اقترب من السور الواقع عند باب صهيون، ولم يملك الصليبيون إزاء هذا الدفاع المستميت والخسائر التي منيوا بها سوى الانسحاب بعد يوم من القتال الشديد.
لكن هذا الفشل لم يثن الصليبيين عن محاولات اقتحام المدينة، والاستيلاء عليها مهما كان الثمن، فشنوا هجومًا ضاريًا فجر يوم الجمعة الموافق 23 من شعبان 492هـ/ 15 -7-1099م، واستمر القتال متكافئاً حتى تمكن البرج المتبقي لهم من الالتصاق بالسور، وإنزال الجسر المتحرك الذي يصل بين قمة البرج وأعلى السور، فعبر خلاله الجنود واستولوا على جزء من السور الشمالي للمدينة، ونجح عدد كبير من المهاجمين في الاندفاع إلى داخلها، وولت الحامية الفاطمية الأدبار نحو الحرم الشريف، حيث توجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى، واحتموا بهما، وبذلك سقطت المدينة في أيدي الصليبيين بعد حصار دام أكثر من أربعين يوماً.
جرائم الصليبيين في بيت المقدس
وبعد أن دخل الصليبيون المدينة المقدسة، تملَّكتهم روح البطش والرغبة في سفك دماء العزَّل الأبرياء، فانطلقوا في شوارع المدينة وإلى المنازل والمساجد يذبحون كل من صادفهم من الرجال والنساء والأطفال، واستمر ذلك طيلة اليوم الذي دخلوا فيه المدينة. وفي صباح اليوم التالي، استكمل الصليبيون مذابحهم، فقتلوا المسلمين الذين احتموا بحرم المسجد الأقصى، وكان أحد قادة الحملة قد أمَّنهم على حياتهم، فلم يراعوا عهده معهم، فذبحوهم وكانوا سبعين ألفًا، منهم جماعة كبيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبَّادهم وزهّادهم ممن فارقوا أوطانهم وأقاموا في هذا الموضع الشريف.
ويعترف مؤرخو الحملات الصليبية ببشاعة السلوك البربري الذي أقدم عليه الصليبيون، فذكر مؤرخ صليـبي ممن شهد هذه المذابح وهو "ريموند أوف أجيل"، أنه عندما توجه لزيارة ساحة المعبد غداة تلك المذبحة، لم يستطع أن يشق طريقه وسط أشلاء القتلى إلا بصعوبة بالغة، وأن دماء القتلى بلغت ركبتيه، وإلى مثل هذا القول أشار "وليم الصوري"، وهو الآخر من مؤرخي الحروب الصليبية.
وكتبوا إلى البابا يفتخرون بما فعلوا دون وازع من خلق أو رادع من دين، فما لامهم ولا استنكر فعلتهم! ودمروا ما شاء لهم أن يدمروا ، ونهبوا الكثير، كما نهبوا بعض المعادن النفيسة التي كانت على المقدسات، ولا سيما قبة الصخرة.
...وبعد الاحتلال الصليبي تحرّرت القدس، ولكن ها هي بيت المقدس ترزح تحت احتلال صهيوني ـ غربي، في ظلّ تقاعس إسلامي ـ عربي... ولكن مهما طال الليل فإن الفجر لا بد آت..
الجماعة الإسلامية وعشرون عامًا على سقوط الخلافة
تأتي الجماعة الإسلامية وبعد مرور عشرين عامًا على سقوط القدس، واحتلال الأقصى – والجزء الباقي من وطننا... وإذ كنا نأتي في هذه المرحلة الصعبة.. فلابد لنا من أن نقف وقفة المتأمل لما حدث، والمستشرق لما سيحدث...
وفي ذكرى النكسة والهزيمة وضياع الأقصى فإننا نؤكد على أن الأنظمة التي قادتنا إلى النكبة لم تعد تملك اليوم أي مبرر للوجود، ورغم كل الأحزان القابعة في أعماقنا ومرور عشرين عامًا على النكبة فإن الأمة تنحاز إلى دينها وتاريخها وتراثها وتعود إلى أصالتها.. وأعوام الاحتلال العشرين– الطويلة المليئة بالقهر والعذاب لم تولد فينا إلا مزيدًا من الغضب المقدس.. ومزيدًا من الصمود والإصرار على المواجهة والتصدي.. خاصة ونحن نرى الطلائع الإسلامية تتقدم، وقد صهرت آلام النكبة أعصابهم فأيقظت فيهم حس التفكير العميق الجاد للبحث عن المستقبل..
وإننا إذ نتقدم في هذه المرحلة الصعبة، فما زالت ترن في آذاننا كلمات بيان عمان المفجعة معلنة سقوط القدس.. هذه الكلمات التي تدفعنا دفعًا لأخذ مواقفنا الحقيقية _بعد سقوط كل البدائل_ والتمترس دفاعاً عن قضايا الأمة والجماهير المسلمة المستضعفة..
تأتي الجماعة الإسلامية وبعد مرور عشرين عاماً على النكبة وسقوط القدس.. لنؤكد مجدداً على أن النكبة كانت في حقيقتها سقوطاً لكل الأفكار البديلة التي طرحت في تلك المرحلة... هذه الأفكار التي حولت الأمة إلى تابع للغرب، وسوقاً لمنتجاته وأفكاره.. فجاءت النكبة لترد الجميع إلى تلك الحقيقة والمؤكدة وهي (أن الإسلام، والإسلام وحده كدين وحضارة هو الشرط الوحيد لبقائنا واستمرارنا كأمة وكثقافة وكتاريخ).
وفي ذكرى النكسة فإننا نؤكد على أن مرحلة بأكملها فاتت، وأية مرحلة تجيء _وبعد مرور عشرين عاماً على الاحتلال والقهر والفقر والجوع_ فإنها تصنع فينا غضباً لا ينتهي وإصراراً لا ينتهي.. وحزناً لا ينتهي هذا الحزن المدجج بالغضب والثورة..
ورغم كل القهر والعذاب والجوع.. فإننا نرفع أكفنا الصغيرة في وجه الباطل مهما عظم وانتفش.. نرفع هذه الأكف الصغيرة التي تستمد قوتها من الله الواحد الأحد.. نستلهم منه الإيمان والقدرة.. يسكننا التفاؤل والأمل المبدع.. نمضي في طريقنا لا نبالي بأي شيء.. وندرك أن ارتباطنا بدين الله هو الخيار الأوحد.. واختيار الإسلام في زمن الاحتكارات والشركات المتعددة الجنسية، في زمن هيمنة قوى الظلم والاستكبار يعني أن تختار الطريق الأكثر تكلفة.. طريق الكدح والألم والمعاناة...
أن تختار الإسلام يعني أن تهيئ نفسك ومنذ اليوم الأول لمواجهة تعمَّد بالدم.. وتكون مسلمًا في هذا العصر يعني أن تعلن شهادتك على هذا العالم الظالم.. وأن تصرخ في وجه القبح المسيطر ليتوارى.. فالنكبة بعد عشرين عامًا على حدوثها، تجعلنا نقول أن الأمة تنحاز إلى دينها وتراثها وأصالتها.. وهي تناضل في سبيل هذا بكل ما أوتيت طلائعها من قوة.. ووعي.. وما أوتي شهداؤها من بسالة.. فرغم كل شيء.. ورغم شراسة الهجمة واتساع المؤامرة فإننا قادرون بإذن الله على صياغة المشروع الإسلامي المعاصر والكدح من أجله والشهادة في سبيله...
ورغم كل محاولات تذويب الهوية الإسلامية على امتداد سنوات الاحتلال الطويلة.. ورغم كل محاولات القهر والتعذيب والطرد والتجويع..
ورغم السجون والزنازين.. رغم القتل والتشريد.. فالأمة تختار الإسلام.. وتناضل لأجله.. تقترب من الله.. وتقدم التضحيات تلو التضحيات...
فالاحتلال لم يولد فينا إلا مزيداً من الإصرار على اختيار الإسلام خياراً وحيداً ونهائياً..
وإنا لمنتصرون بإذن الله
الجماعة الإسلامية
منقول بكل التقدير