بحث عن العلاقة بين علم الاجتماع والسياسة - بحث علمى عن العلاقة بين علم الاجتماع والسياسة
تظهر جلية ضمن إطار السياسة الاجتماعية. فعمليات تسييس الأفراد معروفة منذ القدم، وقد ظهرت فيها نظريات كثيرة، مثل محاولات تنظيم النسل أو تحديد حجم مجتمع مدينة ما، أو برامج تشجيع الزواج. كما يعدّ توصيف المحاولات المؤدية إلى الاستعمار، على سبيل المثال، والغزو، واحتلال أراضي الغير بوصفها بلداناً غنية بالموارد الطبيعية أو مصادر الخيرات، ضمن شبكات علاقة علم الاجتماع بالسياسة.
ولما كان السلوك البشري والظواهر التي تسود في المجتمع والتي تؤلف محاور ينطلق منها الفعل الإنساني بجانبيه الواعي وغير الواعي هو مجال اهتمام علم النفس وعلم الاجتماع، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أن موضوعاتهما متماثلة، غير أنها في الواقع لاتتطابق تماماً، كما أن شكل المعالجة يختلف بين العلمين لأن علم الاجتماع يتناول الإنسان بالدراسة لا على أساس أنه فرد، بل على أساس أنه ضمن مجموعة بشرية ينتمي إليها، وأنه واقع في بوتقة التحرك الإنساني. ومع ذلك كله يبقى صحيحاً أن كلاً من العلمين يأخذ بمعطيات الآخر وتتشابك نتائجهما، وهما يغنيان العلوم الاجتماعية ويأخذان منها معطياتها على مبدأ التأثير المتبادل الذي يحكم جملة العلوم الاجتماعية.
المنهج وطرائق البحث في علم الاجتماع
تتعدد مناهج العلم في سبر الواقع بتعدد الفلسفات العلمية السائدة في الحقب التاريخية المتلاحقة، وترتبط تلك المناهج بالظروف الموضوعية المكوّنة لتلك الفلسفات، وتبعاً لذلك فإن بنية المجتمع تعكس أنماطاً من طرائق التفكير العلمي، تتعدى النطاق الاجتماعي إلى بقية مجالات المعرفة الأخرى، كما تمثل النقلة من مرحلة إلى أخرى في التحولات الاجتماعية تغيراً في طريقة التفكير الإنساني، ونمط المعرفة السائدة.
ولقد كان المنطق الصوري، أو الشكلي، في رأي بعض الفلاسفة، ولمدة زمنية طويلة، الطريقة العلمية الوحيدة لاكتشاف ظواهر ومسائل جديدة في الكون والمجتمع. غير أن العلماء تمكنوا إبان عصر النهضة من اكتشاف وسائل جديدة في العلوم الطبيعية والوضعية عن طريق استقراء الواقع، والملاحظة المباشرة من دون الرجوع إلى المبادئ الأولى لأحكام المنطق الصوري. وكان لتلك الاكتشافات أثر عظيم في نقل الفكر العلمي المعتمد على استنباط النتائج من الواقع باستقرائه وملاحظة حوادثه.
وقد شهد الفكر الإنساني نمطاً ثالثاً في البحث عن الحقيقة كان عمادها المنطق الجدلي، وكان تحمس بعض العلماء لهذا النوع من المنطق شديداً إلى حد جعل هيغل يقول في مقدمته لكتاب المنطق: «إنه لايعلم طريقة صالحة سوى طريقة الجدل في الكشف عن أمور الطبيعة والمجتمع».
وقد يطول استعراض طرائق العلم في سبر الواقع والمراحل التي مر بها تاريخ الفكر الإنساني، غير أن المهم هنا تسليط الأضواء على التفاعل المستمر ما بين العلم وبنية المجتمع سواء أكان العلم طريقة في البحث، أم معارف متراكمة تؤثر في البنية الاقتصادية والاجتماعية وتتأثر بها. فالعلم بطريقته ومعارفه - مع أنه نتاج الظروف الموضوعية - يؤثر في تغيير البنية الاقتصادية لما يطرحه من معارف تستخدم في وسائل التقدم التقني وخلق الظروف الجديدة في التفاعل الاجتماعي.
وتتكون عناصر الاستراتيجية المنهجية في علم الاجتماع من جملة مسائل تبرز في مقدمتها طرائق البحث المعتمدة في سبر الواقع الاجتماعي وهذه الطرائق هي الطريقة التاريخية، والمقارنة، وتحليل المضمون، والمسح الاجتماعي، ودراسة الحالة، والطريقة التجريبية.
الطريقة التاريخية: تعرف الطريقة التاريخية بأنها استخلاص المبادئ عن طريق الماضي، وتحليل حقائق المشكلات البشرية والعوامل أو القوى التي أثرت في الحاضر وجعلته على ما هو عليه. فالطريقة التاريخية في ذلك تنظر إلى المعلومات التاريخية على أنها مركبات للقوى الاجتماعية، وتصف الظواهر الاجتماعية بأنها عمليات اجتماعية مركبة ومترابطة ومتشابكة. وهي بذلك توضح ماهية الظاهرة المدروسة في عصورها المختلفة وتمكن الباحث من الوصول إلى استنتاجات وتعميمات عامة، وذلك باستخدام مجموعة من الوسائل والتقنيات يلجأ إليها الباحث بغية الوصول إلى حقيقة الظواهر الاجتماعية.
وتنبع أهمية الطريقة التاريخية من أن الحياة الاجتماعية متطورة ومتغيرة ومتجددة لاتعرف الجمود ولا التوقف، ويحتاج فهمها فهماً كلياً إلى تعرُّف طبيعة ما تحتضنه من أمور متنوعة ترافق مراحل نموها المختلفة.
إن الظواهر التاريخية متشابهة، إلا أنها تحدث في قرائن تاريخية متباينة، ويمكن اكتشاف أسبابها وتعليلها عن طريق دراسة كل من هذه التطورات دراسة مفصلة، ولكن لن ينجح الباحث في ذلك إذا نظر إلى تلك الظواهر بطريقة تتخطى المراحل التاريخية بمجملها، ولابد للباحث الاجتماعي هنا من فهم الظاهرة الاجتماعية المدروسة ضمن المنظور التي كانت سائدة فيه، لا أن يستخدم مفاهيم عصره لفهم ظاهرة تاريخية عابرة.
تستخدم الطريقة التاريخية في البحوث الاجتماعية بقصد الوصول إلى المبادئ والقوانين العامة التي تحكم الظواهر الاجتماعية في إطارها التاريخي. واعتماد الباحث الاجتماعي الطريقة التاريخية في بحث ما لايقتصر على الوقوف عند هذا الماضي فحسب، بل يرتبط بالقدر الذي يمكنه من تتبع نشأة العمليات الاجتماعية ونموها، ودراسة أثر ذلك، وتحديد الظروف التي أحاطت بها لمعرفة طبيعتها، وما تخضع له من قوانين ومؤثرات تقوم بدور مهم في نشأتها وتطورها، ففي ضوء الماضي يمكن فهم حاضر الشيء وتطوره في مراحل نموه المختلفة. ومن جهة أخرى فإن الماضي يتيح بلورة صورة ما يمكن أن يحمله المستقبل، ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك فيقرر أن الحاضر ما هو إلا نتاج الماضي، إذ إن حياة أية جماعة وما يسود فيها من أنظمة اجتماعية مختلفة تتصل اتصالاً وثيقاً بماضي هذه الجماعة وتاريخها.
وإن مما يدعو على استخدام الطريقة التاريخية في بحث الظاهرات الاجتماعية، طبيعة هذه الظاهرات المميزة لها فمن طبيعتها أنها لاتعيش في عصر الجيل الواحد (كجيل الفرد الحاضر) بل تعيش في وجود الجماعة، الذي بدأ في الماضي ماراً بمرحلة الحاضر متجهاً نحو المستقبل، لذلك يكون من الضروري في دراسة هذه الظاهرات دراسة وجودها في ماضيه، إضافة على دراسة حاضره.
وباختصار شديد، إن انتهاج الطريقة التاريخية في علم الاجتماع طريقة علمية في البحث والاستقصاء يمكن الباحث الاجتماعي من دراسة منشأ الظاهرة، ومقارنة النشوء الأقدم بالحاضر، وبيان العوامل التي تقف وراء التبدل والتغير في سمات الظاهرة وأعراضها.
طريقة المقارنة: تشمل طريقة المقارنة إجراء مقارنات بين ظاهرتين اجتماعيتين أو أكثر، بقصد الوصول إلى حكم معين بوضع الظاهرة في المجتمع، والحكم هنا مرتبط باستخلاص أوجه التشابه أو التباين بين عناصر الظاهرات موضوع الدراسة لتحديد أسس التباين وعوامل التشابه. وطريقة المقارنة لذلك هي نوع من البحث يهدف إلى تحديد أوجه الخلاف والتشابه بين وحدتين فأكثر. وتتمثل المقارنة في ثلاثة أبعاد: بعد تاريخي يقارن بين أوضاع الظاهرة في مراحل تاريخية متعاقبة، وبعد مكاني يقارن بين الظاهرة في مكان معين ووجودها في مكان آخر، وبعد ثالث هو البعد الزماني المكاني الذي يقارن بين وجود الظاهرة في مكان ما وزمان معين مع وجودها في أمكنة أخرى وأزمنة متباينة.
فالبحث الاجتماعي بطريقة المقارنة يتناول من جهة، تغيرات الحادث الاجتماعي في مجتمع واحد، إذ تتم دراسة التغيرات المتتالية ومقارنتها بعضها مع بعض في آن واحد للخروج بنتائج يمكن تعميمها حول هذا الحادث الاجتماعي من خلال تطوره التاريخي. ويتناول، من جهة ثانية، تغيرات الحادث الاجتماعي في عدة مجتمعات من جنس واحد، إذ تدرس تغيرات هذا الحادث الاجتماعي في تطوره التاريخي ولكن في عدة مجتمعات من جنس واحد كالمجتمعات العربية، ويعني بذلك توسع دائرة المقارنة، لتشمل عدداً من المجتمعات المنسجمة فيما بينهما أي الجنس نفسه. ثم إن البحث الاجتماعي يتناول، من جهة ثالثة، تغيرات الحادث الاجتماعي في عدة مجتمعات من أجناس مختلفة، أي أنه يقوم بدراسة الحادث الاجتماعي وتغيراته في عدد من المجتمعات.
ويزداد في البحوث الاجتماعية، ولاسيما تلك التي تستخدم فيها المقارنات الكمية، الاعتماد على الرياضيات والطرائق الرياضية فيتناول البحث الاجتماعي معطيات علم الإحصاء ليصبها في دراسته الاجتماعية للظواهر والحوادث الاجتماعية.
طريقة تحليل المضمون: تتوخى طريقة تحليل المضمون الوصول إلى وصف موضوعي منظم أو كمي لمضمون مادة معينة. ويعرف كارترايت تحليل المضمون في مجال الاتصالات بكونه يشير إلى الوصف الموضوعي المنظم والكمي لأي سلوك رمزي. فالغرض الرئيسي إذن من تحليل المضمون هو تحويل الظواهر إلى معطيات علمية، وقد ذكر كارترايت خصائص أساسية للمعطيات العلمية هي: الموضوعية والاستجابة لمتطلبات القياس، ومراعاة شروط التكميم masking، وأهمية هذه المعطيات للنظرية، وإمكان التعميم انطلاقاً من هذه المعطيات.
ولعل في طريقة تحليل المضمون ما يلبي الشروط السابقة ويستجيب لها وهذا، بلاشك، هو أحد الأسباب التي تفسر زيادة الإقبال على استخدام هذه الطريقة المنهجية. ويمكن النظر إلى تحليل المضمون بصورة خاصة (وتحليل الوثائق بصورة عامة) بوصفه أحد المصادر الأساسية والفنية للمعلومات ومن المؤكد أن هناك مجالات في البحث الاجتماعي لايمكن أن تدرس ويستحصل على معلومات عنها إلا بطريقة تحليل المضمون.
وخلاصة القول، يستخدم مصطلح «تحليل المضمون» للإشارة إلى مجموعة واسعة من تقنيات البحث الاجتماعي التي يمكن استعمالها بصورة واضحة ومنتظمة لجمع البيانات حول ظاهرة محددة وتفسيرها والقيام استنتاجات معينة حولها. وعلى أية حال فإن البحث في أمر وجوب أو عدم وجوب استخدام طريقة تحليل المضمون، أو أي من تقنياتها، يعتمد كلياً على طبيعة مشكلة البحث، وتوجهات الباحث، والإمكانات الفنية والمادية المتوافرة.
وتصلح طريقة تحليل المضمون للاستخدام في جميع فروع العلوم الاجتماعية. فقد استخدمت في علم الاجتماع لدراسة الظواهر المتعلقة بالتفاعل الاجتماعي، واستخدمت بنجاح في حقل علم النفس الاجتماعي والتحليل النفسي، والتاريخ، وفي العلوم السياسة واللغات، وعلم الجريمة وغير ذلك. وقد استخدمت هذه الطريقة في أثناء الحرب العالمية الثانية أداة فعالة لتحليل مضمون الدعاية المعادية ومدى فعالية الدعاية الصديقة ووسائلها كالسينما والإذاعة وغير ذلك. وطبقت في مجال الأزمات الدولية، وأمور الاتصال. وكان استخدام هذه الطريقة في الأدب ناجحاً، إذ استعملت طريقة تحليل المضمون بنجاح لمعرفة المؤلف الحقيقي لعمل أدبي مشكوك بصحة نسبته إلى مؤلف معين، أو لمعرفة صاحب مؤلفات مجهولة المؤلف. وبصورة عامة فإن مجالات تطبيق تحليل المضمون واسعة جداً: فهناك فيض زاخر من الوثائق التاريخية والرسمية عن الأفراد والجماعات والمؤسسات وعن الحياة الاجتماعية بصورة عامة. وهناك المؤلفات والأعمال والصحف والمجلات والأقوال والأحداث المرئية أو المروية أو المحكية أو المرسومة من أجهزة إذاعية وتلفزيونية وسينمائية وغيرها، وهناك التقارير والمذكرات والرسائل الدبلوماسية وتقارير أجهزة الاستخبارات والسير الذاتية والمذكرات الشخصية.
طريقة المسح الاجتماعي: تعنى عملية المسح الاجتماعي بجمع الحقائق عن موضوع معين وتسجيل الملاحظات حوله، ويعد المسح الاجتماعي أحد الوسائل التي لجأ إليها الإنسان منذ القديم بغية تعرف ظواهر المجتمع والوصول إلى الحقيقة الكامنة وراءها. ومع تطور طريقة البحث في المراحل التاريخية المختلفة، أخذت عملية المسح الاجتماعي طابعاً جديداً، إذ بدأت تستخدم في جمع المعلومات حول مجالات محددة لإعطاء صورة عن مسائل ومواقف اجتماعية معينة (كاستقصاء أعداد السكان وجمع الحقائق حول أوضاعهم الاجتماعية وغير ذلك) من أجل اتخاذ القرارات والأحكام ذات الأغراض الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها.
ولقد تميز استخدام طريقة المسح في بداياته الأولى بالبساطة والسهولة، تبعاً لطبيعة المجتمعات القديمة وطبيعة الموضوعات المدروسة، فلم يكن ليتعدى مجرد التدوين الرقمي لكل ما يتعلق بالموضوع المطروح للدراسة بصورة عشوائية. وكان لابد من تغيير وسائل المسح وتطويرها نتيجة لتعقد المجتمعات وظهور الضرورة الملحة إلى جمع الحقائق عنها قبل وضع أية خطة أو سياسة أو برامج تتعلق بهذه المجتمعات، ضماناً لصحة الحقائق المجموعة ودقتها. فكان أن عمل العلماء في أواخر القرن التاسع عشر على تطوير عملية جمع البيانات وأساليبها، وأضفوا عليها ترتيباً منطقياً متسلسلاً بهدف الحصول على الحقائق المطلوبة بالدقة والصحة اللازمتين لأي بحث علمي، وفق طريقة نظامية أطلق عليها اصطلاح «المسح الاجتماعي».
طريقة دراسة الحالة: استخدم الباحثون دراسة الحالة منذ أمد بعيد لوصف الحياة الاجتماعية وتفسيرها. وما الشعر والنثر والقصص والأساطير إلا نوع من دراسة الحالة وتأريخ وجودها، غير أن الأسلوب الذي اتبع لسنوات طويلة ماضية في وصف الظاهرة الاجتماعية بطريقة دراسة الحالة يختلف عما هو عليه استخدامها في الحياة المعاصرة فاعتمادها أسلوباً علمياً لدراسة الأفراد والجموع البشرية والهيئات الاجتماعية، لم يؤخذ به إلا منذ عهد قريب.
إن الدارس لتطور تاريخ طريقة دراسة الحالة يرى أن أول من استعملها في البحث الاجتماعي هو فرديريك لوبلي في بحثه «العمال الأوربيون» فقد استعمل طريقة دراسة الحالة في هذا البحث عاملاً مساعداً للطريقة الإحصائية التي كانت عماد بحثه ولاسيما الشطر المتعلق منه بميزانية الأسرة.
ويعدّ الباحثان توماس وزمانيتشي أول من استعملا دراسة الحالة على نحو منفرد في ميدان البحث الاجتماعي. فقد أوردا في كتابهما عن الفلاح البولندي مصادر مختلفة كالرسائل، وتاريخ الحياة، والسجلات من هيئات مختلفة. وكان غرضهما من ذلك معرفة مدى تأقلم الفرد في المجتمع الجديد الذي انتقل إليه، أو مقدار استطاعته هضم ثقافة هذا المجتمع.
وواضح مما سبق أن طريقة دراسة الحالة تتعدى نطاق وصف البيانات وجمعها إلى مرحلة التحليل والموازنة، وصولاً إلى تعميمات ومبادئ عامة تحكم السلوك الاجتماعي. ولابد من الإشارة هنا إلى أن هذه الطريقة تشمل في تعريفها دراسة العمليات الاجتماعية التي تنبع منها الخبرة البشرية ضمن الإطار الاجتماعي لجزء من حياة الوحدة أو لها كلها، سواء كانت تلك الوحدة مرتبطة بالفرد أم بالأسرة أم بالجماعة أم بالنظام الاجتماعي.
وتأسيساً على ذلك فإن دراسة الحالة هي طريقة منهجية لدراسة السلوك الفردي في إطاره الاجتماعي إذ ينصب اهتمام الباحث على حالة واحدة، يتمكن من دراستها بعمق ودقة واهتمام، مشخصاً جميع جوانبها سواء أكانت هذه الحالة، فرداً أم أسرة أم مؤسسة أم هيئة اجتماعية (كجمعية تعاونية مثلاً) أم جماعة، أم مجتمعاً صغيراً (كالقرية مثلاً)، وهذا ما يُتّبع عادة في الدراسات الأنثربولوجية.
الطريقة التجريبية: تعد الطريقة التجريبية واحدة من الطرائق الأساسية المستخدمة في المنهج الاستقرائي، وهي تعتمد على قواعد عامة في التجريب وإعادة حدوث الظاهرة، أو التدخل في شروط ذلك الحدوث، وتصبح الطريقة التجريبية في نطاق المنهج الاستقرائي دلالة على استقراء هذا الحوادث وجمع البيانات حول كثير من الشواهد بما يؤيد صحة افتراض معين بدأ به الباحث بشأن موضوع الدراسة وهذا ما يخالف المنهج الاستدلالي.
وينطلق التجريب من موضوعات لها وجود خارجي بالنسبة للعقل، أي إنها لاتنطلق منه بل تفرض نفسها عليه من الخارج ليعمل على تفسيرها وتحليلها. وبمعنى آخر يمكن القول إن موضوع التجريب هو الوقائع الخارجية في حين يكمن موضوع المنهج الاستدلالي في المقولات العقلية. وقد برزت الطريقة التجريبية بتأثير الثورة التي تمت في نطاق العلوم، والانتقال من المنهج الاستدلالي إلى المنهج الاستقرائي في البحث. وتتوضح حقيقة المنهج الاستقرائي من خلال موازنته بالمنهج الاستدلالي الذي يقوم أساساً على أشياء من صنع العقل، والاستدلال هو الوصول إلى أشياء جديدة بالرجوع إلى قرائن أخرى لها عناصر في مقولات الفكر وفي مبادئ المنطق.
ورداً على هذا الاتجاه في كشف الظواهر، برز المنهج الاستقرائي وألح الباحثون ضمن هذا الإطار على أن الاستقراء منهج ناجح في الكشف عن الحقائق، وأن بالإمكان اكتشاف وجود عناصر وظواهر طبيعية عن طريق استقراء الحوادث والملاحظة المباشرة ومن خلال التجريب عوضاً عن مقولات الفكر. يستدعي هذا الأمر وجود وساطة بين الأشياء والظاهرة قيد الدراسة تُمَكّن الباحث من الكشف عن موقع الظاهرة. وقد تكون هذه الوساطة الحواس المباشرة أو أدوات أخرى إذا قصرت تلك الحواس عن الملاحظة والمراقبة الدقيقة. أما الوساطة في المنهج الاستدلالي فهي مقولات العقل والفكر وليس ما يبتدعه الإنسان من وسائل مادية ترتبط بالحواس مباشرة.
ويعتمد المنطق التجريبي في نطاق الطريقة التجريبية على عمليات أساسية من ضمنها وأهمها مراقبة آثار التغيير التي يحدثها إدخال عنصر معين على ظاهرة ما، ليقرر في النهاية إن كان ما أدخل سبباً في حدوث الآثار الناجمة عن تلك التغيرات أم لا.
وللتجريب في العلوم أنماط تطبيقية تختلف من علم لآخر، تبعاً لمواضيع الدراسة في كل علم، ويذهب البعض إلى أن الملاحظة المتكررة، أو المراقبة أحياناً، تماثل التجريب بمعناه العلمي وتقوم مقامه. وتكوّن الملاحظة وسيلة من وسائل المنهج الاستقرائي تستخدم في دراسة الظواهر التي لايمكن لها التحكم في كم متغيراتها، بهدف ملاحظة أو مراقبة مجموعة الارتباطات بين المتغيرات المكونة للظاهرة المدروسة.
ولم يميز بعض الباحثين بين الاستقراء بصفته منهجاً من مناهج التفكير الإنساني والبحث العلمي والتجريب بصفته طريقة من طرائق هذا المنهج، لما يتمتع به التجريب من أهمية في إطار المنهج الاستقرائي. ومع ذلك فمن الممكن القول إن الاستقراء يتميز من التجريب، لأن الأول يكوّن الخطوط العريضة التي يسلكها الباحث بغية الوصول إلى حقيقة العلاقات الموضوعية في الواقع قيد الدراسة، في حين تعدّ الطريقة التجريبية واحدة من طرائق المنهج العام. فإذا كان المنهج الاستقرائي يعتمد الواقع الخارجي أساساً لاختبارات صحة هذه الافتراضات والمقولات، وكلها تنظر إلى الواقع الخارجي على أنه أساس في هذه الاختبارات، وهي تستخدم في العلوم تبعاً لمواضيع الدراسة ولتطور كل علم.
أما أدوات الطريقة التجريبية فهي الملاحظة والمراقبة والتجريب، ولاتستخدمها العلوم على درجة واحدة من التطابق. فمن هذه العلوم ما يقتصر على الملاحظة كما هو الحال في علم الفلك، ومنها ما يستخدم الملاحظة والمراقبة كما كان حال علم الحياة. كما أن هناك من العلوم ما يستخدم طرائق المنهج الاستقرائي الثلاث: الملاحظة والمراقبة والتجريب كالفيزياء والكيمياء.
ويستعين الباحث في إطار المنهج الاستقرائي ضمن كل طريقة من الطرائق المذكورة بمجموعة من الافتراضات التي يسير الباحث بهديها بغية التأكد من صحتها، والوصول إلى قوانين عامة يفسر بها حركة العناصر. والباحث يستخدم أدوات ووسائل تقنية في ملاحظته هذه، وقد تحول ظروف موضوعية محددة دون تمكينه من تكرار الملاحظة للظاهرة المدروسة، كمرور كوكب بوجه دوري، كل خمسين عاماً أو مئة عام، الأمر الذي يجعله يقتصر على المعطيات والمواد التي استخلصها من ملاحظته الأولى، واعتمادها أساساً لاختبار صحة الفرضيات التي وضعها لتفسير الظاهرة في أثناء حدوثها، إضافة إلى الاطلاع على الدراسات المشابهة لمثل هذه الظواهر.
وفي الدراسات الاجتماعية يلجأ الباحث إلى دراسة الظواهر والنظم ساعياً وراء الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى بروزها، ويستخدم ففي ذلك الطريقة التجريبية، إذ يبدأ بملاحظة الظاهرة، ثم يضع الفروض العلمية لتفسيرها. وأخيراً يلجأ إلى التأكد من صحة هذه الفروض وذلك باستخدام المراقبة الدقيقة أحياناً، والتجربة العلمية أحياناً أخرى.
وقد أثار دخول التجريب في ميدان البحث الاجتماعي مسائل كبيرة وكثيرة تداولها الباحثون ولهم فيها مواقف مختلفة، منها القانون الاجتماعي والسببية في العلوم الاجتماعية، ومسألة صعوبات التجريب ومنطقه في هذه العلوم.
كما طرحت مسالة العلاقات القانونية بين المتغيرات بحدة كبيرة في ميدان العلوم الاجتماعية، وبرزت اتجاهات متعددة حاولت نفي إمكان التجريب في هذه العلوم لعدم ثقتها في تحديد العلاقات القانونية في ميدان الحياة الاجتماعية من جهة وفي مضمار العلوم التطبيقية عامة.
وتجابه الباحثين ضمن إطار الدراسات الاجتماعية مسألة العلاقات السببية بين العناصر. فمن الصعوبة حصر أي تجربة على المستوى الاجتماعي بين متغيرين وحسب، من دون الأخذ بالحسبان تفاعل الجوانب والمتغيرات الأخرى في الظاهرة المدروسة، إذ لايمكن التأكيد أن هذا العامل أو ذاك هو المسبب لهذه الظاهرة أو تلك أو نفي ذلك.
إن الظاهرة الاجتماعية أو السلوك الاجتماعي أو النظام الاجتماعي، وكل ما يتسم بصفة اجتماعية محددة، وقائع لايمكن تفسيرها بالرجوع إلى عامل محدد رئيسي أو وحيد لأنها تنجم بصورة عامة عن تفاعل مجموعة تغيرات وعلاقات تؤدي إلى تكوين هذه الوقائع الاجتماعية. لذلك لايمكن، ضمن مستوى تطور العلم الحالي، تأكيد صحة علاقة سببية بين متغيرين في العلوم الاجتماعية، تهمل دور التفاعل الذي تؤديه متغيرات أخرى مع هذين المتغيرين.
وتقترب فكرة السببية من فكرة العلّيّة إلى حد كبير، بل تتطابق معها أحياناً، فإذا كانت «ب» هي السبب في حدوث «ج» فمن الممكن القول إن «ب» هي علة «ج». وقد كانت الفيزياء، حتى القرن التاسع عشر، ترى أن القوانين الفيزيائية تنجم عن طبيعة الأشياء، وأن القوة تولد الأثر، فتكون القوة هي العلة، ويكون الأثر هو المعلول.
وفي العلوم الاجتماعية يبدو التشابك أشد تعقيداً، فمن الصعب تحديد العلاقة بين حدين، أي بين سبب ونتيجة، لأن هذه النتيجة في الواقع الاجتماعي لاتحدث إلا من خلال تفاعل مجموعة أخرى من العوامل مع العامل قيد الدراسة والاختبار والتجريب. وإن ما يدرس هو مدى إسهام هذا المتغير في إحداث التغير مع جملة المتغيرات الأخرى التي تسهم في هذه العملية.
ويعتقد بعض الباحثين أن من شأن التجريب على الظاهرات الاجتماعية التأثير في عفويتها، لما يتضمنه التجريب من تدخل الباحث في السير الطبيعي للظاهرة وجعلها تسير سيراً مصطنعاً، وبهذا لاتعود طبيعية، هذا إن أمكن إجراء بعض العمليات التجريبية. ولذلك فهم يرون أنه ليس من طريق أمام الباحث الاجتماعي سوى إجراء دراسات مقارنة بين الظاهرات الاجتماعية كما تجري في جوها الاجتماعي الطبيعي العفوي. ويقصد بالمقارنة هنا أن يقابل الباحث بين الظاهرات نفسها أو بين عناصر منها. ولهذا يقول دوركهايم: «لما كانت الظواهر الاجتماعية لاتسمح بداهة بتدخل الملاحظ في سيرها الطبيعي، فإن الطريقة الوحيدة التي تتناسب مع طبيعة الموضوع الذي يدرسه علم الاجتماع هي طريقة المقارنة».
وهذه الفاعلية المحدودة من حيث مدى التأثير في الحوادث تنحصر في موقف الباحث، إذ إنه يلاحظ الظاهرات ثم يقارن بينهما، وهذا التأثير المحدد هو تأثير باحث ملاحظ وتأثير باحث مقارن، وهكذا فالفرق بين التجريب في الظاهرة بقصد إيجادها أو تغيير جزء منها والملاحظة بانتظار مقارنة تليها هو فرق في الإيجاد أو التغيير، والمقارنة أيضاً تجري بين الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية على السواء كما تجري الملاحظة تماماً. وإذا كان الفرق ينحصر في الخطوة الأولى من الدراسة، وهي إيجاد الظاهرة أو تقبلها كما هي موجودة من قبل، فإن المقارنة مسبوقة بالملاحظة، وهي تجربة غير مباشرة، أي تجربة فيها بعض التأثير، ويتضح مقداره بعملية الفكر حين يلاحظ الفكر الظاهرات وعناصرها ويقارنها بغيرها.