بحث عن الطبقه المتوسطه وعلاقتها بالحركه الوطنيه - بحث علمى عن الطبقه المتوسطه وعلاقتها بالحركه الوطنيه
درج الفلاسفة المثاليون علي إعتبار الأخلاق قواعد عامة ومعايير مطلقة للسلوك ترشد الناس إلي ما ينبغي أن يكون. فهي أخلاق معيارية ومبادئ مطلقة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا تتبدل بتبدل الشعوب والأوطان. في حين يري فريق آخر من الفلاسفة الاجتماعيين أن الأخلاق علم وصفي، يقرر ما هو كائن، ولا يضع ما ينبغي أن يكون. يصف سلوك الناس وبواعثهم علي السلوك. وهي مرتبطة بالتقاليد والأعراف والعادات. تتغير بتغير المجتمعات، وتتعدد بتعدد الأزمان. بل وتختلف في المجتمع الواحد من طبقة إلي أخري بل ومن فرد إلي آخر داخل الطبقة الواحدة(1).
لذلك استعمل لفظ أخلاقيات في صيغة الجمع ليشير إلي عديد من أنماط السلوك الأخلاقي الاجتماعي. ولا يوجد فصل بين فكر الطبقة المتوسطة وقيمها وسلوكها. فالأخلاق نظر وعمل، فكر وسلوك، قيمة وممارسة.
ويصعب تحديد الطبقة المتوسطة. بل تحدد نسبيا في علاقتها بالطبقة العليا والطبقة الدنيا. تحديدها بالسلب، أي ما ليس طبقة عليا أو طبقة دنيا. ولا توجد حدود فاصلة بين الطبقات الثلاث. حدودها ليست كمية بل كيفية، ليس بالدخل وأسلوب المعيشة والتعليم بل بأنماط السلوك التي تعبر عن وضع نفسي اجتماعي. لا تنتهي الطبقة المتوسطة في أي مجتمع بل تضيق أو تتسع طبقا لتوزيع الدخل. تضيق إذا كان التفاوت بين الأغنياء والفقراء شاسعا. وتتسع إذا ما جمعت بين غني الأغنياء وفقير الفقراء. تضيق في مجتمع الإقطاع، وتتسع في المجتمع الليبرالي.
ولا توجد حتمية تفرض فيها الطبقة سلوكها علي الأفراد نظرا للتميز الشهير بين الطبقة والوعي الطبقي. فقد يسلك بعض الأغنياء الجدد سلوك الطبقة الدنيا التي ترسبت في اللاوعي الطبقي. وقد يسلكون طبقا لسلوك الطبقة الوسطي نظرا لما حصلوا عليه من بعض مظاهر السلطة الاجتماعية. وقد يسلكون سلوك الطبقة العليا في مظاهر الثراء. وقد يسلك بعض أفراد الطبقة العليا سلوك الطبقة الوسطي، أداة التحديث وبناء الدولة. وقد ينضم إلي الطبقة الدنيا دفاعا عن مصالحها، وانتماء لمطالبها، وتحقيقا لحاجاتها. وقد ينتمي بعض أفراد الطبقة الوسطي إلي الطبقة العليا لمزيد من الرقي الاجتماعي والثراء. وقد ينتمي إلي الطبقة الدنيا لأنه خرج منها ومازال يحن إليها. فالطبقة المتوسطة في حراك اجتماعي دائما إلي أعلي وإلي أدني مثل كل الطبقات الاجتماعية.
وأخلاقيات الطبقة قضية رئيسية في مصر المعاصرة. برزت كسلوك في الحياة اليومية في مظاهر الثراء للطبقة العليا في الأفراح والقصور والفيلات ومظاهر الاستهلاك، وما يصاحب ذلك من تهريب الأموال والتلاعب بالأسواق. كما برزت في سلوك الطبقة المتوسطة في التشبه بالطبقة العليا واستعمال السلطة السياسية للإثراء. كما تبرز في سلوك الطبقة الدنيا باقتناء بعض وسائل الترفيه الحديثة كالتلفزيون والراديو الكبير والثراء السريع من خلال الأعمال اليدوية.
وأفضل منهج للدراسة هو المنهج الوصفي وهو المنهج الظاهراتي أي وصف التجارب الحية التي تكمن وراء السلوك الاجتماعي بعيدا عن النظريات الاجتماعية والإحصائيات الكمية، وتنظيرا مباشرا للواقع، وتحليل التجارب الحية التي يعيشها العالم- المواطن، جمعا بين هموم الفكر وهموم الوطن.
لم تكن هناك طبقة متوسطة في تاريخ مصر الحديث. كان هناك الأشراف والعلماء ورجال الدين وكبار التجار والأمراء من ناحية. والحرفيون وصغار التجار والباعة الذين غني لهم سيد درويش وكتب لهم بيرم التونسي أزجاله من ناحية أخري. وسادت دولة محمد علي هذه الثنائية الحادة بين الحكام الأتراك وممثلي الدول الأجنبية من جانب والفلاحين من جانب آخر بعد أن قضي علي المماليك. وفي النصف الأول من القرن العشرين ساد الإقطاع، مجتمع النصف في المائة. وتحكم كبار الملاك في الثروة والحكم في مقابل المعدمين من الفلاحين. ولم تكن طبقة العمال قد ظهرت بعد لقلة التصنيع.
وبعد ثورة 1952 بدأت الطبقة المتوسطة في الاتساع من صغار الملاك في الريف وموظفي الشركات الأجنبية بعد التأميم والتمصير وكبار موظفي القطاع العام وضباط الجيش ورجال الحزب والدولة. وتضخمت شيئا فشيئا بدخول الرأسمالية الوطنية وتجار الجملة وقطاع المقاولات مما دفع إلي إصدار قوانين إصلاح زراعي ثانية وثالثة وقوانين يوليو الاشتراكية في 1962-.1963 ورفع شعار تذويب الفوارق بين الطبقات، والعدالة الاجتماعية والمساواة، وتكافؤ الفرص، وعدم تفاوت الدخول بأكثرمن 1: 10، ومضاعفة الدخل القومي كل عشر سنوات مرة. واعتبرت الطبقة المتوسطة القيادة السياسية والعسكرية هي المسئولة عن هزيمة 1967 بعد أن ترهلت. وكانت أولوياتها الدفاع عن النظام قبل الدفاع عن الوطن. وبيان 30 مارس 1968 هو نقد لها، وورقة أكتوبر 1974 بداية جديدة لها.
وفي الجمهورية الثانية اتسع نطاقها بعد الانفتاح الاقتصادي، وقوانين الاستثمار، وإزدهار القطاع الخاص، وحرية البنوك في التداول بالعملات الأجنبية، وتعويم العملة المحلية، والمضاربة في العقارات، ووسائل الإثراء السريع، والتهرب الضريبي. واستشري الحال في الجمهورية الثالثة حتي اتسع نطاقها بالصعود إلي أعلي بل ونافست الطبقة العليا وحلت محلها. في حين هبط جزء منها إلي أسفل من صغار الموظفين والحرفيين والعمال. وعاد المجتمع المصري كما بدأ من قبل بالتفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء. وورث الأغنياء الجدد طبقة الإقطاع والباشوات القديمة التي حلت محل المماليك في مصر المعاصرة. وأصبح الحزب الحاكم عصب هذه الطبقة والطريق إليها.
صحيح أن الطبقة العليا التقليدية سواء طبقة المماليك الأولي أو طبقة الباشوات الثانية كانت طبقة وطنية في مجملها، تدافع عن البلاد كما دافع المماليك عن مصر ضد الحملة الفرنسية. وقد عرض باشوات مصر علي إسماعيل سداد ديون مصر حفاظا علي استقلالها وحماية لها من التدخل في شئونها بالحماية أو العدوان المباشر. وقام بعض باشوات مصر في النصف الأول من القرن العشرين بأوائل الصناعات الوطنية، وإنشاء بنك مصر، وميكنة الزراعة، وإنشاء الجامعات والصحف والجمعيات العلمية والأدبية. فهي طبقة متعلمة وكفؤة. بيدها التحديث، تتسم بنظافة اليد والعفة عن الصغائر، وتقدر الأدب والفن الرفيع، وتدافع عن التعددية السياسية والحياة البرلمانية وتمارس ليبراليتها تحت قبة البرلمان وشعار الدستور، وتعرف كيف تخطط المدن وتقيم العمران. وفي هذه الفترة ازدهر علماء مصر وفنانوها وشعراؤها. ومازال الحنين إلي هذا العصر قائما في وجدان المصريين.
ومع ذلك فأخلاق الطبقة العليا الناس اللي فوق في معظمها أخلاق النهم(2). فالحراك الطبقي إلي أعلي بلا حدود بحيث يصبح الثراء غاية في ذاته. وتتمايز في الطبقة العليا ثلاث طبقات أخري، عليا دنيا، وعليا متوسطة، وعليا عليا. لا قانون يوقفها، ولا قيمة تروعها إلا (فهل من مزيد(. تتحايل علي القانون، وتتهرب ضريبيا بل وتساعد النظام السياسي في أزماته الاقتصادية بحيث تصبح السلطة للثروة وليس للقوة. فالثروة قوة. ويتحكم الاقتصاد في السياسة، ويوجه أصحاب رؤوس الأموال رجال السياسة. والتهرب الضريبي يخرق حقوق الدولة وحرمة المال العام. لا فرق بين تهريب الأموال إلي الخارج وإيداعها في الداخل. فرأس المال لا وطن له. لا فرق بين الشرعي واللاشرعي، بين الصحيح والفاسد بل منطق الزيادة.
قيمها الاستهلاك، ومتع الحياة، والوراثة، والمصاهرة داخل الطبقة حفاظا علي الثروة داخلها. ولا ضير من تعدد الزوجات أو الخليلات من نجوم المجتمع سواء من الأميرات أو من الفنانات. الزواج والطلاق ارتباط وانفصال كعقود الشركات. ولا مانع من مظاهر التدين والتقوي، وبناء المساجد، ودور الأيتام، وموائد الإفطار في رمضان، وتأسيس الجماعات الخيرية، والتستر بالدين حفاظا علي الثروة من الحسد، وتشريعا داخليا للنفس بأن الثروة حلال، رزق من الله للخيرين من العباد.
أما أخلاق الطبقة الدنيا الناس اللي تحت فإنها تقوم علي غريزة حب البقاء(3). وتتحكم فيها آلياته. وهي تشبه الطبقة العليا بأنها بلا قانون أو نظام ليس من أجل الثراء ولكن من أجل البقاء. لم يعطها النظام شيئا، فتبادله جحدا بجحد، وإجحافا بإجحاف. تسكن في المناطق العشوائية. ولها وسائل معيشتها، وطبيعة علاقاتها الاجتماعية. تفرض فنها الذي يغلب عليه الإيقاع السريع، والكلمات الهابطة. ولها لغتها المالية، ومصطلحاتها الشعبية في الحياة اليومية. لا فرق بين الدين والمخدرات. كلاهما نسيان لهموم الواقع بعد أن غابت هموم الوطن. يكثر الزواج كما يكثر الطلاق نظرا لأنهما بلا تكلفة. وتنتشر الخيانة الزوجية والعلاقات الجنسية الحرة. وتقرن صباياها بعواجيز الخليج من خلال المتعهدين، ومقاولي الأنفار، ومكاتب التشغيل. ولها فتواتها كما لها حرافيشها. وتمارس المحرمات الثلاثة: الدين والسلطة والجنس بلا رقيب.
قيمها الاستكانة والرضا والصبر. ولها أمثالها العامية. القضاء والقدر يسيران كل شيء. والقسمة والنصيب يتحكمان في أرزاق الناس. الرضا بالقليل في الدنيا له ما يعوضه في وفرة الآخرة. سعيدة في وهمها، راضية بحياتها، وتتوكل علي الله. وعن طريق وسائل الكسب غير المشروعة مثل تجارة المخدرات والجنس والبضائع المهربة تتمايز الطبقات فيها إلي طبقة دنيا دنيا، ودنيا متوسطة، ودنيا عليا. وتتشبه بالأغنياء وبسلوكياتهم تحقيقا لحلم لن يتحقق وأمل خادع. يهاجر البعض منهم إلي بلاد النفط ويعودون بسلوكيات العمال المهاجرين.
فإذا ما اندلعت الشرارة هبت وانطلقت إلي الشوارع تأخذ حقوقها بأيديها، تدمر مظاهر الترف في الفنادق الفاخرة والملاهي الليلية والمحلات الكبري بل وأقسام الشرطة ووسائل المواصلات التي يعاني منها، وترمز للدولة. في رأيها هي هبة شعبية وفي رأي النظام انتفاضة حرامية كما حدث في يناير 1977 ثم في حوادث الأمن المركزي في يناير 1986، وكما هو متوقع في كل لحظة يزداد فيها الضنك، وتضيق سبل العيش، وتطول طوابير الخبز.
أما أخلاقيات الطبقة الوسطي، عيلة الدوغري فهي بيت القصيد. وكما قامت أخلاق الطبقة العليا علي النهم، والطبقة الدنيا علي البقاء فإن أخلاق الطبقة الوسطي تقوم علي القانون والنظام(4).
هي أخلاق الأمن والاستقرار، وإبقاء الوضع القائم علي ما هو عليه. فالطبقة المتوسطة هم رجال الدولة وأجهزة الحكم. وهي مازالت أداة التحديث، وقادرة علي البناء والعمران. فمن مصلحتها الاستقرار والنظام ومراعاة القانون حتي تبقي في المناصب.
السلطة السياسية لها الأولوية علي السلطة الاقتصادية. فالسلطة جاه وقوة أولا قبل أن تكون مالا وثراء. هي أخلاق الهندام والميري والإتيكيت(5). والبروتوكول أخلاق القواعد والحساب.
هي أخلاق الاعتدال دون التطرف نحو أخلاق الطبقة العليا أو أخلاق الطبقة الدنيا. وبقدر ما هي ليبرالية في رؤية العالم إلا أنها تمارس أخلاقا تقليدية محافظة رعاية للتقاليد، وحفاظا علي الهوية، والتواصل خير من الانقطاع.
هي أخلاق الأفندية والضباط حفاظا علي الأمن الفكري، ودفاعا عن الأمن الوطني. هي أخلاق السيف والقلم، المعسكر والجامعة.
تبرر سلطة الحكم وتدافع عن أيديولوجية النظام. وقد ينضم إليها رجال الدين الذين يوفرون الشرعية الدينية للنظام كما يوفر المثقفون الشرعية الأيديولوجية.
ومع ذلك هي طبقة انتهازية، تتطلع إلي الصعود إلي الطبقة العليا كما تتطلع الطبقة الدنيا إليها. لذلك تتمايز فيها الطبقات إلي طبقة متوسطة دنيا، ومتوسطة متوسطة، ومتوسطة عليا. وتتسع رقعتها إذ تتلاحم الطبقة المتوسطة الدنيا مع الدنيا العليا. كما تتلاحم الطبقة المتوسطة العليا مع العليا الدنيا.
تقوم بنشاط اقتصادي ليبرالي دون أن تتمسك بقيم الليبرالية. فهي تعيش في مجتمع تقليدي، وفي ثقافة موروثة. فهي ليبرالية في الظاهر، تقليدية في الباطن. الدين بالنسبة لها أيضا طاعة وامتثال، ونظام كوني كما هو نظام اجتماعي.
تميز بين الفضيلة والرذيلة، والخير والشر، والصواب والخطأ، والشرف والعيب، والصحيح والفاسد. تسن القوانين، وتضع الدساتير، وتستقل بالقضاء حفاظا علي العدل والميزان. لذلك نزعت أخلاقها نحو المثالية، ما يجب أن يكون، والالتزام، والواجب ونقاء الضمير.
تتميز بالوعي السياسي، فهي أداة الحكم وتمارس حرية الفكر في نطاق الأمن والاستقرار. ولديها وعي ثقافي وفني، وحس حضاري. تنعم بالفكر والإطلاع ومشاهدة الأعمال الفنية. هم رواد الأوبرا والمسرح وصالونات الأدب والفن.
ربما ينقصها الوعي التاريخي لأنها لا تعي حركة المجتمع، وقوانين التاريخ، وتتصور المجتمع في ثبات اجتماعي، والطبقة المتوسطة سيدة فيها.
الأخلاق من صنع الطبقة المتوسطة.
وهي دعامة الاستقرار الاجتماعي. وكلما اتسعت الطبقة المتوسطة زاد الأمن والاستقرار. هي جسم المجتمع، وتحفظه من القلاقل والاضطراب.
تحوز بثقة الطبقتين، الدنيا والعليا. إذ تحقق للدنيا مطالبها في العيش المستقر وتوفير الحاجات الأساسية. وهي الواسطة بين الحاكم والمحكوم.
وتحقق للطبقة العليا مطالبها في الأمن والاستقرار فهي أداة الحكم والجهاز التنفيذي. ومنها يخرج القضاة والمحافظون. هذا ليس دفاعا عن الطبقة المتوسطة بل هو وصف وظيفي لها في البناء الاجتماعي.
هو إقرار واقع وليس تشريع مبدأ.
فإذا كانت أخلاق الطبقة العليا هي أخلاق الثراء وأخلاق الطبقة الدنيا هي البقاء فإن أخلاق الطبقة الوسطي هي الأمن والاستقرار. تقوم بحاجز يمنع التناقض الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء لصالح التجانس الاجتماعي والتوازن الطبقي. مثالية في الظاهر وانتهازية في الباطن.
والسؤال هو: إلي أي مدي يمنع التوازن من الصراع وإلي أي حد تأمن الطبقة المتوسطة من حكم الطغاة أو ثورات الشعوب
المراجع
(1) كانت هذه الثنائية هي الغالبة علي رائد الدراسات الأخلاقية في مصر، توفيق الطويل. وكان اختياره للأخلاق المثالية وهي أقرب إلي الدين. أنظر دراستنا: من المثالية المعتدلة إلي الواقعية الجذرية، تحية إلي وحوار مع توفيق الطويل 1908-1991، حوار الأجيال، دار قباء، القاهرة 1998، ص115-371.
(2) النهم Greed. وهو لفظ يستعمله غاندي بقوله يوجد في العالم ما يكفي لكل إنسان. ولا يوجد في العالم ما يكفي لنهم رجل واحد.
(3) غريزة حب البقاء Survival.
(4) القانون والنظام Law & Order.
(5) الإتيكيت Mannerism.