Labza.Salem Admin
عدد المساهمات : 43954 نقاط : 136533 تاريخ التسجيل : 12/09/2014 العمر : 29 الموقع : سيدي عامر
| موضوع: دراسة فى أحكام خيار المجلس - دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون المدني الأربعاء 1 مارس - 17:41 | |
| دراسة فى أحكام خيار المجلس - دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون المدني
إعداد الدكتور / شوقي إبراهيم عبد الكريم علام مدرس الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا
بحث كنشور في المجلة العلمية لكلية الشريعة والقانون بطنطا
الجزء الأول
العدد العاشر 1419هـ ـ 1999م. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، خلق الإنس والجن ليكفهم بعبادته، وتوحيده، وتقديسه، قال تعالى: " ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ " ( )، وأرسل سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إليهم ليعزروه ويوقروه ويطيعوه وينصروه، أرسله بشريعة بها سعادة البشرية في الدنيا والآخرة، إن هم ارتسموا طريقها ونهجوا نهجها وعملوا بما فيها. وبعــد: فلما كان عقد البيع من أهم العقود، لعموم الحاجة إليه، إذ لا يخلو مكلف غالبا من بيع أو شراء، حتى قال القاضي الزنجاني المالكي ونقله ابن العربي: "إن البيع والنكاح عقدان يتعلق بهما قوام العالم، لأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان محتاجا إلى الغذاء مفتقرا إلى النساء، وخلق له ما في الأرض جميعا، كما أخبر في كتابه، ولم يتركه سدى يتصرف كيف شاء باختياره" ( ). وعقد البيع ـ وغيره من العقود ـ يقوم في الأساس على الرضا، وهو لا يوجد تاما كاملا إلا إذا رضي العاقدان بمحل العقد، ومما يساعد على تمام رضاهما تشريع الخيار، فهو يعالج ما قد يوجد من أوجه نقص في المعقود عليه، أو في الإقدام على التعاقد دون تبصر أو ترو، وهذه الأوجه تؤثر في الحقيقة على الرضا، ومن ثم يستطيع المتعاقدان تدارك ذلك بفسخ العقد بناء على حقهما في الخيار. فمن هذا المنطلق تبرز أهمية الخيار في العقد، وهي ثابتة لكل أنواع الخيار، طالما أنها تبرز وتظهر رضا المتعاقدين على نحو صحيح، ومن هذه الخيارات: خيار المجلس، ويجد أهميته في أنه يعاصر مرحلة العقد ذاتها، أي أنه يتصل اتصالا مباشرا بالرضا، ونظرا لأهميته هذه أردت بحثه ودراسته مستقلة به، تبين حقيقته وما يترتب عليه من آثار تتصل بالعقد، وبالعاقدين، وتبين أيضا كيفية انتهاءه، بما يترتب عليه من لزوم العقد، بعد أن كان غير لازم أثناء قيام خيار المجلس. ولتمام الفائدة عرضت بأسلوب موجز لما عليه القانون المدني في خصوص خيار المجلس. والله تعالى هو الموفق، ومنه العون على كل أمر. " رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وإلَيْكَ أَنَبْنَا وإلَيْكَ المَصِيرُ " ( ).
د / شوقي إبراهيم عبد الكريم علام 1 ـ تمهيد ومدخل للبحث: قال الإمام القرافي رحمه الله تعالى: "اعلم أن الأصل في العقود اللزوم، لأن العقود أسباب لتحصيل المقاصد من الأعيان، والأصل ترتيب المسببات على أسبابها" ( ). وبهذا وضح الإمام القرافي الأصل العام في العقود، وهو اللزوم، فبمجرد تكوين العقد تترتب عليه آثاره الشرعية ( )، ولا يحق لأحد طرفيه أن يتخلى عن التزامه المترتب على العقد، وترتيب الآثار في هذه الحالة جبري على المتعاقدين، لأنهما فعلا السبب، وهو الإيجاب والقبول ـ من باب الخطاب الجعلي الشرعي ـ، وترتيب المسبب ليس من فعلهما، بل هو من فعل الشارع ( ). وهذا هو مقتضى لزوم العقود، لكن هذا الأصل العام قد يرد عليه بعض الأمور العارضة التي تؤثر على اللزوم، يقتضيه ضمان رضا المتعاقدين، وتأكد كل منهما أن العقد يحقق رغبته ومصلحته ( ). ومن هذه العوارض: الخيارات، ونظرا لطبيعتها هذه فهي ترد في أحوال خاصة، يكون فيها وضع أحد المتعاقدين في حاجة إلى تبين وجوه المصلحة الناتجة عن هذا العقد، إما لشكه في هذه المصلحة وقت التعاقد، أو نقص خبرته، أو عدم علمه الكامل بالمعقود عليه. أو أنه يرغب في عدم الاستمرار في التزامه بعد ثبوت الرضا، أو يرغب في عدم تنفيذ العقد. ففي كل هذه الحالات وأمثالها أعطى الشارع للمتعاقدين أو أحدهما حق فسخ العقد عن طريق اختياره ذلك، سواء عن طريق خيار المجلس أو غيره من أنواع الخيارات. ومن هنا يتضح أن الخيار في العقد شرع للاستيثاق من أن الرضا في العقد قام على أساس من العلم الصحيح ( )، أو أن الرضا موجود ولكن هناك رغبة في عدم الاستمرار في الالتزام، أو عدم تنفيذ العقد، وهو ما يعالجه خيار المجلس، بصفة خاصة. وإذا كان هذا الغرض يتحقق بأنواع الخيارات التي يشترطها العاقد بنفسه، فإنه يتحقق أيضا ـ من وجهة نظر بعض الفقهاء ـ بخيار المجلس الذي ثبت بنص الشارع. وعلى هذا فخيار المجلس له أهمية عملية في العقود من حيث إنه رخصة تعطى للمتعاقدين التروي والتفكر فيما يحققه العقد من مصالحهما، وأنهما هل يستمران فيما عقدا أو يفسخانه. هذا على حين يرى البعض الآخر عدم مشروعية خيار المجلس، ومن ثم لا يترتب عليه من وجهة نظرهم هذا الغرض، بل إنه يتحقق بمجرد الإيجاب والقبول. وأمام التطورات الحديثة والسريعة في مجال التعاقد في الوقت الحاضر، والتي تستدعي تفكيرا عميقا قبل التعاقد، وقد يكون هذا التفكير صائبا، وقد لا يكون في محله، وقد يعلم العاقد بذلك بعد إتمام الصفقة وانتهاء المجلس؛ وقد يكون العلم به وهو ما زال في المجلس العقد، وبعد الإيجاب والقبول، فهل نعطي له الفرصة لمراجعة نفسه، ومن ثم نعطي له الحق في فسخ هذا العقد الذي ما زال مجلسه قائما، أو نحكم بلزوم العقد بمجرد الإيجاب والقبول، ومن ثم نحرمه من هذا الحق. ـ من كل هذا، وللإجابة على هذه التساؤلات نرى أهمية بحث هذا الموضوع، سواء من ناحيته التشريعية وموقف الفقهاء منه، أو ناحيته الواقعية، ومدى حاجة العاقدين إليه، وما يترتب على ذلك من آثار. 2 ـ منهج البحث: يتخذ البحث في هذا الموضوع منهج الدراسة المقارنة بين آراء وأقوال الفقهاء في كل موضع فيه خلاف، مع إبراز أدلة كل رأي، ومناقشة هذه الأدلة كلما أمكن، ثم الخلوص إلى الرأي الذي قوى دليله في غالب الظن. ولا نغفل ذكر ما عليه التشريعات الوضعية في هذا الصدد، ومقارنتها بما عليه الفقهاء، ثم الخلوص أيضا إلى إمكان تعديلها أو بقائها على حالها، ونعرض لذلك بإيجاز، دون الخوض في تفاصيل شراح القانون الوضعي في هذا الصدد. وبحث هذا الموضوع يستلزم الرجوع إلى المصادر الأصلية في الفقه الإسلامي على اختلاف مذاهبه التي نعرض لها، لكن مع إغفال الكتابات الحديثة، والتي أثرت المكتبة الفقهية الإسلامية، والتي قام بها علماء أجلاء. 3 ـ خطة البحث: بحث خيار المجلس يستلزم أن نعرض أولا ـ بإيجاز ـ أنواع الخيارات الأخرى في العقود، فهو نوع منها، ثم نعرفه، ونبين مدى مشروعيته، ونوضح فكرة مجلس العقد وأثرها على ثبوت خيار المجلس، سواء كان التعاقد بين الحاضرين، أو الغائبين، ونبين أيضا الآثار المترتبة على خيار المجلس، وفي النهاية نبين الأمور التي ينتهي بها خيار المجلس. ثم نعرض في الخاتمة لأهم النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث. وبناء على ذلك تكون خطة بحث هذا الموضوع مكونة من مبحث تمهيدي وأربعة فصول وختامة على النحو التالي: المبحث التمهيدي: أنواع الخيارات في العقود. الفصل الأول: تعريف خيار المجلس ومدى مشروعيته. الفصل الثاني: مجلس العقد. الفصل الثالث: آثار خيار المجلس. الفصل الرابع: انتهاء خيار المجلس. الخاتمة: في أهم النتائج المستخلصة. والله تعالى نسأل أن يوفقنا لبحث هذا الموضوع على نحو يتفق وفهم شرعه الحكيم، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يجعله في ميزان حسناتي يوم الدين. المبحث التمهيدي أنواع الخيارات 4 ـ في الفقه الإسلامي: قبل أن نذكر أنواع الخيارات يحسن أن نذكر تقسيمات فقهاء المذاهب للخيارات: أ ـ ذهب الحنفية إلى أن الخيارات نوعان: نوع يثبت شرطا، ونوع يثبت شرعا لا شرطا؛ فالخيار الذي يثبت بالشرط على نوعين: الأول: خيار ثابت نصا وهو نوعان: خيار التعيين، وخيار الشرط. الثاني: خيار ثابت دلالة، وهو خيار العيب. وأما الخيار الذي ثبت شرعا لا شرطا فهو خيار الرؤية ( ). ب ـ وذهب المالكية إلى أن الخيار ينقسم إلى ترو وخيار نقيصة؛ لأنه إما من جهة العاقد، أو من جهة المعقود عليه،؛ فإن كان من جهة العاقد، بأن يشترطه أحد المتبايعين، أو كلاهما فهو خيار التروي، ويسمى الخيار الشرطي، والتروي: النظر والتفكر في الأمر والتبصر فيه، وإن كان موجبه ظهور عيب في البيع أو استحقاق، فهو خيار النقيصة، ويسمى الخيار الحكمي ( ). جـ ـ وذهب الشافعية إلى أن الخيار نوعان: خيار تشبه، وخيار نقيصة؛ فخيار التشهي: ما يتعاطاه المتعاقدان باختيارهما وشهوتهما من غير توقف على فوات أمر في المبيع، وسببه المجلس أو الشرط، وخيار النقيصة سببه خلف لفظي، أو تغرير فعلي، أو قضاء عرفي، فمنه خيار العيب والتصرية، والخلف وتلقي الركبان ونحو ذلك ( ). د ـ وذهب الحنابلة إلى أن الخيار سبعة أنواع: 1 ـ خيار المجلس. 2 ـ خيار الشرط. 3 ـ خيار الغبن. 4 ـ خيار التدليس. 5 ـ خيار العيب. 6 ـ خيار الخلف في الصفة. 7 ـ خيار الخلف في قدر الثمن ( ). هـ ـ وهناك أنواع أخرى للخيارات، ولكنها تختص بأنواع خاصة من العقود، كخيار البلوغ والإقامة في عقد النكاح لمن زوج صغيرا ذكرا أو أنثى، أو زوج وهو مجنون، ذكرا كان أو أنثى، وكان المزوج له غير الأب أو الجد، على خلاف بين الفقهاء في ذلك، ليس هنا محل بحثه. 5 ـ هذه هي تقسيمات الفقهاء لأنواع الخيارات، ومبناها في كل مذهب هو الأساس الذي اعتمد عليه في التقسيم، فبعض الفقهاء يستند إلى مصدر الخيار، ويقسمه بناء على ذلك إلى شرعي وشرطي، على اعتبار أن الشرع مصدر الخيار،في الأول، وشرط العاقدين هو مصدره في الثاني، وهذا هو مذهب الحنفية. وعلى ذات الأساس يقسم البعض الآخر الخيار ولكن من ناحية أخرى، وهي أن المصدر هنا إما العاقدان، أو المعقود عليه، ويكون في الأخير من قبيل السبب الذي يترتب عليه الخيار. وهذا مذهب المالكية، والشافعية في تقسيم خيار التشهي، وفي النوع الثاني عند الشافعية يعتمدون على الأسباب الموجبة للخيار. أما الحنابلة فإن تقسيمهم يعتمد أساسا على الأسباب. وإذا كان مذهب الحنابلة أكثر شمولا في هذا الشأن؛ فلما تعددت الأسباب الموجبة للخيار أخذ وصفها وسمي بها، ويمكن بناء على ذلك اندراج الخيارات الموجودة في كتب الفقهاء تحت هذا التقسيم، كخيار تفرق الصفقة، وخيار النقد، وخيار الكمية، وخيار كشف الحال، وخيار ظهور المبيع مستأجرا، أو مرهونا، وخيار التولية، والمرابحة، ونحو ذلك، إلا أنه يمكن درج وإدخال هذه الأنواع تحت التقسيمات الأحرى للفقهاء. بل إن بعض الفقهاء المحدثين ( ) ذهب ـ بحق ـ إلى أن هناك أربع خيارات أساسية، وهي خيار المجلس، والشرط، والرؤية، والعيب، يمكن رد أغلب هذه الأنواع إليها ( ). وبناء على وجهة النظر هذه فإننا نعطي فكرة موجزة عن هذه الأنواع الأربعة الهامة، ونظرا لأن محل البحث هو خيار المجلس فنرجئ الحديث عنه إلى موضعه، ونكتفي ببيان الأنواع الثلاثة الأخرى. 6 ـ خيار الشرط: خيار الشرط هو أن يشترط أحد العاقدين أو كلاهما لنفسه أو لغيره حق فسخ العقد مدة معلومة من الزمان ( ) وهو مشروع باتفاق الفقهاء عدا ابن حزم الظاهري ( ). ويختلف الفقهاء في هذه المدة: فيرى الإمام أبو حنيفة وزفر ( ) أنه لا يجوز الاشتراط أكثر من ثلاثة أيام، لما روي أن حبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه كان يغبن في البياعات، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إذا بايعت فقل: لا خلابة، ولي الخيار ثلاثة أيام ( ). وإلى هذا الرأي ذهب الشافعية ( ): وذهب المالكية ـ ويسمونه خيار التروي ـ إلى أن المدة تختلف بحسب نوع السلعة المعقود عليها، وتتراوح المدة بحسب نوع المعقود عليه من يوم إلى شهرين، لكن الضابط في كل ذلك هو: مدى كفاية المدة الزمنية التي يمكن اختبار السلعة فيها ( ). وذهب أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني إلى قول قريب من رأي المالكية من بعض الوجوه وذهبا إلى أن أكثر مدة الخيار شهران، لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه أجاز الخيار إلى شهرين ( )، ولأن الخيار إنما شرع للحاجة إلى التروي، وقد تمس الحاجة إلى الأكثر ( ). وذهب الحنابلة إلى عدم تقييد مدة الخيار بزمن معين، لأن المدة هنا ملحقة بالعقد، فترجع إلى تقدير المتعاقدين واشتراطهم، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسلمون على شروطهم" ( ) ولم يثبت عندهم ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما، بل روي عن أنس خلافه ( ). وخيار الشرط يدخل العقود اللازمة القابلة للفسخ التي لا يشترط فيها القبض قبل تفرق المجلس ( ) . 7 ـ خيار الرؤية: يكون للعاقد فيه على شيء معين لم يره حق الفسخ إذا رآه ( ). وهذا النوع من الخيار لم يكن محل اتفاق بين الفقهاء، ويرجع أساس الاختلاف بينهم في الأمر إلى الخلاف في صحة العقد على الأشياء المعينة الغائبة. فمن الفقهاء من قال: العقد عليها صحيح، ومنهم من قال: بأن العقد عليها غير صحيح ( ). ويدخل خيار الرؤية عند من أجازه في كل العقود التي يكون محل العقد فيها شيئا معينا لم ير قبل العقد ولا عند إنشائه، ولذلك يثبت في أربعة أنواع من العقود: عقد البيع، والإجارة، وقسمة القيميات، والصلح ( ). 8 ـ خيار العيب: يعني أن يكون لأحد العاقدين حق الفسخ بسبب عيب اطلع عليه في المعقود عليه، ولم يكن على علم به وقت العقد ( ). وعلة ثبوت هذا الخيار: أن السلامة مشروطة في العقد دلالة، والثابت بدلالة النص كالثابت بصريح النص، ( ) فكان ثابتا لذلك، فكأن الخيار هنا مشروط. وخيار العيب مشروع، لأن سلامة موضوع العقد مطلوبة، وبيع السلع وبها العيوب دون بيانها للمشتري محرم، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يبيع طعاما، فأدخل يده فيه فإذا مبلول، فقال: "من غشنا فليس منا" ( ). ولهذا اتفق الفقهاء على ثبوت هذا الخيار للمشتري الذي وجد بالمبيع عيبا له خطره، ولا يتسامح فيه عادة ( ). ولهذا الخيار ضوابط وشروط، يصعب عرضها في هذا البحث لخروجها عن مضمونه، ويرجع إليها في كتب الفقهاء. 9 ـ هذه نبذة موجزة عن أنواع الخيارات الهامة في العقود، اقتضى موضوع هذا البحث الأصلي وهو خيار المجلس أن نعرض لها بإيجاز كمقدمة وتمهيد للدخول في نوع من أنواع الخيارات، وهو خيار المجلس. 10 ـ موقف القانون من الخيار بصفة عامة: يتصل الخيار بصفة عامة بركن الرضا، ويأتي لعلاج ما قد يشوب هذا الرضا ويجعله غير تام، ولهذا قلما يخلو تشريع من وضع القواعد العامة التي تنظم أنواع الخيار، لأنه ضرورة ملحة لاستكمال الرضا، الذي هو أساس التعاقد. والتشريعات الوضعية في صدد تنظيمها لموضوع الخيارات تتجه اتجاهين: الأول: بعضها ينص عليها صراحة، وينظم كل نوع منها، فينص على خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار الرؤية، وخيار العيب، وخيار التولية، وهكذا. الثاني: البعض الآخر من التشريعات لم ينص صراحة على أنواع الخيارات، وإن كان تضمن من التطبيقات ما يمكن إدراجها تحت نوع من أنواع الخيارات المشهورة. وعلى هذا يمكن القول بأن جميع التشريعات لم تخل من تنظيم الأحكام العامة للخيار، سواء صراحة، أو ضمنا. وإذا جئنا إلى الشرائع المختلفة لبيان مدى وجود فكرة الخيار فيها ( ) وجدنا: ـ أن القانون الروماني يعرف خيار الشرط، حيث كان البائع في هذا القانون يتعهد باسترجاع المبيع إذا لم يحظ بقبول المشتري وإعجابه، كما كان يعرف هذا القانون خيار النقد، عن طريق ما يسمى بشرط استعادة الملك، المتضمن اتفاق المتعاقدين على أن للبائع العدول عن العقد إذا لم يقم المشتري بدفع الثمن خلال مدة معينة، كما كان يعرف خيار الاسترداد المتمثل في حق البائع في استرداد المبيع إذا أعاد للمشتري الثمن وملحقاته. ـ ونص قانون حمورابي على خيار العيب في المادة 278 حيث جاء فيها: إذا أراد رجل شراء عبد أو أمة، ولم يكن شهر ضمانه قد انقضى، وأصابه داء الصرع فسوف يعيده لبائعه، وسوف يأخذ المشتري الفضة التي كان قد دفعها. ـ وعرف القانون الفرعوني خيار العيب، أو ضمان العيب، فقد جاء في عقد بيع دار يرجع تاريخه إلى عهد الأسرة الرابعة ـ عبارات تؤكد أن البائع يلتزم بضمان العيب، إذ يقول البائع مخاطبا المشتري: سأعطي ما هو حق، وستكون أنت (المشتري) مستوفيا بذلك كل ما تفيده الدار. فهذه العبارة الأخيرة تشير إلى أن المبيع مستوفيا لجميع الشروط التي تهيئ الانتفاع به انتفاعا كاملا، وهذا لا يتأتى إلا بسلامته من العيوب. ـ وحين نأتي إلى القوانين العربية الحديثة نجد أن القانون المصري وإن لم ينص صراحة على أحكام الخيار في إطار نظرية عامة، إلا أنه لم تخل نصوصه من بعض أنواع الخيار؛ فقد نص في المادة 419 من القانون المدني على أحكام خيار الرؤية في بيانه لشرط علم المشتري بالمبيع ( ) ، وجاء خيار الشرط في صور متعددة في عقد البيع، فهناك البيع بشرط التجربة، نصت عليه المادة 421 مدني ( )، والبيع بشرط المذاق، نصت عليه المادة 422 مدني، ( ) وبيع الوفاء في التقنين المدني القديم، أما التفنين الحالي فقد جعل هذا البيع باطلا، فنصت المادة 465 على أنه: "أذا احتفظ البائع عند البيع بحق استرداد المبيع خلال مدة معينة، وقع البيع باطلا" ( ). 1 ـ والقانون اليمني يعد مثالا حيا للقوانين التي نصت على أحكام الخيار بصورة مفصلة مأخوذة من الفقه الإسلامي في أشهر الخيارات، وهي الخيارات الأربعة: خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار العيب، وخيار الرؤية، ونظمها بصفة مستقلة في الفصل السادس من الكتاب الثاني من القانون المدني، وأشار إلى بقية الخيارات بصورة موجزة، وذلك كخيار التعيين (م479) وخيار النقد(م548)، وخيار فوات الوصف (م478) وخيار الهلاك الجزئي (م528) وخيار المربحة (م563) وخيار التولية (م565) وخيار المخاسرة (م566) ( ). والقانون العراقي نظم أحكام خيار الشرط (المواد 509-513) وخيار الرؤية (المواد 517-523) وخيار العيب (المواد 588-57) وذلك في عقد البيع، ولم يأخذ بخيار المجلس كما سنرى فيما بعد. وسلك هذا المسلك القانون المغربي والقانون التونسي، فقد نظما خيار الشرط وخيار العيب في أحكام عقد البيع. أما قانون المعاملات المدنية الإماراتي، ومشروع القانون المدني الأردني فقد نظما موضوع الخيار في النظرية العامة للعقد، كما فعل المشرع اليمني ( ). ـ والقانون الفرنسي وإن كان لم يعرف صور الخيار الواردة في القوانين العربية سالفة الذكر، إلا أنه لم يخل عن بعض التطبيقات الخاصة بالخيار، ومن أبرزها: خيار الاسترداد (م1659 مدني فرنسي) وخيار العدول في بيع العربون (م1588 مدني فرنسي). وخيار العدول في بيع العربون (م1588مدني فرنسي). هذه صورة عامة موجزة عن موقف التشريعات المختلفة من موضوع الخيار. ولقد استأثر الفقه الإسلامي بتنظيم الخيار بشكل لا مثيل له في الشرائع الأخرى ـ مع ملاحظة أن بعض التشريعات أخذت أحكام الخيار من الفقه الإسلامي، كالقانون اليمني والسعودي، وبصفة خاصة فيما يتصل بخيار المجلس، موضوع البحث ـ حيث أولى الفقهاء المسلمون موضوع الخيار عناية فاقت كل التصورات، فإذا كان عقد البيع مكن أهم العقود، فإن الخيارات من أهم المباحث المتصلة بهذا العقد والتي تجلت فيها الصناعة الفقهية الإسلامية المتعمقة ( ). الفصل الأول حقيقة خيار المجلس ومدى مشروعيته 11 ـ تمهيد وتقسيم: سبق القول إن الأصل في العقود اللزوم، وإن الخيار أمر عارض وطارئ، وإن هذا الخيار وفقا لرأي جمهور الفقهاء أو يكاد أن يكون باتفاق الفقهاء، إما أن يرجع إلى اشتراط المتعاقدين أو أحدهما، أو يرجع إلى الشرع حتى ولو لم يشترطه المتعاقدين. وهذا يسري في أنواع الخيارات السابقة، ومنها خيار المجلس، على اعتبار أن مصدره الشرع ذاته، ولا دخل لإرادة المتعاقدين في وجوده، بل أن بعض الفقهاء ذهب إلى أن اشتراط نفيه من أحد المتعاقدين أو كليهما يبطل العقد ( ). وعلى هذا فخيار المجلس له ذاتية خاصة من هذه الناحية، وهذا مبني على القول بمشروعيته، غير أنها ـ كما سنرى ـ لم تكن محل اتفاق بين الفقهاء، بل والقوانين الوضعية، على الرغم من أخذها بمبدأ الخيار في العقود. ولبيان هذه الأمور تقسم هذا الفصل إلى مبحثين: الأول: نبين فيه حقيقة خيار المجلس. الثاني: نبين فيه مدى مشروعية خيار المجلس. وذلك على النحو التالي: المبحث الأول حقيقة خيار المجلس 12 ـ مفردات لغوية: الحقيقة: هي الشيء الثابت لأمر من الأمور ( )، فالمقصود بذلك بيان المعنى الثابت لخيار المجلس وما يميزه عن غيره من الخيارات. والخيار: اسم من الاختيار أو التخيير، وهو طلب خير الأمرين ( ). والمجلس: بكسر اللام موضع الجلوس، هذه هي الحقيقة اللغوية لخيار المجلس، فهي قاصرة على المكان وعلى نحو معين ( )، لكن يتسع المراد به في حقيقته الشرعية، إذ المراد مكان التعاقد على أي حال كان العاقدين ( ). 13 ـ المعنى الشرعي لخيار المجلس: لا يختلف المعنى الشرعي في كثير عن المعنى اللغوي السابق تحديده إلا في بيان الأثر المترتب على الخيار؛ ذلك أن العاقدين في أثناء المجلس وقبل فضه يثبت لكل منهما الحق في الخيار بين أمرين: فسخ العقد، أو إمضائه. وإذا كان الفقهاء يتفقون على أن خيار المجلس إنما يرد على العقود اللازمة دون غيرها ـ مع خلاف بينهم فيما يدخله خيار المجلس من هذه العقود ـ فإنه عند تعريفه ينبغي أن ينص على ذلك على جهة الإجمال، حتى يتسع التعريف لكل العقود اللازمة دون النظر إلى عقد بعينه، فيكون بذلك متسقا أيضا مع نظرة الفقهاء القائلين به فيما يدخله من العقود. وكذلك إذا كان مجلس العقد هو المدة الزمنية التي يبقى فيها الخيار، بما يترتب على ذلك من فقد العقد للزومه، فإنه بهذا الاعتبار عنصر جوهري، ينبغي تضمن التعريف له. وعلى أساس ما تقدم، فإن هناك عناصر أساسية ينبغي تضمن التعريف لخيار المجلس إياها، هذه العناصر هي: 1 ـ العقود اللازمة التي يدخلها خيار المجلس، دون تحديد عقد بعينه، ليتسق التعريف والمذاهب المختلفة القائلة بمشروعية خيار المجلس. 2 ـ مصدر الخيار وهو الشرع. |
|
Labza.Salem Admin
عدد المساهمات : 43954 نقاط : 136533 تاريخ التسجيل : 12/09/2014 العمر : 29 الموقع : سيدي عامر
| موضوع: رد: دراسة فى أحكام خيار المجلس - دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون المدني الأربعاء 1 مارس - 17:41 | |
| 3 ـ تحديد المدة التي يكون فيها الخيار قائما وهي مجلس العقد، وضابطه التفرق باِلأبدان. وعلى هذا الأساس، فإننا نعرض التعريفات المختلفة لخيار المجلس ونخلص إلى التعريف الذي نختاره منها. قال العلامة الخطيب الشربيني: "الخيار هو طلب خير الأمرين من إمضاء العقد أو فسخه" ( ). ويتميز هذا التعريف بشموله لجميع أنواع الخيار؛ ففي كل منها لمن له الخيار الحق في الخيار بين أمرين إمضاء العقد أو فسخه، وبمعنى آخر، فقد بين معنى الخيار والأثر المترتب عليه من إمضاء العقد أو فسخه. وهو وإن كان يشمل خيار المجلس إلا أنه لم يحدد العقود التي يدخلها هذا النوع كما أنه لم يتناول المدة التي يبقى فيها هذا الخيار قائما، وهي مدة مجلس العقد، فلم ينص في التعريف على مجلس العقد، وهذا أمر ضروري، بل هو الصفة المميزة له عن غيره من أنواع الخيار التي تعرض على العقد اللازم. كما أنه لم يأت فيه ما يوضح مصدر هذا الخيار وهو الشرع. ولعل إغفال هذه الأمور في التعريف اقتضتها طبيعته، حيث إنه وضع ليشمل جميع أنواع الخيار، دون النظر إلى نوع بعينه. وقد عرفه العلامة الحطاب فقال: "معنى خيار المجلس: أن يثبت الخيار للمتبايعين مدة جلوسهما معا حتى يفترقا" ( ). وهذا التعريف نص فيه على عنصر المدة التي يبقى الخيار قائما، كما أوضح أن الخيار يرد على عقد البيع، ويمكن أن يقال: إن ما في معنى البيع ملاحظ ضمنا، لكنه لم يذكر مصدر خيار المجلس. ـ وقد تعرض الفقهاء المحدثون لتعريف خيار المجلس؛ فقال الشيخ محمد أبو زهرة: "خيار المجلس معناه: أن يكون لكل واحد من المتعاقدين الفسخ ما دام العاقدان لم يتفرقا بالأبدان" ( ). وبالنظر في هذا التعريف نجده قد تضمن عنصر المدة، غير أنه عبر بلفظ العاقدين، بما يتسع ليشمل كل العقود اللازمة، وغيرها بما يجعله غير مانع، كما أنه لم يذكر مصدر خيار المجلس وهو الشرع. وعلى أساس كل ما تقدم فإننا نعرف خيار المجلس بما يشمل العناصر السابقة فنقول إنه: "الخيار الذي يثبته الشرع للعاقدين عقدا لازما في فسخه ما داما لم يتفرقا بأبدانهما" . 14 ـ خصائص خيار المجلس: هناك عدة خصائص يتميز بها خيار المجلس عند القائلين به وهي: 1 ـ أن مصدره الشرع؛ فقد أخرج البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار" ( ). 2 ـ لا دخل لإرادة العاقدين فيه: أما في وجوده، فقد اتفق الفقهاء القائلون به على ذلك، حيث مصدره الشرع ـ كما سبق ـ ومن ثم فهو موجود بوجود مجلس العقد، ولو لم يتفق المتعاقدان على ذلك. ولهذا يقول البهوتي: "يثبت خيار المجلس ولو لم يشترطه العاقد" ( ). ويقول قليوبي: "الخيار هو اسم من الاختيار، أي طلب خير الأمرين وهو عارض على العقد، ثم ثبت في بعض أفراده ـ أعني خيار المجلس ـ قهرا" ( ). وأما في نفيه فقد ذهب الشافعية ( ) في الصحيح، والزيدية ( ) إلى أنه لا يصح النفي، وبناء عليه فلا دخل هنا لإدارة المتعاقدين في نفي خيار المجلس. وحجة هذا الرأي: أن فيه إسقاطا للحق قبل سببه فلا يجوز قياسا على خيار الشفعة. ـ وذهب مقابل الصحيح عند الشافعية ( ) وهو رأي الحنابلة ( ) والجعفرية ( ) إلى أن الخيار يسقط بنفيه أو النزول عنه من المتعاقدين أو أحدهما. وحجة هذا الرأي: أن الخيار جعل رفقا بالمتعاقدين فجاز لهما تركه. 3 ـ أن فيه علاجا لما يترتب على لزوم القبول الفوري عقب الإيجاب، ذلك أن الشافعية يرون اشتراط عدم وجود فاصل طويل بين الإيجاب والقبول ( )، بما يترتب عليه وجوب صدور القبول عقب الإيجاب مباشرة، ومن ثم لم تكن هناك فرصة للتدبر والتروي، فكان خيار المجلس لتلافي هذا الأمر، فما فات المتعاقدان بالفورية يعوضانه بخيار المجلس. وإذا كان الحنابلة يجيزون تراخي القبول عن الإيجاب ( )، فهم بذلك يعطون للمتعاقدين فرصة للتدبر قبل صدور القبول، وفرصة بعده، وهي خيار المجلس ( ). 4 ـ يحق لأي من العاقدين فسخ العقد دون التوقف على إدارة العاقد الآخر طالما كان مجلس العقد قائما، وهذه خصيصة لخيار المجلس، يتميز بها عن الإقالة، فعلى الرغم من أنها فسخ للعقد إلا أن إدارة العاقدين معا فيها لازمة، ولا يمكن أن تتم بإدارة أحدهما دون الآخر. 5 ـ خيار المجلس مؤقت بقيام المجلس، ومن ثم لا يثبت للمتعاقدين على سبيل الدوام، وهذه الخصيصة تقتضيها طبيعة العقد ذاته وضرورة استقرار، فليس من المعقول أن يظل أمر العقد غير لازم بصفة مستمرة. 6 ـ لا يرد خيار المجلس إلا على عقد لازم صحيح، فيعرض علية ويفقده اللزوم، أما العقود الباطلة فلا يدخلها خيار المجلس، ولا غيره من الخيارات، لأن العقد الباطل لا ينعقد أصلا، وأما العقود غير اللازمة بطبيعتها فيسهل فسخها في أي وقت دمن حاجة إلى خيار. 7 ـ يكون لأي من المتعاقدين فسخ العقد فترة قيام المجلس، حتى ولو لم يحدث إخلال بالوفاء بالالتزامات الناتجة عن العقد، لأن الخيار مشيئة وإرادة محضة، فلا يلزم لاستعمالها وجود إخلال بالالتزام. وبهذا يتضح لنا الخصائص المميزة لخيار المجلس، وإن كان يشترك فيها معه بعض أنواع الخيار الأخرى، لكن من بعض الوجوه فقد، كما يشتركان في ثبوت حق الفسخ لأحدهما دون التوقف على إدارة الآخر، ويفترقان في أن خيار المجلس وفقا للراجح عند الشافعية لا يجوز إسقاطه بخلاف الخيارات الأخرى. المبحث الثاني مدى مشروعية خيار المجلس 15- آراء الفقهاء: لم يكن خيار المجلس متفقا عليه بين الفقهاء من حيث مشروعيته والعمل به في العقود، ويرجع السبب في ذلك إلى اختلافهم في فهم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة الشريفة. ويمكن حصر آراء الفقهاء في ذلك وردها إلى اتجاهين: الأول: ويرى أصحابه مشروعية خيار المجلس، ووجوب العمل به في نطاق معين من العقود. وممن قال بهذا الرأي: الشافعية ( )، والحنابلة ( )، والظاهرية ( ) والزيدية ( ) والجعفرية ( )، وإسحق، وأبو ثور، وهو قول ابن أبي ذئب، وابن المبارك، والقاضيان: سوار، وشريح، وهو مروي عن ابن عمر وأبي برزة الأسلمي من الصحابة رضي الله عنهم، قال ابن رشد: ولا مخالف لهما من الصحابة ( )، وقال البخاري: وبه قال ابن عمر وشريح والشعبي وطاوس وعطاء وابن أبي مليكه ( ). وذكر القرافي المالكي أن ابن حبيب من المالكية يرى هذا الرأي ( ). وذكر الشوكاني أنه قول جمع من الصحابة، منهم ـ خلا من سبق ـ علي بن أبي طالب وأبو هريرة، ومن التابعين ـ خلا من سبق ـ سعيد بن المسيب والزهري، رضي الله عنهم جميعا ( ). الثاني: ويرى أصحابه عدم مشروعية خيار المجلس. وممن قال بهذا الرأي: الحنفية ( ) والمالكية ( ) وإبراهيم النخعي من التابعين والثوري، والليث بن سعد، وزيد بن علي، والقاسمية والعنبري ( )، والإمامية ( ). 16 ـ أدلة الفقهاء على ما ذهبوا إليه: وقد استدل أصحاب كل رأي بأدلة ما ذهبوا إليه، ونعرض هذه الأدلة مع مناقشة ما يمكن مناقشته منها، ثم ننتهي إلى اختيار ما قوى دليله من هذه الآراء. 17 ـ أدلة الفقهاء على ما ذهبوا إليه: استدلوا على ذلك بالسنة والمعقول. فأما السنة فقد استدلوا بما يلي: أ ـ بالحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم بسنديهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار" ( )، ( ). ب ـ وبالحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري بسنده عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما" ( )، ( ). وجه الدلالة: هذان الحديثان، وما في معناها ـ يدلان دلالة صريحة على ثبوت خيار المجلس، بما يعطي الحق للمتبايعين ـ ومن في معناهما في كل عقد فيه معارضة ( ). في إمضاء البيع أو فسخه مدة المجلس، ولا يبطل ذلك إلا بأحد أمرين: الأول: إمضاء العقد وإن لم يتفرقا: الثاني: انتهاء مجلس العقد ذاته بتفرقهما بأبدانهما. بالتفرق في هذين الحديثين محمول على التفرق بالأبدان، ومل لم يتفرقا بأبدانهما يبقى لهما حق الخيار. وأما المعقول: فإن الأصل في العقود اللزوم، غير أن الشرع أثبت الخيار فيهما رفقا بالمتعاقدين، ويظهر الرفق بالمتعاقدين أن أحدهما قد يشعر بالغبن في تصرفه، أو أن محل العقد ليس في مصلحته، وكل هذه الأمور فيها مساس بالرضا الذي هو أساس العقد، وحينئذ يحتاج إلى تدارك ذلك بالفسخ، ولا سبيل إليه بإثبات خيار المجلس. المناقشات الواردة على هذه الأدلة والجواب عنها: نوقشت هذه الأدلة من عدة وجوه، سواء فيما يتصل بذات الدليل، أو بوجه الدلالة منه، وذلك على النحو التالي: أ ـ هذا الحديث ـ وما في معناه ـ معارض لما هو أقوى منه، فيترك العمل به ويجب العمل بالأقوى. ووجه المعارضة من نواح متعددة: فمن ناحية أولى عارض ظاهر القرآن الكريم وذلك في أكثر من آية، ومن ذلك قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ " ( ) وقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ " ( )، قوله تعالى: " وأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ " ( ). فالآية الأولى: توجب الوفاء بالعقد، وهذا يتنافى مع ثبوت الخيار في العقد أثناء المجلس، إذ مقتضاه جواز فسخ العقد، وهو ما يتعارض مع وجوب الوفاء به ( ). ويجاب: عن هذا بأن وجوب الوفاء بالعقود في الآية إنما يكون عن عقد لازم لا خيار فيه للعاقدين أو أحدهما، أما إذا وجد الخيار بإيجاد الشرع فلا منافاة بين الخيار وعدم الوفاء بالعقد، لأن الشرع هو الذي أعطى العاقد الحق في الفسخ ( ). والآية الثانية: أباح الله تعالى فيها الأكل في التجارة بالتراضي، وهو مطلق عن قيد التفرق عن مكان العقد، وهذا يعني أن فسخ العقد من أحد المتعاقدين لا يباح معه الأكل، وهو ما يتنافى مع ظاهر نص الآية ( ). ويجاب: عن هذا أيضا بأن إباحة الأكل مقيدة بالرضا، وحيث لا يوجد لا يباح الأكل، والخيار هنا مشروع للاستيثاق من وجود الرضا، فكأن الخيار يساعد على إيجاد الرضا الصحيح الذي به يحل أكل المال، وبهذا فلا منافاة بينه وبين الآية الكريمة. الآية الثالثة: "قوله تعالى: " وأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ " تفيد الأمر على جهة الندب ـ بالإشهاد عند التبايع، وإذا حصل الإشهاد بعد التفرق لم يطابق الأمر، وإن وقع قبل التفرق لم يصادف محلا، ( ) فلا تكون الآية مفيدة مع خيار المجلس ( ). ومن ناحية ثانية: فقد عارض هذا الحديث أحاديث أخرى منها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسلمون على شروطهم"، والخيار بعد لزوم العقد يفسد الشروط، فيكون الحديث الأخير ناسخا للحديث الأول ( ). ويجاب عن هذا: بما قاله ابن حجر بأن لا حجة في ذلك، لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال ( ). ومن ناحية ثالثة: هذا الحديث رواه الإمام مالك رحمه الله تعالى في الموطأ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ( )، مع هذا فقد ثبت أن الإمام مالك خالفه ولم يعمل به لما وجد عليه عمل أهل المدينة، حيث قال: "وليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به منه" ( ). قال الزرقاني: "قال بعض المالكية: رفعه مالك بإجماع أهل المدينة على ترك العمل به، وذلك عنده أقوى من خبر الواحد، كما قال أبو بكر بن عمرو بن حزم: إذا رأيت أهل المدينة أجمعوا على شيء فاعلم أنه الحق" ( ). وهذا كله دليل على معارضة ما هو أقوى من هذا الحديث له، فيجب المصر إليه، فيكون خيار المجلس غير مشروع. ـ ويجاب عن هذا: بأن الإمام مالكا لم يتفرق برواية هذا الحديث، فقد رواه غيره وعمل به وهم أكثر عددا: رواية وعملا، فعلى هذا ليس كل من روى هذا الحديث خالفه، بالإضافة إلى أن كثيرا من علماء الأصول جعلوا ترتيب الآثار في مخالفة الراوي لما روي خالصا بالصحابة دون من بعدهم، وإذا رجعنا إلى الصحابة وجدنا أن راوي الحديث سيدنا عبد الله بن عمر كان يعمل به، وكان يفارق إذا باع ببدنه، فاتباعه أولى من غيره ( ). وإذا كان السند في مخالفة العمل بهذا الحديث عند الإمام مالك هو عمل أهل المدينة، فقد قال الحافظ بن حجر: بأن ابن عمر ثم سعيد بن المسيب، ثم الزهري، ثم ابن أبي ذئب، قالوا بخيار المجلس، وهم من أكابر علماء أهل المدينة في أعصارهم ( ). ب ـ وقد ذهب القائلون بنفي خيار المجلس إلى تأويل الحديث بتأويلين ( ): الأول: أن المراد بالتفرق هنا التفرق بالأقوال، وليس التفرق بالأبدان، كما في قوله تعالى: " وإن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ: ( ) وقوله تعالى: " ومَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ إلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ " ( )، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" ( ). فالتفرق في هذا كله إنما يكون بالأقوال والاعتقادات، لا بالأبدان، والقياس على النكاح والإجارة والعتق، يؤكد هذا التأويل. الثاني: أن المراد بالمتبايعين المتساومان، أي المتشاغلان بالبيع، فهما ما زال في مرحلة التحضير للبيع، ولم يعقدا بعد، وإذا كان الأمر كذلك كان من حق كل منهما الرجوع عن التعاقد، وبمعنى آخر: الحديث يثبت خيار الرجوع والحق في القبول قبل التعاقد، وتظهر فائدة هذا التأويل في الجمع والتوفيق بين الأدلة؛ إذ مقتضى الكتاب الكريم في قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ " ( ) وجوب الوفاء بالعقد الذي تم، ومقتضى الحديث على رأى المجيزين لخيار المجلس: إثبات حق الفسخ بعد التعاقد ما دام العاقدان في المجلس، وفي هذا معارضة الحديث لظاهر الكتاب، فلو حملنا المتبايعين على المتساومين، لكان في ذلك جمعا بين العمل بالحديث، والعمل بالكتاب؛ بوجوب الوفاء بالعقد الذي تم بالفعل باتصال القبول بالإيجاب، وإثبات الخيار إذا لم يتصل القبول بالإيجاب. ـ ويمكن الجواب عن هذين التفسيرين بما يلي: أولا: من الحقائق المسلم بها أن حمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز؛ ولا يصار إلى المجاز إلا المجاز إلا إذا تعذر حمل اللفظ على الحقيقة، وفي كلا التأويلين حمل للفظ على المجاز، مع إمكان حمله على الحقيقة، وبما لا يتعارض مع الأصول الشرعية كذلك، بل وجدنا في عمل الصحابة ما يؤكد المعنى الحقيقي للفظ، وبيان ذلك: أن التفرق في حقيقته يطلق على التفرق بالأبدان، فإذا قيل: تفرق الناس كان المفهوم منه التميز بالأبدان، كما قال الخطابي ونقله الشوكاني ( )، وعلى هذا الأساس كان تطبيق سيدنا عبد الله بن عمر لمعنى التفرق الوارد في الحديث، وأنه تفرق بالأبدان لا بالأقوال، فقد أخرج الترمذي بسنده: "أن ابن عمر كان إذا ابتاع بيعا وهو قاعد قام ليجب له" وفي رواية أخرى: كان ابن عمر إذا باع انصرف ليجب له البيع" ( ). وقال نافع فيما أخرجه الإمام مسلم بسنده: "فكان -أي ابن عمر- إذا بايع رجلا فأراد أن لا يقيله، قام فمشى هنية ثم رجع إليه" ( ). فكل هذه الروايات تدل على أن المراد بالتفرق في الحديث هو التفرق بالأبدان لا بالأقوال، وإلا لما قام أو انصرف ابن عمر رضي الله عنهما لو كان يعلم أن التفرق بالأقوال. أضف إلى هذا أن في بعض روايات الحديث ما يقطع بهذا الفهم، وأن المراد بالتفرق هو تفرق الأبدان؛ فقد أخرج الإمامان البخاري ومسلم بسنديهما عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعا، أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع، وجب البيع" ( ) قال الخطابي: "هذا أوضح شيء في ثبوت خيار المجلس، وهو مبطل لكل تأويل مخالف لظاهر الحديث" ( ) . وقال ابن حزم: "هذا الحديث يرفع كل إشكال، ويبين كل إجمال" ( ) وأما القياس على النكاح والإجارة والعتق، فقد قال ابن حجر: "إنه قياس مع الفارق، لأن البيع ينقل فيه ملك رقبة المبيع ومنفعته، بخلاف ما ذكر" ( ). أضف إلى ذلك كله أن التفرق الوارد في الآيات الكريمة وإن كان تفرقا بالقول، إلا أنه يقتضي التفرق بالأبدان ( ). قال ابن حجر: "ما هو الكلام الذي يقع به التفرق؟، أهو الكلام الذي وقع به العقد أم غيره؟ فإن كان غيره فما هو؟ فليس بين المتعاقدين غيره، وإن كان هو ذلك الكلام بعينه لزم أن يكون الكلام الذي اتفقا عليه وتم بيعهما به هو الكلام الذي افترقا به، وانفسخ بيعهما به، وهذا في غاية الفساد" ( ). وتحليل ابن حجر رحمه الله تعالى تحليل دقيق؛ إذ إن العقد يتم بإيجاب وقبول، وفسخ العقد يحتاج إلى ألفاظ أخرى غير التي صدر بها الإيجاب أو القبول، ولا يمكن أن تكون الإرادة متجهة في ذات الوقت إلى عقد العقد وفسخه، فلو قلنا بأن التفرق بالأقوال لكان معنى هذا أن ذات الألفاظ التي انعقد بها الإيجاب والقبول هي بذاتها التي ينفسخ بها العقد، لكن المقبول أن العقد يتم أملا، ثم يكون الخيار وما يترتب عليه من لزوم العقد أو فسخه بشيء آخر وهو التفرق بالأبدان. هذا من ناحية معنى التفرق، وأما تفسير المتبايعين بالمتساومين فيمكن الرد عليه بما يلي ( ): 1 ـ أن المتبايعين اسم مشتق من البيع، فإذا لم يوجد البيع لا يجوز أن يشتق منه هذا الاسم، لأن كل اسم مشتق من معنى لا يجوز اشتقاقه حتى يوجد هذا المعنى. 2 ـ أن تأويل المتبايعين بالمتساومين يبطل فائدة الحديث؛ من إثبات الخيار بعد العقد مدة قيام المجلس، إذ من المعلوم لدى الجميع أن المتساومين بالخيار قبل العقد إن شاءا عقد وإن شاءا تركا. 3 ـ أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى يتفرقا" تصريح بمد الخيار إلى التفرق، وهذا يعني ثبوته بعد القبول إلى نهاية المجلس، الذي يحصل به التفرق. 4 ـ أن راوي الحديث وهو سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا أراد إلزام البيع مشى قليلا، وعمله هذا مفسر للحديث الشريف، إذ هو أعلم روي. وعلى أساس ما سب، فإن حمل المتبايعين على المتعاقدين بالفعل أولى من حمله على المتساومين؛ ففضلا عن أن الأول حقيقة والثاني مجاز، والحمل على الحقيقي أولى من الحمل على المجاز، فإن فائدة الحديث تفتقد عند حمله على المجاز كما سبق. 19 ـ أدلة من نفي خيار المجلس: لم تخرج الأدلة التي استدل بها الفقهاء الذين لا يرون العمل بخيار المجلس في مجملها عن وجوه الاعتراضات التي سبق ذكرها على أدلة الفقهاء القائلين بخيار المجلس، ولذا نوردها هنا على سبيل الإجمال. هذا وقد استدلوا بالكتاب الكريم، وبالسنة الشريفة وبالقياس، وبالمعقول، وبما عليه عمل أهل المدينة، وهو دليل خاص بالمالكية. أ ـ فأما الكتاب الكريم، فقد استدلوا بما يلي: 1 ـ بقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ " ( ). وجه الدلالة: أن الأمر بالوفاء بالعقد في هذه الآية للوجوب ( )، والعقد يتم بالإيجاب والقبول قبل التفرق أو التخاير، وإذا صدر كذلك وجب الوفاء به، وخيار المجلس ينافي ذلك، إذ مقتضاه إمكان فسخ العقد بعد تمامه من أحد العاقدين، وهو ما ينافي الأمر بالوفاء الوارد في الآية ( ). ويجاب عن ذلك: بأنه ليس كل عقد واجب الوفاء به، بل وجدنا من العقود ما يحرم الوفاء به، كالعقد على التجارة في المحرمات ( )، وإنما العقود الواجب الوفاء بها هي العقود اللازمة التي لم يدخلها الخيار بنص الشرع، وإذا أثبت الشرع الخيار في عقد، كان ذلك مخصصا لعموم هذه الآية، ومن المقرر أن السنة الصحيحة تصلح لتقييد مطلق القرآن، ولتخصيص عمومه ( )، وقد ثبتت صحة حديث "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" ( ) وحينئذ يكون مخصصا لعموم آية المائدة. 2 ـ وبقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ( ). وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى أباح أكل المال عن طريق التجارة، وهذه الإباحة مطلقة عن قيد التفرق عن مكان العقد، ولما كان العقد يتم بالإيجاب والقبول الصادرين عن رضا، كان الأكل مباحا بمجرد العقد، وإذا أجزنا فسخ العقد لأحد العاقدين بخيار المجلس كان من آثاره عدم جواز الأكل، وهو ما يتنافى مع الآية الشريفة ( ). ويجاب عن ذلك: بأن إباحة الأكل مقيدة بالرضا، وحيث لا يوجد لا يباح الأكل، وإثبات خيار المجلس يعني إعطاء فرصة للعاقدين للتروي فيما عقدا، بناء على الاتجاه العام في الشرع الإسلامي في التخفيف والتيسير على العاقدين، فالخيار هنا يساعد على إقبال المتعاقدين على تنفيذ العقد برضا كامل بمحل العقد، فكأنه من هذه الناحية يساعد على قيد الحل فلا يكون هناك معارضة للآية بإثبات خيار المجلس. ب ـ وأما السنة فقد استدلوا بما رواه أبو داود ( ) بسنده عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان بالخيار مل لم يفترقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله" . وجه الدلالة: أن الاستقالة هنا لا تكون إلا بعد تمام البيع وصحة انتقال الملك، وهذا يقتضي أن البيع وما في معناه من العقود يكون قد تم بالإيجاب والقبول، ومن ثم لا يثبت فيه خيار المجلس، وإلا لما كان هناك حاجة إلى تشريع الإقالة ( ). ويجاب عن ذلك: بما قاله ابن حجر رحمه الله تعالى: "إن حمل الاستقالة على الفسخ أوضح من حمل الخيار على الاستقالة، لأنه لو كان المراد حقيقة الاستقالة لم تمنعه من المفارقة، لأنها لا تختص بمجلس العقد، وقد أثبت في أول الحديث الخيار ومدة إلى غاية التفرق، ومن المعلوم أن من له الخيار لا يحتاج إلى الاستقالة، فتعين حملها على الفسخ، وعلى ذلك حمله الترمذي وغيره من العلماء؛ فقالوا: لا يحل له أن يفارقه بعد البيعة خشية أن يختار فسخ البيع، لأن العرب تقول: استقلت ما فات عني إذا استدركته، فالمراد بالاستقالة فسخ النادم منهما للبيع" ( ). جـ- وأما القياس فقد قاسوا عقد البيع وما في معناه على عقود النكاح والكتابة والخلع، فإنها عقود معارضة لا يراعي فيها التفرق بالأبدان، وتلزم بمجرد العقد، فيكون البيع مثلها يلزم بمجرد العقد ولا يدخل فيه خيار المجلس ( ). ويجاب عن ذلك: بأن هذا القياس فاسد، لوجود الفارق بين هذه العقود وبين البيع، وذلك من عدة وجوه: 1 ـ اختلاف طبيعة البيع عن الخلع، إذ الأخير فسخ، والأول عقد ، ولا شك أن الأمر إذا كان يمكن إنهاؤه بالفسخ فلا يحتاج إلى خيار، لأن الخيار في النهاية فسخ، كما أن عقد الكتابة وان كان يشترك مع البيع في أنه عقد معارضة، غير أن إثبات الخيار فيه يقضي على غرض الشارع من عقد الكتابة، وهو تشوقه في تحرير الرقاب، والخيار يتنافى مع هذا الغرض، هذا فضلا عن أن البيع فيه ملك رقبة المبيع ومنفعته، وليس ذلك في العقود المذكورة ( ). 2 ـ أن عقد النكاح لا يحتاج إلى الخيار بعده، لأن في ثبوت الخيار فيه مضرة، لما يلزم عليه من رد المرأة بعد ابتذالها بالعقد، وذهاب حرمتها بالرد، وإلحاقها بالسلع المبيعة، ولهذا لم يثبت فيه خيار الشرط، ولا خيار الرؤية باتفاق ( ). د ـ وأما المعقول: فقد قال بعض الحنفية: البيع عقد مشروع بوصف وحكم، فوصفه اللزوم، وحكمه الملك، وقد تم البيع بالعقد، فوجب أن يتم بوصفه وحكمه، فأما تأخير ذلك إلى أن يفترقا فليس عليه دليل، لأن السبب إذا تم يفيد حكمه ولا يتنفي إلا بعارض، ومن ادعاه فعليه البيان ( ). ويجاب عن ذلك: بأن البيع سبب للإيقاع في الندم يحوج إلى النظر، فأثبت الشارع خيار المجلس رفقا بالمتعاقدين ليسلما من الندم، ولو قلنا بلزوم العقد بوصفه وحكمه لما شرعت الإقالة، لكنها شرعت نظرا للمتعاقدين، غير أنها شرعت لاستدراك ندم يتفرد به أحد العاقدين فلم تجب، وخيار المجلس شرع لاستدراك ندم يشتركان فيه فكان واجبا ( ). هـ ـ وأما عمل أهل المدينة، وهو حجة عند المالكية: فقد قالوا: إن العمل بالمدينة المنورة قد استمر على خلاف الحديث الشريف الذي يثبت به خيار المجلس، وهذا يعني نسخ الحديث، لأن المدينة دار النبي صلى الله عليه وسلم، وبها توفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه متوافرون، فيستحيل أن يتصل العمل منهم ويستمر في شيء على خلاف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد علموا النسخ فيه ( ). وقد سبق الجواب عن هذا الدليل ( ). 20 ـ الرأي المختار: بعد عرض الرأيين السابقين في خيار المجلس، وأدلة كل رأي، ومناقشة ما أمكن مناقشة من هذه الأدلة، نختار الرأي القائل بالعمل بخيار المجلس في العقود، وهو رأي الشافعية والحنابلة والظاهرية ومن وافقهم، لما يأتي: 1 ـ لقوة أدلتهم، ويكفي في هذا المقام الحديث الشريف الذي يثبت خيار المجلس، فقد قال عنه ابن رشد: "هذا حديث إسناده عند الجميع من أوثق الأسانيد وأوضحها"، فضلا عن أن التأويلات الواردة عليه أمكن ردها، بما يجعلنا نطمئن إلى أن الحديث جاء في الأساس لإثبات خيار المجلس. 2 ـ أن التطبيق العملي في العقود، من جانب الصحابة، ومن بعدها جاء موافقا للحديث، الأمر الذي يؤكد تفسير الحديث على إثبات خيار المجلس: أ ـ من ذلك ما رواه أبو داود بسنده عن أبي الوضيء قال غزونا غزوة لنا، فنزلنا منزلا، فباع صاحب لنا فرسا بغلام، ثم أقام بقية يومهما وليلتهما، فلما أصبحا من الغد حضر الرحيل فقام إلى فرسه بسرجه، فندم، فأتى الرجل وأخذه بالبيع، فأبى الرجل أن يدفعه إليه، فقال: بيني وبينك أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر، فقال له هذه القصة، فقال: أترضيا أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال رسول الله صلى عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" قال هشام بن حسان: حدث جميل أنه قال: "ما أراكما افترقتما" ( ). ب ـ ومن ذلك ما رواه البخاري بسنده عن عمر رضي الله عنهما قال: بعت من أمير المؤمنين عثمان ( ) مالا بالوادي ( ) بمال له بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني البيع، وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا" ( ). قال الحافظ ابن حجر: "قوله: وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا" يعني: أن هذا هو السبب في خروجه من بيت عثمان، وأنه فعل ذلك ليجب له البيع، ولا يبقى لعثمان خيار في فسخه" ( ). وإذا كان لفظ "كانت السنة" يشعر بأن هذا كان في الزمن الماضي، وأن الأمر الآن على خلافه، كما ذكر ابن رشد الجد في المقدمات ( ) فإن ذلك غير مقصود، لأن اللفظ كما يدل على الماضي، فإنه لا ينفي الاستمرار، ومما يؤكده ما وقع في بعض روايات هذا الحديث حيث قال: "كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يتفرقا المتبايعان، فتبايعت أنا وعثمان، فذكر القصة" ( ) وغير ذلك كثير من الآثار ( ). 3 ـ ما قاله بعض الفقهاء المالكية، وهو الحافظ ابن الحافظ عبد البر، حيث قال: "قد أكثر المالكية والحنفية من الاحتجاج لرد هذا الحديث بما يطول ذكره، وأكثره لا يحصل منه شيء ( )، ولا ريب أن هذا القول من الحافظ ابن عبد البر وهو من علماء الفقه والحديث، يعطى اطمئنانا إلى الفهم للحديث في دلالته على مشروعية خيار المجلس، وبصفة خاصة وهو مالكي، لم يترك اتباع مذهبه إلا لما وجد من قوة دلالة الحديث على ثبوت خيار المجلس، ولو أضفنا إلى ذلك ما انتهجه ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد عند عرضه لهذا الموضوع؛ فقد استدل للشافعية ومن وافقهم وذكر قوة دليلهم من ناحية سنده، ثم عند عرضه لأدلة المالكية ومن وافقهم ناقش غالب ما استدلوا به، بما يعني أن ابن رشد وإن لم يصرح بالرأي المختار في هذه المسألة، إلا أن هذا مأخوذ ضمنا من المنهج المتبع في العرض. 21 ـ موقف القانون من خيار المجلس: لم تأخذ أغلب التشريعات العربية بخيار المجلس، فعلى الرغم من تنظيم هذه التشريعات لفكرة الخيار بصفة عامة، إلا أنها استبعدت خيار المجلس في قوانينها، ولم تجعل له أثرا في العقود، ومن هذه القوانين: القانون المدني المصري، والقانون المدني العراقي، وقانون الالتزامات والعقود المغربي، ومجلة الالتزامات والعقود التونسية، وقانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة ( )، والقانون المدني الليبي ( ). ويرجع السبب في ذلك إلى أن هذه القوانين تجعل العقد لازما بمجرد إعلان القبول في البعض منها (القانون السوري واللبناني والتونسي) وبمجرد علم الموجب بالقبول في البعض الآخر منها (القانون المصري والليبي والعراقي) ( ). وعلى هذا الأساس: إذا تم العقد فلا يملك أي من العاقدين أن يرجع فيه بإرادته المنفردة ( )، حتى ولم كان مجلس العقد ما زال قائما. وعلى الجانب الآخر: نرى بعض القوانين أخذت بخيار المجلس، وجعلت له أثرا في العقود، ومن هذه القوانين: القانون المدني اليمني، فقد نص على أحكام خيار المجلس في الفصل السادس من الكتاب الثاني، في المواد 226، 227، 228 ( ). وتأخذ المملكة العربية السعودية بخيار المجلس، في المواد 372 إلى 390 من مجلة الأحكام الشرعية ( ) وتأخذ به أيضا الدولة الإيرانية في المادة 397 من القانون المدني ( ). وعلى أي حال فالجانبين من التشريعات العربية، سواء منها ما يأخذ بخيار المجلس، أو ما لم يأخذ به، فلكل منهما مستند من أحكام الفقه الإسلامي؛ فمن أخذ بخيار المجلس. مستنده مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية ومن وافقهم، ومن لم يأخذ به مستنده مذهب الحنفية والمالكية ومن وافقهم. وقد ذهب بعض فقهاء القانون ( ) إلى ترجيح الرأي القائل بنفي خيار المجلس، واستند إلى الحجج الآتية: 1 ـ أن القول بخيار المجلس يقتضي تعليق مصير العقد إلى حين انفضاض المجلس، لما كان وقت انفضاض المجلس غير منضبط، لتوقفه على التفرق، فإن وقت إبرام العقد والبتات فيه يصبح غير منضبط، وفي هذا من الإخلال باستقرار التعامل ما لا يخفى ( ). 2 ـ القول بخيار المجلس يزعزع من قوة العقد الملزمة، وماذا وراء توافق الإرادتين، واقتران القبول بالإيجاب من شيء حتى يكون العقد قبلة عاريا عن الإلزام: وإذا أريد بخيار المجلس في مذهب الشافعي إعطاء المتعاقدين فرصة للتدبر بعد اشتراط الفور في القبول، فقد كان الأولى أن يكون هذه الفرصة قبل تمام العقد لا بعده، وذلك بالتراضي في القبول وعدم اشتراط الفورية فيه، بل الأولى حتى مع اشتراط الفور في القبول، أن لا يكون هناك خيار المجلس، احتفاظا بحرمة العقد ( ).
|
|
Labza.Salem Admin
عدد المساهمات : 43954 نقاط : 136533 تاريخ التسجيل : 12/09/2014 العمر : 29 الموقع : سيدي عامر
| موضوع: رد: دراسة فى أحكام خيار المجلس - دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون المدني الأربعاء 1 مارس - 17:42 | |
| 3 ـ تأويل الحديث الشريف الذي يحتج به من يثبت خيار المجلس على أساس أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد أن يقرر للموجب خيار الرجوع في ذاته، وللمتعاقدين الآخر خيار القبول في ذاته، ولكن قصد أن يحدد الوقت الذي ينقطع فيه كل من خيار الرجوع وخيار القبول، وهذا الوقت هو وقت تفرق المتعاقدين بالأبدان لا بالأقوال، إذ مجلس العقد ينفض ضرورة عند ذلك ـ وإن كان ينفض أيضا بالإعراض عن التعاقد ـ فينقطع بانفضاضه خيار القبول، ما دام القبول لم يصدر، ويمتنع خيار الرجوع مادام الإيجاب قد سقط. وعلى هذا التأويل لا يكون الحديث مقررا الخيار المجلس، بل يكون محددا للوقت الذي ينقطع فيه خيار القبول وخيار الرجوع ( ). ثم يؤكد الدكتور السنهوري على أهمية مبدأ قوة العقد الملزمة، فيقول: "ومهما يكن من أمر تأويل الحديث، فنحن نواجه مبدأ ضخما من أهم المبادئ القانونية، هو قوة العقد الملزمة، ويكسب العقد هذه القوة عند تمامه، ولا يجوز أن يتأخر في كسبها عن ذلك الوقت، والقول بغير ذلك فيه إهدار لمبدأ جوهري من مبادئ القانون، وإخلال بالثقة المشروعة عند التعامل" ( ). أما الأستاذ مصطفى الزرقا فيرى: أن اجتهاد الرأي المنكر لخيار المجلس اجتهاد يتفق والنظر الحقوقي الحديث، وهو أقطع للخلاف بين المتبايعين، وأجرى مع الحاجة العملية البتات السريع في مؤاخذة المرء بإرادته الجازمة المنشئة في التصرفات المدنية، ومتفق أيضا مع نظر الشارع في سائر العقود الأخرى، التي هي أعظم من البيع شأنا.. كعقد النكاح" ( ) ثم يقول: "وخبر تأويل نراه لذلك الحديث الوارد في خيار المجلس هو أن المراد بالخيار فيه خيار الطرفين خلال إجراء العقد في الفترة التي بين الإيجاب والقبول، وأن المراد بالتفرق هو انفضاض مجلس العقد سلبا أو إيجابا، أي أن الموجب مخير في الاستمرار على إيجابه، أو الرجوع فيه قبل القبول، كما أن الطرف الآخر مخير في أن يقبل أو لا يقبل حتى يتفرقا" ( ). وهذه الحجج غير حاسمة لما يأتي: 1 ـ أن خيار المجلس لا يضعف القوة الملزمة للعقد، وإنما يؤخرها برهة يسرة من الوقت، يصبح العقد بعدها بكامل قوته، لأن هذا الخيار محدود بمجلس العقد، ومجلس العقد في الغالب أن يكون وقته قصيرا، لحاجة المتعاقدين إلى السعي وراء مصالحهم الخاصة ( ). ولهذا يقول الإمام الشافعي: "ولعل ذلك ـ أي مجلس العقد ـ يكون في طرفة عين، أو لا يبلغ يوما كاملا لحاجة الناس إلى الوضوء، وتفرقهم للصلاة" ( ). وقال العز بن عبد السلام: "والتصرفات أنواع: أحدها: ما لم يتم مصالحه ومقاصده إلا بلزومه، كالبيع... لكن دخل في البيع خيار المجلس على خلاف قاعدته، لأن الحاجة تمس إليه فجاز مع قصر مدته" ( ). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن من أحد الأسس الهامة في القوة الملزمة للعقد مبدأ سلطان الإرادة، وخيار المجلس يساعد على بروز هذا المبدأ، إذ إنه لم يحسن التصرف، وإذا كان الأمر كذلك فإن خيار المجلس بهذا المعنى يساعد على القوة الملزمة للعقد، لا إنه يضعفها ( ). 2 ـ أن وضع المتعاقدين في واقع الأمر لا يتربص أحدهما بالآخر ليظل الموجب على إيجابه أو ينطق القابل بقبوله، ثم يأتي القانون ليحكم بينهم بتمام العقد ولزومه، بل الحقيقة أنهما تراضيا على العقد، وطالما أن مجلس العقد قائم، فإن الحرص على تمام الرضا يقتضي أن يكون لكل منهما الرجوع عن العقد حتى ينفض المجلس، وليس في هذا إهدار لحرمة العقد، وإنما حرص على أن يتم العقد بتراض كامل، فإذا انفض المجلس كان عقدا لازما، وهنا تثبت حرمته، ويجب الوفاء به ( ). 3 ـ كما أن العرف قديما وحديثا يحكم بأن مجلس العقد في عقود المعارضات يعتبر مجلس مساومة، وأخذ ورد، ولا يعتبر العقد قد استقر وثبت وتأكد إلا إذا تفرق المتعاقدان مصرين على ما عقدا، فليست العقود كلمات تلقى، فتسجل على قائليها، ولكنها إرادات ثابتة جازمة متوافقة، فكل ما دل على الإصرار مطلوب، وكل ما دل على التردد يجب أن يزال، وقد جعلت الآثار وأعراف الناس تفرق المجالس دليلا على عزم عقدة التصرفات المالية ( ). 4 ـ وليس في خيار المجلس ما يخل بالثقة المشروعة عند التعامل، وإلا لو قلنا بذلك، لقلنا به أيضا مع خيار الشرط؛ فالعقد معه مع تمامه غير لازم، ومع ذلك لم يقل أحد بإخلاله للثقة المشروعة عند التعامل ( ). الفصل الثاني مجلس العقد 22 ـ تمهيد: يحتل خيار المجلس مكانة هامة من بين الخيارات، وذلك بسبب ظهوره المبكر المصاحب لميلاد العقد، فيبدأ منذ اللحظة التي يقترن فيها الإيجاب بالقبول، وينتهي بتفرق المتعاقدين عن مجلس العقد، وإذا كانت هذه هي الفترة التي يوجد فيها الخيار منتجا أثره، فإنها تمثل عنصرا جوهريا فيه، ويطلق عليها مجلس العقد، ويضاف إليه الخيار فيقال خيار المجلس. وعلى هذا يكون تحديد مجلس العقد من الأمور الضرورية في خيار المجلس، بل وفي العقد ذاته، إذ بدونه لا يمكن تصور وجود عقد، فيشترط الفقهاء لانعقاد العقد: أن يصدر الإيجاب والقبول في مجلس واحد؛ أي أن يتحد مجلس العقد. وبناء على ما تقدم نوضح حقيقة مجلس العقد، وما يترتب على ذلك من آثار تتصل بخيار المجلس. 23 ـ حقيقة مجلس العقد: الأساس في وجود العقد قوله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" ( ). وفكرة مجلس العقد صاغها الفقه الإسلامي على نحو لا مثيل له في الشرائع والقوانين الأخرى ( ). ويتفق الفقهاء على أن مجلس العقد يبدأ بصدور ما يدل على إرادة العقد من أحد العاقدين ( ) سواء كان إيجابا أو قبولا ( ). فإذا صدر الإيجاب أولا بناء على مذهب الحنفية، أو هو أو القبول أولا ـ بناء على رأي جمهور الفقهاء ـ فقد بدأ مجلس العقد. أما نهاية مجلس العقد فهي محل خلاف، هل هو اقتران الإيجاب بالقبول، أو التفرق بالأبدان ـ كما سبق ـ ( ). وعلى أي حال، فمجلس العقد يمكن تصوره من اللحظة التي يعبر فيها أحد العاقدين عن إرادته في العقد، ويوافقه الآخر بما يدل على إرادة العقد أيضا، وبذلك ينعقد العقد، غير أن الفقهاء يشترطون أن يصدر كل من الإيجاب والقبول في مجلس واحد. وعند تحديد المجلس الواحد عند الفقهاء نجدهم يختلفون فيه، ويمكن رد اختلافهم إلى رأيين: الرأي الأول: وبه قال الحنفية: أن مجلس العقد هو المكان الذي يوجد فيه المتعاقدان، ويعقدا العقد بصدور الإيجاب من أحدهما وقبول الآخر في ذات المكان، فوحدة المكان عنصر جوهري لابد منها، ولهذا إذا فقدت وحدة المكان ـ إما حقيقة بتبدل مكان الإيجاب عن مكان القبول، أو صدر بعد الإيجاب ما يفيد الإعراض عنه ـ فإنه يترتب على ذلك عدم انعقاد العقد. ولهذا يذهب الحنفية إلى عدم انعقاد عقد الماشيين، أو الراكبين لوسيلة يستطيعان إيقافها، لأن مجلس العقد هنا يتبدل بالحركة، يقول الكاساني: "وأما الذي يرجع إلى مكان العقد فواحد وهو : اتحاد المجلس؛ بأن كان الإيجاب والقبول في مجلس واحد، فإن اختلف المجلس لا ينعقد؛ حتى لو أوجب أحدهما البيع فقام الآخر عن المجلس قبل القبول أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس ثم قبل لا ينعقد" ( ). ثم يقول: "وعلى هذا لو تبايعا وهما يمشيان أو يسيران على دابتين، أو دابة واحدة في محمل واحد؛ فإن خرج الإيجاب والقبول منهما متصلين انعقد، وإن كان بينهما فصل وسكوت وإن قل لا ينعقد، لأن المجلس تبدل بالمشي والسير، وإن قل" ( ). ثم يقول: "ولو تبايعا وهما واقفان انعقد، لاتحاد المجلس، ولو أوجب أحدهما وهما واقفان فسار الآخر قبل القبول، أو سارا جميعا ثم قبل لا ينعقد، لأنه لما سار أو سارا فقد تبدل المجلس قبل القبول، فلم يجتمع الشطران في مجلس واحد" ( ). الرأي الثاني: وهو لجمهور الفقهاء (المالكية ( )، والشافعية ( )،والحنابلة ( )، والظاهرية ( ) والجعفرية ( )). ويرون أن مجلس العقد يأخذ مفهوما زمنيا ومكانيا، وأن الحركة اليسيرة والانتقال من مكان إلى آخر لا يتسبب في فقد وحدة المجلس، ومن ثم في إنهائه طالما أن المتعاقدين مشتغلان بالتعاقد، ويبقى المجلس قائما حتى يقترن الإيجاب بالقبول عند المالكية، أو يتفرقا بأبدانهما عند الشافعية والحنابلة والظاهرية، وذلك بعد اقتران الإيجاب بالقبول أو يتخايرا. موازنة بين الرأيين: لا شك أن رأي جمهور الفقهاء هو الأولى بالقبول، حيث يصعب في الوقت الحاضر العمل برأي الحنفية بعد التطور الكبير في أساليب التعاقد، ففي الأخذ برأيهم فيه تضيق على المتعاقدين، بفض المجلس في وقت هم فيه مشتغلين بالتعاقد بالفعل، والأولى ـ كما ذهب جمهور الفقهاء ـ الأخذ بمفهوم الزمان والمكان كمفهوم لمجلس العقد، وأنه لا ينقطع طوال الزمان الذي يظل المتعاقدان مشتغلين بالتعاقد، بقيا في مكانهما أو انتقلا منه فإذا ظهر منهما ما يقتضي الإعراض عن التعاقد انقطع المجلس ولو ظلا في مكانهما. وبهذا لا نجد صعوبة في الحكم على التعاقد الذي يتم وفق أوضاع مختلفة من ركوب لوسائل المواصلات التي استحدثتها الحضارة، كالسير بقطار السكة الحديدية، والسفن البخارية، والسيارات، والطائرات، وغيرها ( ). ففي إعمال رأي الجمهور تيسير على الناس يقضي به المبدأ العام من التشريع الإسلامي، وهو رفع الحرج. 24 ـ الفورية في القبول وأثرها على مجلس العقد: لكن الأمر الجدير بالملاحظة أنه لو صدر الإيجاب ثم لم يصدر بعده فورا، فإن مجلس العقد ينتهي، ويتأثر بذلك العقد ذاته، فلا ينعقد حتى ولو صدر القبول بعد ذلك، لأن القبول في هذه الحالة يخرج عن أن يكون جوابا عن الإيجاب، وهذا ما ذهب إليه الشافعية، فقد اشترطوا أن لا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول، وحد الطويل: هو ما أشعر بالإعراض عن القبول، أما الفصل اليسير فلا يضر لعدم إشعاره بالإعراض عن القبول، ومثل الفصل الطويل: تخلل كلام أجنبي عن العقد ولو يسيرا بين الإيجاب والقبول، لأن فيه إعراضا عن القبول ( ) وأما بقية المذاهب فلا يضر عندهم الفصل الطويل بين الإيجاب والقبول طالما أن المتعاقدين مشتغلان بالتعاقد، ولم يفصل كلام أجنبي عن العقد بين الإيجاب والقبول ( ). وبناء عليه، فإن مجلس العقد يظل قائما بعد صدور الإيجاب حتى يقترن به القبول، ولو كان بينهما فاصل طويل، طالما يظهر من القابل بعد الإيجاب ما يقتضي الإعراض عن التعاقد. هذا عند الجمهور، أما الشافعية فلا يأخذ المجلس هذا المفهوم إلا بصدور القبول عقب الإيجاب مباشرة. 25 ـ تأثير الفورية على خيار المجلس: من الطبيعي لدى الفقه الحنفي والمالكي النافي لخيار المجلس أن يعطى المتعاقد فرصة للتروي والتدبر بعد صدور الإيجاب، فلا يطالبه بالقبول فورا، بل يمكن أن يمتد المجلس إلى حين الاقتناع بالتعاقد ثم يأتي القبول بعد ذلك. ومن المنطقي لدى الفقه الشافعي أن يشترط الفورية؛ لأن إذا ضاق معها إعطاء الفرصة للتروي والتفكير، فقد اتسع من جانب آخر وهو إثبات خيار المجلس قبل التفرق بالأبدان، وبعد انعقاد العقد، فيمكن لمن يرى من المتعاقدين أنه تسرع في إبرام العقد أن يفسخه طالما كان المجلس قائما. وعلى الرغم من أن الحنابلة يقولون بخيار المجلس، إلا أنهم يقولون بأن التراخي بين الإيجاب والقبول بالكلام طالما كان من مقتضى العقد، لا يبطل المجلس، فكأنهم بذلك يعطون فرصتين للعاقدين: الأولى: في التروي والتدبر بعد الإيجاب، وذلك بالقول بالتراخي وعدم تأثيره على مجلس العقد طالما كان من مقتضى العقد ولم يوجد عرفا ما يدل على الإعراض. الثانية: التروي والتدبر بعد العقد، بإثبات خيار المجلس حتى التفرق بالأبدان. وفي هذا توسعة على الناس في مجال التعاقد. 26- حقيقة مجلس العقد وخيار المجلس: لا ريب أن المجلس وإثبات الخيار فيه لا يكون إلا عند من يقول بمشروعيته، ولهذا فإن تحديد بداية خيار المجلس يكون وفقا لرأي الشافعية والحنابلة ومن وافقهم. ومن المتفق عليه أن خيار المجلس لا يأتي إلا بعد وجود عقد، أما قبل وجوده فلا حاجة للمتعاقدين إليه، لإمكانهما الرجوع فيما قالا، فلم يكونا قد عقدا بعد. وإذا كان العقد ينعقد باقتران الإيجاب بالقبول، فإن خيار المجلس يبدأ بعد القبول الصحيح التالي للإيجاب الصحيح، أي بعد انعقاد العقد مباشرة، ويمتد هذا الخيار إلى حين التفرق بالأبدان ( ) وذلك لقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" فالبيعان وصف يصدق على المتعاقدين بالفعل، أي أن العقد تم بينهما، فهما بالخيار بعد ذلك إلى أن يتفرقا. وقد يتأثر خيار المجلس؛ فلا يوجد بعد العقد وأثناء قيام المجلس، وذلك إذا خير أحدهما الآخر فاختار إمضاء العقد، ففي الحديث: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار" ( ). قال ابن حجر: "وقد اختلف العلماء في المراد بقوله في حديث مالك: "إلا بيع الخيار" فقال الجمهور –وبه جزم الشافعي: هو استثناء من امتداد الخيار إلى التفرق، والمراد أنهما إن اختارا إمضاء البيع قبل التفرق لزم البيع حينئذ وبطل اعتبار التفرق، فالتقدير: إلا البيع الذي جرى فيه التخاير، قال النووي: اتفق أصحابنا على ترجيح هذا التأويل وأبطل كثير منهم ما سواه وغلطوا قاتله" ( ). 27- موقف القانون من فكرة مجلس العقد: أخذت التشريعات العربية في مجملها بمضمون الأحكام السابقة في تحديد مجلس العقد، سوى ما يخص خيار المجلس، فلم يأخذ به سوى القانون اليمني والسعودي والإيراني، كما سبق. وتعطي هذه التشريعات للمجلس بداية وهي صدور الإيجاب ويظل صالحا لاقتران القبول به طالما كان المتعاقدان مشتغلين بالتعاقد حتى ولو برحا المكان الذي يوجدان فيه. وبناء عليه فلم يأخذ هذه التشريعات بفكرة مجلس العقد كما حدد المذهب الحنفي، ولم تأخذ بفكرة الفورية في القبول كما قال بها الشافعية، بل أخذت بفكرة الزمان والمكان في تحديد مجلس العقد، والتراخي في القبول ( ). فنصت المادة 94 من القانون المدني المصري، والمادة 94 من القانون الليبي، والمادة 95 من القانون السوري على أنه: "1- إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد دون أن يعين ميعاد للقبول فإن الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فورا، وكذلك الحال إذا صدر الإيجاب من شخص إلى آخر بطريق التليفون أو بأي طريق مماثل. 2- ومع ذلك يتم العقد ولو لم يصدر القبول فورا إذا لم يوجد ما يدل على أن الموجب قد عدل عن إيجابه في الفترة ما بين الإيجاب والقبول، وكان القبول قد صدر قبل أن ينفض مجلس العقد. وتنص المادة 82 من القانون العراقي على أنه: "المتعاقدان بالخيار بعد الإيجاب إلى آخر المجلس، فلو رجع الموجب بعد الإيجاب وقبل القبول، أو صدر من أحد المتعاقدين قول أو فعل يدل على الإعراض يبطل الإيجاب، ولا عبرة بالقبول الواقع بعد ذلك". وفي هذا المعنى نص المادة 183 لبناني، والمادة 27 تونس ( ). وسار القانون اليمني على منهج القانون المصري وبقية التشريعات العربية غير أنه زاد عليها أخذه بخيار المجلس؛ فاشترط اتحاد المجلس، ولم يستلزم فورية القبول، كما لم يعتبر مجلس العقد وحده مكانية كما قال الحنفية ( ). ويمكن القول بأن القانون اليمني يسير على منهج الحنابلة في تحديدهم لمجلس العقد وما يترتب عليه من آثار. المبحث الثاني خيار المجلس في العقد بين الغائبين 28- تمهيد: ما قدمناه كان لبيان مفهوم مجلس العقد بين متعاقدين حاضرين، ورأينا أن خيار المجلس يبدأ بعد العقد، أي بعد اقتران الإيجاب بالقبول، ويبقى ما دام العاقدان لم يتفرقا. ويثور السؤال حول مفهوم مجلس العقد بين الغائبين، وأثر ذلك على خيار المجلس؟ لبيان ذلك نحدد أولا مجلس العقد بين العاقدين الغائبين، ثم نبين أثر ذلك على خيار المجلس. المطلب الأول مجلس العقد في التعاقد بين غائبين 29- لا شك أن التعاقد بين الغائبين هو كالتعاقد بين الحاضرين في ضرورة مجلس العقد، ولكن مجلس العقد هنا يختلف عنه بين الحاضرين، ووجه الاختلاف: أن مجلس العقد في التعاقد بين الحاضرين هو محل صدور الإيجاب، ويجب أن يقترن به القبول في ذات المجلس، كما سبق. أما مجلس العقد بين الغائبين فهو محل بلوغ الإيجاب إلى المتعاقد الآخر، وفي الغالب أن يكون الإيجاب إما عن طريق رسول مرسل من الموجب وغير نائب عنه أو إرسال رسالة مكتوبة منه إلى المتعاقد الآخر، فإذا ما بلغ الرسول المتعاقد الآخر بإرادة الموجب، أو وصلت الرسالة المكتوبة إلى المتعاقد الآخر وفهم ما فيها، فإن مجلس العقد ينعقد في هاتين الحالتين، فإذا قال: قبلت في ذات المجلس انعقد العقد. وهذا الفرق اقتضته طبيعة التعاقد بين الغائبين، فالمتعاقد الآخر غائب عن المجلس الذي صدر فيه الإيجاب، فلابد من بلوغ الإيجاب إليه، وفي محل بلوغه يكون مجلس العقد ( ). والمعنى المتقدم هو ما تدل عليه عبارات الفقهاء: قال الكاساني الحنفي: "أما الرسالة فهي أن يرسل رسولا إلى رجل ويقول للرسول: إني بعت سلعتي هذا من فلان الغائب بكذا، فأذهب إليه وقل له: إن فلانا أرسلني إليك وقال لي: إني قد بعت سلعتي هذا من فلان بكذا، فذهب الرسول، وبلغ الرسالة فقال المشتري في مجلسه ذلك: قبلت، انعقد البيع، لأن الرسول سفير ومعبر عن كلام المرسل، ناقل كلامه إلى المرسل إليه، فكأنه حضر بنفسه فأوجب البيع، وقبل الآخر في المجلس، وأما الكتابة فهي أن يكتب الرجل: أما بعد: فقد بعت سلعتي منك بكذا، فبلغه الكتاب، فقال في مجلسه: اشتريت، لأن خطاب الغائب كتابه، فكأنه حضر بنفسه وخاطب بالإيجاب وقبل الآخر" ( ). وقال الخطيب الشربيني الشافعي: "ويشترط القبول من المكتوب إليه حال الإطلاع ليقترن بالإيجاب بقدر الإمكان، فإذا قبل فله الخيار ما دام في مجلس قبوله" ( ). وقال البهوتي الحنبلي: "وإن كاب المشتري غائبا عن المجلس، فكاتبه البائع أو راسله: إني بعت داري بكذا.. فلما بلغه أي المشتري الخبر قبل البيع صح العقد" ( ). وتصرح نصوص الفقهاء السابقة أن العقد يتم بقبول المشتري للإيجاب الصادر إليه من الموجب عن طريق رسوله أو كاتبه، لكن لم يأت في النصوص يوضح مدى ضرورة علم الموجب لقبول القابل لتمام ركن العقد وهو الصيغة، وهو ما افترضه الفقهاء في التعاقد بين الحاضرين، فقد استلزموا أن يفهم ( ) كلا منهما إرادة الآخر، وفهم الإرادة يتوقف على العلم بها. وعلى ذلك إذا صدر الإيجاب وفهمه القابل وقبل بناء عليه، فإنه يلزم أن يفهم الموجب قبول القابل، بمعنى أن يعلم به. فهل يلزم ذلك في التعاقد بين الغائبين؟ الواقع أن بحث هذا الأمر ليس من قبيل الترف، بل هو أمر ضروري لبيان تمام العقد الذي يترتب عليه بالتالي بداية خيار المجلس. في الواقع الذي يفهم من النصوص المتقدمة هو أن العقد يتم بمجرد إعلان القابل لقبوله، ولم تتعرض هذه النصوص للعلم به من جانب الموجب، وقد ذهب بعض الفقهاء المحدثين في تبرير ذلك، إلى أن الموجب أراد بتبليغ إيجابه للمتعاقد الآخر أن يعلم أن إيجابه بات ( ). والخلاصة: أن العقد بين الغائبين يتم بمجرد إعلان العاقد الموجه إليه الرسول أو الكتاب قبوله. 30 ـ موقف القانون المدني: آثار التعاقد بين الغائبين خلافا لدى فقهاء القانون المدني حول الوقت الذي يتم فيه انعقاد العقد، على أربعة آراء ( ): الأول: يرى أن العقد يتم بإعلان القبول، وأساس هذا الرأي: أن العقد توافق إرادتين، ومتى أعلن المتعاقد الآخر قبوله للإيجاب فقد توافقت الإرادتان وتم العقد ( ). الثاني: ويرى أن العقد يتم بتصدير القبول إلى الموجب عن طريق البريد، أو البرق، أو بإرسال رسول به. الثالث: ويرى أن العقد يتم بتسليم القبول، فإذا سلمه القابل، فإنه لا يملك استرداده. الرابع: ويرى أن العقد يتم في وقت علم الموجب بالقبول. وبهذا الرأي الأخير أخذ القانون المصري والليبي والعراقي، فقد نصت المادة 97 من القانون المصري على أنه: 1 ـ يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول، ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك. 2 ـ ويفترض أن الموجب قد علم بالقبول في المكان والزمان الذين وصل إليه فيهما هذا القبول. ونفس الحكم نصت عليه المادة 87 من القانون المدني العراقي. وأما القانون الليبي فقد نص في المادة 91 مدني على أن: "ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه". ويؤخذ مما سبق أن زمان ومكان العقد بين الغائبين يحدده اتفاق المتعاقدين، فإذا لم يوجد بينهما اتفاق على ذلك وهناك نص خاص في القانون يحدد ذلك وجب العمل به، فإذا لم يوجد اتفاق أو نص اعتبر العقد قد تم في الزمان والمكان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول، ويعتبر وصول القبول قرينة قانونية على العلم به ( ). وقد أخذ القانون المدني السوري بالرأي الأول، وقد اقتدى في ذلك بقانون الالتزامات اللبناني (م 184) والهدف من ذلك: كثرة المعاملات الجارية بين سوريا ولبنان، بحيث تقضي المصلحة بتوحيد النصوص التشريعية في هذا الموضوع بين البلدين لئلا يقع تنازع بين قانونيهما يؤدي إلى الإضرار بحقوق ذوي العلاقة" ( ). وعلى هذا جاء نص المادة 98 من القانون المدني السوري: "يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان والزمان اللذين صدر فيهما القبول، ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك". وسار في ذات الاتجاه القانون المدني اليمني والسعودي والتونسي ( ). وإذا كنا قد انتهينا إلى أن العقد يتم بمجرد إعلان القبول، في الفقه الإسلامي فإن هذه القوانين ( ) تكون متفقه معه في هذا الصدر. المطلب الثاني خيار المجلس في العقد بين غائبين 31 ـ تعرضنا فيما سبق إلى تحديد مجلس العقد في التعاقد بين الغائبين، وأنه المجلس الذي أعلن فيه وجه إليه الإيجاب قبوله له، وبناء عليه فإن خيار المجلس يبدأ من هذا الوقت. ويثور تساؤلات متعددة حول هذا الخيار لم تكن متصورة في التعاقدين حاضرين، هذه التساؤلات حول: إثبات خيار المجلس للموجب من عدمه، ووقت انتهاء هذا الخيار له، ووقت انتهائه بالنسبة للقابل، وهل هذا الخيار يمكن استنباطه من حديث: "المتبايعان بالخيار مل لم يتفرقا" أم أن الأمر مختلف، وينبغي قصر خيار المجلس على العقد الذي يتم بين الحاضرين فقط؟ لقد عالج الشافعية هذه التساؤلات، ونبحثها وفقا لما قالوه في البنود التالية. 32 ـ ثبوت خيار المجلس للموجب ووقته: ذهب الشافعية إلى ثبوت خيار المجلس للموجب الذي أرسل إيجابه عن طريق الكتابة أو إرسال رسول إلى القابل الذي لم يوجد معه في مجلسه، وأثبتوا له هذا الخيار بداية من وقت قبول العاقد الآخر للإيجاب بعد وصوله إليه، وينتهي بانتهاء مجلس القابل، وعلى هذا فمل يعتبر الشافعية للموجب مجلس يترتب عليه بداية الخيار، بل كل ماله هو خيار الرجوع قبل قبول القابل، وأما بعد قبول القابل فله خيار المجلس، والمقصود به مجلس القابل، حتى إن الخيار يمتد بامتداد مجلسه، وينتهي بانتهائه. وهذا هو ما يفهم من نصوصهم: قال العلاقة الخطيب الشربيني: "يشترط القبول من المكتوب إليه حال الاطلاع ليقترن بالإيجاب بقدر الإمكان، فإذا قبل فله الخيار ما دام في مجلس قبوله، ويثبت الخيار للكاتب ممتدا إلى أن ينقطع خيار صاحبه، حتى لو علم أنه رجع عن الإيجاب قبل مفارقة المكتوب إليه في مجلسه صح رجوعه ولم ينعقد؛ أي لم يستمر" ( ). وعلق على ذلك الشيخ جوبلي بن إبراهيم الشافعي فقال: قوله: "أي لم يستمر" جواب عما اعترض به البلقيني على عبارة الروضة، وهي "حتى لو علم... الخ" فقال: خيار الكاتب نوعان: خيار مقبول؛ على معنى أن له أن يرجع عن الإيجاب، وهذا ممتد إلى أن يقبله المكتوب إليه، والثاني: خيار المجلس، وهذا إنما يثبت بعد قبول المكتوب إليه، ويكون الثابت للبائع هنا الفسخ والرجوع عن الإيجاب. فقوله: "حتى لو علم.. الخ" ممنوع، بل انعقد ولا يصح رجوعه إذا كان بعد قبول المشتري، وإنما الذي يقال: ويصح رجوعه قبل قبول المكتوب إليه، وإذا قبل ثبت له خيار ( ) المجلس". وقال الشيخ العلامة قليوبي: "ويشترط قبوله ـ أي المكتوب إليه ـ فورا، وقت اطلاعه على لفظ البيع في الكتاب، لا قبله، وإن علم، ويمتد خياره دام في مجلس قبوله، ولا يعتبر للكاتب مجلس، ولو بعد قبول المكتوب إليه، بل يمتد خياره ما دام خيار المكتوب إليه" ( ). بالمعتبر بناء على هذه النصوص في خيار المجلس للموجب إنما هو بمجلس القابل، ويبدأ بعد قبوله ويمتد إلى انتهاء مجلس القابل. وقد فهم بعض الباحثين ( ) أن للشافعية رأيين: الأول: وفيه يكون للموجب الخيار بناء على مجلس القابل، وهو الرأي السابق ذكره. الثاني: تعدد المجلس أي أن القابل يثبت له خيار المجلس بعد قبوله، والموجب يثبت له خيار المجلس أي أن أيضا، لكن لا بناء على مجلس القابل، بل بناء على مجلسه هو، وهو المكان الذي يكون فيه عند وصول خطابه للموجب له، وهذا الفهم لا يتفق مع النصوص الفقهية المنقولة عن الشافعية، فلا يفهم منها إلا المعنى السابق تحديده بثبوت خيار المجلس للموجب بناء على تحديد مجلس الموجب له، ويبقى هذا الخيار ما دام خيار الموجب له قائما. 33 ـ الوقت الذي ينتهي فيه خيار الموجب له: تدل النصوص المنقولة سابقا على ثبوت خيار المجلس للموجب له، ويبدأ هذا الخيار بمجرد قبوله الإيجاب الصادر إليه عن طريق الكتابة، أو إرسال رسول، ولكن لا تحدد هذه النصوص الوقت الذي ينتهي فيه الخيار على نحو قاطع، بل اكتفت بالقول: "فإذا بل فله الخيار ما دام في مجلس قبوله" ( ) أو "ثبت الخيار للكاتب ممتدا إلى أن ينقطع خيار صاحبه" ( )، أو "يمتد خياره ما دام في مجلس قبوله" ( ) وهكذا لم تحدد هذه النصوص الوقت الذي ينتهي فيه الخيار، وبناء عليه يمكن القول بأنه يرجع في ذلك إلى الأمور التي ينتهي بها خيار المجلس على وجه العموم، والتي سيأتي ذكرها فيما بعد. 34 ـ مدى إمكان استنباط خيار المجلس في العقد بين غائبين من السنة: روى سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" وأثبت الفقهاء خيار المجلس منه، بناء على أن العاقدين يجمعها مجلس واحد، وينتهي هذا المجلس بتفرقهما، وفسر الفقهاء المثبتون لخيار المجلس التفرق بأنه تفرق بالأبدان، مما يلزم أن يكون العاقدان في مجلس واحد. فإذا ثبت تحديد مجلس العقد بأنه مجلس الموجب له لا يساعد على استنباط حكم خيار المجلس من الحديث الشريف، إذ الحديث يفترض أن المتعاقدين في مجلس واحد ثم يتفرقان بأبدانهما، والمتعاقدان هنا لم يجتمعا حتى نتصور تفرقهما، فهما متفرقان بالفعل. هذا بالإضافة إلى الصعوبات الكثيرة التي تفرض نفسها في القول بخيار المجلس في هذه الحالة، وبصفة خاصة في الوقت الذي يبدأ فيه الخيار والوقت الذي ينتهي به، وكيفية ممارسة الموجب لحقه في الخيار مع هذا؛ فكيف يمارس الموجب حقه في الخيار وهو لا يعلم على وجه الدقة الوقت الذي تم فيه قبول الموجب له، ولو علمه، فمن العسير معرفة الوقت الذي غادر فيه الموجب له مجلسه حتى يعلم أن حقه في الخيار قد انتهى، ومن ثم لا يمارسه أو أنه مازال باقيا فيمارسه، هذا بالإضافة إلى أن التعاقد بإرسال رسول أو خطاب لا يتم إلا بعد ترو وتدبر وتفكير قبل إرسال الإيجاب. لكل هذا نختار بأن يكون مجال إعمال الحديث الشريف في العقد الذي يتم بين حاضرين ( ) وهو ما تؤكده الرواية الأخرى للحديث؛ فقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا.." ( ). الفصل الثالث آثار خيار المجلس 35 ـ تمهيد وتقسيم: إذا انعقد العقد ترتب على ذلك ثبوت خيار المجلس، ومن ثم تترتب آثار هذا الخيار، وهذه الآثار منها ما يتصل بذات العقد، ومنها ما يتصل بالعاقدين، ومنها ما يتصل بالمدة التي يبقى فيها الخيار قائما. ونعرض لهذه الآثار في المباحث التالية: المبحث الأول أثر خيار المجلس على العقد 36 ـ تمهيد وتقسيم: سبق القول إن الأصل في العقد اللزوم، وإن الخيار بوجه عام، وخيار المجلس بوجه خاص عند القائلين به ـ أمر عارض يأتي على العقد فيفقده صفة اللزوم، وهذا هو أهم أثر لخيار المجلس على ذات العقد، لكن تثور عدة تساؤلات: فمن ناحية أولى هل هناك تعارض بين عدم لزوم العقد، والقوة الملزمة له، أو مبدأ سلطان الإرادة، فإذا انتهينا إلى القول بعدم لزوم العقد كأثر لخيار المجلس هل يدخل هذا الأثر كل العقود، وإذا حددنا العقود التي يدخلها خيار المجلس، فما مدى تأثر محل العقد بعدم لزومه في هذه الفترة، من ناحية: نقل الملكية، والضمان، والزيادات الحاصلة في مدة الخيار. لهذا نقسم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب؛ نبحث في الأول: فكرة عدم اللزوم، وفي الثاني: العقود التي يدخلها خيار المجلس، وفي الثالث: أثر خيار المجلس على محل العقد. المطلب الأول عدم لزوم العقد 37 ـ العقد اللازم وه الذي لا يحق لأحد طرفيه فسخه بإرادته المنفردة. وصفه اللزوم في العقد هي الأصل، والخيار أمر عارض على الأصل المقرر للعقد، ومن ثم يفقده هذه الصفة لمدة محدد ( )، يستطيع أي واحد من المتعاقدين فسخ العقد في هذه المدة بإرادته المنفردة، وهذا معنى عدم لزوم العقد. ويتحل هذا الأثر الأهمية الكبرى من آثار خيار المجلس، ذلك أنه يؤثر على الصفة الأساسية للعقد، فيفقده إياها. وإذا كانت العقود هي في مجملها استعمال إرادات، ينبغي أن تؤدي في النهاية إلى غاية محددة، هي ثمرة العقد، في انتقال ملكية كل من المبيع والثمن، فهل في أثر خيار المجلس ما يتعارض مع مبدأ سلطان الإرادة، المقرر قانونا؟ وإذا كان الأصل في العقود اللزوم، وأنه يمثل قوة لترتيب آثار العقد عليه في الحال، بما يترتب على ذلك من استقرار التعامل بين الناس، فهل في آثر خيار المجلس ما يتعارض أيضا مع هذه المعاني؟ لقد سبقت الإشارة إلى هذا الأمر، وأن أثر خيار المجلس في عدم لزوم العقد لا يتعارض مع مبدأ القوة الملزمة للعقد لأن القوة الملزمة للعقد تستمد من نص الشرع في قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ "، وإذا كان الله أمرنا بالوفاء بالعقد، بما يعني أنه ملزم، إلا أنه أباح لنا أيضا أن نختار فسخ العقد طالما كان المجلس قائما بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" فإذا كان الشرع هو الذي أوجب الوفاء، وأباح الفسخ فلا تعارض هنا بين القوة الملزمة للعقد، وخيار المجلس. وأما مبدأ سلطان الإرادة فإن خيار المجلس وما يترتب عليه هو استعمال للإرادة، كأثر لاستعمال الرخصة المقررة شرعا فهو متفق مع المبدأ، وليس متعارضا معه، ونضيف إلى ما سبق من أسباب على ذلك ( ) ما يأتي: 1 ـ أن مبدأ سلطان الإرادة يختلف في مضمونه الشرعي عن مضمونه القانوني؛ فإذا كان يعنى في مضمون القانون أن إرادة العاقدين لها أثرها الكبير في إنشاء العقد، وما يترتب عليه من آثار، فإن هذا المعنى ي الشريعة قاصر على الأمر الأول، ولا شأن لها بترتيب الآثار، فهي من فعل الشارع، والشارع قد أباح في بعض الحالات أن يختار العاقد عدم ترتيب هذه الثار. 2 ـ ذهب الشافعية في رأي عندهم ( )، والحنابلة في الصحيح ( ) إلى أنه يمكن للعاقدين أن يشترطا قبل التعاقد على عدم استعمال خيار المجلس، وهذا ما يؤكد مبدأ سلطان الإرادة. 3 ـ إذا لم يتم الاتفاق على هذا الشرط، كان باستطاعة أحد المتعاقدين إظهار التزامه وإلزام نفسه، وتفويض الأمر للعاقد الآخر تطبيقا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه اختر" ( ). 4 ـ إذا لم يحدث اتفاق على نفي خيار المجلس، أو التخاير بعد العقد، كان باستطاعة المتعاقدين أو أحدهما أن يتفرقا عن مجلس العقد، والتفرق في ذاته استعمال للإرادة ( )، وهكذا نرى أن خيار المجلس في مجمله استعمال إرادة بجعل الشرع، ومن ثم لا يتعارض مع مبدأ سلطان الإرادة بمفهومه الشرعي. المطلب الثاني العقود التي يدخلها خيار المجلس 38ـ الأثر المترتب على خيار المجلس ـ كما سبق ـ هو عدم لزوم العقد، فهل يلحق هذا الأثر أي عقد؟ لا شك أنه يرد على عقد من حيث الأصل هو لازم من الجانبين، حتى يفقده هذه الصفة، أما العقود التي هي ـ من حيث طبيعتها ـ غير لازمةـ سواء كان عدم اللزوم من جانب واحد أو من جانبين ـ، فلا يدخلها خار المجلس، فليس هناك من فائدة في تقريره، لأن فسخ هذه العقود جائز من كل الوجوه، أو في الجملة من غير حاجة إلى خيار مجلس أو غيره. وإذا كان خيار المجلس يدخل كل عقد لازم من الجانبين فيفقده صفة اللزوم إلا أن ذلك ليس على إطلاقه، فمن العقود اللازمة مالا يقبل الفسخ بطبيعته، ولهذا لا يقبل خيار المجلس ( ). وعلى هذا فخيار المجلس إنما يدخل في العقود اللازمة من الجانبين التي تقبل الفسخ. وقد كان الدليل المثبت لخيار المجلس واردا في عقد البيع، فالحق به الفقهاء ما كان في معناه من عقود المعارضات المحضة ( ). وقد وضع العلامة قليوبي والعلامة الجمل ضابط ما يدخل فيه خيار المجلس من العقود فقال: "يثبت خيار المجلس في كل معاوضة محضة واقعة على العين، لازمة من الجانبين، ليس فيها تملك قهري، ولا جارية مجرى الرخص" ( ). وتطبيقا لذلك كله: فإن خيار المجلس يثبت في عقد البيع المعروف، وما هو بيع وإن أخذ اسما آخر، كالصرف، والطعام بالطعام، والسلم، والتوليه، والتشريك ( ) فيما أشركه في ملكه بالنصف ونحوه بقسطه من ثمنه المعلوم ( )، وقسمة الرد. ولا يثبت خيار المجلس في العقود الآتية: الشركة، والقراض، والوكالة والوديعة، والعارية والجعالة، لأنهما عقود جائزة من الطرفين، والضمان، والكتابة، والرهن، لأنها عقود جائزة من جانب واحد، فهو بذلك متمكن من الفسخ متى شاء، والإبراء، والإقالة على أساس أنها فسخ، قال النووي: الإقالة فسخ على القول الصحيح الجديد، ( ) وإنما اعتبرناها بيعا يثبت فيها الخيار، وأما الحوالة فهي إما مستثناه من أنواع البيع، لعدم جريان المعارضة فيها على قواعد المعرضات، أو أنها غير مستثناه، ويكون المقصود فيما يدخله خيار المجلس من البيوع: بيوع الأعيان، والحوالة بيع دين بدين ( )، وكذلك لا يثبت خيار المجلس في عقود الوقف، والعتق، والقسمة إلا إن كان فيها رد، والنكاح، لأن هذه العقود لا تسمى بيعا، والحديث ورد في المتبايعين، والصداق على اعتبار أنه ليس عقدا، بل هو من مقتضيات عقد النكاح، وأنه ليس من قبيل المعاوضة، بل هو منحه من الشارع للمرأة ( )، والمساقاة، والمزارعة، والجعالة، والمسابقة إلحاقا لها بالإجارة في أنها بيع للمنافع، إن قلنا إنها عقود لازمة، وإن قلنا إنها جائزة ففيها الفسخ ومن ثم لا حاجة فيها إلى خيار المجلس، والوصية قبل الموت، والخلع على اعتبار أن البدل ليس عقدا، بل هو تابع للخلع، والكفالة، لأن كل هذه العقود والفسوخ ليست بيعا ولا في معنى البيع، وهذا باتفاق الفقهاء القائلين بخيار المجلس ( ). وقد اختلفوا في بعض العقود، فأثبت فيها بعضهم خيار المجلس ونفاه آخرون، بناء على اختلافهم في أن هذه العقود هل هي بيع أولا؟ فمن جعلها بيعا أثبت فيها خيار المجلس، ومن لم يجعلها بيعا نفى فيها خيار المجلس ( ). ونعرض لهذه العقود فيما يلي: 1 ـ عقد الإجارة: ذهب الشافعية في الأصح إلى أنه لا يثبت فيه خيار المجلس، وحجتهم في ذلك عقد غرر؛ إذ هو عقد على معدوم، والخيار غرر، فلا يضم غرر إلى غرر ( ). قال القفال وغيره: "محل الخلاف في إجارة العين، أما إجارة الذمة فيثبت فيها الخيار قطعا كالسلم" ( ). وذهب الخطيب الشريبني والعلامة قليوبي إلى أن المعتمد الإطلاق، ويفرق بينها وبين السلم بأنها لا تسمى بيع؛ كما أن الشأن في عقد الإجارة أن تتلف المنفعة فيه زمن الخيار، وعقد السلم ليس كذلك ( ). وذهب الحنابلة ومقابل الأصح عند الشافعية: إلى ثبوت خيار المجلس في عقد الإجارة سواء كانت إجارة على عين، أو كانت على نفع في الذمة، بناء على أن الإجارة بيع منافع، وإذا كانت بيعا دخلها خيار المجلس ( ). 2 ـ عقد الشفعة: ذهب الشافعية في الأصح والحنابلة إلى أن الشفعة لا يثبت فيها خيار المجلس، لأن الخيار يثبت فيما ملك بالاختيار، فلا معنى لإثباته فيما أخذ بالقهر والإجبار ( ). وذهب مقابل الأصح عند الشافعية، ورأى عند الحنابلة عبر عنه ابن قدامه بالاحتمال؛ فقال: ويحتمل أن يثبت للشفيع، ويرى أصحاب هذا الرأي ثبوت خيار المجلس للشفيع، لقبوله المبيع بثمنه، كالمشتري؛ فالأخذ بالشفعة على هذا يلحق بالمعاوضات ( ). 3 ـ العقد الذي تولى طرفيه شخص واحد: وذلك كأن يبيع الأب مال ابنه لنفسه، أو ماله لابنه. فذهب الشافعية إلى ثبوت خيار المجلس في هذا العقد، في الأصح ( )، لأن العاقد الواحد هنا قام مقام العاقدين، فإذا ثبت الخيار لهما، ثبت لمن قام مقامهما. وذهب الحنابلة ( )، ومقابل الأصح عند الشافعية ( ) إلى عدم ثبوت الخيار في هذا العقد، لصعوبة التفرق في هذه الحالة، فالعاقد وهو قائم مقام الاثنين لا يحصل منه تفرق، فهو لا يفارق نفسه. 2 ـ ويأخذ عقد الصداق ـ باعتباره عقدا مستقلا عن عقد النكاح، وليس باعتباره من مقتضاه، ويترتب على ذلك أنه لو فسخ وجب مهر المثل، ولا تأثير لهذا الفسخ على عقد النكاح، لأنه لا يحتمل الخيار، كما سبق وما يقال هنا، يقال في بدل الخلع، باعتباره عقدا مستقلا عن ذات الخلع، والمساقة، وهبة الثواب، وقسمة التراضي الأحكام السابقة، فمن جعل هذه العقود في معنى البيع أثبت فيها خيار المجلس، ومن لم يعتبر فيها هذا المعنى لم يثبت فيها هذا النوع من الخيار ( ). 39 ـ في القانون اليمني: بين القانون اليمني العقود التي يدخلها خيار المجلس، ومن ثم يفقدها خاصية اللزوم، وذلك في المادة 226؛ إذ نصت على أنه "يثبت خيار المجلس في كل عقد معارضة واقعة على عين لازمة من العاقدين، ليس فيها تملك قهري، ولا جارية مجرى الرخص" . وواضح من نص هذه المادة أنها مستمدة نصا من كلام فقهاء الشافعية في وضعهم الضابط الذي يحكم خيار المجلس في العقود. وجاء في المذكرة الإيضاحية لهذا القانون المقصود بهذه المادة، حيث قالت: "بينت ـ أي هذه المادة ـ العقود التي يثبت فيها خيار المجلس، وهي كل عقد معارضة فيخرج التبرع، واقعة على العين فيخرج العقود التي ترد على المنفعة، لازمة من الجانبين، فتخرج الشفعة، وغير جارية مجرى الرخص فتخرج الحوالة، فلا خيار فيها لأنها جائزة" ( ). وعلى هذا الأساس فإن العقود التي يدخلها المجلس ـ وفقا للقانون اليمني ـ يشترط فيها ما يلي: 1 ـ أن تكون من عقود المعاوضات. 2 ـ أن تكون لازمة من الجانبين. 3 ـ أن يرد العقد على عين لا على منفعة. 4 ـ أن يكون الملك فيها ثابتا بالاختيار لا بالإجبار. 5 ـ أن تكون بعيدة عن مواطن الرخص الشرعية. وبهذا يتضح أن القانون اليمني قد أخذ بالرأي الراجح عند الفقهاء الشافعية، والذي سبق توضيحه، وبصفة خاصة في العقود التي كانت محل خلاف. المطلب الثالث أثر خيار المجلس على محل العقد 40 ـ تمهيد: محل العقد في البيع هو الثمن والمثمن، ومقتضى لزوم العقد تملك البائع للثمن، وتملك المشتري للسلع، بما يترتب على من نقل صفة الضمان، ولحوق كسب المبيع وزوائده به، وإذا كان خيار المجلس يفقد العقد صفة اللزوم، فما أثر ذلك على الملك والضمان والزوائد الحادثة أثناء مدة الخيار. 41 ـ أثر خيار المجلس على الملك: إذا صدر عقد البيع وما في معناه، بإيجاب وقبول فهل يترتب على ذلك تملك المشتري للمبيع، وتملك البائع للثمن: اختلف الفقهاء القائلون بخيار المجلس ـ في ذلك على ثلاثة أقوال: الأول: وإليه ذهب الحنابلة في ظاهر المذهب ( ) ورأي مرجوح عند الشافعية ( ) والجعفرية ( ): وقالوا: إن الملك ينتقل في مدة الخيار، أي بعد تكوين العقد، ومن ثم لا يكون هناك أثر لخيار على انتقال الملك. وذكر ابن قدامه أدلة الحنابلة على هذا الرأي، فقال: ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من باع عبدا وله مال فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع "رواه مسلم ( )، وقوله: "من باع نخلا بعد أن تؤبر فثمرته للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع" متفق عليه ( ). فجعله للمبتاع بمجرد اشتراطه، وهو عام في كل بيع، ولأنه بيع صحيح فنقل الملك عقيبه، كالذي لا خيار فيه. ولأن البيع تمليك، بدليل قوله: ملكتك، فيثبت به الملك كسائر البيع، يحققه: أن التمليك يدل على نقل الملك إلى المشتري، ويقتضيه لفظه. والشرع قد اعتبره وقضى بصحته، فيجب أن يعتبره فيما يقتضيه ويدل عليه لفظه، وثبوت الخيار فيه لا ينافيه، كما لو باع عرضا بعرض، فوجد كل واحد منهما بما اشتراه عيبا" ( ). الثاني: وإليه ذهب الشافعية في رأي ثان عندهم ( )، والظاهرية ( )، وقالوا: إن الملك لا ينتقل في زمن الخيار؛ فيبقى المبيع على ملك البائع كما كان، ويبقى الثمن على ملك المشتري كما كان، ويتم النقل إما بالتخاير أو بالتفرق بالأبدان. واحتجوا بما رواه البخاري بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار" ( ). فهذا الحديث يدل على أن الملك لا ينتقل؛ حيث نفى لزوم عقد البيع قبل التفرق، لأن النفي لا يكون لحقيقة البيع، لأنها ثابتة بالاتفاق، فلا يبقى إلا أن يكون لآثار البيع، من انتقال ملك المبيع والثمن. الثالث: وإليه ذهب الشافعية في رأي ثالث عندهم، وهو الأظهر ( )، وذهبوا إلى أن انتقال الملك في زمن الخيار المجلس يكون موقوفا، فإن تخايرا أو تفرقا أصبح البيع تاما فينتقل الملك لكن من وقت العقد، وإذا لم يتم البيع ظهر أن ملك البائع للسلعة ما زال قائما، وملك المشتري للثمن كذلك. واستدل أصحاب هذا الرأي بمقتضى القواعد العامة في الخيارات في البيوع؛ فإنها تقضي أنه إذا كان الخيار للبائع وحده لم ينتقل الملك، لا في البيع، ولا في الثمن، وإذا كان الخيار للمشتري وحده انتقل الملك فيهما، ولما كان الخيار هنا للبائع والمشتري فمن مقتضاه عدم الانتقال في العوضين، نظرا لثبوته للبائع، وأيضا الانتقال في العوضين، نظرا لثبوته للمشتري، ولا يمكن الجمع بين هذين المعنيين فوجب التوقف إلى حين لزوم العقد. ونختار من بين هذه الأقوال: القول الثاني الذي يرى عدم ترتيب أي أثر إلا بعد لزوم العقد؛ إما بالتخاير، أو بالتفرق بالأبدان، وهو القول الثاني للشافعية ورأي الظاهرية، على أساس أن الخيار يفقد العقد صفة اللزوم، بما يترتب على ذلك حق كل من المتعاقدين في فسخ العقد بإرادته واختياره، ومن ثم يكون الأنسب أن تتراخى آثار العقد إلى حين انتهاء حالة عدم اللزوم.
|
|
Labza.Salem Admin
عدد المساهمات : 43954 نقاط : 136533 تاريخ التسجيل : 12/09/2014 العمر : 29 الموقع : سيدي عامر
| |