Labza.Salem Admin
عدد المساهمات : 43954 نقاط : 136533 تاريخ التسجيل : 12/09/2014 العمر : 29 الموقع : سيدي عامر
| موضوع: بحث عن العلوم الاجتماعية في الجامعة الجزائرية وسيادة منطق الإجترار الأربعاء 1 مارس - 17:14 | |
| بحث عن العلوم الاجتماعية في الجامعة الجزائرية وسيادة منطق الإجترار
بعض الموجز في تاريخ النظرية الاجتماعية
إننا نتساءل فعلا عن الأسس والمعايير التي قام عليها علم الاجتماع وعن تاريخية هذا العلم ومبررات نشوئه وما إذا استطاع مواكبة التغير وإلى أين انتهى. لذا فالمقالة تستهدف تقديم حصيلة موجزة عن تاريخية السوسيولوجيا العلم الذي اكتشفه العلامة العربي ابن خلدون في أواخر القرن الرابع عشر وأفصح عنه في مقدمته الشهيرة لكتاب العبر معرفا إياه بـ " العمران البشري "، والذي ظل طي النسيان لنحو خمسة قرون متواصلة إلى ما بعد الثورة الفرنسية 1789 حين أعلن عن تأسيسه والحاجة إليه أحد رواد عصر التقدم في أوروبا وتحديدا في فرنسا ليعود ابن خلدون بطلا في غير موطنه وزمانه. مولد السوسيولوجيا بداية فتيار المدرسة النظرية في علم الاجتماع لا يتوقف عند التاريخ القديم كثيرا ولا حتى عند التاريخ الأوروبي الحديث حينما يتعلق الأمر في علم الاجتماع إلا فيما يتصل منه بالتأريخ لتطور الفكر الاجتماعي والعلمي. وغالبا ما يؤرخ للنظرية ابتداء من المدرسة الوضعية التي دشن انطلاقتها العالمان الفرنسيان سان سيمون وأوجست كونت. وتعتقد هذه المدرسة أن فلسفة المجتمع ونموه وتطوره والظواهر المصاحبة أو المنبثقة عنه لا يمكن التعرف عليها إلا في ضوء التقنيات والوسائل المنهجية الصارمة التي وفرتها السوسيولوجيا تأسيسا على معطيات المنظومة المعرفية للفكر الوضعي ذاته. ففي ضوء اكتشافه لقانون الحالات الثلاث الذي مرت به البشرية أمكن لأوجست كونت أن يكتشف الحاجة الماسة ويؤسس لعلم يدرس الحياة الاجتماعية والإنسانية على أسس ومعايير عقلانية ليس للغيبيات أي حظ فيها. فالمعروف أنه قبل انطلاقة الثورة الفرنسية سنة 1789 لم يكن العلم والتعلم متاحا إلا لنفر يسير جدا من الناس هم في الغالب من طبقة الأسياد التي تحالفت تاريخيا مع الكنيسة والحكم في ظل مجتمع إقطاعي يتمتع بأطر معرفية غيبية ولا يحتل الإنسان فيه أية مكانة، وبعد انتصار الثورة وتحرر الإنسان والعقل الإنساني من الماورائيات أخذ أوجست كونت على عاتقه بناء شجرة العلوم أو بمعنى آخر حصر ما يتوفر من العلوم التي كانت شائعة سرا أو علانية حتى ذلك الحين فماذا وجد؟ وجد أن العلوم الكائنة فعليا لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة وهي الفيزياء والرياضيات والكيمياء والأحياء والفلك وكلها علوم صحيحة تقتصر الحاجة إليها على تفسير الظواهر الطبيعية، ومن الجلي أن أيا منها ليس بمقدوره تفسير الظواهر الإنسانية والاجتماعية، وأن أيا منها لم يعد له الحق في التطفل على ظواهر لم تعد تخصه. هذا هو السبب الجوهري والحاسم في ظهور علم الاجتماع. وحقيقة فالذي فعله أوجست كونت هو بلورة ما شعر به أستاذه سان سيمون من حاجة ماسة لعلم يدرس الإنسان والمجتمع فوضع عبارة " الفيزياء الاجتماعية " لتلبي الغرض بيد أنه لم يكمل ما بدأه فما كان من أوجست كونت إلا تحوير العبارة إلى لفظة " السوسيولوجيا " والتي باتت تعني علم الاجتماع الذي نعرفه اليوم. ولكن منذ ذلك الحين ، كيف جرى تعريف المجتمع والتعامل مع متغيراته؟ من الملفت للانتباه أن يعنى كونت بتعريف الظاهرة الطبيعية فيما يتجاهل الظاهرة الاجتماعية بالرغم من أن لفظة السوسيولوجيا كعلم بوأها كونت قمة الشجرة المعرفية، ولكن المسألة ليست عبثية فالمجتمع هو كل الأفراد الأحياء منهم والأموات والتاريخ وإجمالي الذاكرة الاجتماعية، إنه فوق كل الإرادات لأنه كائن في الطبيعة وبالتالي فهو جزء منها وكل ما في الأمر هو الكشف عن القوانين الاجتماعية المماثلة لقوانين الظاهرة الطبيعية التي تفسر المجتمع أو الظاهرة الاجتماعية. إنها المقدمة الأبلغ أهمية في الفكر الوضعي وهو يحاول ، متأثرا، محاكاة القوانين في العلوم الطبيعية. ولعل الزعم بوجود قوانين كامنة في الطبيعة تفسر الظواهر الاجتماعية لم ينته بتحول كونت إلى فيلسوف في أواخر حياته مما عرض السوسيولوجيا لخصومة تاريخية ولضربات عنيفة وجهتها المدرسة النفسية الفرنسية بزعامة جابرييل تارد والتي نفت حتى الرمق الأخير وجود مفاهيم كالمجتمع أو الظاهرة الاجتماعية وأكدت بإصرار غير مسبوق على علمية الظاهرة النفسية والتي باستطاعة علم النفس فقط تفسيرها.غير أن الرد كان حاسما من قبل إيميل دوركايم وأنصاره في إكمال مسيرة أوجست كونت، فقد تجذرت الوضعية على نحو غير مسبوق بل أنها وصفت بالوضعية الصحيحة بالنظر إلى دقة البحوث العلمية التي أنجزها على الخصوص دوركايم وتضمنت بحثه الشهير عن " قواعد المنهج في علم الاجتماع " والذي ضبط فيه مصطلحات العلم الجديد وقواعده. أما بحثه عن " الانتحار" فكان إسهاما مميزا في تاريخ العلم الحديث باعتباره الأول الذي يعتمد بصرامة فائقة تقنيات الإحصاء والمنهج التجريبي في البحث العلمي، فضلا عن أنه مثل ضربة موجعة للمدرسة النفسية كونه انطلق من ظاهرة الانتحار التي هي في الأساس ومنطق المدرسة النفسية ظاهرة فردية لينتهي بقوانين اجتماعية تفسرها وليس بقوانين نفسية فما كان من جابرييل تارد إلا أن خسر الحرب وقرر الفرار إلى الولايات المتحدة التي كانت تعاني في القرن19 من مشكلات نفسية عويصة بسبب الهجرة وصعوبات التكيف النفسي والاندماج في العالم الجديد فاستقبل هناك استقبال الأبطال نظرا للحاجة الماسة لأمثاله. ومن جهتها ودونما تواصل لم تكن السوسيولوجيا الألمانية التي تزعمها على الخصوص فرديناند تونيز وجورج زيميل صاحب النظرية الشكلية وتلميذه الفذ ماكس فيبر صاحب النظرية التفهمية( الفهم والتفسير) ومبدع تقنية النموذج المثالي الفريدة من نوعها في الدراسات الاجتماعية لتقل أهمية عن نظيرتها الفرنسية وهي تشق بثبات طريقا وعرا في عالم السوسيولوجيا. هذه السوسيولوجيا انطلقت من الفعل الاجتماعي وليس من المجتمع كما فعلت المدرسة الفرنسية فركزت على الفاعلين بوصفهم صناع الظاهرة الاجتماعية. وقدم فيبر دراسات جليلة لظواهر إنسانية واجتماعية توقع هو بالذات دون أن تخيب ظنونه أن تغزو العالم في السنوات القادمة كظاهرة البيروقراطية على الخصوص وظواهر الرأسمالية والقيادة والدين لاسيما ما يتعلق بسوسيولوجيا العمل وقدسيته عند الطائفة البروتستانتية. أما لدى كارل ماركس فالسوسيولوجيا عنده بدت وكأنها تعكس حقيقة حياته البائسة، فقد عاش فقيرا ومات كذلك فانطلقت أفكاره من المجتمع الرأسمالي لتقدم الإنسانية وهي في حالة صراع أزلي بين طبقات مهيمنة وأخرى مهيمن عليها حتى أنه وصف الصراع الطبقي بالقوة المحركة للتاريخ، وأن المجتمع الرأسمالي الذي يشكو من تناقضات داخلية بسبب غياب التوزيع العادل للثروة والموارد سينفجر مخلفا وراءه المجتمع الاشتراكي الذي يتساوى فيه الجميع. ومما يسجله التاريخ الإنساني بطرافة فائقة أنه ما من نظرية أثرت على البشرية في تاريخها كما فعلت النظرية الماركسية التي اعتنقها نحو ثلثي سكان المعمورة. وفي واقع الأمر فالماركسية كانت يأسا وردا على الظلم الذي تعرضت له البشرية من الأنظمة الإقطاعية والرأسمالية على السواء، فما كاد الفرد يتخلص من عبودية الإقطاع حتى تلقفته عبودية الرأسمال، لذا ليس غريبا أن يصف المفكر التونسي عبد الوهاب بوحديبة ماركس بأنه ليس سوى مناضل نقابي أدرك معاناته ومعاناة العمال والفلاحين على السواء. مشروعية النقد وانطلاقة جديدة لعل أغلب النظريات التقليدية في العلوم الاجتماعية والإنسانية انتمت بشكل أو بآخر إلى تيار المدرسة الوضعية التي ما انفكت تحاكي العلوم الطبيعية وتجهد في البحث عن قوانين في الطبيعة تفسر الظواهر الاجتماعية تعرضت بالنهاية، دون أن يمس ذلك من قيمتها، إلى نقد شديد قاده الفيلسوف كارل بوبر ضد أولئك الذين يجهدون في العمل على تقنين علم الاجتماع وحشره ضمن منظومات معرفية تستجيب للأطروحة الدوركيمية دون أن يأخذوا بالاعتبار خلفيات التشدد الدوركايمي في إصراره على أن " الاجتماعي لا يفسر إلا بالاجتماعي"، هذه العبارة التي أطلقها دوركايم والتزم بها خشية على علم الاجتماع من الأخطار التي تتهدد وجوده. وحث بوبر بجلاء على الحاجة إلى التنوع مؤكدا في الوقت ذاته استحالة وجود نظرية واحدة شاملة بمقدورها التصدي منفردة للمجتمعات والظواهر الاجتماعية أو الانتظار ريثما يقع اكتشاف هذا القانون أو ذاك، فالمجتمعات تتغير وتتبدل وكذالك الظواهر، فإذا كان المجتمع ظاهرة نمطية فهو حتما ظاهرة تخضع لنواميس التغير ومن الأجدى أن تتنوع وتتعدد النظريات الاجتماعية لتستجيب للتطورات لا أن تظل حبيسة رؤى قديمة. ومع ذلك فقد ظلت النظرية الوظيفية مهيمنة على ساحات علم الاجتماع الأمريكي حتى أواخر السبعينات، وهي النظرية التي اختصت في البحث ليس في المجتمع وظواهره بل في حالته ووظائف الظواهر والبنى المكونة له. وتسبب النقد الذي تعرضت له السوسيولوجيا الأمريكية بحرج شديد لعلماء الاجتماع الأمريكيين. ولم تبدأ بواكير التغير تطل إلا من خلال محاولة لويس كوزر الذي وضع اللبنة الأولى لنظرية جديدة هي نظرية الصراع الاجتماعي لاسيما وأن الوظيفية بدأت تحيد عن النسق البارسونزي التقليدي الذي لا يرى في المجتمعات إلا أنساقا متوازنة ومستقرة حين جاء روبرت ميرتون في منتصف الخمسينات من القرن20 وأدخل مفهوم الاختلال الوظيفي إلى النظرية داعيا إلى وظيفية إمبريقية جديدة تلتزم التجريب واختبار المفاهيم قبل تعميمها. وهكذا باتت الطريق ممهدة لعالم الاجتماع الألماني الأصل رالف داهرندوف كي يقدم نظريته في الصراع الاجتماعي في الولايات المتحدة ليس على خلفية الرؤية الماركسية ذات النزعة المادية- الاقتصادية الأحادية في تفسير الظواهر والصراع الاجتماعي بل إضافة لذلك أهمية إدخال العنصر البشري في إدارة الصراع على السلطة والموارد والقيم معا كمكون أساس في النظرية إلى جانب الاقتصاد، ومع ذلك فقد فشلت فرصة بناء نظرية كبرى للصراع بسبب عدم الاستفادة الكافية من التراث الماركسي المجهول بالنسبة لعلماء الاجتماع الأميركيين آنذاك والذين ظلوا أيضا متمسكين إلى حد بعيد بالنظرية الوظيفية وبالنظريات الأنثروبولوجية. وأخيرا خروج علم الاجتماع الأمريكي من عنق الزجاجة بفعل جهود الكثير من العلماء وأشهرهم رايت ميلز في نظريته عن المخيال الاجتماعي وجورج هربرت ميد وتشارلز كولي في نظرية التفاعل الرمزي التي تنطلق من اللغة كعامل حاسم في تكون المجتمعات وتحقيق التفاهم الإنساني. هكذا إذن ازدهر علم الاجتماع في أعقاب النقد التاريخي وتغيرت الرؤى وظهرت نظريات جديدة ومختلفة عن سابقاتها، وبات من الممكن الحديث عن علم اجتماع حديث، فمع ظهور التنظيمات الصناعية والإدارية الكبرى نشطت الأبحاث المتعلقة بعلم اجتماع العمل في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال نشاطات روبرت تايلور وفريدريك مايور ثم فيما بعد ولد علم اجتماع التنظيمات على يد ميشيل كروزيه وبات من الممكن رؤية المجتمع من خلال هذه التنظيمات، والأهم من ذلك أن هذه الأبحاث، خاصة بعد الثورة الصناعية في منتصف القرن20، مهدت الطريق واسعا أمام تيارات عريضة تتناول المجتمعات الإنسانية برمتها المتقدمة والمتخلفة منها على السواء من خلال أعمال اثنين من العلماء أسسا ما يعرف حاليا بعلم الاجتماع الدينامي أو علم الاجتماع المستمر الذي يتعامل مع المجتمع باعتباره في حالة تغير وتبدل مستمرين. فعلى خلفية السياسة الدولية النازعة نحو تصفية الاستعمار بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية نشط جورج بالاندييه في دراسة المستعمرات السابقة في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا مقدما أول نقد صارم للأطروحات الاستعمارية التي روجها الإثنولوجيون والأنثروبولوجيون ومفادها أن هذه المجتمعات فارغة أو بلا تاريخ لتشريع العمليات الكولونيالية فيها بدعوى التمدن والتحضر. ولاحظ بالاندييه أن لهذه المجتمعات تاريخية قبل الاستعمار وبعده وأنها في حراك دائم وليس صحيحا أنها مجتمعات جامدة أو ساكنة لا حراك فيها. كانت أطروحات بالاندييه بلا شك مدخلا لنظرية أوسع نطاقا وأشد فاعلية قادها ألن تورين وفريقه مستفيدا من خبرته في أمريكا واطلاعه على أعمال مايور وتايلور في علم اجتماع العمل حيث لاحظ مجتمعا جديدا هو المجتمع الصناعي المبرمج والمنظم وأن تقدمه منوط باختياراته الذاتية، والأهم من ذلك قدرتألن تورين على تعميم نظريته على جميع المجتمعات المتقدمة والمتأخرة، فكل مجتمع هو وليد تاريخية معينة من اختياره ولم يعد ممكنا الحديث في ظل التطور العلمي والتكنولوجي وانفجار المعلومات الحديث عن مجتمع قيمي أو أيديولوجي أو اشتراكي أو وضعي بل عن مجتمع مسؤول مسؤولية مباشرة عن أفعاله واختياراته من خلال نسق عمل تاريخي محدد. فكان مفهوم التاريخية ومنظومة العمل التاريخي أقوى ما أبدعه ألن تورين من مفاهيم وفي ضوئهما نشطت أبحاثه حول الحركات الاجتماعية المفهوم الأكثر رواجا في علم الاجتماع الدينامي. لم يتوقف علم الاجتماع عند هذا الحد من تصديه للظواهر الكلية والجزئية وتفحص المجتمع من شتى نواحيه بل أن الفرد نفسه بات معنيا بتشكيل الظاهرة الاجتماعية وصناعتها بوعي أو بدون وعي. فلما غدت الحرية الفردية والخصوصية والاستقلالية أو الأنَوِيَّة إحدى مميزات المجتمعات المنظمة سارع ريمون بودن عالم الاجتماع الفرنسي إلى اقتراح نظرية جديدة في علم الاجتماع تعرف بـ" الفردوية المنهجية " والتي ترى في الظاهرة الاجتماعية مجموع سلوكات الأفراد ليس إلا. ولعمري أن هذه النظرية سيكون لها شأن عظيم فيم سيعرف فيما بعد بعلم الاجتماع الرقمي. وفي صياغته الجديدة للنظرية البنيوية أو ما يعرف بما بعد البنيوية استفاد بيير بورديو من تراث كلود ليفي شتراوس وخاصة بحثه الشهير عن" البنى الأولية للقرابة 1949" الذي أظهر فيه البنى الاجتماعية في المجتمعات البدائية وهي تعج بالحراك على نحو مخالف للمألوف وكذلك من النظرية الماركسية ليبدع مفاهيم جديدة في علم الاجتماع قادرة على قراءة التمييز الاجتماعي في أعمق صوره مستعملا مفهوم "الرأسمال الرمزي" أي الرأسمال الثقافي الذي يبدو أشد وطأة من الرأسمال الاقتصادي في ترسيخ الفوارق الطبقية في المجتمع وتشريعها، فـ"الهابيتوس" هو ذلك المفهوم السحري عند بورديو والذي يشرِّع كل التمايزات الاجتماعية التي يقبل بها الفرد بتلقائية باعتباره يمثل إجمالي القواعد المولدة للممارسات والسلوك الفردي والاجتماعي. إذ يبدو ظاهريا أن الطالب الفقير والطالب الغني يتمتعان وفق القوانين والمعايير الاجتماعية بحظوظ متساوية في التعليم والنجاح في الامتحانات على قاعدة أن الجميع متساوون أمام الامتحان ، ولكن لو استعملنا الرأسمال الثقافي كمعيار سنجد أن الطالب الغني يتفوق على نظيره الفقير في نفس المدرسة بالرصيد اللغوي والموضوعي الذي يأتي محملا به من الطبقة التي ينتمي إليها. ومن الواضح أن الرصيد الثقافي لكل منهما يميل لصالح الغني، والهابيتوس وحده هو التقنية التي تفسر هذا التمايز غير العادل وقبول كلا منهما بهذه النتيجة لأن الفرد والمجتمع يعملان بموجب نسق من الاستعدادات المكتسبة غير المتنبه إليها أو المشعور بخطورتها كما يرى بورديو. إنه حقا لمن الصعب الإحاطة بالتطورات الدقيقة للنظرية الاجتماعية وبروادها، ولكن لو أن النظرية جمدت عند حدود فلسفة التيار الوضعي التقليدي لما أمكن لها أن تتقدم قيد أنملة، وفي أيامنا هذه فالتغيرات الاجتماعية العاصفة في العالم أجمع لاسيما في ضوء العولمة ومنتجاتها من التقنية المعلوماتية الهائلة سيواجه علم الاجتماع تحديا غير مسبوق لعل النظريات السابق ذكرها ستنهار إن لم تكن قد انهارت فعلا. فالمجتمع الذي نعيش ليس هو مجتمع بدائي ولا ريفي ولا صناعي ولا تكنولوجي ولا خدمي ولا ندري إن صحت التسمية المتداولة الآن بأنه مجتمع المعلومات، ولكنه في كل الأحوال هو المجتمع الذي يشهد تغيرات في الدقيقة وليس في الحقب أو السنوات، إنه مجتمع سريع التطور والتغير والتبدل، مجتمع ظواهره أسرع من قدرتنا على التخيل أو التصدي لها ونمط الحياة فيه سريع بسرعة البرق ولا ندري كيف يتأتى للنظرية الاجتماعية أن تنولد بهذه السرعة من التغير، ولو كان بمقدورنا أن نصف على الأقل نمط الحياة الذي نعيش لما استطعنا أن نفعل أكثر مما فعل ابن خلدون ويا ليته بيننا ليفسر لنا ما يقصد حين يقول: "إذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة، وعالم محدث". فماذا بقي من المجتمع؟ أو الحياة الاجتماعية التي ألفناها؟ بعد هذا القول لابن خلدون؟ إشكالية المنهج في العلوم الاجتماعية الواقع أن الحديث عن إشكالية المنهج في العلوم الإنسانية ليس شائعاً في الكتابات العربية ، لكنة له تاريخ طويل في الفكر الأوروبي حيث عاش المجتمع هذه الإشكالية منذ العصور المظلمة (عصر محاربة الكنيسة للعلم )إلى أن تمكن العلم بمناهجه وتجاربه من إن يثبت جدارته وصدقة ويتغلب بذلك علي الافكاراللاهوتية و الميتافيزيقية التي جعلت من أوروبا تعيش زمناً طويلاً من الجهل والظلام ،أن الإنسان بما وهبة الله من عقل وفكر قادر على التفكير بطريقة علمية مكنته من أن يصنع ويخترع ويخطط من خلال مايستخدم من مناهج تساعده في ذلك (المنهج الكيفية المتمثلة في المنهج الهرمنوطيقي )والمنهج العلمي التجريبي ،وقد ظهرت المدرسة الوضعية(العلمية) على يد أوجست كونت الذي نادي بوحدانية المنهج بمعني دراسة الظواهر الإنسانية مثل دراسة الظواهر الطبيعية(ومن هنا ظهرت أول شرارة للحرب بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وبين المناهج الوضعية التجريبية والمناهج الكيفية ) وقبل ذلك كانت الإشكالية المنهجية –عند المفكرين السابقين –حيث كان ديكارت يرى أن أسس المنهج تكون عقلية ،وعلى النقيض منة يرى بيكون أن أسس المنهج يجب أن تكون تجريبية ، وبعد ما طرح كونت تلميذة زادة إشكالية المناهج في العلوم الإنسانية وأصبح لدينا فريقين من العلماء والمفكرين فريق يرى أن العلوم الإنسانية يمكن دراستها بالمناهج التي تدرس بها العلوم الطبيعية (المناهج التجريبية ) وفريق على النقيض من ذلك يرون أن المناهج المستخدمة في العلوم الطبيعية غير صالحة لكي تستخدم مع الظواهر الإنسانية وذلك نظراً لاختلاف الظواهر الطبيعية عن الإنسانية-العلوم الطبيعية تدرس العالم الخارجي والعلوم الإنسانية تدرس العالم الداخلي – حيث ظهرت العديد من الاتجاهات التي نادت برفض الوضعية وتبني الاتجاهات العقلية في دراسة الظواهر الإنسانية وظهرت في كتابات العلماء (دلتاي –هوسرل –فندلباند –وريكرت ) وظهرت العديد من المناهج في هذا المجال مثل المنهج الظاهراتي والهرمنوطيقي والمنهج الابستمولوجي (منهج علم اجتماع المعرفة) والمنهج النقدي الذي ظهر على يد علماء مدرسة فرنكفورت ، وظهرت العديد من الانتقادات الموجهة للمدرسة الوضعية منها مايلى (أنها اختزلت العلم إلي مجرد علم للوقائع –وإنها نفت الأسئلة المتعلقة بالإنسان من قاموسها فهي تشيء الإنسان وتموضعه وتجرده من إنسانيته –كما أنها تحاول تجريد الإنسان من انسانيتة ،) وسوف أقدم أهم الانتقادات الموجهة للمدرسة الوضعية في ثلاثة نقاط رئيسه : أولاً :موضوع تاريخ العلم :فهي تغيب البعد التاريخي وترفض الجدل فيه ، فهي تميل الى النظر سكونياً إلي النظرية العلمية ،بمعني أنها لاتراها بوصفها عضوية تاريخية متنامية كماً وكيفاً،فهي لاتسأل نفسها كيف تنشأ النظرية العلمية وتزدهر وربما كيف تضمر وتنتهي 0 ثانياً:المنهج العلمي :اختزال المنهجية العلمية ألي عمليتي الاستقراء والاستنتاج ، وبذلك فإنها تعجز عن فهم النظرية العلمية وضرورتها في أنتاج المعرفة ، كما أنها تغفل بعداً من إبعاد المنهج العلمي وهو التركيب النظري الذي يحكمه المنطق الجدلي والذي يبدأ بالنظرية وينتهي بها فلا سبيل الي فهم تطور المعرفة العملية بدونه 0وبالطبع فأن غيابة في المنهج الوضعي ليس عرضياُ وإنما يرتبط أساسا مفهومي الجدل والتاريخ في هذا المنهج 0 ثالثاً:المفهوم النقدي للعلم :تغفل الوضعية نقد الفكر ونقد الواقع 0 ثم توالت الانتقادات بين رواد المناهج التجريبية والكمية :حيث قام السير بيتر مدور بنقد المنهج الاستقرائي في محاضرة بعنوان (الاستقراء والحدس في البحث العلمي ) ألقاها في جامعه بن سلفانيا الأمريكية0 ثم جاء زولتان تار وكتب كتاب بعنوان (النظرية الاجتماعية ونقد المجتمع ) حيث أشار فيه الي ان نقد الوضعية على يد الفلسفة الألمانية المضادة يلبس قناعاً باعتبار ان هذه النظرية تعتبر في الحقيقة نقد للمجتمع الرأسمالي البرجوازي 0
الجزء الثاني في إشكالية المنهجية في العلوم الاجتماعية : هي مسألة الموضوعية والقيم في العلوم الاجتماعية ، وهل الموضوعية موجودة في العلوم الاجتماعية بقدر وجودها في العلوم الطبيعية ؟ حيث حظيت هذه المسألة بالدراسة والتحليل لدي العديد من العلماء ومنهم : 1-ماكس فيبر في كتابة (دراسات في نظرية العلم )حيث ميز بين الأحكام القيمية والمعرفة التجريبية ، والعلاقة بين العلوم الاجتماعية والطبيعية 0 2- دلتاي حيث فرق بين المنهج في العلوم الطبيعية فهو يفسر سبباً ،بينما يفهم ويؤل في العلوم العقلية 0 3-اميل دور كايهم في كتابة (قواعد المنهج في علم الاجتماع ) حيث قال بأنة يجب على عالم الاجتماع ان يتحرر من افكارة السابقة بمعني فصل الايدولوجيا عن العلم 0 4-جون غلتونغ في كتابة (المنهجية والايدولوجيا ) حيث يرى إن الخيار المنهجي هو خيار إيديولوجي 0 نصل الي حقيقة مؤداها أن الموضوعية القائمة في العلوم الطبيعية من المتعذر تحقيقها في العلوم الإنسانية ،فا الظواهر الإنسانية تختلف عن الظواهر الطبيعية ؛ فالظواهر الإنسانية تتميز بتعقد وتنوع الاسباب المؤدية لظهورها وسرعة تغيرها وصعوبة تكميمها ، وصعوبة عزل الباحث عن المجتمع فهو جزء من المجتمع ولابد أن يتأثر بالظواهر الموجودة فيه0 انة من المتعذر تحقيق الموضوعية والتخلص من الذاتية في الدراسات الاجتماعية ولذلك تعددت النظريات الاجتماعية اكثر من سواها حيث اصبحت خليطاً من من الفلسفة والايديولوجيا والقيم الحضارية بل والاهداف المعيارية وتصورات الحياة اليومية وأحكام الحس المشترك 0 ومن خلال ذلك نشأت خلافات حادة بين علماء الاجتماع شخصها رايت ملز بأنها تتعلق بأنها تتعلق بماهية انواع التفكير – وماهية أنواع الملاحظة –وماهية أنواع الروابط بين الاثنين التفكير والملاحظة 0حيث يري ملز أن المشكلة تكمن في العلاقة بين التفكير والملاحظة أو بين المنهج الكيفي والكمي ،وهذا مايؤكد علية عالم الاجتماع الألماني سيغفريد لمنك في كتابة (البحث الاجتماعي الكيفي ) حيث ذكر الخلافات بين المنهج الكيفي والكمي التفسير مقابل الفهم –والعلاقة القانونية مقابل العلاقة التاريخية –اختبار النظريات مقابل تطويرها – الانغلاق مقابل الانفتاح – الاستقراء مقابل الاستنباط –الموضوعية مقابل لذاتية –الجزئية مقابل الكلية – المنهج الصارم الجامد مقابل النهج المرن 0 والخلاف بين المنهجين يكمن في القدرات التفسيرية والوظائف المعرفية لكلا المنهجين 0 وأخيرا وليس أخراً نقول أن إشكالية المناهج ضرورة معرفية ففي كل زمان ترتبط المعرفة العلمية بمستوي المناهج المطبقة ،ذلك أن المعرفة المستقبلية تتعلق بتطور مناهج اليوم
العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والاجتماعية هل هناك ضرورة نظرية لتخطي الماركسية؟ هشام عمر النور تناولت في مقاليَّ السابقين التحولات التي حدثت في نموذج العلوم الطبيعية وأثرها على فلسفة العلوم الطبيعية، باعتبارها واحدة من أهم تراكمات المعرفة الإنسانية التي تستوجب تخطي الأساس النظري والمعرفي للماركسية. وابتداءً من هذا المقال سأتناول التحولات التي حدثت في نموذج العلوم الاجتماعية، وتلك التي حدثت في نموذج العلوم الإنسانية التي تصب -كما أزعم- في اتجاه تعزيز أساس نظري للمعرفة الإنسانية يقوم على الاختلاف والتعدد. وبالتالي يتجاوز الأساس النظري للماركسية القائم على فلسفة الهوية ونظرية التطابق في الحقيقة مما وسمها بمنطق ثنائي جعلها تتصف بالدوغمائية. ولكن لنبدأ أولاً بالعلاقة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والاجتماعية. منذ أن نشأت العلوم الطبيعية بالمعنى الحديث والمعاصر -أي منذ انقسام العلم الطبيعي ونشأة فروعه المختلفة- في منتصف القرن التاسع عشر، سادت وجهة نظر ترى أن جوهر المعرفة الإنسانية واحد، ولذلك يجب أن يسودها منهج واحد. وطالما أن العلم الطبيعي قد حقق نتائج باهرة تتمتع بالدقة واليقين والبداهة، نتائج غيَّرت الحياة الإنسانية تغييراً جذرياً وفتحت لها آفاق التقدم والتطور، مما يشكل دليلاً قاطعاً على صحتها وحقيقتها، فإن منهج هذا العلم الطبيعي يجب أن يكون المنهج السائد في كل المعرفة الإنسانية. بل إن هنالك تياراً فلسفياً في النصف الأول من القرن العشرين ذهب إلى أن العلم وحده هو المعرفة الحقيقية، مؤسساً بذلك لما سماه هابرماس نقدياً بالعلموية scientism. هذا التيار هو الوضعية المنطقية، التي رأت أن القضية ذات المعنى هي القضية التي يمكن التحقق منها. وأية قضية أخرى لا يمكن التحقق منها هي محض لغو فارغ يعبِّر في أحسن أحواله عن العاطفة والوجدان والشعور. ويدخل في باب الأخيرة الدين والأخلاق والآداب والفنون، بل تدخل فيه أية معرفة لا تقوم على التجربة. وبالتالي اقتصر دور الفلسفة في الوضعية المنطقية على التمييز بين القضايا ذات المعنى، والتي يجب، من ثم، أن نطبق عليها المنهج العلمي، والقضايا التي لا معنى لها، ومن ثم، لا يؤبه لها. واحتلت الفلسفة بذلك موضع الوصيفة والخادمة للعلم الطبيعي. وانتهت الوضعية المنطقية -التي حملت فيما بعد اسم التجريبية المنطقية- إلى ما يسمى بالنظرية الموحَّدة الكبرى unified grand theory التي ترد ما هو اجتماعي إلى ما هو سيكولوجي، وما هو سيكولوجي إلى ما هو فسيولوجي، والأخير إلى ما هو بيولوجي، والبيولوجيا إلى الكيمياء الحيوية والكيمياء، والتي تعود بدورها إلى الفيزياء. والماركسية لا تتطابق مع نظرية المعرفة هذه، ولكنها تشبهها في بعض جوانبها المهمة، بالذات في جانب تصورها لعلاقة المعرفة بالتجربة (والتي تطلق عليها الماركسية مصطلحاً أكثر كلية وهو الممارسة أو التطبيق)، مما حدا بهابرماس إلى وصفها بأن فيها شيئاً من العلموية لأن بها شيئاً من الوضعية، وأظن أن ذلك متسق مع الأساس النظري لنظرية المعرفة الماركسية التي تقوم على التقابل بين الذات والموضوع. بل إن الماركسية في نظرها لمهمة الفلسفة تعدت الوضعية المنطقية، وأعلنت موت الفلسفة، إشارة بليغة إلى أن التيارات الفلسفية المختلفة لا تعبِّر عن الاختلاف والتعدد -كما نفهم الآن- وإنما هي مجرد أيديولوجيات (وهو وصف قد يصدق على بعضها) تعبِّر عن مصالح اجتماعية مختلفة، ولذلك فهي لا تعكس إلاّ وعياً زائفاً تفضحه الأيديولوجيا العلمية للطبقة العاملة (التي هي الماركسية) وتؤدي به إلى نهايته. وأيديولوجيا الطبقة العاملة رغم كونها أيديولوجيا لأنها تعبِّر عن مصالح طبقية معينة إلاَّ أنها علمية لأن صيرورة الطبقة العاملة تتطابق مع صيرورة التاريخ، ولذلك لا يمكن أن تكون وعياً زائفاً بل هي فضح للوعي الزائف. ولا أظن أن هنالك منطقاً أشد تطابقاً مع المنطق الثنائي -وبالتالي الدوغمائية- من هذا المنطق. لقد فاقت الماركسية في علمويتها الوضعية المنطقية إذ أن الأخيرة تحترز -وإن كان بطريقة لا تخرجها من فلسفة الهوية- في القول بأن المعرفة هي التطابق مع الواقع، بل تذهب إلى أن المعرفة مجرَّد بناءات ذهنية intellectual constructs لتنظيم الظواهر والتنبؤ بها، وأن أمر تطابقها مع الواقع هو مجرَّد افتراض ميتافيزيقي. إن الوضعية المنطقية تحسب للذات دوراً في المعرفة لا تحسبه الماركسية. صحيح أنه حساب مضاعف وغير دقيق لأنه يتم في إطار العلاقة بين الذات والموضوع، ولكنه على أية حال حساب لم تقم به الماركسية بدرجة كافية. أي أن الماركسية قلَّلت من دور الذات في المعرفة بينما زادته وضاعفته الوضعية المنطقية. والأهم من ذلك أن كليهما اضطر إلى ذلك بسبب أنهما يقومان على أساس العلاقة بين الذات والموضوع، فليس هنالك من خيار في إطار هذه العلاقة، فإما الانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك، وحتى اللجوء إلى الديالكتيك كمحدد للعلاقة بينهما لا يسمح بالانحياز إلى أحدهما انتهت بالديالكتيك نفسه إلى الانحياز، فأصبح لدينا ديالكتيك مادي وديالكتيك مثالي. إن الاهتمام المضاعف بالذات في المثالية قد يفسر لنا ملاحظة ماركس في موضوعات فيورباخ والتي ترى أن المثالية قد طورت الفلسفة بأكثر مما فعلت المادية، فالمثالية وبسبب اهتمامها بالذات قد نظرت في التباسها بالواقع والتباس الواقع بها بأكثر مما فعلت المادية، التي ركزت نظرها على كون الذات جزءاً من الطبيعة، وبالتالي غلَّبت عليها الواقع. ولذلك كانت المادية أحادية ودوغمائية بأكثر مما كانت المثالية، رغم أنها كانت كذلك أيضاً، لأن الواقع لا يمكن اهماله بالمطلق مهما حاولنا ذلك، بعكس الذات التي يمكن انكارها. غير أن الأمر لم يكن مستتباً تماماً لنموذج العلم الطبيعي رغم تفوق العلم وتأثيره الحاسم على الحياة الإنسانية، فالعقل الذي أفرزته هذه العقلانية عقل سيطرة تحول إلى ميثولوجيا جديدة -كما أدرك ذلك أدورنو وهوكهايمر في كتاب جدل التنوير- ميثولوجيا تحجب الحياة وتسيطر عليها كما تفعل الميثولوجيا القديمة. وصار العلم مشروعاً للسيطرة مخيباً الآمال التي عُقدت عليه كمشروع للتحرر. ووصم التاريخ الإنساني بفاعليته المسيطرة والدوغمائية والمقصية للاختلاف والتعدد. فقد بدأ نقد الحداثة القائمة على هذا النوع من العقلانية منذ وقت مبكر، بل يمكن القول منذ بدايات مشروع الحداثة في النقد الذي ابتدره روسو إلاّ أن هذا النقد تحدد كمشروع نظري مع الرواد الأوائل لمدرسة فرانكفورت الذين صاغوا مصطلح العقلانية الأداتية لنقد العقلانية التي قام عليها العلم في ذلك الوقت، وفي محاولة لتخطي أحاديتها. وكانت المناظرة الشهيرة بين أدورنو وهابرماس من جهة وكارل بوبر من جهة أخرى في الستينيات من القرن الماضي مناظرة بين من يرى أن المنهج العلمي يجب أن يسود كل المعرفة الإنسانية ومن يرى أن للعلوم الإنسانية والاجتماعية منهجاً مختلفاً، وهو جدل كان يشكل أحد القضايا المهمة والحيوية في ذلك الوقت. أما الآن فإنه لم يعد كذلك لأن توماس كوهن قد حسم هذا الجدل لصالح التعدد بكتابه «بنية الثورات العلمية»، كما أن تطور العلوم الطبيعية نفسها وصياغتها لمناهج علمية عديدة، بحيث أصبح كل فرع صغير لأيٍّ من العلوم يتمتع بمنهج مختلف عن الآخر، انتهى بالمناهج إلى تعدد، صارت العلوم الإنسانية والاجتماعية أولى به من غيرها. وسنرى في المقال القادم كيف حدث تحول النموذج في العلوم الاجتماعية والإنسانية.
دق الطبول لإستقبال المغول الوليد مادبو لا شك أن التصويت الأخير في شأن القضية الفلسطينية داخل الأمم المتحدة قد أعاد الى اذهان الكثيرين التجاذب الحاد الذي تعانيه تلكم المنظمة العريقة بين التوجهات الإنسانوية للمجتمع البشري ( الذي اصبح أكثر تشوقاً لأهمية العدل كأساس لأستقرار الشعوب) والنزعات الامبريالية للدول العظمى التي لا تسعى لتأمين إحتايجاتها من الموارد فقط بل ايضاً تسعى للإبقاء على الهرم العرقي الإجتماعي الذي أسس له النظام الرأسمالي والذي وضع الصهيونية على أعلى الهرم ، يليهم الغربيون ، الصفر ، السمر ثم الإنسان الأسود " ومن عجب إنهم يحنون عليه في محنته في دارفور " وأنا أعجب كيف اصبح الإنسان ( السوداني ) صاحب أعظم حضارة في تاريخ الإنسانية (الحضارة النوبية) في أسفل الهرم واعتلى بنو إسرائيل أعلى الهرم مع العلم بأن موسى كليم الله قد نهل العلوم من البيت الفرعوني الذي هو في الأصل بيت نوبي وقد وفق الله البروفسير/ عبد الله الطيب لإثبات ان جل قصص القرآن التي تناولت قضية بني إسرائيل قد دارت في رحاب أرض السودان 0 لا اود أن اتعرض لتفاصيل إنهيار الحضارة النوبية إنما اود أن انوه إلى أن صياغة السودان بشكله الحالي قد تمت في عهد الفراعنة الذين ما ان دالت دولتهم حتي تفرعوا منشئين مملكات وسلطنات في مختلف أنحاء السودان : دارفور ، جنوب السودان ، الشرق ، الى آخرة ، بالرغم من الهجرات العربية المتأخرة والتي جاءت عقب إنهيار دولة الأندلس إلا أن السلطنات الدارفورية قد تفاعلت وتصاهرت بدرجة لم تترك فيها للتمايز العرقي والإثني على أثر ، إلا التباين المهني بين المزارعين والرحل 0 (1) إن الانقاذ لم تعول أول ماعولت في سعيها لبناء الدولة السودانية على هذا التماذج بالعكس لقد بذلت قصار جهدها في إستحداث فواصل عرقية بين الزرقة والعرب 0 وهي إذ فعلت ذلك من دوافع نرجسية كسبية نسيت ان دارفور هي البنكرياس الذي إمتزجت فيه الدماء الآفروعروبية مما وضع الدولة السودانية على محك الانفصال الذي لا يشل إقليم دارفور وحده إنما جميع الأقاليم التي قد يتسرب إليها هذا الداء -- داء الصفاء العرقي 0 إنه وبعد أن نجحت الامبريالية الإسلامية في مخططها سعت لفركشة " الزرقة " موالية المجموعات العرقية التي إتفقت معها في الخصائص الآتية: 1- المساهمة الطفيلية في الإقتصاد السوداني 0 2- الطموح السياسي الذي لا تسنده أصوات الناخبين إنما العوي والعويل 0 3- الميكافيلية ( الغاية تبرر الوسيلة ). الآن وقد آيست الامبريالية الإسلامية من زج عيال عطيه وحيماد ( يرمز إليهم تجاوزاً البقارة ) في مواجهة غير مبررة مع الزرقة باستثناء بعض المبطلين ، فقد آلت على نفسها إزكاء نار الفتنة مما أدى الى إقتتال أقرب أبناء العمومة 0 قبل أن يستفحل الأمر يجب ان يسأل( أهل دارفور ) أنفسهم لمصلحة من تجري هذه اللعبة الشيطانية ؟ سرعان ما يتبادر الى الذهن الإجابة الراجحة : لمصلحة الصهيونية العالمية ومستقدميها الذين تستروا بغباء الطائفية التي تعتمد المكايدة أسلوباً للخلاص منذ عهد النميري حتى اوصلتنا الى هذا المستنقع الآسن 0 سلوهم قبل أن تقبروهم لماذا تندر الثلاثي الطائفي بإتفاقية أديس ابابا ؟ هل فعلوا ذلك إستعظاماً لمكاسب سياسية نالها النميري ام استكثاراً لمطالب إستحقها إنسان الجنوب ؟ لماذا قادوا غزواً أجنبياً فتح على السودان ابواب الارتزاق ،العمالة ، العطالة ،الدياثة وبلادة الضمير ؟ (2) إنهم إذ فشلوا في هزيمة القوات السودانية عسكرياً فقد أربكوا النميري عن الوسطية مما جعله يرتمي تدريجياً في أحضان الامبريالية الإسلامية ؟ كيف سولت لهم أنفسهم دعم التمرد برصاص صوبه تجاه الصدور التي انبرت من بعد لحمايتهم في القصر الجمهوري الذي لم يحسنوا إدارته فأسلموهم طوعاً ( لا غصباً ) لذويهم ومحسوبيهم ؟ ألم يتعلموا من كل هذا ؟ ألم يأن لهم أن يعرفوا ان التخلص من المستعمر الأسود هو اولى اوليات التحرر الوطني وليست دق الطبول لإستقبال المغول ؟ لقد كان الأولى بهم ان يرموا بالعبء على كاهل من ينوء به الحمل ، لكنه ضعف البصيرة التي غفلت عن الذكر ورمد العين الذي حرم صاحبه من معاينة الافق ؟ هذا شأن الوسط المفلس ما بال الطرف المدلس ؟ إن الفصيلين المؤتلفين (من شمال الوادي وجنوبه ) يشتركون في خصائص تجعلهم ينقمون على دارفور الأمن الذي تنشده والاستقرار الذي تطلبه ، هاتان المجموعتان تفتقران الى جذور ادبية ، إجتماعية تربطهما بالقواعد التي لم يتزعزع ولاؤها لسلاطينها وأبناء ملوكها ،ولذا فهما تعتمدان على البندقية في بسط نفوذهما السياسي ( ببساطة هي حركات ضد التاريخ ، ضد الجغرافيا ومراميها ، ضد الإرث ووازعه الاخلاقي والروحي ). ليست ادل من تجنيد الحركة الشعبية لعيال عطيه وحيماد ( البقارة ) الذين تأمل في استخدامهم كمرتزقة في تأديب القبائل المناوئة حال الانفصال ، والتنصل من الجريرة في مواجهة المجتمع الدولي 0 طبقاً لما فعلته الإمبريالية الإسلامية التي جندت بعضهم لمواجهة انسان الجنوب مدمرة بذلك التكامل الإيكولوجي والبيئ الذي استمر لمئات السنين 0 ببساطة إن الكل يعي ان وحدة أهل دارفور ستنعكس سلباً على الحكم في الخرطوم الذي يعتمد على اهل غرب السودان (الغرابة) على مستوى الجندية ، حتى اليوم ، ما الذي يمنع ابناء دارفور من التحالف زرقة وعرب لمحاصرة الأفعى وقطع رأسها حتى يتمكن الجرو من عض الذنب ؟ إنها عقدة الدونية
|
|