بحث عن التقدم التكنولوجي وأثرة في جسم الإنسان كامل
(التقــــدم التكنولوجي بين سرعة الصاروخ ومرارة المرض (!!
تكاد الأوساط العلمية تُجمع على أن محرّك التقدم العلمي سيكون مرتبطاً بنسبة كبيرة بالتقدم العلمي في مجالين، هما: الهندسة الجينية، وتكنولوجيا الـ«نانو». ولما كانت الهندسة الجينية مرتبطة بشكل مباشر مع تكنولوجيا «النانو» (أي الأشكال المتناهية الصغر)، فإنه يمكن القول: إن تكنولوجيا الـ«نانو» هي التي تملك مفتاح التقدم العلمي للمستقبل بمقياس كبير، وهذا التقدم التكنولوجي سيغيّر معالم الحياة الإنسانية في هذا العالم تغييراً كبيراً، وإلى درجة قد لا نستطيع الآن تصور جميع أبعادها.
أصل كلمة «نانو» يونانية، وتعني «القزم»، أما في الفيزياء فتعني بعداً صغيراً جداً يبلغ واحداً من المليار من المتر، أي جزءاً من المليون جزء من الملليمتر، أو بتعبير آخر فإن تكنولوجيا الـ«نانو» هي العلم الذي يتعامل مع أجزاء صغيرة لا تُرى بالعين المجردة، وتبلغ جزءاً من 80 ألف جزء من شعرة رأس الإنسان، وهو علم يقوم بأخذ الذرات والجزيئات وترتيبها بشكل دقيق وحساس لإنتاج منتج معين.
فعندما كان الدكتور «إريك درسلر» Dr.Eric Drexler رئيس «معهد فورسايت» Foresight institute يدرس في «معهد ماساشوستس للتكنولوجيا Massachustts institute فكّر في أنه من الممكن تقليد النظم البيولوجية في الأحياء، وصنع أجهزة بحجم الجزيئات. وهكذا ظهرت تكنولوجيا الـ«نانو» من الناحية النظرية في الولايات المتحدة الأمريكية. ثم جمع هذا الباحث مقترحاته الخيالية في كتاب تحت عنوان «محركات الخلق» Engines of Creation ، وطبعه عام 1986م، وكان الإقبال عليه كبيراً.
ولكن سبقه في هذا المجال عالم ياباني من جامعة طوكيو عام 1974م، هو «نوريو تانكوشي» Norio Taniguchi ، الذي يعد أول من وضع مفهوم تكنولوجيا الـ«نانو»، وهي تكنولوجيا أكثر تقدماً بكثير من التكنولوجيا الحالية المستخدمة في مختلف أنواع الصناعات، ومنتجاتها أكثر حساسية وأكثر متانة وقوة وأرخص وأصغر بكثير.
اكتشاف وتطوير
عندما اكتُشِف في بداية القرن العشرين أن أجزاء الذرة (كالإلكترونات مثلاً) تتصرف كموجة أحياناً، وكمادة أحياناً أخرى ظهر مفهوم «اللا تعيين»، وظهرت الميكانيكية الكمية بعد ظهور «النظرية الكمية». وبفضل هذه النظرية بدأ العلم يدرك طبيعة الذرات والجزيئات بشكل أفضل، ويدرك السبب في العديد من الخواص الكهربائية والمغناطيسية لأجزاء الذرات، التي لم يكن في الإمكان تفسيرها بالنظريات الفيزيائية الكلاسيكية (فيزياء نيوتن).
وبفضل هذه النظرية ومعرفتنا بطبيعة الذرات والجزيئات بشكل أفضل تقدمت الصناعات الإلكترونية ولاسيما في الحاسبات الإلكترونية، وفي الصناعات البصرية المعتمدة على تكنولوجيا «الفوتونات»، كما تم استخدام هذه التكنولوجيا بنجاح في مجال الطب، وفي البحوث المتعلقة بجزيئات الحمض النووي (DNA).
وبدأ الباحثون بتكثيف جهودهم لصنع أجهزة أصغر فأصغر؛ أجهزة تستهلك طاقة أقل وتملك سرعة أكبر وتحتاج إلى مواد أولية قليلة، أي بدأت الصناعة تقترب شيئاً فشيئاً من تكنولوجيا الـ«نانو»، وكلما تقلصت الأبعاد وصغرت ظهرت مواصفات جديدة وخارقة للمادة.
وقد أُرسيت أسس تكنولوجيا الـ«نانو» في السبعينيات من القرن الماضي، وبدأ طرح منتجاتها في السنوات القليلة الماضية (2000م وما بعدها)، وهي تعمل في مستوى الذرات والجزيئات استناداً إلى النظرية الكمية في الفيزياء الحديثة.
في هذا المستوى تبدو الذرات وكأنها «عاقلة»، وتُظهر خواصَّ لم يكن يتوقعها أحد أو يتخيّلها، وتقوم هذه التكنولوجيا بوضع أنظمة وعمل أجهزة في مستوى جزء من المليون جزء من الملليمتر الواحد.
ففي مثل هذا المستوى تتحول المادة إلى سطح فقط دون عمق تقريباً، أي إلى حالة «مستوى» ببعدين، وتظهر خواصَّ خارقة، ولا تعود قوانين الفيزياء الكلاسيكية سارية، فمثلاً تتضاعف قابلية التوصيل ومتانة مادة الجهاز بعشرات ومئات المرات، وتتحسن خواصها الضوئية والكيميائية والإلكترونية والمغناطيسية.
مميزات تكنولوجية
كانت الصناعة حتى الآن تقوم بالتعامل مع الأجزاء الكبيرة لصنع أشياء أصغر، فمثلاً تقوم بقطع شجرة لصنع منضدة، وكانت تترك وراءها كمية كبيرة من المخلفات التي تُعد خسارة من ناحية وتلويثاً للبيئة من ناحية أخرى، بينما تقوم الصناعة التي تستخدم تكنولوجيا الـ«نانو» بتركيب ذرة مع ذرة وجزيء مع جزيء لصنع جهاز ما، مثلما تضع طابقاً فوق طابق عند بناء حائط أو بناية.. لذا فليس هناك أي ضياع في المادة ولا أي مخلفات تلوث البيئة، كما أن الأجهزة المصنوعة بهذه التكنولوجيا لا تحتاج إلى كمية كبيرة من الطاقة.
وفي هذه التكنولوجيا يمكن تركيب ذرة مع ذرة مختلفة للحصول على خواص جديدة لم تكن موجودة سابقاً، فمثلا أصبح في الإمكان الآن صنع قماش يقوم بتصليح نفسه عندما يحدث فيه ثقب أو شق، وذلك بوضع مادتين في القماش لهما قابلية إظهار ردود فعل سريعة وتفاعل عند حدوث الشق أو الثقب!
وتقوم الولايات المتحدة الأمريكية ببحوث مكثفة لصنع ملابس «عاقلة» للجنود، حيث تقوم هذه الملابس عند إصابة الجندي بجرح بتعيين مكان الجرح ومدى خطورته، وإرسال رسالة إلى المركز مع المعلومات الضرورية، مثل: نبض الجندي، ودرجة حرارة جسمه، وقياس ضغطه، ثم تقوم بإعطاء الدواء اللازم في جسم الجندي، وكذلك بتسليط ضغط على مكان الجرح لوقف النزيف، وإذا توقف نبض القلب تقوم بتدليك منطقة القلب لإعادة النبض.. ومع خفة وزن هذه الملابس إلا إنها ستكون بمثابة درع قوي ضد الرصاص.
بدأت هذه التكنولوجيا حالياً بصنع أنابيب شعرية دقيقة جداً، إلى درجة أنها تستطيع الحلول محل الشعيرات الدموية الدقيقة المتضررة للدماغ.. فقد ظهر أن الكربون وبعض المعادن الأخرى عندما تُسخَّن إلى 1200 درجة مئوية تنفصل ذرات جزيء الكربون، وبعد التبريد تتكاثف هذه الذرات وتأخذ شكل أنابيب دقيقة جداً، ولكنها تكون أقوى مائة مرة من الفولاذ وأخف منه بست مرات، لذا فهي تكون صالحة جداًً لبناء الجسور والطائرات.
صناعات متطورة
وتشترك ساحات علمية وتكنولوجية عديدة في بحوث الـ«نانو»، منها الساحة الإلكترونية وتكنولوجيا المكائن، ومنها الفيزياء الذرية التي تبحث في صفات الذرات وصفات الأجزاء دون الذرية وخصائصها وبنيتها، ومنها علم الكيمياء لتوجيه التفاعلات الكيميائية واستخدام الإنزيمات لتسريع التفاعلات الكيميائية، ودراسة بنية الأجسام البلورية وما يحدث خلال عملية التبلور من أخطاء.
وتجري حالياًً بحوث لصنع أجهزة إنسان آلي (روبوت) صغيرة جداًً يمكن إدخالها في جسم الإنسان بحيث تكون أصغر من مسامات الجلد، وتصل إلى دمه أو إلى أي جزء في جسمه، بحيث تُرسَل هذه الروبوتات إلى القسم المريض في الجسم أو إلى الخلايا السرطانية للقضاء عليها بما تحمله من علاج، لذا فلا تبقى هناك حاجة للعمليات الجراحية بالمشرط.
وشيء آخر يُؤمل صنعه، وهو أن هذه الروبوتات الصغيرة تقوم بصنع روبوتات مثلها حسب برنامج معين وبأعداد كبيرة جداً.. كما يمكن صنع ملابس خفيفة وعازلة للحرارة ولا تحترق لرجال المطافئ.. ويمكن بهذه التكنولوجيا صنع أقراص مضغوطة (CD) لها قابلية استيعاب ضخمة جداً.
أما أجهزة الحاسب الإلكتروني (الكمبيوتر) المصنوعة بهذه التكنولوجيا فستكون بحجم صغير جداً؛ لا يتعدّى السنتيمتر المكعب، ولكن سعتها وقوتها تكون بقدر مجموع جميع الحاسبات الإلكترونية الموجودة حالياً.
طائرة عاقلة بدون طيار!
وقد كلفت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) العالم التركي «البروفيسور إلهان آقصاي»، الخبير في تكنولوجيا الـ«نانو» المقيم في الولايات المتحدة، بمشروع طموح سيستغرق سنوات عديدة، وهو مشروع صنع طائرة «عاقلة» تطير دون طيار، وتستطيع إن سقطت على الأرض القيام آلياً بتصليح نفسها والطيران مرة أخرى.
وقد تحدّث هذا العالم التركي في مقابلة صحفية عن السر وراء تقدم الولايات المتحدة الأمريكية في هذه التكنولوجيا، فقال: «إن القطاع الخاص عادة ما يقوم بتمويل أبحاث لمشاريع تؤتي ثمارها بعد خمس سنوات على الأكثر، ولا تصبر أكثر من هذا، بينما تحتاج مشاريع تكنولوجيا الـ( نانو ) إلى سنوات أكثر تتراوح بين20 و30 سنة، لذا تقوم الحكومة المركزية للولايات المتحدة الأمريكية بتولي هذه المهمة، وتمويل هذه المشاريع ذات المدى البعيد، لأنها تبحث عن جواب لسؤال: كيف أستطيع أن أكون أكثر قوة بعد عشرين عاماً؟».
ثم يعود هذا العالم فيذكر وجود تلاؤم وتناغم بين جهات ثلاث في الولايات المتحدة الأمريكية في مجال البحوث العلمية والتكنولوجية وتطوير وسائل الدفاع، وهي: القطاع الخاص، والجامعات، والحكومة.. وقد خصصت الحكومة الأمريكية في عام 2003م لأبحاث الـ«نانو» 600 مليون دولار، وخصصت حكومة اليابان في السنوات السابقة 500 مليون دولار سنوياً لهذه البحوث، وتزداد هذه المبالغ من سنة لأخرى.
مستقبل الأمم
ويعني هذا أن هناك سباقاً بين الأمم المتقدمة في هذا الموضوع الحيوي، الذي سيقرر ترتيب الأمم في سلم التقدم لعقود عديدة، وسيحدد مستقبلها وثقلها في الساحة الصناعية والاقتصادية والسياسية، وسيغير نمط حياتنا الاجتماعية من وجوه عديدة، لأن هذه التكنولوجيا ثورة علمية وتكنولوجية كبيرة تفتح آفاقاً رحبة أمام من يملك مفاتيحها. وهي ثورة صناعية جديدة، بما يتبعها من نتائج إيجابية إن تم استخدامها في المجال الإنساني، وقد تكون مصدر شرور إن استُخدمت في ساحة الحرب والدمار.
وقد أشار لهذا «بيل كلينتون» رئيس الولايات المتحدة السابق عندما قال: «إن تكنولوجيا الـ« نانو » هي التي ستحدد في السنوات المقبلة أهم الفروق بين الدول المتقدمة والدول النامية».
فالصناعات التي تستخدم الطرق والأساليب الكلاسيكية الحالية سيتم القضاء عليها من قِبَل الصناعة التي تستخدم تكنولوجيا الـ« نانو »، لأنها ستكون أفضل منها، وأرخص وأقل استهلاكاً للطاقة وللمواد، وأكثر نظافة لأنها لا تلوث البيئة، وأكثر متانة وقوة منها بمئات المرات.
مثلاً ستكون أجهزة الحاسب الإلكتروني (الكمبيوتر) آنذاك أقوى بمئات الآلاف من المرات من أقوى الأجهزة المستخدمة حالياً، وأصغر وأكثر سرعة منها بكثير، بحيث يمكن وضعها في جيب السترة، لأن حجمها سيكون بحجم سنتيمتر مكعب واحد.
أي إن الصناعات التي تستخدم تكنولوجيا الـ«نانو» ستمحو من الأسواق جميع الصناعات المنتجَة بالتكنولوجيا الحالية، وستقضي عليها قضاءً مبرماً.
كما ستُحدِث ثورة كبيرة في مجال الأسلحة والتسلح، مما سيقوّي أيدي الدول التي تملك هذه التكنولوجيا (وعددها قليل جداً حالياً)، بينما لا تملك الدول الأخرى سوى الرضوخ السياسي والاقتصادي والصناعي لها، لأن من الممكن صناعة أسلحة فتّاكة بحجم النمل، وربما أصغر، تقوم بمهاجمة مواقع الأعداء بأعداد كبيرة وتدميرها.
• ناقوس خطر للعرب والمسلمين
ونحن هنا ندق ناقوس الخطر، فإن لم تبدأ الدول العربية والإسلامية، وبسرعة، جمع كفاءاتها الموجودة في الدول الغربية (وعددهم كبير) في هذا المجال، واستخدامهم وتيسير سبل البحث أمامهم، وتمويل هذه البحوث بملايين الدولارات، فإن هناك مستقبلاً أكثر ظلاماً من الوضع الحالي، وأخطر بكثير؛ إذ قد تصل إلى مرحلة العبودية الكاملة للغير، لأنها ستُضطر اضطراراً للركوع أمام هذه الدول التي تستخدم هذه التكنولوجيا، ومنها «إسرائيل» التي بدأت الأبحاث في هذا المجال.
وقد بدأت تركيا هذه الأبحاث، وفيها كفاءات جيدة في هذا المجال الجديد من التكنولوجيا، ولكن الحكومة التركية لا تملك القدرة المالية التي تستطيع بها تخصيص التمويل الكافي لهذه الأبحاث. وإن باكستان أيضاً مؤهلة في هذا المجال، لأنها تملك علماء كباراً في العلوم الذرية والنووية، وتملك مصر أيضاً مثل هذه الكفاءات.
لذا فالحل يكمن في تشكيل هيئة علمية من العلماء العرب والمسلمين، وتوفير المختبرات العلمية لبحوثهم في هذا المجال، وتمويل المشروع من قِبَل دول الخليج الغنية. ومنظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية هما الجهتان المؤهلتان لتنفيذ هذا المشروع الحيوي، وستكونان مسؤولتين أمام الله وأمام الشعوب الإسلامية وأمام التاريخ إن أهملتا هذا الموضوع.
أخطار التلوث على كوكب الأرض
فايز فوق العادة¥
عندما قطن اليونانيون المنطقةَ أسموا النهرَ باراديسوس paradeisos، أي "الفردوس". وعندما أتى العرب استخدموا الكلمة نفسها مع تعديل لفظي طفيف، فعُرِفَ بعدهم باسم "بردى". أذكر من أيام طفولتي أننا كنَّا في بعض الفصول نشرب ماء هذا النهر. أما الآن فإن لا أحد يتجرأ أن يمدَّ يده إلى ذلك الماء في الفصول كلِّها. لقد أصيب النهر بعجز كامل! ولم يتوقف الأمر، في الواقع، عند تلوث مياهه فقط، بل إن هذا التلوث بات الآن يطال الإنسان عبر عدة عوامل، كالسقاية من مياهه وإسقاء الحيوانات منها. وإن تلوث النهر يُفقِد الأرض خصوبتها.
لقد أصبح بردى الكهريز الرئيسي لمدينة دمشق وكلِّ القرى الواقعة في حوضه. لذا فإن 80% من مياهه هي مخلفات بشرية؛ وهي، والحالة هذه، وسطُ تنميةٍ نَشِط لأنواع الجراثيم والبكتريا والفيروسات المعادية للحياة كافة. ومن أبرز سمات عدائها للحياة تخفيضها كمية الأكسجين المنحل في المياه إلى درجة خطيرة.
وتصبُّ في مياه بردى كلُّ مخلَّفات الصرف الزراعي المشبعة بالمواد الكيميائية المستخدمة كأسمدة. ومن بين هذه المواد الفوسفات والآزوت اللذان يُعتبَران الغذاء الأساسي لنموِّ البكتريا والأشنيات. وهذا، بدوره، يعطي مدًّا أكبر للتلوث البيولوجي الذي ذكرناه. إن مشكلة الأسمدة الكيميائية هي مشكلة عالمية. فمعظم البحيرات في العالم، وعدد غير قليل من الأنهار، انتفتْ فيها الحياة الحيوانية والنباتية بسبب هذه الأسمدة؛ بينما يمكن للاستخدام الفعال للأسمدة الطبيعية أن يطعم العالم كلَّه، بما في ذلك جياعه.
وتسيء بعض المصانع الصغيرة المنتشرة على طول مجرى بردى إلى بقاياه. فهناك معامل النسيج، وما تنتجه من مواد الكالسيوم والمغنزيوم ومواد القصارة وحمض الكبريت وحمض كلور الماء والأصبغة الحاوية على الكروم، شديد السمية، والكبريت. أما أعمال الدباغة فهي مصدر عالٍ للتلوث؛ إذ تتصف مخلَّفاتها بقلوية عالية، وهي كريهة الرائحة، قابلة للتعفن، كما تُعتبَر موطنًا لتأثير البكتريا والفيروسات. وكذلك شأن تصنيع الخميرة. وبالمقابل يزيد صنع الكرتون وغسل الصوف من نسبة المواد العالقة بدرجة خطيرة. ويدلي معمل الحليب بدلوه أيضًا، فيزيد التلوث العضوي ونسب المواد العالقة والقلوية؛ بينما يزيد معمل الكبريت من نسبة الكبريت السام. ولن نستطرد في جرد هذه المعامل الصغيرة، ولكننا نتساءل عن مدى ضرورتها لحياتنا. وإذا كانت ضرورية، فلماذا لا يعاد إنشاؤها في أمكنة أخرى؟ أو على الأقل، أن تُلزَم بنظام حماية للبيئة يقي الطبيعة من نفاياتها.
لا يقتصر خطر التطور المعاصر على الأنهار على تلويث مياهها فقط؛ بل إن هذا التطور يُنقِص كمية هذه المياه إلى درجة تسيء إساءة عميقة إلى توازن الطبيعة. وليس هذا بعجيب؛ إذ يكفي أن نتذكر ضخامة الصناعات الحديثة، وأن نقوم فكريًّا بجداء مقدار هذه الدلائل في حجم المياه اللازمة لصنع هذه المنتجات أو تلك: يتطلب إنتاج طن واحد من الصلب 50 طنًّا من الماء؛ وبصورة مناظرة، يتطلَّب إنتاج طن واحد من الأصباغ إنفاق مقدار متوسط من الماء يبلغ 500 طن؛ ويحتاج الطن الواحد من الحرير الصناعي إلى 1500 طن من الماء، والطن الواحد من النايلون إلى 2500 طن من الماء.
إن المصانع الحديثة الضخمة للكيميائيات وتحويل المعادن وإنتاج السللوز والورق والمحطات الحرارية لتوليد الكهرباء "تشرب" أنهارًا كاملة بكلِّ معنى الكلمة! ولا يزال التقدم التكنولوجي مقترنًا بزيادة حادة في استهلاك المياه للحصول على القطعة الواحدة من المنتجات. ويبدو ذلك في واقع الحياة كالتالي: في مصنع النسيج القديم نسبيًّا لإنتاج الأقمشة الصوفية الطبيعية، يتطلب إنتاج الطن الواحد من النسيج 300 طن من الماء؛ أما البديل الاصطناعي للصوف فيتطلب قدرًا من الماء يزيد بـ5-6 مرات عن ذلك. وبما أنه من المؤكد تقريبًا أن المصنع الجديد أقدر، وينتج كمية أكبر من المنتجات، ندرك بسهولة شدة زيادة ما يتم استهلاكه إجماليًّا من الماء. وأخيرًا، فإن الصناعة الحديثة تتطلَّب ماء أنقى، تصعب تصفيته بعد الاستعمال في معظم الأحيان.
أذكر، في معرض الحديث عن بردى، النزهات على ضفاف النهر وفي حوضه التي تزيد نسبة المواد العالقة في مياهه. يبدو للوهلة الأولى أن زيادة تلوث النهر ستؤدي إلى إنقاص عدد تلك النزهات، لأن تلوث الطبيعة يخفف إمكانات الاستمتاع بها. ولكن – لشدة العجب! – يزداد ذلك العدد باطِّراد، وكأن التلوث قد أصاب بدوره الآليةَ الروحية التي إذا عملت استمتع صاحبها بالطبيعة. لقد اندثرتْ اللغة الأصلية للتخاطب مع الطبيعة، وأصبحت تلك النزهات غاية في حدٍّ ذاتها.
*
لن أدخل في تفاصيل ما تسببه النزهات من تلوث؛ ولكنني سأتوقف عند معلومة صغيرة، وهي أن كلَّ ما نستخدمه من أكياس وأدوات حفظ بلاستيكية، نتركها عندما نتنزه، وكذلك يتركها أصحاب المطاعم والمقاهي، هي مواد عجيبة حقًّا. إنها مواد ثابتة؛ ولكن هذا الثبات هو مصيبة في حدٍّ ذاته؛ فهي تتأكسد ببطء وبصورة غير تامة. رُبَّ قائل يقول إن هذا الشيء ممتاز؛ إذ إن العلماء جميعًا يبحثون بإلحاح عن مختلف الإضافات الباعثة على الاستقرار، التي من شأنها أن تعيق بكافة السبل عمليات الأكسدة. إلا أن هذا يفضي، من ناحية أخرى، إلى أن هذه المواد تصير نفايات ثابتة أكثر فأكثر، مع العلم أن دور هذه المواد يزيد طوال الوقت، وتجرُّ إلى فلكها عددًا متزايدًا من الفلزَّات والمعادن. وسابقًا، عندما كانت المنتجات الزراعية العضوية هي التي تمثل الإنتاج أساسًا، كان يمكن للنفايات أن تتأكسد بسهولة كبيرة، فتحلِّلها الكائنات الدقيقة، وتذوب، فتحملها المياه الجارية بتركيز قليل. لا ينطبق ذلك على المواد المصنوعة الجديدة، إضافة إلى أن هذه المواد الجديدة سامة في معظم الحالات. إن أقل هذه المواد ثباتًا سيحتاج لألف سنة على الأقل حتى يتحلَّل. لذلك سيأتي وقت – ولا شك – تعجز الطبيعة عنده عن إرجاع أيِّ شيء. فهل سنترك الطبيعة للأجيال القادمة تستمتع بها، أو تعيش عالة عليها؟ سؤال علينا أن نتأمل معناه بهدوء.
إذا كانت الأسمدة الكيميائية ملوثة، فماذا عن مصانعها؟ تسود في بيئة تلك المصانع الغازات الملوِّثة، كأكاسيد الآزوت والفحم والنشادر، والغازات القلوية السامة جدًّا وأكاسيد الفوسفور؛ وبعض هذه المركَّبات تتحول إلى محاليل ملوِّثة وخطرة على التربة والمياه. يتصاعد الأمر في صناعة الفوسفات بشكل درامي: فهناك المواد المشبعة، كالأورانيوم والراديوم؛ ويحتاج الأمر، في هذه الحالة، إلى برنامج دقيق لتلافي الأثر السيئ لهذه المواد المشعة.
*
تتحرك المواد الملوِّثة في البلدان الصناعية مئات وآلاف الكيلومترات، مؤدية إلى الظاهرة المعروفة باسم "المطر الحامضي" acid rain. والمطر الحامضي هو مفتاح التصحُّر desertification، بل إنه الخطوة الأولى لإنهاء الحياة. فهو ينقص إنقاصًا كبيرًا ما يمكن أن نسمِّيه بالكائنات الحية "الصديقة" في الجو. ويصل تأثيره حتى أعالي الغلاف الجوي، فيهدِّد طبقة الأوزون التي تُعتبَر الدرع المنيع لحمايتنا من الأشعة الكونية الضارة، وخاصة الأشعة فوق البنفسجية القاتلة القادمة من الشمس.
نتطرق، في هذا السياق، إلى الغلاف الجوي، مُثبِتين الحقيقة الهامة التالية: إن الحياة، بكلِّ أشكالها، هي امتداد للغلاف الجوي المؤلَّف من مواد مختلفة بنسب متباينة، الذي استغرق زمنًا طويلاً حتى وصل إلى حالته الراهنة، عبر سلسلة مديدة من التحولات والتطورات. إننا لا نغالي إطلاقًا إذا اعتبرنا الغلاف الجوي، في حدِّ ذاته، كائنًا حيًّا، تلعب فيه الكائنات الحية المعروفة دور الأعضاء والنسج والخلايا. ولا بدَّ لنا في هذا المعرض من التذكير بالأهمية البالغة لنِسَب المواد المساهِمة في بناء الكائن الحي، وبالضرر العميق الذي يصيب ذلك الكائن إذا تغيرتْ تلك النِّسَب، ولو بكميات طفيفة. لدينا، إذن، الكائن الحي الأساسي: الغلاف الجوي، بأجزائه المختلفة: كلُّ أشكال الحياة على الأرض.
تطال الأشعة فوق البنفسجية القادمة من الشمس الغلافَ الجوي، فتؤثر على الأكسجين الجزيئي في أعاليه، محوِّلة إياه إلى أكسجين ثُلاثي الذرات، هو الأوزون O3 الذي أشرنا إليه للتو. وتفكِّك تفاعلات طبيعية أخرى هذا الأوزون، معيدة إياه إلى الشكل الجزيئي. والنتيجة أن كمية الأوزون تبقى ثابتة ومساوية لثلاثة مليون مليون كغ. يؤدي نقص الأوزون إلى تدفق الأشعة فوق البنفسجية ووصولها حتى سطح الأرض. وتفكِّك هذه الأشعة جزيئات الماء؛ وهي لذلك تصيب بالضرر العضويات الحية كافة، لأن الماء يساهم في تلك العضويات بنسب تتراوح بين 60% و95%.
وتُنقِص معظم النشاطات التكنولوجية كمية الأوزون إنقاصًا ملحوظًا. دعونا نضرب على ذلك مثلاً واحدًا وحسب: تُستخدَم طريقة النفث من حاويات معينة لذرِّ بعض مركبات الفلور والفحم أو الكلور والفحم ونثرها لتحقيق غايات معينة. وتُستعمَل هذه المواد عادة في التبريد. تتَّسم هذه المواد بعدم قابليتها للانحلال في الماء وبعطالتها الكبيرة، الأمر الذي يسهل اندفاعها من سطح الأرض ووصولها إلى أعالي الغلاف الجوي. وهناك تُلاقي الأشعة فوق البنفسجية، فتتحلَّل مطلقةً غاز الفلور أو غاز الكلور؛ وكلٌّ من هذين الغازين كفيل بتفكيك الأوزون وإنقاص كميته. إن الأوزون غاز سام. ومن المفارقات الكبرى في هذا المجال أن بعض النشاطات التكنولوجية تزيد من كميته عند سطح الأرض. وقد عرفنا للتوِّ أن نشاطات أخرى تُنقِص من كميته في أعالي الغلاف الجوي، بينما يرتبط استمرار الحياة بكمية كبيرة منه في أعالي الغلاف الجوي وأخرى قليلة للغاية عند سطح الأرض.
تطرح النشاطات الإنسانية كلَّ عام 150 مليون طن من ثاني أكسيد الكبريت السام؛ وتُطرَح معظم هذه الكمية في الغلاف الجوي. يطال الضررُ من هذه المادة حتى ما أنجزه الأقدمون. فمثلاً الآثار القديمة، بدءًا من تاج محل في الهند إلى أكروبوليس أثينا، ستذيبها هذه المادة. وهكذا فأخطبوط التلوث قد لا يكتفي بإنهاء الحياة فقط، بل وكل أثر لها، مهما كان قديمًا. هل يمكن أن يأتي يوم على كوكب الأرض يصبح فيه ممسوحًا، حتى دون أيِّ أثر دال على وجود سابق لكائن واعٍ كالإنسان؟ نتمنى من القلب ألا تصل الأمور إلى هذا الحدِّ – رغم أن الأمنيات لا تكفي!
***
لم يُبدأ باستخدام الفحم الحجري على نطاق واسع إلا في النصف الثاني من القرن الماضي. غير أن مجموع ما استُخرِجَ إبان النصف الأول من قرننا من الفحم والبترول والغاز زاد على 100 مليار طن. وبعد احتراق هذا الوقود، قُذِفَ في الجوِّ بما لا يقل عن 3 مليارات طن من الرماد. ويدخل قسم منها في التربة والمياه بالأرض، ولا يقل عن 1.5 مليون طن من الزرنيخ و1.2 مليون طن من الأنتيموان والتوتياء اللذين لا يقلان سُمِّية عن الزرنيخ. ويُستهلَك سنويًّا مقدار ستة مليارات طن من الأكسجين في احتراق الوقود الأحفوري المستخرَج. وكان بالمستطاع أن يملأ هذا المقدار البحر الأبيض المتوسط كلَّه بالأكسجين.
لقد أظهرت الأبحاث أن المدن الكبرى في العالم تعاني من نقص كبير في الأكسجين. وتنخفض كمية الطاقة التي يحصل عليها سكان هذه المدن من الشمس بنسبة 30% بسبب غازات السيارات. نضرب مثلاً على ذلك مدينة نيويورك: يقول الطيارون إن من السهل إيجاد نيويورك في أيِّ طقس كان، بدون خارطة أو أجهزة، وذلك باستنشاق رائحتها. وليس في ذلك أية مبالغة؛ إذ تخيِّم على مدينة نيويورك، دائمًا وبدون حركة، سحابة رمادية هائلة يراها الطيارون بوضوح في جوِّ الصحو، وهم على مسافة كبيرة من المدينة. ويفسِّر الخبراء ذلك بأن السحابة ناجمة عن المدينة العملاقة التي تنفث في الهواء يوميًّا 3200 طن من ثاني أكسيد الكبريت و280 طنًّا من الغبار و4200 طن من أول أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكربون وأكاسيد الآزوت، وغير ذلك من المواد السامة. وتعيد السحابة، بدورها، رواسب يبلغ مقدارها 4 أطنان لكلِّ كيلومتر من المدينة. فلا ضرورة للعجب إذا ما كان يموت سنويًّا في نيويورك، بسبب تسمُّم الجوِّ وحده، حوالى عشرة آلاف شخص؛ ويشكل ذلك 12% من جميع الوفيات المسجَّلة.
المراجــــع
1 - موقع جريدة الوفد بتاريخ 25 نوفمبر 2004
ط¨ظˆط§ط¨ط© ط§ظ„ظˆظپط¯ ط§ظ„ط¥ظ„ظƒطھط±ظˆظ†ظٹط©
2 – موقع الاتحاد العام للصحفين بجريدة الاهرام
web2.ahram.org.eg
3 – موقع الاتحاد البرلماني العربي
الاتحاد البرلماني العربي
4 – مجلة الأمة الكويتية بتاريخ 25 نوفمبر 2004
PR Directory - New Age Paid Directory
موقع البحث الشهير Google