لا تيأس
إنَّ الحمد الله نحمده ونستعينه وتستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعد: حينما يسيطر اليأس على الإنسان.. تتغشاه الكآبة.. ويسكنه الإحباط.. ويرى الحياة على جمالها ورونقها واتساعها كئيبةً ضيقةً خاليةً من فرص السَّعادة والنَّجاح.
فاليأس حجابٌ قاتمٌ.. يحجب العين عن رؤيةِ كلِّ ما هو جميلٍ، ويحجب القلب عن التَّفاؤل وحسنِ الظَّنِّ.. ويحجب العقل عن التَّطلع والطُّموح.. ويخنق أنفاس الإنسان وآماله بخناق التَّشاؤم والتَّوجس السَّلبي الخاطئ للمستقبل.. ويظلُّ اليائس مهما كان موقعة.. ينظر إلى أعماله وأحواله بعينٍ بائسةٍ.. لا يستمتع كغيره بزهرة الحياة.. ولا يرى فيها ما يبعث على السَّعادة.. بينما يتشاءم من كلِّ شيءٍ.. ويستوي لديه الإخفاق والإنجاز.. والفشل والنَّجاح. والخطأ والإصابة..
فما هي مظاهر اليأس في الحياة؟ وكيف يمكن للإنسان تجاوزه؟
مظاهر اليأس
أوَّلاً: يأس المذنب من التَّوبة: وهو أخطر أنواع اليأس؛ لأنَّه يبعد الأنفس عن الله ويبقيها على ما هي عليه من الذُّنوب والمعاصي.
فالمذنب اليائس من قبول التَّوبة.. يرى نفسه هالكًا لا محالة ولا يرى لها بالتَّوبة خلاصًا.. وهو ما يجعله مكروباً خائباً يتمادى به يأسه حتى يجعله ملازمًا لذنوبه لا ينفك عنها.
أخي الكريم: وأنت إذا تأملت في نصوص الشَّريعة وجدت فيها الدَّعوة إلى الطَّمع في عفو الله ومغفرته ما لو سمعها المذنب.. لا تفرج هم عصيانه.. ولهرول إلى الله يطلب عفوه.. ويسأله التَّوبة.. وأوَّل تلك النُّصوص.. قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزُّمر:53].
فتأمَّل أخي في قوله تعالى: أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ، فهل يحلُّ ليائسٍ من رحمة الله أن يبقى على يأسه ولا يمدُّ يد النَّدم والتَّوبة إلى ربَّه؟!
وتأمل أخي أيضاً في قول رسول الله : { لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجلٍ في أرض دويةٍ مهلكةٍ معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها حتَّى أدركه العطش ثمَّ قال: أرجع إلى مكاني الَّذي كنت فيه فأنام حتَّى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده طعامه وشرابه، فالله أشدُّ فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده } [رواه مسلم 2744].
فالله جلَّ وعلا لا يقتصر على مغفرة ذنب التَّائب إليه.. بل ويفرح بتوبته فرحاً شديداً.. وهو فرح إحسانٍ ورحمةٍ وعطفٍ.. وفي ذلك الفرح دلالةٌ عظيمةٌ على حبِّ الله جلَّ وعلا للتائب العائد إلى الله كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].
فلا تيأس.. مهما اقترفت ومهما صنعت فباب التَّوبة مفتوح لكلِّ تائبٍ.. ورحمته وسعت كلَّ شيءٍ، قال تعالى في حقِّ الكفار: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:38].
فإذا كان الكافر إذا أسلم وتاب إلى الله تقبل الله توبته؛ وبارك عودته؛ فكيف بالمؤمن المذنب؟!
يا ربِّ إن عظمت ذنوبي كثرة***فلقد علمت بأن عفوك أعظمإن كان لا يرجوك إلا محسن***فمن الَّذي يدعو ويرجو المحسن
وتأمَّل أيضاً في قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون َ [آل عمران:135]. فقد بيَّن الله جلَّ وعلا أنَّ المتَّقين قد يصدر منهم من الفواحش والظُّلم ما يستلزم التَّوبة والاستغفار.. وأنَّه يغفرها لهم ما استغفروه.. كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيماً [النِّساء:110] فلا تيأس من التَّوبة.. فإنَّك لست أوَّل من يذنب.. وتذكر دائمًا أنَّ كلَّ ابن آدم خطاء.. وأن خير الخطائين التَّوابون.. يقول الرَّسول : { والَّذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم } [رواه مسلم:2749].
تابع //