بحث حول نهاية الدساتير كامل ، بحث علمى جاهز فى نهاية الدساتير
نهاية الدساتير
La fin des constitutions rigides
بعد أن قدمنا لمحة موجزة عن أساليب نشأة الدساتير، يجدر بنا الآن أنتتعرض لطرق نهايتها واختفائها فالدساتير كما تعيش وكما تحيا فلابد لها من يوم تختفيفيه عن الوجود، أو بعبارة أخرى، تلفظ أنفاسها، فنزول عن أحكامها، وتختفيآثارها.
فما هي هذه الطرق يا ترى؟! وكيف تزول بموجبها حياة هذهالدساتير؟
وقبل البدء في الموضوع، لابد لنا أن ننبه إلى أمرينمهمين:-
أولهما: أن موضوعنا أنما يتعلق في الدساتير المكتوبة الجامدة، إذ أنالدساتير التي تنشأ بالعرف، أي الدساتير العرفية، فأنها تزول كما نشأت أما بالعرفأو التشريع العادي.
وثانيهما: أننا ندرس هنا حالة زوال أو إلغاء الدستور بأكملهلا بعض مواده أو فصوله لأن ذلك أنما يدخل في موضوع تعديل الدساتير.
وبناءا علىما تقدم فأن الدستور كما قلنا قد يختفي بأكمله ويستعاض عنه بدستور جديد (UNE NOUVELLE CONSTITUTION) ويكون زواله بإحدى الطرق التالية:
أولا:- الإلغاءالرسمي من قبل هيئة مؤسسة
ABORGATION FORMELLE PAR L'ORGANE CONSTITUANT
الدستور من الناحية القانونية لا يلغى إلا بدستور جديد، يصدروفقا للإجراءات التي نص عليها الدستور القديم لتعديله، فقد ينص دستور على جوازتعديله بصورة شاملة، وإن كانت الأمثلة في الواقع على ذلك قليلة (إذ أن أكثرالدساتير لا تواجه غير حالة تعديلها الجزئي (REVISION PARTIELLE) ومع ذلك فمن أمثلةالدساتير التي تجيز تعديله كاملا (الدستور الفرنسي لسنة 1875) والرأي الراجح لدىغالبية الفقهاء أن الهيئة المؤسسة التي تختص في التعديل وفقا لنصوص الدستور القديمنستطيع باعتباره الهيئة المنتخبة من الشعب صاحب السيادة أن تلغي الدستور القديم وأنتبدله بغيره إذا كانت هذه هي نية الشعب حين انتخابه لها، إذ لا معنى لوضعها في مركزأدنى من الهيئة المؤسسة الأولى التي وضعت الدستور وهي تساويها في القوة والتمثيللسيادة الشعب.
وقد يكون هذا الإلغاء صريحا (EXPRESSE)، بأن تضع الهيئة المؤسسةدستورا جديدا تنص في صلبه على إلغاء الدستور القديم، وقد يكون الإلغاء ضمنيا (IMPLICITE) بأن تكون القواعد والنصوص التي تضعها الهيئة المؤسسة لا تتلاءم ولاتنسجم (INCOMPATIBLE) بحال من الأحوال مع قواعد الدستور القديم فهي وهو على طرفينقيض، فيكون الإلغاء والحالة هذه ضمنيا، ويعتبر الدستور الجديد هو الدستور النافذاعتبارا من تاريخ تطبيقه.
وهناك طريقة أخرى لإلغاء الدساتير أكثر قوة وأقوىمفعولا وهي طريقة الثورة.
ثانيا:- الإلغاء بطريق الثورة
ABROGATION ET DECONTITUTIONNALISATION
من المبادئ المسلم بها قانونا أن الثورة حين تنجح فيهدم ومحو نظام سياسي معين، فأن دستور ذلك النظام ينهار ويموت بمجرد نجاح الثورة،إلا أن القوانين التي عاشت تحت ظل الدستور المنهار تستمر في حياتها وتبقى نافذةالمفعول ما لم تلغ صراحة، أو يكون انسجامها مع الشكل الجديد للحكومة مستحيلا،وتستند هذه القاعدة إلى مبدأ قانوني عام، مسلم به إجماعا، وهو مبدأ استمرار الدولةبالرغم من تغير الأشكال المختلفة لتنظيمها (LE PRINCIPE DE LA CONTINUITE -=DE L'ETAT A TRAVERS LES FROMES VARIABLES DE SON GOUVERNEMENT ) ولهذا فقد نجد فيكثير من الدول قوانين نافذة ترجع في أصلها إلى عهود غابرة، ففي العراق مثلا نجدقوانين ترجع في تاريخ نشأتها إلى العهد العثماني، وفي فرنسا قوانين تعود نشأتها إلىعصور الملكية.
وعلى نقيض هذا المبدأ (وهو مبدأ بقاء القوانين واستمرار حياتهاإلى ما بعد الثورة ما لم تلغ صراحة أو ضمنا) يوجد مبدأ عام آخر، مسلم به في كل مكانوإن يكن منصوصا عليه في مكان ما، لأنه لا يحتاج إلى نص، وهو انهيار وسقوط الدساتيربقيام الثورات الناجحة، فهدف الثورة إنما هو القضاء على نظام سياسي معين، ومعنىنجاح الثورة هو سقوط النظام السياسي وفقدانه لقوته القانونية التي يستند عليها وهيالدستور والذي يعتبر لاغيا لا أثر له دون أن تكون هناك حاجة لإعلان هذا الإلغاء أوالنص عليه، وهكذا تظهر الثورة كطريقة لإلغاء الدساتير كما يقول الأستاذان (بارتلميودويز)، ويؤيدهما في القول الأستاذ لافيريير حين يقرر بأنه من المؤكد والمسلم بهلدى جميع الفقهاء بأن الثورة الناجحة حين تفلح في هدم النظام السياسي فإن دستور ذلكالنظام المندثر يزول ويختفي دفع واحدة دون الحاجة إلى نص على ذلك، ويستعاض عنهبدستور جديد حالا، أو بعد فترة قد تطول وقد تقصر حسب الظروف، وتكون السلطةالتأسيسية في هذه الفترة لمن عهدت إليه الثورة بقيادتها.
ما يبقى من نصوصالدستور المنهار:
لقد شاهدنا عند تحديدنا لمعنى الدستور منالناحية الموضوعيةوالشكلية أن بعض الدساتير قد تضم في صلبها نصوصا ليست دستورية بطبيعتها وموضوعهاوجوهرها كالنصوص التي لا علاقة لها بشكل الحكم ولا بالنظام السياسي المتبع، وإنماتذكر هذه النصوص في الدستور لتكتسب صفته في الاستقرار والثبات كما أسلفنا، وقد تكونطبيعة إدارية أو جنائية أو غير ذلك.
ومن البديهي أن هذه النصوص المجردة من الصفةالدستورية موضوعا، لو أنها كانت قد صدرت في قانون عادي، ولم تحشر في صلب الدستورلكتب لها البقاء مع القوانين الأخرى التي تبقى وتعيش وتظل نافذة المفعول بعد الثورةولحين إلغائها تطبيقا لمبدأ استمرار الدولة الآنف الذكر.
وهذا بعينه السبب الذيحدا بالفقهاء إلى اعتبار هذه النصوص نصوصا لقوانين عادية، أي أنها حين تفقد صفتهاالدستورية الشكلية بسقوط الدستور، تحتفظ بصفتها التشريعية كقانون عادي، ومعنى ذلكبعبارة أخرى أن الفقه قد أجمع على الاكتفاء بخلع الصفة الدستورية (DECONSTITUTIONNALISATION LOI ORDINAIRE) وإبقاء صفة القانون العادي لها، والفقهفي تقديره هذا إنما يجاري المنطق باعتبار أن هذه النصوص ذات قانونية، بدليل أنها لوكانت قد بقانون عادي لظلت كما هي، إذ هي تنجح وتسقط الدستور، فإنما تسقط تلكالقواعد القانونية موضوعا، أما القواعد الأخرى ذات الطبيعة القانونية العادية فتظلوتبقى باعتبارها قانونا عاديا شأنها في ذلك شأن بقية القوانين الخاضعة للإلغاءوالتعديل.
ومثال ذلك ما جاء في الدستور الفرنسي للسنة الثامنة، المادة منه حيثنصت على عدم جواز متابعة رجال الحكومة والموظفين ومقاضاتهم أمام المحاكم القضائيةللحصول على تعويض عن الأعمال المتعلقة بوظائفهم أمام المحاكم القضائية إلا بترخيصمن مجلس الدولة، وقد أجمع الفقهاء في فرنسا على أن هذه المادة لا صلة لها بدستورالسنة الثامنة للثروة، وأنها ذات طبيعة إدارية، ولهذا بقيت نافذة المفعول بعد سقوطالإمبراطورية وإلغاء دستور السنة الثامنة، باعتبارها نصا من نصوص القانونالعادي.
تبرير الثورة وسنتناول الموضوع من جانبين:
1- في المجالالنظري.
2- في مجال القانون الوضعي.
1. المجال النظري:
يتصل هذاالموضوع بما تعارف الفقهاء على تسميته (حق المقاومة الطغيان – LA RESISTANCE A L'OPPRESSION) هذا الحق الذي لعب دورا مهما في تاريخ الشعوب، وفي تاريخ الكفاح منأجل الحرية والديمقراطية، أما مفهوم هذا الحق: معناه ومداه فلقد تغير مع الزمن،وأخذ أشكالا مختلفة في التفسير، وكان الكنيسة الكاثوليكية أثر عظيم في التمهيدلتحديد هذا المفهوم، سواء كان بنظريتها في الولاية العامة باعتباره النائبة عن صاحبالتشريع، أو بنظريتها في التفويض الإلهي للسلطة وحدود هذا التفويض، وما أوحت به هذهالنظريات من أفكار لفقهاء القرن السادس عشر، القرن الذي نشأت فيه الدول الحديثةونشأت حولها فكرة الدساتير العقدية بين الملوك والشعوب، وقامت معها المحاولاتالفقهية لتبرير حق المقاومة على أساس عقدي، باعتبار أن الشعب هو صاحب السيادة وقدتنازل عنها في العقد للحاكم وفقا للشروط وحدود معينة، فإن هو خرج عليها، فللشعب حقالفسخ جزاء لمخالفته لبنود الاتفاق، وكان أول القائلين بهذه النظرية مارسيل دي بادو (MARSILE DE PADOUE) – (في أواخر القرن الرابع عشر) وثيودور دي بيز (THEODORE DE BEZE) – (في الربع الأخير من القرن السادس عشر 1575)، وهو الذي قرر بأن الملك للشعبوليس الشعب للملك، وإن الملوك ملزمون بتطبيق العقد فأن خرجوا وجب فسخه ولوبالقوة.
كما ذهب فقهاء آخرون من فقهاء القرن السادس عشر وممن مهدوا لفكرة العقدالاجتماعي أمثال هوتمان HUTMAN وهوبرت لانكويت HUBERT LANGUET وسواريس (SUARES) لتقرير هذا الحق على أساس (عقد تفويض) إذ أن السيادة للشعب كما قرر هؤلاء وهو لميتنازل عنها، إنما فوض الحكام ممارسة مظاهرها تحت رقابته وفي حدود معينة هي: الخضوعللقوانين الإلهية والقوانين الأساسية التي تفرض احترام حريات الناس وأرواحهم وتحقيقالصالح العام، فإن تجاوز الحكام أو انحرفوا عن هذه الحدود، جاز للشعب أن يفسخالعقد، وأن يسترد التفويض بإعلان الثورة.
وليس معنى هذا أن الفقه في القرنالسادس عشر كان مجمعا على تقرير هذا الحق للشعب، فلقد كان هناك فقهاء آخرون في هذاالقرن بل وما بعده انتهجوا نهجا مغايرا فأنكروا فيه على الشعوب حقها في مقاومةالطغيان ومجدوا السلطة، وفرضوا احترامها في جميع الأحوال، ومن هؤلاء:
ميكافيليفي إيطاليا MACHIAVAL لسنة 1513 وهو صاحب الكتاب (الأمير LE PRINCE) وصاحب نظريةالمستبد العادل، ومنهم: جان بودان JEHAN BODIN في فرنسا (كتاب الجمهورية) ومنهمتوماس هوبز في إنكلترا THOMAS HOBBES سنة 1651 فلقد أيد هؤلاء سلطان الملوك، وصاغوالهم النظريات لهذا الغرض.
أما في القرن فلقد برر جماعة من الفقهاء هذا الحق علىوجه آخر، باعتبار أن الغاية من السلطة السياسية (بناء على العقد الاجتماعي) إنما هوحماية الحقوق والحريات الفردية، وأن الخروج عن هذه الغاية، يبرر المقاومة والثورة،وكان من رواد هذه الفكرة بيير جوريو PIERRE JURIEU وجون لوك JOHN LOCK سنة 1690 ومنأنصارها والقائلين بها من فقهاء القرن الثامن عشر: رينال RAYNAL و مابلي MABLY وميرابوا MIRABEAU، كما ناصرها آخرون من فقهاء القرن التاسع عشر أمثال بنجامين F. BENJAMAIN وآرنو كاريل ARNAUD CARREL، وفاري سوميير VAREILLES SOMMIERES وأخيرا فلميعدم الفقه الحديث أنصارا لهذا الحق، منهم هوريو HAURIOU ، وقد برر هذا الحق بفكرةالدفاع الشرعي، ودوجى L. DUGUIT بفكرة سيادة القانون، وأسمانESMEIN بفكرة إرادةالشعب المستخلصة من تأييده للثورة أو عدم احتجاجه عليها، أما لافريير فقد أنكرفائدة البحث عن إيجاد تبرير قانوني للثورة، فالمهم عنده هو تقرير النتائج المترتبةعليها والمسلم بها، لأن الثورة في مفهومه عمل سياسي يخرج من دائرة القانون الوضعي،أما بيدرو فيرى في الثورة ظاهرة قانونية، يرى فيها قانون جديد يريد أن يستقر كأساسللنظام القانوني المقبل.
2- في مجال القانون الوضعي:
تجري أكثر القوانينالوضعية وأكثر الدساتير على تحريم الثورة تحريما مطلقا، والعقاب عليها باعتبارهاعملا مهددا لأمن الدولة وسلامتها وبالتالي فأنها تدخل تحت طائلة قانونالعقوبات.
وبالرغم من ذلك فقد نص على جوازها بعض إعلانات حقوق الإنسان ومنا ماهو في مقدمة بعض الدساتير.
ومثال ذلك ما جاء في إعلان الحقوق الأميركي سنة 1776من أن الغرض من الحكومة هو حماية الحقوق الطبيعية للإنسان فأن هي خرجت عن هذا الغرضجاز للعشب الخروج عليها، وما جاء في إعلان الحقوق الفرنسي سنة 1789 (المادةالثانية) من اعتبار حق المقاومة من بين الحقوق الطبيعية للإنسان التي تقبل التصرفأو التنازل عنها.
وكذلك المادة (25) من إعلان الحقوق الفرنسي لسنة 1793 والتيتنص على أنه إذا اغتصبت حق الشعب، فإن المقاومة الشعبية تمثل أقدس حقوقالإنسان.
والواقع أنه وإن نصت هذه الإعلانات على هذه الحقوق، فأنه لم يكن لهذهالنصوص أي أثر وضعي سواء في الدساتير أو في القوانين العادية.
3- هل تلغىالدساتير بعدم استعمالها؟
LA DESUETUDE D'UNE CONSTITUTION OPERE-T- ELLE SON ABROGATION
وهذه الحالة تفترض صدور دستور ما وعدم إتاحة الظروف العالمية أوالمحلية فرصة تطبيقية سواء كان ذلك – مثلا – نتيجة لنشوب حرب أو عوامل أخرى كعدمأمكان اجراء انتخاب الخ، وبدا للجماعة – أي الرأي العام – بعد ذلك أن هذا الدستورلم يعد يمثل الفكرة القانونية السائدة، فهل يا ترى يعتبر هذا الدستور ملغيا أم أنهيبقى نافذا ويمكن وضعه موضع التطبيق؟ والجواب على هذا السؤال أن الرأي الراجح فيالفقه بأنه ليس هناك ما يمنع من تطبيق هذا الدستور مادام قد وضع من قبل هيئة مختصة،وإذا كان صحيحا بأن الرأي العام قد تحول وعزف عنه فما عليه إلا أن يصدر دستوراجديدا ليصح اعتبار القديم لاغيا.