دور المعلم وآليات عمله.المجال المتصل بأدوار المعلم.بحث حول دور المعلم واليات عمله
أ. د. مصطفى رجب
قال ـ تعالى ـ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 41 - 45].
إنها خمـس آيـات تضمّنـت إحـدى وخمسـين كلـمـة، تـخـشع أمامهـا قلــوب المـؤمنين، وتقشعرُّ لسماعها جلود المخبتين، والآيات الخمس تضمُّ فنوناً من التربية متنوعة، وأساليب للدعوة بديعة باهرة.
إنه الإعجاز التربوي للقرآن الكريم في صورة من صوره: صورة الحوار بين مربٍّ وجهول، وعالم وعنيد، ونبي وكافر. إعجاز يقوم على أسس من الإقناع والتبصير ومحاولة تعديل السلــوك الخاطــئ، مستعيــناً في سبيل ذلك بكل ما آتاه الله ـ تعالى ـ من حكمة وحسن تقدير.
وفيـما يلـي تحلـيل لبعض جوانب هذا الإعجاز التربوي الفـذّ في مجـال من أهـمِّ مجـالات التربية، وهو ذلك المجال المتصل بأدوار المعلم:
ü أولاً: استثارة الدافعية:
من المسلَّم به عند التربويين أنه (لا تعلُّم بدون دافعية) فالمعلم مهما بلغ من النبوغ والبراعة، لا يمكنه دفع طلابه إلى التعلُّم إذا ما كانوا عنه معرضين، وفي العلم زاهدين، أما إذا توفر لديهم دافع داخلي يحفزهم فإنهم يُقبِلون على التعليم بعقول متفتِّحة، وقلوب واعية؛ لأن الدافعية تبعث في النفوس طاقة انفعالية، وتتحول هذه الطاقة إلى نشاط محسوس. ويرتهن نجاح المعلِّم في عمله بقدرته على استغلال دوافع تلاميذه من أجل تحريك نشاطهم وتعديل سلوكهم من أجل تحقيق أهداف يحدِّدها لهم.
وقد بدأ أبو الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ حواره مع أبيه بأن وضع له هدفاً يمسُّ حيــاته مسّــاً مباشــراً، وهــو النفـع أو المصلحة المبتغاة من عبادة الآلهة. فإذا كان الإله الذي يعبده المرء لا يسمع ولا يبصر؛ فكيف يمكنه أن يساعد من يعبـدونه؟! أو يحقق لهم نفعاً؟! أو يدفع عنهم ضرراً؟!
بدأ إبراهيم حواره بإثارة النشاط العقلي عند أبيه؛ لكي يحرِّك عنده طاقة انفعالية تجعله يفكر بالصورة الصحيحة في تلك الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر.
ü ثانياً: استعمال الحوافز:
ينجح المعلِّم بقدر تمكُّنه من استعمال الحوافز مع طلابه، فإذا آنسَ فيهم شروداً، أو عناداً، أو خـروجـاً علـى المألـوف، أو صُدوفاً عن التعليم، احتال لذلك بما يتوفر لديهم ولديه من حوافز مادية أو معنوية، كأن يعدُهم بمكافأة أو نــزهة أو حفل أو ما شابه ذلك مما تتوق إليه النفوس، وتنشط له الأبدان.
وسيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ بعد أن سعى إلى تنشيط عقل أبيه بالتفكير في جدوى عبادة الأصنام، أدرك
أن هذا التفكير عملية عقلية معقدة بالنسبة لإنسان جامد الفكر، فأراد أن يقدِّم له حافزاً يشجِّعه به على المضيّ في عملية التفكير، فأخبره بأن ما منَّ الله به عليه من العلم سوف يجعله في خدمة أبيه، وأن أباه لو أطاعه، وأعمل عقله فيما يعبد، لوصل إلى الحقيقة التي يتهرب منها، وهي أن هذه الأصنام التي ورث عبادتها عن آبائه وجدوده لا تنفع ولا تضرُّ، ولا بد أن لهذا الوجود خالقاً يجلُّ عن التجسيم. وهذا الخالق ـ جل وعلا ـ هو الذي رزق إبراهيم العلم.
فسيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ في هذا النداء الثاني: {يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43] يحفز أباه على الدخول معه في دنيا الإيمان الصافي بالخالق القادر.
ü ثالثاً: بسط الحقائق والتبصير بها:
ومن مهمات المعلِّم أن يبسط أمام طلابه حقائق الموقف التعلـيمي، ويبـصِّرهم بمـا لتلك الحقائق من أبعاد مختلفة تتـصل بهم، وبحياتهم، واهتماماتهم، ومصالحهم، حتى يحقق لهم بذلك البسط والتبصير القانون الذي يسميه التربويون (قانون التعرُّف)؛ بمعنى أن المتعلِّم إذا كان ذا معرفة بعناصر الموقف المراد تعلُّمه، فإن هذا يسهل عليه استيعاب هذا الموقف الجديد والتـكيّف معه. وهذا ما فعله سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ حين ربط لأبيه بين عبادة الأصنام، وعبادة الشيطان. وهذا أمر قد يغيب عن ذهن ذلك الأب الذي أعماه التقليد عن إدراك حقـائق الموقـف الجـامد الذي يقـفه من دعـوة ابنه. فهو لا يدرك أن عبادته للأصنام ما هي إلا عبادة للشيطان في الحقيقة؛ لأن الأصـنام حـجـارة لا قـدرة لها على التأثير في نفسها ولا في غيرها. أما