بحث عن العنف في المجتمع ,موضوع عن العنف ,مقال صحفي عن العنف ,تقرير عن العنف بالمجتمع
العنف في المجتمع:
المدرسة مثالاً
ـــــــــــــــــــــــــــ
تحسين يقين*
مقدمة:
انتفاضتان: الأولى عام 1987، والثانية عام 2000، أثرتا وما زالتا تؤثران على سلوك المواطنين في الشارع والمؤسسة، في البيت والمدرسة، ومما لا شك فيه أن عنف الاحتلال الذي بدا أشد في الانتفاضة الثانية سيؤثر على علاقات المواطنين الداخلية، وبشكل خاص على الأطفال والفتيان.
هذا البحث هو مقدمة لمحاصرة أسباب العنف من خلال الارتقاء بعملية التعليم والعلاقات الداخلية في المدرسة، للتخفيف من حدته من خلال الوعي على الإطار العام للمجتمع وموقعه من التاريخ والعالم وتفعيل عملية التعلم كمقدمة لتربية مدنية تقوم على الحوار. ونحب هنا أن نشير إلى أن بحث العنف في المدرسة الفلسطينية له علاقة بالمدارس في هذا العالم، فليس غريباً أن تبحث 80 دولة هذه المشكلة في مؤتمر عالمي رعته وزارة التربية الفرنسية في باريس بالتعاون مع اليونسكو في آذار 2001.
لا يستطيع الباحث أن يعزل أية ظاهرة اجتماعية كانت أو سياسية أو اقتصادية أو فكرية عن الظواهر الأخرى في المجتمع كثوابت ومتغيرات، إضافة إلى ما يضطرب من أحداث أو أفكار في المجتمعات القريبة والبعيدة.
والمفكر الاستراتيجي هو ذلك الإنسان المسؤول محلياً (وطنياً) وقومياً إن وجدت له دائرة قومية، وإنسانياً وهي الدائرة الكبيرة التي نتحرك كلنا فيها. أقول لا يستطيع أن يعزل التفصيلات الصغيرة جداً في مجتمعه، بل في كل قطاع من قطاعات مجتمعه، عن التفصيلات الأخرى المناظرة في الأماكن الأخرى خارج بلده أو إقليمه. وهو معني بشكل رئيس حتى يتأهل أن يكون مفكراً استراتيجياً وفيلسوفاً واقعياً بعيد النظر أن يلم بشكل مقبول بكل ما يضطرب في مجتمعه وفي العالم حتى يستطيع أن يوظف المعلومات التي يكتسبها في بحث ومعرفة ظاهرة ما يهتم بها، وحتى يكون قادراً أن يعرف على أية أرض يقف. إنه البناء إذن سواء ما كان متعلقاً بالمجتمع الواحد أو أحد قطاعاته أو العالم الكبير من حوله وصولاً إلى النظرة الأسمى نحو العالم كله (الأرض) كقرية صغيرة مقابل مجرات الكون وأفلاكه ونجومه وكواكبه.
وبالطبع ينطبق هذا الحديث على قطاع الفكر المجتمعي ومنه الفكر التربوي والتعليمي، وما نود أن نؤكد عليه بشكل مهم في هذه العجالة هو أهمية ربط قطاع التربية والتعليم بما يحدث في المجتمع الواحد والعالم كدائرة أوسع من مجرد إقليم ضيق انسجاماً مع ثورة الاتصالات والإعلام والعولمة بحديها السلبي والإيجابي، ذلك أنه اعتاد الباحثون، حتى هذه الأيام في بلادنا وفي غيرها، على البحث الجاف الأكاديمي الداخلي فيما يخص قطاعات التربية والتعليم والثقافة، ومنشأ ذلك أسلوب التربية التقليدية في مجال البحث وعدم اكتساب البعد الاستراتيجي في ربط القطاعات ببعضها وصولاً إلى استخدام أمثل للمعلومات سواء أكانت قادمة من القطاع المبحوث أم من القطاعات المساندة الأخرى. ونحن في فلسطين بشكل خاص، وفي الوطن العربي والعالم الثالث بشكل عام، يجب أن نكون معنيين في البدء من حيث انتهى الآخرين، وهو ألا ندرس التربية والتعليم في غياب التأثير والتأثر بالقطاعات الأخرى داخل المجتمع الواحد، ثم داخل المجتمعات الأخرى.
فالتعليم والتربية كمجال فكر ينتمي لما يعرف بالبنى الفوقية، له اتصال بالمنظومة الفوقية التي تضم الثقافة والفنون والفلسفة والأديان والاجتماع والعلوم الاقتصادية والسياسية وغيرها، وله اتصال بالمنظومة التحتية المشكلة من وسائل الإنتاج والمواد التي يرتكز عليها عيش الإنسان عضوياً وبيولوجياً وحيوياً، فالزراعة والصناعة والخدمات والعمران تشكل البنية المادية التحتية للإنسان، وثمة اتصال وتأثر في تطوير البنيتين في علاقتهما الأزلية معاً، بمعنى أن بنية العقل تطور بنية المادة، التي بدورها تكون عاملاً محفزاً ومستفزاً لصاحب العقل أن يطورها.
هذا في مجال المجتمع الواحد، أما في مجال المجتمعات الأخرى، فإن ثمة اتصال وتأثر وتأثير مشترك بين المجتمع الواحد بهذه المجتمعات، وهذا الاتصال له ثمراته في التعرف على خبرات الآخرين. وقد ظل هذا التأثير والتأثير المشترك مضبوطاً منذ الحضارات القديمة حتى عقود قريبة، وكان من الممكن السيطرة عليه، إلا أنه مع تقدم وسائل المواصلات التي سهلت التنقل، ومع تقدم الاتصالات بما فيها الثورة الإعلامية والمعلوماتية التي مثلت تكنولوجيا المعلومات الهائلة تتويجاً لها، فقد أصبحت السيطرة على عملية التبادل الثقافي والفكري على وجه الخصوص ضعيفة في ظل هذا الانفجار الذي بدأ أخيراً مع ظهور شبكات المعلومات العالمية المختلفة. وبذلك اختلت النظرة للمجتمع الواحد والمجتمعات الأخرى كحالة استقلال وعزلة، ومن هنا امتدت العالمية بشكل أو بآخر إلى تحريف لغوي آخر هو العولمة، ونحن لسنا هنا في مجال تفسير العولمة اقتصادياً أو فكرياً أو فلسفياً، بل نحن نتعاطى مع الموجود سلباً كان أم إيجاباً.
وما دامت الصورة متشابكة إلى هذه الدرجة، فمن الأولى قراءة أية ظاهرة داخلية بشكل مجتمعي مع الظواهر الأخرى، وقد آن الأوان للدرس التربوي أن ينطلق من قمقم البحث الأكاديمي الضيق إلى فضاء البحث الواسع، ثم من قال أن الأكاديمية هي الضيق؟ الأكاديمية في أصلها تنزع نحو الكمال المعرفي المستند للمعلومات، لكن قد تكون المشكلة في الأكاديميين، ومنهم التربويين، أي المشكلة فينا نحن حين نغض الطرف (ونحن مع الطلبة والمعلمين) عما يحدث في البلد والعالم من أحداث تؤثر علينا جميعاً، ثم نحاكي النعامة فندس رؤوسنا في الرمل وننصرف إلى التعليم والتربية بشكل مجرد.
المشكلة: العنف في المدارس:
وهكذا ليس من الصعب معرفة أن هذه الظاهرة/ مشكلة البحث هي من نتاج تراكم معرفي وثقافي منذ أمد طويل أصاب المجتمع والمدرس، إن هذه المشكلة قائمة على بقاء أنواع من العلاقات العنيفة داخل مدارسنا، وهي ليست ظاهرة وطنية بل هي ظاهرة عالمية أصابت المدرسة في غير بلاد واحدة، لذلك حين نحلل هذه المشكلة ونناقشها لا نكون في مجال الجلد الذاتي، بل نحن في مجال عالمي يناقش قضية إنسانية تهم ملايين البشر، تلك الأسرة التربوية التي تشكل معظم أفراد الشعوب. لقد نشأت المشكلة منذ أزمان طويلة، وهي ليست نتاج اللحظة، وقد تشربت مشكلة العنف من أصل تصادم الآراء والأحكام والنظرة إلى السلطة والقوة، ولذلك علاقة بأسلوب الحكم والحياة المعيشية الاجتماعية في الأسرة والشارع والسوق والمؤسسات. ولما كان التربويون جزءاً من هذه الحياة، فقد اكتسبوا عادات العنف من أصل حياتهم وفروعها الأخرى في المجالات التي اضطربوا فيها حينما كانوا أطفالاً قبل المدرسة، وطلبة ودارسين وباحثين ومعلمين ومديري مدارس وقائمين على مؤسسة التربية والتعليم.
أهمية المشكلة:
إن المساهمة في حل هذه المشكلة التي نتعرض لها جميعاً أو تعرضنا لها حين كنا أطفالاً ذات يوم، ستدفع نحو تطوير العملية التعليمية في بلادنا، ذلك أن القضاء على العنف داخل أروقة المدرسة سيؤدي إلى انصراف الطلبة والمعلمين ومديري المدارس والمسؤولين إلى تجويد تلك العملية، وسيعطي مجالاً لازدهار التربية والتعليم، هذا في المجال الواحد، وفي مجالات المجتمع المدني المنشود، سيساهم في تخريج عشرات الآلاف من الطلبة كي يكونوا مواطنين إيجابيين ومدنيين على طريق احترام آراء الآخرين والبعد عن الصدام الفكري والاجتماعي والسياسي، وعلى المدى البعيد سيخلق علاقة أكثر وضوحاً ومتانة بين مواطني دولة فلسطين وبين أشقائهم العرب والدول الأخرى، مما يعزز من فرص السلم الدولي المبني على التفاهم المشترك، وستكون العدالة الدولية وجهاً كبيراً للعدالة الاجتماعية في المجتمع الواحد. ومع تصويب مسار العلاقات الإسرائيلية العربية بشكل عام، والإسرائيلية الفلسطينية بشكل خاص، فستكون هناك فرصة أكبر لحماية منجزات السلام بين الشعبين اللذين يعيشان سوياً على هذه الأرض الواحدة، مما قد يعطي فرصة للأجيال القادمة للعيش بعيداً عن العنف، وفي ظل نزع فتيل الحرب في هذه المنطقة من العالم ينصرف الناس في بلادي وغيرها إلى الإصلاحات الأخرى التي كانت الحرب مبرراً لعدم إصلاحها، وسيكون في البال حل مشكلات المرأة والطفل والفقر والتطرف وتوزيع الموارد وامتلاك التكنولوجيا والرفاهية لجميع أفراد المجتمع. إن خلق مدرسة تقوم على اللاعنف يعني في نهاية المطاف خلق عالم يحترم الإنسان وحقوقه ويؤصل العيش المشترك.
بكلمات أخرى هناك مبرر قوي وأخلاقي وعالمي لمحاربة أشكال العنف في جميع القطاعات ومنها القطاع المؤسس للمواطنين، وهو القطاع التربوي، وفي الوقت الذي ننفق فيه على بناء مشاريع البنية التحتية، فإننا بحاجة لمن يحافظ عليها، وعلينا أن نبذل بسخاء لإشاعة هذه الفكرة، لأنها تشكل ضمانة السلم الاجتماعي الداخلي والدولي. وليست المسألة مجرد إنهاء هذه الظاهرة في الصفوف المدرسية، بل هي مدخل لإنهاء الصراع والنزاع الدولي، وهنا مكمن الخطورة والأهمية، إن المعلم الذي يحارب العنف هو مقاتل شجاع ضد ظواهر الحروب في كل زمان ومكان، تلك الحروب التي يكون أُكُلها الناس والأطفال وكل الأبرياء.
الإطار النظري:
لا شك أننا من خلال تلك الأسطر السابقة، استطعنا أن نشي بأسلوبنا في البحث، ذلك أننا نؤمن بوجود إطار عام تندرج تحته العناوين الرئيسة والفرعية وصولاً إلى الجزء الخاص بجزيئية البحث، ولنا أن نستفيد من المنجز الإنساني الموروث، إضافة إلى التراث الديني فيما يتعلق بما يشبه العنف الذي اصطلح عليه بهذا الاسم. ونحن أمام نظرتين: الأولى مادية حول نشوء الإنسان وتطوره على الأرض وصراعه مع الطبيعة وصراعه مع الإنسان على البقاء، وقد مر هذا الصراع الذي لا بد قد استلزم عنفاً مصاحباً له أثناء عملية الصراع في حلقات مختلفة، وهو صراع مادي حول المصالح انتهى بصراع فكري حاد، ويستطيع الباحث أن يدرس تاريخ البشرية كي يجد مبتغاه في تاريخ الحرب والسلام، أما النظرة الثانية فدينية في بداياتها ثم تلتقي مع الخط التاريخي الشفوي والمدون الذي خطه الإنسان، ولما كانت الأديان كبيرة الأثر على البشر، فإننا معنيون أن نثبت بعض الأحداث في مجال الصراع والعنف.
في الكتب السماوية هناك إشارة إلى خلق آدم وزوجه ومنعهما من أكل ثمرة التفاح (أو غيرها) في الجنة، أي أنهما يقعان في المحظور، وبذلك يتلقيان رداً عنيفاً من الله عز وجل، وينزلان إلى الأرض بأمر من الله "فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى، فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى، فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى، قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدىً فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى" (الآية 117-123 سورة طه).
في العهد القديم (التوراة) نقرأ نصاً واضحاً أن الإنسان لن يحصل على أي شيء إلا بعد صراع وجهد "وقال لآدم … بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك" (الآية 8 من تكوين 3و4 الاصحاح الثالث).
ومن خلال تناسل آدم وحواء، جاء هابيل وقابيل، وتدل العلاقة بينهما على وصول الإنسان (قابيل) إلى مستوى خطير من العنف بحيث وصل إلى درجة القتل، وكانت بذلك أول جريمة في تاريخ الإنسان: "واتل عيهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال لأقتلنك، قال إنما يتقبل الله من المتقين، لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين، إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين، فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين". (سورة المائدة/ الآية من 27-30).
وقد ورث بنو الإنسان صفات بني آدم خيرها وشرها، قد تكون هذه الصفات متأصلة في الإنسان، لكن لا نستطيع إغفال جانب اكتساب الصفات من المحيط البشري.
قال تعالى "وهديناه النجدين"، "وخلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين"، وسيجد الباحث الكثير من النصوص الدينية حول الخير والشر الذي يندرج تحت أحد عناوين العنف. وهناك متسع للباحثين لرصد هذه النصوص الدالة على القتال والعنف وتحليلها وبيان أثرها على المجتمع وعلى طلبة المدارس الذين يدرسونها، ونحن هنا نشير مجرد إشارة عابرة ونحن نتحدث باختصار شديد عن تاريخ العنف.
تطورت الأسرة الممتدة عند آدم وبنيه، ومع تطور حياتهم، وتطور أساليب عيشهم نشأت الآراء المختلفة لكل منهم، وهنا نتوقع أن التصادم الفكري (والمصلحي) كان له ما يبرره في ذلك المستوى البسيط من الحضارة.
إن التاريخ السياسي للعالم ولهذه المنطقة يدلنا على الصراعات المختلفة التي صاحبتها أعمال عنيفة أخذت في أهم أشكالها "الحروب"، ومع تشكل الإقليم العربي ـ الإسلامي نتيجة الفتوحات العربية الإسلامية، نشأت الكتل الكبيرة المتصارعة، ثم نشأت ثنائية الشرق ـ غرب والتضاد بين بلاد العرب والمسلمين وبلاد أوروبا والأقاليم الأخرى. ومع هذا الصراع بين الكتل الكبيرة نشأ صراع داخلي داخل الدولة العربية الإسلامية نفسها، إضافة لصراع داخل الأمراء والنبلاء الأوروبيين أيضاً. ونشأت في بلادنا داخل الإقليم الكبير صراعات عنيفة انعكست على الجمهور فتصدع السلم الاجتماعي. ولا تسعفنا أدبيات تلك النزاعات عن أثر الصراعات على أعمال العنف داخل الأسرة والشارع والمدارس، واقتصرت الأدبيات على رصد العنف السياسي فيما أشارت بعضها إلى تدهور أوضاع الناس خصوصاً الوضع الأمني، إلا أنه ما زال حتى الآن من يطلق عليه "صراع الحضارات"، وما مقالات صموئيل هنتنجتون في هذا المجال، إلا تذكير بصراع الكتل الكبيرة المختلفة دينياً وحضارياً. ولنا أن نتذكر الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي. ولم تسلم بلادنا من مشاكل العنف في أيام الدولة العثمانية خصوصاً عندما اتبعت سياسة التتريك وعدم الاهتمام برفاهية الأقاليم العربية، ومع وصول الرجل المريض (تركيا) إلى وضع التدهور التام، حل الاستعمار الأوروبي محل الظلم التركي، فنشأ عندنا نوع مبرر من العنف، وهو العنف الوطني والقومي (الثوري) ضد الاستعمار، وما بعد الاستعمار ظهر العنف الثوري (من نوع آخر) ضد القوى التقليدية (والحزبية) الأخرى في المجتمع الواحد، وكأن أنظمة الحكم الشابة الثورية قد ورثت العنف من الاستعمار، ونتيجة سوء وضع الحكم السياسي الذي استمر منذ عهد الاستقلال حتى الآن، ومحاولة بعض القوى المشاركة في الحكم عن طريق مبدأ تداول الحكم في النظم الديمقراطية، ونتيجة قمع الأنظمة لهذه الجماعات ومنها الجماعات الإسلامية على وجه الخصوص، فقد ظهر لدينا في الشارع العربي عنف بعض الجماعات الإسلامية الموجه ضد أنظمة الحكم التي لم تستطع استيعاب هذه الجماعات ضمن اللعبة الديمقراطية، فلسطينياً اقتصر العنف المذكور ضد إسرائيل وكان الصراع مع السلطة محدوداً، لكن في ظل قيام دولة فلسطينية بنظام حكم غير تعددي، قد ينشأ عندنا مثل هذا العنف الذي ظهر في الدول العربية، وبالطبع فنحن نتحدث عن العنف بشكل عام دون تحديد الإيجابي والسلبي، أو حتى التدخل من جانبنا، وخلال الحديث عن العنف في فلسطين، العنف السياسي والعسكري ضد الاحتلال الإسرائيلي، فسنجد الكثيرين يبررون هذا العنف ضد الاحتلال على المستويات الدولية والعربية والمحلية، بل هناك شرعية لهذا العنف الثوري. ونتيجة لبروز التيارات الثورية الوطنية والإسلامية في عقدي السبعينات والثمانينات، فقد ظهر عنف داخلي تمثل في أحداث الجامعات المحلية وكليات المجتمع وحتى المدارس الثانوية نتيجة التنافس على قيادة الشارع الفلسطيني.
فلسطين: العام والخاص:
المجتمع الفلسطيني هو مجتمع عربي شرقي ينتمي إلى العالم، وهذا يعني أنه يعاني العنف المحلي ضمن الإطار الخاص. ونتيجة كونه عربياً فسيعاني من المشاكل التي يتصف بها المجتمع العربي، كذلك الشرقي، وبانتمائه إلى العالم، فهذا يعني تأثره أيضاً ببعض ما يعاني منه العالم انسجاماً مع الاتصال الذي يحدث بين فلسطين والعالم الخارجي. وتمثل التربية الوسيلة التي يتم من خلالها بث الأفكار العامة ومنها أفكار ومفاهيم تخص العلاقة داخل العائلة التي تمثل اللبنة الأولى في المجتمع.
وقد انتقد د. هشام شرابي في هذا الصدد هذا الأسلوب حين أشار إلى سلبيات التعليم "إن التعليم كما يجري في إطار العائلة وخارجها، يتميز بصفتين رئيستين، فهو من جهة يقلل من أهمية الإقناع والمكافأة، ومن جهة أخرى يزيد من أهمية العقاب الجسدي والتلقين"(1).
ولما كان المجتمع العربي إسلامياً في غالبيته، فهو سيتأثر بأساليب التربية الدينية التقليدية التي تميل إلى التهديد والوعيد "إن الخطاب الديني في عديد من الدول العربية يميل إلى التهديد والوعيد أكثر مما يدعو إلى العقيدة المركزة والإقناع الرشيد، ويؤول في آخر الأمر إلى التوقف عند تصنيف الأمور بصورة مبسطة حق وباطل، حلال وحرام، سواد وبياض، وبذلك فهو يفتح الباب على مصراعية للتطرف الديني الذي يشكل رجماً لملكة الإنسان في التفكير والاجتهاد وكفراً بحكمة الله ونعمته"(2). فإذا ربطنا أسلوب التربية التي يقوم بها رجال الدين (والتعليم أيضاً) بأسلوب التربية في البيت، لوجدنا أن هناك انسجاماً بينهما خصوصاً أن سلطة الأب مطلقة في الأسرة العربية، بل أن مجتمعنا هو مجتمع أبوي كما نعيشه وكما تراه دراسات المجتمع العربي التي تناولت الحياة العربية الاجتماعية.
وما دمنا في الحالة العربية لمجتمعنا الفلسطيني، فلنا أن نربط بين مناهج الحكم ومناهج التعليم، .. "دور الدولة في التعليم في البلدان العربية يتجاوز دور التنسيق بكثير، فهي بادئ ذي بدء تقوم بالإشراف على كتابة المناهج، وهي لا تتورع عن كتابة المناهج ذات العلاقة الوثيقة بالمسائل السياسية مثل الدين والتاريخ وغيرها، بطريقة تأمل من ورائها اكتساب الشرعية السياسية في نظر الشعب الذي لم تلجأ إليه أبداً للحصول على الشرعية، وأحياناً تلقي الأنظمة السياسية جانباً بكل مظاهر احترام الاستقلال الأكاديمي، حيث تنص قوانين الجامعات صراحة على تحقيق الانسجام والتكامل بين أهداف التعليم العالي ومخططات الدولة"(3).
لقد كان المجتمع الفلسطيني جزءاً من الدولة العربية الإسلامية ابتداءً من الفتح العربي في زمن الخليفة عمر بن الخطاب حتى سقوط الدولة العثمانية، ثم تعرض للانتداب البريطاني، وبعد ذلك تعرض جزء منه للاحتلال الإسرائيلي والجزء الآخر للحكم العربي (الأردني، والمصري)، ومع قيام أول سلطة وطنية في فلسطين واستلامها مسؤوليات التربية والتعليم عام 1994 حتى الآن، فإننا نجد أنه بالرغم من استمرار الحالة العربية عندنا، إلا أن هناك توقاً تربوياً على الأقل نحو تفعيل التربية وعصرنتها وبث مفاهيم ديمقراطية في العملية التعليمية، ومن هذه المفاهيم إقامة علاقة إنسانية بين أركان العملية خصوصاً بين المعلم ـ الطالب، واستلزم ذلك طلب الوزارة صراحة بعدم استخدام أساليب العنف المادي واللفظي تجاه الطلبة بالإضافة لنشر العشرات من المرشدين النفسيين في المدارس لتوجيه سلوك الطلبة وفهم نفسياتهم وحل مشاكلهم بأساليب تربوية حديثة بعيداً عن الأساليب القديمة. ومعنى ذلك أن رأس الهرم التربوي يتفق مع اللاعنف في المدارس، لكن المشكلة تظل كامنة في الطالب والمعلم والمدير، كونهم مواطنين ما زالوا يتأثرون بالمجتمع الذي يعيشون فيه.