▦ شَرْحُ حَدِيثِ: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ▦
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا . رواه البخاري (6064)
قَوْلُهُ : ( إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ الَّذِي تُنَاطُ بِهِ الْأَحْكَامُ غَالِبًا ، بَلِ الْمُرَادُ تَرْكَ تَحْقِيقِ الظَّنِّ الَّذِي يَضُرُّ بِالْمَظْنُونِ بِهِ ، وَكَذَا مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَائِلَ الظُّنُونِ إِنَّمَا هِيَ خَوَاطِرُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا ، وَمَا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ لَا يُكَلَّفُ بِهِ ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ تَجَاوَزَ اللَّهُ لِلْأُمَّةِ عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : الْمُرَادُ بِالظَّنِّ هُنَا التُّهْمَةُ الَّتِي لَا سَبَبَ لَهَا كَمَنْ يَتَّهِمُ رَجُلًا بِالْفَاحِشَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِيهَا ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَلَا تَجَسَّسُوا وَذَلِكَ أَنَّ الشَّخْصَ يَقَعُ لَهُ خَاطِرُ التُّهْمَةِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَحَقَّقَ فَيَتَجَسَّسُ وَيَبْحَثُ وَيَسْتَمِعُ ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ قَوْلَهُ - تَعَالَى - : اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَدَلَّ سِيَاقُ الْآيَةِ عَلَى الْأَمْرِ بِصَوْنِ عِرْضِ الْمُسْلِمِ غَايَةَ الصِّيَانَةِ لِتَقَدُّمِ النَّهْيِ عَنِ الْخَوْضِ فِيهِ بِالظَّنِّ ، فَإِنْ قَالَ الظَّانُّ أَبْحَثُ لِأَتَحَقَّقَ ، قِيلَ لَهُ وَلَا تَجَسَّسُوا فَإِنْ قَالَ تَحَقَّقْتُ مِنْ غَيْرِ تَجَسُّسٍ قِيلَ لَهُ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَقَالَ عِيَاضٌ : اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ قَوْمٌ عَلَى مَنْعِ الْعَمَلِ فِي الْأَحْكَامِ بِالِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ ، وَحَمَلَهُ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى ظَنٍّ مُجَرَّدٍ عَنِ الدَّلِيلِ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ وَلَا تَحْقِيقِ نَظَرٍ . وَقَالَ النَّوَوِيُّ : لَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ بِالظَّنِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالِاجْتِهَادِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ أَصْلًا ، بَلِ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِذَلِكَ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ضَعْفَهُ ظَاهِرٌ وَأَمَّا بُطْلَانُهُ فَلَا ، فَإِنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِذَلِكَ ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ حُمِلَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَدْ قَرَّبَهُ فِي " الْمُفْهِمِ " وَقَالَ : الظَّنُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي هُوَ تَغْلِيبُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ أَوْ هُوَ بِمَعْنَى الْيَقِينِ لَيْسَ مُرَادًا مِنَ الْحَدِيثِ وَلَا مِنَ الْآيَةِ . فَلَا يُلْتَفَتُ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى إِنْكَارِ الظَّنِّ الشَّرْعِيِّ . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ بِسَدِّ الذَّرِيعَةِ فِي الْبَيْعِ فَأَبْطَلَ بَيْعَ الْعِينَةِ ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ النَّهْيُ عَنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ شَرًّا ، فَإِذَا بَاعَ شَيْئًا حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ بِهِ وَلَمْ يَبْطُلْ بِمُجَرَّدِ تَوَهُّمِ أَنَّهُ سَلَكَ بِهِ مَسْلَكَ الْحِيلَةِ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ . وَأَمَّا وَصْفُ الظَّنِّ بِكَوْنِهِ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ، مَعَ أَنَّ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ إِلَى ظَنٍّ أَصْلًا أَشَدُّ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يَسْتَنِدُ إِلَى الظَّنِّ ، فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الظَّنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ إِلَى شَيْءٍ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَيُجْعَلُ أَصْلًا وَيُجْزَمُ بِهِ ، فَيَكُونُ الْجَازِمُ بِهِ كَاذِبًا ؛ وَإِنَّمَا صَارَ أَشَدَّ مِنَ الْكَاذِبِ ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ فِي أَصْلِهِ مُسْتَقْبَحٌ مُسْتَغْنًى عَنْ ذَمِّهِ ، بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّ صَاحِبَهُ بِزَعْمِهِ مُسْتَنِدٌ إِلَى شَيْءٍ فَوُصِفَ بِكَوْنِهِ أَشَدَّ الْكَذِبِ مُبَالَغَةً فِي ذَمِّهِ وَالتَّنْفِيرِ مِنْهُ ، وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّ الِاغْتِرَارَ بِهِ أَكْثَرُ مِنَ الْكَذِبِ الْمَحْضِ لِخَفَائِهِ غَالِبًا وَوُضُوحِ الْكَذِبِ الْمَحْضِ .
قَوْلُهُ : ( فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ) قَدِ اسْتُشْكِلَ تَسْمِيَةُ الظَّنِّ حَدِيثًا ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ مُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا يَنْشَأُ عَنِ الظَّنِّ فَوُصِفَ الظَّنُّ بِهِ مَجَازًا .
قَوْلُهُ : ( وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا ) إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ بِالْجِيمِ وَالْأُخْرَى بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا حَذْفُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا ، وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ الْمَنَاهِي الَّتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ ، وَالْأَصْلُ تَتَحَسَّسُوا ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ لَا تَبْحَثُوا عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ وَلَا تَتَّبِعُوهَا ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - حَاكِيًا عَنْ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي بِالْمُهْمَلَةِ مِنَ الْحَاسَّةِ إِحْدَى الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ ، وَبِالْجِيمِ مِنَ الْجَسِّ بِمَعْنَى اخْتِبَارِ الشَّيْءِ بِالْيَدِ وَهِيَ إِحْدَى الْحَوَاسِّ ، فَتَكُونُ الَّتِي بِالْحَاءِ أَعَمَّ . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ : هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : ذَكَرَ الثَّانِي لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِمْ بُعْدًا وَسُخْطًا ، وَقِيلَ بِالْجِيمِ الْبَحْثُ عَنْ عَوْرَاتِهِمْ وَبِالْحَاءِ اسْتِمَاعُ حَدِيثِ الْقَوْمِ ، وَهَذَا رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَحَدِ صِغَارِ التَّابِعِينَ . وَقِيلَ بِالْجِيمِ الْبَحْثُ عَنْ بَوَاطِنِ الْأُمُورِ وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الشَّرِّ ، وَبِالْحَاءِ الْبَحْثُ عَمَّا يُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ وَرَجَّحَ هَذَا الْقُرْطُبِيُّ ، وَقِيلَ بِالْجِيمِ تَتَبُّعُ الشَّخْصِ لِأَجَلِ غَيْرِهِ وَبِالْحَاءِ تَتَبُّعُهُ لِنَفْسِهِ وَهَذَا اخْتِيَارُ ثَعْلَبٍ ، وَيُسْتَثْنَى مِنَ النَّهْيِ عَنِالتَّجَسُّسِ مَا لَوْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا إِلَى إِنْقَاذِ نَفْسٍ مِنَ الْهَلَاكِ مَثَلًا كَأَنْ يُخْبِرَ ثِقَةً بِأَنَّ فُلَانًا خَلَا بِشَخْصٍ لِيَقْتُلَهُ ظُلْمًا ، أَوْ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا ، فَيُشْرَعُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ التَّجَسُّسُ وَالْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ اسْتِدْرَاكِهِ ، نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ " الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ " لِلْمَاوَرْدِيِّ وَاسْتَجَادَهُ ، وَأَنَّ كَلَامَهُ : لَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَبْحَثَ عَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِسْرَارُ أَهْلِهَا بِهَا إِلَّا هَذِهِ الصُّورَةَ .
قَوْلُهُ : ( وَلَا تَحَاسَدُوا ) الْحَسَدُ تَمَنِّي الشَّخْصِ زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْ مُسْتَحِقٍّ لَهَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ أَوْ لَا ، فَإِنْ سَعَى كَانَ بَاغِيًا ، وَإِنْ لَمْ يَسْعَ فِي ذَلِكَ وَلَا أَظْهَرَهُ وَلَا تَسَبَّبَ فِي تَأْكِيدِ أَسْبَابِ الْكَرَاهَةِ الَّتِي نُهِيَ الْمُسْلِمُ عَنْهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ نُظِرَ : فَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَجْزُ بِحَيْثُ لَوْ تَمَكَّنَ لَفَعَلَ فَهَذَا مَأْزُورٌ ، وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ التَّقْوَى فَقَدْ يُعْذَرُ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَ الْخَوَاطِرِ النَّفْسَانِيَّةِ فَيَكْفِيهِ فِي مُجَاهَدَتِهَا أَنْ لَا يَعْمَلَ بِهَا وَلَا يَعْزِمَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ رَفَعَهُ ثَلَاثٌ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ : الطِّيَرَةُ وَالظَّنُّ وَالْحَسَدُ . قِيلَ : فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : إِذَا تَطَيَّرْتَ فَلَا تَرْجِعْ ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقْ ، وَإِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ " وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ : مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا وَفِيهِ الْحَسَدُ . فَمَنْ لَمْ يُجَاوِزْ ذَلِكَ إِلَى الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ لَمْ يَتْبَعْهُ مِنْهُ شَيْءٌ .
قَوْلُهُ : ( وَلَا تَدَابَرُوا ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ : لَا تَتَهَاجَرُوا فَيَهْجُرُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ ، مَأْخُوذٌ مِنْ تَوْلِيَةِ الرَّجُلِ الْآخَرِ دُبُرَهُ إِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ حِينَ يَرَاهُ . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : قِيلَ لِلْإِعْرَاضِ مُدَابَرَةٌ لِأَنَّ مَنْ أَبْغَضَ أَعْرَضَ وَمَنْ أَعْرَضَ وَلَّى دُبُرَهُ ، وَالْمُحِبُّ بِالْعَكْسِ . وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَسْتَأْثِرُ أَحَدُكُمْ عَلَى الْآخَرِ ، وَقِيلَ لِلْمُسْتَأْثِرِ مُسْتَدْبِرٌ لِأَنَّهُ يُوَلِّي دُبُرَهُ حِينَ يَسْتَأْثِرُ بِشَيْءٍ دُونَ الْآخَرِ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ : مَعْنَى التَّدَابُرِ الْمُعَادَاةُ يَقُولُ دَابَرْتُهُ أَيْ عَادَيْتُهُ . وَحَكَى عِيَاضٌ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تُجَادِلُوا وَلَكِنْ تَعَاوَنُوا ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى . وَقَدْ فَسَّرَهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " بِأَخَصَّ مِنْهُ فَقَالَ إِذْ سَاقَ حَدِيثَ الْبَابِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا السَّنَدِ : وَلَا أَحْسِبُ التَّدَابُرَ إِلَّا الْإِعْرَاضَ عَنِ السَّلَامِ ، يُدْبِرُ عَنْهُ بِوَجْهِهِ . وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا ، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ فَإِنَّهُ يُفْهِمُ أَنَّ صُدُورَ السَّلَامِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا يَرْفَعُ ذَلِكَ الْإِعْرَاضَ ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي " بَابِ الْهِجْرَةِ " وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ فِي " زِيَادَاتِ كِتَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ "لِابْنِ الْمُبَارَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : التَّدَابُرُ التَّصَارُمُ .
قَوْلُهُ : ( وَلَا تَبَاغَضُوا ) أَيْ لَا تَتَعَاطَوْا أَسْبَابَ الْبُغْضِ ، لِأَنَّ الْبُغْضَ لَا يُكْتَسَبُ ابْتِدَاءً . وَقِيلَ الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّبَاغُضِ . قُلْتُ : بَلْ هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَهْوَاءِ ، لِأَنَّ تَعَاطِي الْأَهْوَاءِ ضَرْبٌ مِنْ ذَلِكَ ،وَحَقِيقَةُ التَّبَاغُضِ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَقَدْ يُطْلَقُ إِذَا كَانَ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ مَا كَانَ فِي غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ فِيهِ وَيُثَابُ فَاعِلُهُ لِتَعْظِيمِ حَقِّ اللَّهِ وَلَوْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ السَّلَامَةِ ، كَمَنْ يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَى اعْتِقَادٍ يُنَافِي الْآخَرَ فَيَبْغُضُهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مَعْذُورٌ عِنْدَ اللَّهِ .
قَوْلُهُ : ( وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ) بِلَفْظِ الْمُنَادَى الْمُضَافِ ، زَادَ مُسْلِمٌ فِي آخِرِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَمِثْلَهُ عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُشْبِهُ التَّعْلِيلَ لِمَا تَقَدَّمَ ، كَأَنَّهُ قَالَ إِذَا تَرَكْتُمْ هَذِهِ الْمَنْهِيَّاتِ كُنْتُمْ إِخْوَانًا وَمَفْهُومُهُ إِذَا لَمْ تَتْرُكُوهَا تَصِيرُوا أَعْدَاءً ، وَمَعْنَى كُونُوا إِخْوَانًا اكْتَسِبُوا مَا تَصِيرُونَ بِهِ إِخْوَانًا مِمَّا سَبَقَ ذِكْرُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا ، وَقَوْلُهُ عِبَادُ اللَّهِ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ فَحَقُّكُمْ أَنْ تَتَوَاخُوا بِذَلِكَ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : الْمَعْنَى كُونُوا كَإِخْوَانِ النَّسَبِ فِي الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْمُعَاوَنَةِ وَالنَّصِيحَةِ ، وَلَعَلَّ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الزَّائِدَةِ كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَيْ بِهَذِهِ الْأَوَامِرِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا فَإِنَّهَا جَامِعَةٌ لِمَعَانِي الْأُخُوَّةِ ، وَنِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا لَا أَقُولُ إِلَّا مَا أَقُولُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ الْإِشَارَةَ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَإِنَّهُ خَبَرٌ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : تَضَمَّنَ الْحَدِيثُ تَحْرِيمَ بُغْضِ الْمُسْلِمِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَقَطِيعَتِهِ بَعْدَ صُحْبَتِهِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ شَرْعِيٍّ ، وَالْحَسَدِ لَهُ عَلَى مَا أُنْعِمَ بِهِ عَلَيْهِ ، وَأَنْ يُعَامِلَهُ مُعَامَلَةَ الْأَخِ النَّسِيبِ ، وَأَنْ لَا يُنَقِّبَ عَنْ مَعَايِبِهِ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ ، وَقَدْ يَشْتَرِكُ الْمَيِّتُ مَعَ الْحَيِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ .
( تَنْبِيهٌ ) : وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَلَا تَنَافَسُوا وَكَذَا وَقَعَتْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ وَبَيَّنَ الِاخْتِلَافَ فِيهَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِهِ كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَيْهَا . وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيهِ وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَأَفْرَدَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَمِثْلُهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ " إِخْوَانًا "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ : دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ، التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَقَدْ أَفْرَدَهَا أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ الْأَعْرَجِ فِيهِ زِيَادَةٌ سَأَذْكُرُهَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ . وَهَذِهِ الطَّرِيقُ مِنْ رِوَايَةِ مَوْلَى عَامِرٍ أَجْمَعُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ أَحْيَانًا مُخْتَصَرًا وَطَوْرًا بِتَمَامِهِ ، وَقَدْ فَرَّقَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَحَادِيثَ ، وَمِمَّنْ وَقَعَ عِنْدَهُ بَعْضَهُ مُفَرَّقًا ابْنُ مَاجَهْ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ مِنْ كِتَابِهِ وَهُوَ حَدِيثٌ عَظِيمٌ اشْتَمَلَ عَلَى جُمَلٍ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْآدَابِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا .
الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله
فتح الباري » كتاب الأدب » بَاب مَا يُنْهَى عَنْ التَّحَاسُدِ وَالتَّدَابُرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ » 6064