رفع عيسى عليه السلام.متوفيك ورافعك.وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله.
حديث القرآن الكريم عن رفع الله لعبده ورسوله عيسى عليه السلام ورد في آيتين كريمتين، الأولى: قوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} (آل عمران:55)، وللعلماء قولان في المراد من قوله سبحانه: {متوفيك ورافعك}:
الذي عليه جمهور أهل العلم أن المراد: قابضك من الأرض، ورافعك إلى السماء بجسدك وروحك، لتستوفي حظك من الحياة هناك.
وذهب فريق من أهل العلم إلى أن المراد بـ {متوفيك ورافعك} أي: مميتك، ورافع منزلتك وروحك إلى محل كرامتي، ومقر ملائكتي، كما ترفع أراوح الأنبياء.
والآية الكريمة تخبر عن جانب من فضائل عيسى عليه السلام، وتبين للناس جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين يوم القيامة؛ ليثوبوا إلى رشدهم، ويسلكوا الطريق الذي يوصلهم إلى ربهم.
والآية الثانية التي أكدت حقيقة رفع عيسى عليه السلام، قوله عز وجل: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما * وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} (النساء:156-157)، وهذه الآية تحدثت عن جانب من الرذائل التي وصف الله تعالى بها الظالمين من بني إسرائيل، ومن بينها كذبهم على مريم أم عيسى عليها السلام، وزعمهم قتلهم عيسى عليه السلام، وقولهم هذا وإن كان يخالف الحقيقة والواقع، إلا أنه يدل على أنهم أرادوا قتله فعلاً، وسلكوا كل السبل لبلوغ غايتهم الدنيئة، فدسوا عليه عند الرومان، ووصفوه بالدجل والشعوذة، وحاولوا أن يسلموه لأعدائه ليصلبوه، وأسلموه فعلاً لهم، ولكن الله خيب سعيهم، وأبطل مكرهم، وحال بينهم وبين ما يشتهون، حيث نجى عيسى من شرورهم، ورفعه إليه دون أن يمسه سوء منهم.
وقد نقل الآلوسي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه السلام، دخل خوخة -مدخل بين دارين لم ينصب عليه باب- وفيها كوة، فرفعه جبريل عليه السلام من الكوة إلى السماء، فقال الملك لرجل منهم خبيث: ادخل عليه فاقتله، فدخل الخوخة، فألقى الله تعالى عليه شَبَه عيسى عليه السلام، فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت، فقتلوه وصلبوه، وظنوا أنه عيسى.
ونقل الآلوسي عن وهب قوله: أسروه ونصبوا خشبة ليصلبوه، فأظلمت الأرض، فأرسل الله الملائكة، فحالوا بينه وبينهم، فأخذوا رجلاً يقال له: يهودا، وهو الذي دلهم على عيسى، وذلك أن عيسى جمع الحواريين تلك الليلة، وأوصاهم، ثم قال: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك، فيبيعني بدراهم يسيرة، فخرجوا وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه، فأتى أحد الحواريين إليهم، وقال: ما تجعلون لي إن دللتكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهماً، فأخذها ودلهم عليه، فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى، فأدخل البيت ورفع، وقال: أنا الذي دللتكم عليه، فلم يلتفتوا إلى قوله، وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى...
وروى ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج على أصحابه -وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين- يعني: فخرج عليهم من عين في البيت، ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة، بعد أن آمن بي. ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي، فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سناً، فقال له: اجلس. ثم أعاد عليهم، فقام ذلك الشاب، فقال: اجلس. ثم أعاد عليهم، فقام الشاب، فقال: أنا. فقال: أنت هو ذاك. فألقي عليه شَبَه عيسى، ورُفع عيسى من روزنة -كوة- في البيت إلى السماء. قال: وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشبه فقتلوه، ثم صلبوه، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة، بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق، فقالت طائفة: كان الله فينا ما شاء، ثم صعد إلى السماء. وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء، ثم رفعه الله إليه. وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء، ثم رفعه الله إليه. وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة، فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس.
واختلف أهل الكتاب في شأن عيسى عليه السلام اختلافاً كبيراً؛ فمنهم من زعم أنه ابن الله، وادعى أن في عيسى عنصراً إلهيًّا مع العنصر الإنساني، وأن الذي ولدته مريم هو العنصر الإنساني، ثم أفاض عليه بعد ذلك العنصر الإلهي. ومنهم من قال: إن مريم ولدت العنصرين معاً، وكلا القولين أبطلهما القرآن الكريم، وقرر أن عيسى عبد الله ورسوله.
ثم اختلفوا في أمر قتله؛ فقال بعض اليهود: إنه كان كاذباً، فقتلناه قتلاً حقيقيًّا، وتردد آخرون، فقالوا: إذا كان المقتول عيسى، فأين صاحبنا؟ وإن كان المقتول صاحبنا، فأين عيسى؟ وقد زعم اليهود أنهم قتلوا عيسى عليه السلام، وزعمهم هذا أبعد ما يكون عن الحق والصواب؛ لأن الحق المتيقن في هذه المسألة أنهم لم يقتلوه، فقد نجاه الله من مكرهم، ورفع عيسى عليه السلام إليه. وهذا الذي يجب اعتقاده بنص القرآن، وهو أن عيسى عليه السلام لم يُقتل، ولم يُصلب، وإنما رفعه الله إليه، ونجاه من مكر أعدائه، أما الذي قُتل وصُلب فهو شخص سواه.
وقد ورد في سياق الآيات التي تتحدث عن رفع عيسى عليه السلام قوله تعالى: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} (النساء:159)، وقد اختلف المفسرون في عود الضمير في قوله سبحانه: {قبل موته}:
فقال بعضهم: الضمير يعود إلى عيسى عليه السلام، والمعنى: إن من أهل الكتاب من يؤمن بعيسى قبل موته. وقد انتصر لهذا الاتجاه شيخ المفسرين الإمام الطبري، حيث قال: "وأولى الأقوال بالصحة والصواب، قول من قال: تأويل ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى". وعقَّب ابن كثير على قول الطبري بقوله: "ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح؛ لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شُبِّه لهم، فقتلوا الشبيه، وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باق حي، وإنه سينـزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة".
وقال فريق: الضمير يعود إلى الكتابي المدلول عليه بقوله سبحانه: {وإن من أهل الكتاب}، والمعنى: وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت هذا الكتابي؛ لأنه عند ساعة الاحتضار يتجلى له الحق، ويتبين صحة ما كان ينكره ويجحده، فيؤمن بعيسى، ويشهد بأنه عبد الله ورسوله، وأن الله واحد لا شريك له، ولكن هذا الإيمان لا ينفعه؛ لأنه جاء في وقت الغرغرة، وهو وقت لا ينفع فيه نفس إيمانها، لم تكن آمنت من قبل.
وهكذا، يبين حديث القرآن الكريم عن رفع عيسى عليه السلام المنزلة التي حباه الله بها، فقد رفعه سبحانه إليه تشريفاً وتكريماً.