باحث - يحدد - مكان - جنة - عدن
ينصب جزء لا يستهان به من البحوث العلمية على إعطاء تفسير مادي مقبول للأحداث التاريخية التي سجلت في الماضي على جدران المعابد أو في الرقم الطينية كملحمة جلجامش الأسطورية السومرية أو المخطوطات القديمة كمخطوطات البحر الميت أو ما سجله المؤرخ الإغريقي هوميروس في الإلياذة والأوديسا . أو ما أشارت إليه الكتب السماوية كحادثة طوفان سيدنا نوح عليه السلام على ضوء الإكتشافات العلمية والجيولوحية والأثرية.
نتناول في هذا المقال كما يوحي عنوانه دراسة أجراها الباحث جوريس زارين وزعم فيها أنه وصل أخيراً إلى تحديد موقع جنة عدن على ضوء قراءته للنصوص التوراتية، عرضت تلك الدراسة في قناة التاريخ History الوثاثقية التلفزيونية، لكن قبل البدء في عرض أفكار الدراسة نورد ما ذكرته الكتب السماوية عن جنة عدن بأنهارها وقصة طرد آدم أبو البشر وزوجته حواء (أم كل حي) منها:
جنة عدن في الكتب السماوية
ذكر القرآن الكريم قصة طرد آدم وحواء من الجنة بسبب مخالفتهما لأمر الله المتمثل بعدم الأكل من الشجرة المحرمة، حدث ذلك عندما أغواهما الشيطان حيث يقول الله تعالى :"وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)" - سورة البقرة .
- كما أن سفر التكوين وهو أول أسفار موسى الخمس كما أنه أول أسفار العهد القديم لدى معتنقي الدين المسيحي القديم من الكتاب المقدس ذكر حدوث إغواء ولكن لم يذكر اسم الشيطان فيه بل اكتفى بذكر أن الثعبان (الحية) هي من أغوت حواء أولاً لتقدم التفاحة من الشجرة المحرمة لآدم لكي يأكلها كما نجده في الآيات التالية من الإصحاح الثالث:
(1) وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة: أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة (2) فقالت المرأة للحية : من ثمر شجر الجنة نأكل (3) وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا (4) فقالت الحية للمرأة : لن تموتا (5) بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر (6) فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر. فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضا معها فأكل (13)فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت ؟ فقالت المرأة: الحية غرتني فأكلت (14) فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا، ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل أيام حياتك (22) وقال الرب الإله: هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد (23 ) فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها (24) فطرد الإنسان، وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم، ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة.
جنة عدن وأنهارها الأربع
يذكر أحد الأحاديث الشريفة أنهار جنة عدن الأربع وهي سيحان وجيحان والفرات والنيل ، ففي صحيح مسلم يرد الحديث :"حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ وَعَلِىُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :" سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ".
- وكذلك في التوارة ورد ذكر أربعة أنهار تنبع من نفس النقطة في جنة عدن هي فيشون (ربما يشير إلى سيحان ؟) و جيحون (ربما يشير إلى جيحان ؟) والفرات وحداقل (اي نهر دجلة في آشور العراق) وذلك في الآيات التالية من الإصحاح الثاني من سفر التكوين :
(
وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا، ووضع هناك آدم الذي جبله (9) وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة ، وشجرة معرفة الخير والشر (10) وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس (11) اسم الواحد فيشون، وهو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب (12) وذهب تلك الأرض جيد . هناك المقل وحجر الجزع (13) واسم النهر الثانى جيحون، وهو المحيط بجميع أرض كوش (14) واسم النهر الثالث حداقل، وهو الجاري شرقي أشور. والنهر الرابع الفرات (15) وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها (16) وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلا (17) وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتا تموت
في البحث عن جنة عدن
قبل البدء في عرض أفكار الدراسة التي تتناول تحديد موقع جنة عدن يجدر بالتنويه أن تلك الدراسة قد تصطدم بمنظومة المعتقدات الدينية لدى بعض القراء، لذلك أرجو إعتبارها دراسة ذات منطلق علمي بحت على غرار نظرية داروين في تطور الأنواع والتي تشير إلى أصول الإنسان، كما ليس عرض الدراسة ليس له أية غاية في التأثير على المعتقدات ، مع أن الأفكار الواردة أدناه تعبر عن رأي الباحثين المشاركين فيها حتى وإن بدت كفراً في نظر البعض بسبب النظرة المادية الأحادية للأمور والتي لا تؤمن إلا بالعلم التجريبي فقط فأنا أحافظ على مبدأ:"ناقل الكفر ليس بكافر".
- كان علماء الآثار قد حددوا مراكز تمارس فيها طقوس عبادة الثعبان في العالم القديم وهي أرض سومر Sumaria (تقع في الجزء الجنوبي من العراق حالياً) ، كان الدارس الفيكتوري جورج سميث أول من ترجم ملحمة جلجامش وفي عام 1875 أعلن عن أعظم اكتشافاته وهي إينوما أيليش Enuma Elish أي قصة بدء الخلق بحسب معتقدات السومريين والتي ترجع كتابتها إلى 2000 عام قبل الميلاد، يتحدث النص المحفور أن العالم خلق في 7 أيام وبأن العالم بدأ بحديقة (جنة) كما في النص التوراتي، وعلى عكس التوراة خلق العالم السومري بواسطة ربة لها شكل أفعى عملاقة تسمى تيامات Tiamat ، فهل أخذ العبرانيون تلك الأسطورة السومرية جعلوها لهم ؟ وهل تحولت فكرة تلك الآلهة الأفعى لتصبح غاوياً شيطانياً ؟ ، في ذلك الخصوص يرى الدراسون للأديان القديمة أنه نسق مألوف في علم الأساطير (الميثولوجيا) ، إذ غالباً ما تظهر عناصر مأخوذة عن أسطورة أقدم مجدداً في ديانات لاحقة ، تعود أقدم الأجزاء معروفة من النصوص التوراتية التي أعيدت كتابتها إلى 1000 سنة قبل الميلاد وربما كانت تتضمن أساطير قديمة من الأرض التي أصبحت موطن إبراهيم عليه السلام الذي أتى منه نسل بني إسرائيل ، ولكن هل هي مجرد مصادفة أن يحدد النص التوراتي موقع جنة عدن عند ملتقى منابع نهر الفرات ونهر دجلة ونهرين آخرين هما فيشون Pison (سيحان) وجيحان Gihon ؟ في يومنا هذا يجري نهري الفرات ودجلة عبر أراضي تركيا وسوريا والعراق لكنهما لا ينبعان من نفس المكان كما أن نهرا سيحان وجيحان غير متواجدان .
- ومع ذلك يعتقد جوريس زارين وهو عالم آثار أمريكي-لاتفي وبروفسور في جامعة ولاية ميسوري الأمريكية ومتخصص في الشرق الأوسط أنه توصل إلى حل اللغز ، فقد كان سافر إلى شبه الجزيرة العربية في عام 1971 لإجراء بحث حول آثار الحضارات القديمة هناك فاكتشف بأن شبه الجزيرة والعربية لم تكن على الدوام صحراء قاحلة وإنما كانت تحوي على مياه وافرة جداً على عكس أيامنا هذه، وتشكلت الدلتا من نهري الفرات ودجلة بالقرب من مصبهما وتسمى دلتا وادي الباطن وهي نظام نهري مذهل وضخم يروي المنطقة الشمالية الغربية من شبه الجزيرة العربية ويمضي تدريحياً نحو المنطقة الشمالية الشرقية منها، وهذا أثار إهتمام الباحث زارين لدراسة المنطقة عن كثب.
- وأثناء البحث طلب زارين تزويده بصور جديدة التقطت من قمر لاندسات الصنعي ، ولم يستطع زراين أن يلتقط أنفاسه لدى رؤيته للصور، فقد كشفت الصور عن ما بدا أنه آثار مستحاثية لنهرين أصبحا جافين الآن ويقعان في وقتنا الحاضر في كل من أراضي المملكة العربية السعودية وإيران ، فهل هذا آثار ما ورد ذكره في النص التوراتي ؟ ، يتحدث التوراة عن 4 أنهار تلتقي عند المنبع لكن زارين يعتقد أنها كانت تلتقي عند المصب في منطقة قريبة من نهري دجلة والفرات اللذان يصبان الآن في الخليج العربي. يقول زارين :"مع أنهما لا يلتقيان الآن إلا أنهما ألتقيا مرة في الماضي لما كان مستوى البحر منخفضاً وذلك في 6000 إلى 7000 سنة قبل الميلاد. لذلك أقترح أن موقع جنة عدن كان في المنطقة التي التقت بها الأنهار الأربعة".
- في 600 قبل الميلاد كان مستوى البحر أقل بمقدار 500 قدم (145 متراً) من مستواه الحالي وكان الخليج العربي وادياً ضحلاً مع أربعة أنهار تجري باتجاه البحر وتشكل نهراً واحداً يجري في هذا الوادي الخصيب الذي ربما كان جنة عدن الذي ورد في النص التوراتي، يطلق علماء الآثار على تلك الفترة اسم العصر الحجري الجديد Neolithic والتي شهدت استخدام الإنسان القديم للأدوات وهي تأتي في أواخر العصر الحجري وكان البشر في حينها يعتمدون على الصيد بشكل جماعات لكن أمراً ما تغير بشكل كبير وهو بداية معرفة الإنسان للزراعة التي تعود أول آثارها إلى 6000 سنة قبل الميلاد. وهو نفس الفترة التي كانت تحري فيها الأنهار الأربعة ، وفقاً للنص التوراتي لم يكن بوسع آدم وحواء مجالاً للعودة إلى الجنة بسبب خطيئتهما ، لكن العلم يقترح سبباً ملموساً أكثر وموجود أيضاً في التوراة وهو حدوث فيضان كارثي في المنطقة، ففي حوالي 7800 قبل الميلاد انتهى العصر الجليدي وأصبح الجليد يتكسر ويبدأ بالذوبان بسبب حالة الدفء ، ويتحول الجليد إلى ماء والماء يصب في البحر، تدفق الماء يزيد من مستوى البحر.
- يقول زارين :"في معظم المناطق يستغرق إرتفاع منسوب البحر سنوات لكنه سيحدث فجأة في واد محاط بالسلاسل الجبلية كما هو الحال في الخليج العربي، إرتفاع منسوب المياه سيؤدي إلى تدفقها من الممرات الجبلية وتسقط كالشلال العظيم في الوادي الخصيب مدمرة كل شيئ في طريقها، إن الأدلة الجيولوجية على حدوث تلك الكارثة موجودة ليس فقط في الخليج العربي بل أيضاً في البحر الأسود في تركيا فهناك أيضاً جنة عدن أخرى من حقبة العصر الحجري الجديد Neolithic كما حدث مع طوفان نوح ، سجلت ذاكرة البشر ذلك الفيضان الكارثي من خلال التاريخ الشفوي ليصبح بعدها جزءاً من القصة السومرية عن الطوفان الكبير في ملحمة جلجامش الأسطورية أو أسطورة أتلانتس المفقود (الأرض الغارقة) في الميثولوجيا الإغريقية".