بحث مفصل وجاهز عن اضطرابات الأكل النفسية ، اسباب اضطرابات الأكل النفسية ، طرق علاج اضطرابات الأكل
اضطرابات الأكل النفسية: التعريف ::
تشيرُ اضطرابات الأكل إلى مجموعة أشكالٍ لاضطراب علاقة الإنسان بالأكل خاصةً في تفاعل تلك العلاقة مع البعدين الاجتماعي والشخصي لجسد ذلك الإنسان ، وعادةً ما تكونُ اضطرابات مزمنةً تختلُّ فيها عِـدَةُ وظائف نفسيةٍ تعتبرُ جوهريةً في تشكيل سلوكيات الأكل مثل اختلال تنظيم الشهية ما بينَ فقدها أو ما يكادُ يكونُ فقدًا إلى انفلاتها بحيثُ يعجزُ المريضُ عن التحكم فيها إلى حد أن بعضهم يخافُ من الجنون ! ومن مظاهر اضطرابات الأكل أيضًا اختلال اختيارات الطعام حيثُ يختارُ المريضُ الطينَ أو القشَّ ، على سبيل المثال لا الحصر ، ليأكلهُ بل ويفضلهُ على كل الأطعمة المتاحة له كما يحدثُ في حالات العقعقة ، كما تختلُّ سلوكيات التهام الأكل نفسها في معظمِ اضطراباتِ الأكل.
وأهمُّ اضطراباتُ الأكل النفسية في عالم اليوم هيَ تلك التي لا نستطيعُ فهمها إلا من خلال فهمنا للأثير المعرفي والشعوري الذي يغلفُ صناعة الجسد المثالي الذي تميزَ به المجتمع البشري المعاصر ، ذلك المجتمع الذي تغيرت معظمُ المفاهيم فيه متفاعلة مع ثقافة الصورة ووسائل انتقال المعلومات إلى أن أصبح مجتمعًا مصابًا بوسواس الوزن والرشاقة ، وأصبحت البدانة مرضًا في رأي معظم الناس بالرغم من عدم صحة ذلك بشكل مطلق من الناحية الطبية ، كما أصبحت اضطرابات الأكل تستحقُّ عن جدارةٍ أن توصفَ بأنها اضطراباتُ الحمية ! أو اضطرابات الريجيم النفسية,
وهذه الاضطراباتُ هيَ :
القهم العصبي Anorexia Nervosa وهو اضطرابٌ يتميزُ بتعمد إنقاص الوزن من خلال تقليل كمية الأكل والإفراط في التريض ، مع خوفٍ شديدٍ من البدانة وخللٍ في الإدراك الذاتي لصورة الجسد ، مع انشغالٍ وسواسيٍّ بكل ما يتعلقُ بالأكل وبوزن الجسم وبأساليب الحمية المختلفة ، مما ينتجُ عنه نقصٌ في وزن الجسم بشكلٍ يعرضُ حياة المريض للخطر ، ويسببُ انقطاع الطمث في الإناث وضعفَ الطاقة الجنسية في الرجال.
والنهام العصبي Nervosa Bulimia وهو اضطرابٌ يتميزُ بحدوثِ نوبات من الإفراط في الأكل تسمى بنوبات الدقر (أو الأكل الشره) Binge Eating يشعرُ الشخصُ خلالها بعدم القدرة على التحكم في سلوك الأكل أو وقفه ، إضافةً إلى لجوئه إلى أساليبَ معدلةٍ Compensatory Behaviors لكي يتلافى زيادةَ الوزن التي تنتجُ عن نوبات الدقر مثل السلوكيات التفريفية التي تمنعُ امتصاص الطعام لكي يتجنبَ المريضُ زيادةَ وزنه ومن أشهر السلوكيات التفريغية وأخطرها الاستقاءةُ المزمنة.
واضطراب نوبات الدَّقَـر(الأكل الشره) Binge Eating Disorder وهو اضطرابٌ يتميزُ بحدوثِ نوبات الدقر دونَ الالتزام بأيٍّ من الأساليب المعدلة.
واضطرابُ العقعقة Pica وهو اضطرابٌ نفسيٌّ تختلُّ فيه اختيارات الطعام حيثُ يختارُ المريضُ الطينَ أو القشَّ ، على سبيل المثال لا الحصر ، ليأكلهُ بل ويفضلهُ على كل الأطعمة المتاحة له
ولعل النهام العصبي واضطراب نوبات الدقر هما أكثرُ اضطرابات الأكل النفسية انتشارًا في الغرب خاصةً في الإناث وبينما يرجعُ معظمُ المفكرين ذلك الانتشار إلى مجموعةٍ من العوامل مثل
- مقايبس الجسد المثالي التي وضعت بشكلٍ اعتباطي وثبتتها وسائلُ الإعلام وتجارة الحمية بينما هيَ لا تعبرُ عن التوجه البيولوجي الطبيعي لجسد الأنثى ، ومن هنا كانت رغبة الإناث بشكلٍ خاص في الوفاء بمتطلبات الصورة المشهورة للجسد المثالي من خلال التحكم فيما تأكل والانتقال من حميةٍ إلى حمية إما لتنحيف الجسد أو إبقائه نحيفًا قدر الإمكان ، هذه الرغبة في تطويع الجسد الذي خلقهُ الله سبحانهُ وتعالى فأحسن تصويره لكي يصبحَ كالجسد الذي في الصورة هيَ المدخل الرئيس الذي تمرُّ منه الغالبية العظمى من مريضات اضطرابات الأكل ، إذن فالبدايةُ تجيئُ من عدم الرضا عن صورة الجسد ثم السقوط في براثن الحمية المنحفة.
- التغيرات التكنولوجية المتسارعة التي قللت من فرص التريض بشكل كبير وأدت إلى وفرة المال والغذاء في نفس الوقت ، كما مكنت تجار الأغذية من إنتاج أشكال وألوان من الأطعمة التي تمتاز بلذة الطعم وسهولة الالتهام ، بل إن الصانع الناجحَ هو من يستطيعُ أن ينتجَ طعامًا يدفع المستهلك إلى الأكل أكثرَ فأكثر وكلما أفلح في زيادة الشره لدى المستهلك كلما ازداد نجاحًا وكسبًا بالتالي ،
- ويضافُ إلى ذلك العديدُ من الأسباب الاجتماعية والنفسية والطبية
لكنني أود أن أشيرَ إلى نقطةٍ غائبةٍ عن الباحثين الغربيين في هذا المجال وهيَ نزعُ القداسة عن الأكل مادةً وسلوكًا ، لأن التعامل مع الأكل على أنه مجرد متعة مادية حسية لا يشوبها إلا ما قد يسببه الإسراف فيها من تأثيراتٍ سلبية على الجسد صورةً وأداء لابد في عصر ثقافة الوفرة والرفاهة الاقتصادية التي يعيشها الغرب أن يؤدي إلى ذلك.
وهذه النظرة للأكل تختلفُ تماما عن نظرة الإسلام للأكل ، فالأكل بالنسبة للمسلم الذي يعي إسلامه هو نعمةُ الله التي لها قدرها واحترامها بغض النظر عن وفرتها أو ثمنها ، فالأحاديث الصحيحة في إكرام الخبز والإعلاء من شأن الطعام عديدة فمنها : حديثُ عائشةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أكرموا الخبز" ، وعنها رضي الله عنها قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى كسرة ملقاة فقال "يا عائشة أحسني جوار نعم الله عليك فإنها قل إن نفرت عن قوم فكادت ترجع إليهم" رواه ابن ماجه , وفي روايةٍ أخرى فرأى كسرة ملقاة فأخذها فمسحها ثم أكلها وقال "يا عائشة أكرمي كريمك فإنها ما نفرت عن قوم فعادت إليهم" صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم.
ولعل في مجتمعاتنا التي ما تزالُ فيها بقيةٌ (متناقصةٌ مع الأسف) من الفطرة السليمة ما يمثلُ الحماية للكثيرين من الدخول في متاهات عدم الرضا عن صورة الجسد ومتاهات الحمية خاصةً في فئة زائدي الوزن ، أي ما قبل البدانة ، إلا أن من يعانون من مشكلة البدانة يقفُ منهم الكثيرون على أعتاب اضطرابات الأكل ، ومنهم كثيرونَ لا يعرفونَ أنهم مرضى !
لكنَّ هذا الرأي لا يمثلُ أكثرَ من افتراضٍ لا تدعمه الدراسة ، وربما انطبقَ على الكبار في مجتمعاتنا أكثر من انطباقه على الشباب والمراهقين والأطفال ، فهذه الشرائحُ من مجتمعاتنا العربية ما تزال تبتعدُ دونَ أن تدري عن المفاهيم الإسلامية للأكل ، وتقتربُ مغماةً من الوهم الغربي الذي يقولُ بأن بإمكاننا تطويع أجسادنا للصورة التي صنعناها وصدقناها للجسد المثالي ، ولعل في نتائج الدراسة التالية ما يبينُ كم الخطر الذي يتهددُ المراهقات في بلادنا العربية ، حيثُ تبينُ القائمة التالية سلوكيات إنقاص الوزن التي تتبعها المراهقات في مدرستين من المدارس الثانوية العربية (وذلك من معطيات دراسةٍ لم تنشر بعد) حيث طلب من البنات الرد على سؤال ماذا تفعلين لكي تنقصي وزنك أو لكي تحافظي عليه ؟ فكانت الإجاباتُ كالتالي :
-1- ريجيم شخصي متقطع (من وقتٍ لآخر) 75%.
-2- تجنبُ الأكل ما بينَ الوجبات 71%.
-3- الخروج للمدرسة بدون إفطار 50%.
-4- إهمال وجبة الغذاء أو العشاء 30%.
-5- التريض (التمارين الرياضية أو المشي) 40%.
-6- ريجيم شخصي مستمر (تقليل كمية الأكل في الوجبات باستمرار) 32%.
-7- شرب كمية كبيرة من الماء قبل الأكل 31%.
-8- شغل النفس لإلهائها عن الرغبة في الأكل 22%.
-9- عد السعرات الحرارية في الأطعمة المختلفة واختيار أغذية الريجيم 13%.
-10- شرب خل التفاح أو عصير الجريب فروت على الريق 9%.
-11- الصوم يومين أو أكثر في الأسبوع (مثلا الاثنين والخميس) 4%.
-12- المتابعة مع طبيب الوزن 3%.
فإذا عرفنا أن عددَ العينة كان 450 بنتا في سنوات الدراسة الثانوية وأن من ينطبقُ عليهن تعريف البدانة من المنظور الطبي (أي منسب كتلة الجسم=30 كجم /المتر المربع أو أكثر ، رغم معرفتنا بأن الأمر ما يزالُ موضعَ جدال) كن 39 بنتا أي بنسبة 8,6% ، بينما كانت النسبة الكلية لزائدات الوزن بما فيهن البدينات 41,1% (أي أن 185 بنتا تراوحت منسبات كتل أجسادهن ما بينَ 25 و29,9 كجم /المتر المربع) ، فإننا سنوقنُ -رغم وضوح أن البدانةَ مشكلةٌ حقيقية- أن المشكلة الأكبر من مشكلة البدانة هيَ مشكلةُ الخوف من البدانة المتمثل في محاولات الحفاظ على الوزن ، فالنتائج السابقة تبينُ بوضوح أن عدد اللائي جعلن وعيهنَّ بوزنهن جزءًا من حياتهن وأفكارهن ومشاعرهن وسلوكياتهن اليومية ، يزيدُ بكثيرٍ عن زائدات الوزن بصفةٍ عامة ، ومعنى ذلك أن الخوفَ من البدانة يحاصر لا فقط زائدات الوزن أو البدينات بالمفهوم الطبي للكلمة بل معظمُ المراهقات تقريبًا ! ، وهذه النتائج تتفقُ مع نتائج دراسةٍ أجريت في الإمارات العربية المتحدة حيث درس الباحثون طالبات المرحلة الثانوية من منطقة العين ، وكانت نسبةُ زائدات الوزن 16% بينما كانت نسبةُ المتبعين لنظام غذائي مستمرٍّ أو متطرف 9% ونسبةُ المتبعين لنظام غذائي متقطع 38% ، وإن لم تلجأ الدراسةُ الإماراتية لتقصي أساليب إنقاص الوزن بوضوح.
ألا يوحي لنا ذلك بأن اضطرابات الأكل موجودةٌ عندنا ولكنها ما تزالُ أسرارًا يخفيها المرضى أو لا يعرفونَ أنها أمراض ؟ أليست الحميةُ المنحفةُ هيَ البوابةُ التي يمرُّ منها معظمُ إن لم يكن كل مرضى اضطرابات الأكل.