قتل الساحر لحماية الناس من ضرره وشره وللوقاية من كثرة مفاسده ولاقتلاع جذور الشرك بالله تعالى من المجتمع المسلم وللحفاظ على صفاء عقائد المسلمين وعقولهم وأموالهم ودرء المفاسد عن المسلمين، والإسلام وحده هو الذي يرعى كل خير ويحارب كل شر.
فقتل الساحر والساحرة هو الصحيح من قولي أهل العلم حتى وإن أظهر التوبة، لأن الصحابة لم يستتيبوا السحرة الذين قُتلوا، ولأن الغالب على الساحر الكذب فلا يصدق في توبته، فإن كان صادقاً في نيته وقصده نفعته التوبة عند الله عز جل ولكن لا تدفع عنه حد القتل لأنه مفسد شرير، خبيث السيرة والسريرة.
واعجب أيها المسلم المعافى من أناس جهال التبس عليهم حال السحرة الكذابين والمشعوذين فتحيروا فيما يصدر من السحرة من خوارق العادات كالطيران في الهواء والمشي على الماء وقطع المسافة الطويلة في زمن قصير والإخبار عن الغيب فيقع الخبر كذلك، وشفاء المرضى فيظن هؤلاء الجهال أن هذا الساحر من أولياء الله وقد يؤول الأمر إلى أن يعبد من دون الله ويرجى منه النفع والضر والعياذ بالله، فظن بعض الناس أن خوارق العادات التي تجري من السحرة والعرافين كرامات من الله فالتبس عند الجهال حال أولياء الرحمن بحال أولياء الشيطان.
والشرع فرق بين أولياء الله وأولياء الشيطان، فأولياء الله عز وجل هم الحافظون لحدود الله المتمسكون بشرعه ظاهراً وباطناً، الممتثلون لأوامر الله المجتنبون لنواهيه، المحافظون على صلاة الجماعة قال الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٱالَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62-63].
وليس من شرط الولاية لله تعالى أن يكون للولي كرامة بخرق العادات فإن أعظم الكرامة هي الاستقامة، وأما أولياء الشيطان فيظهر منهم خوارق عادات يظنها الجهال كرامات، وهي في الحقيقة أحوال شيطانية تخدمهم فيها الشياطين ليضلوا بها المفتونين, فلا تغتر بمن دخل النار وخرج سالماً أو طار في الهواء أو مشى على الماء أو أمسك بالثعابين، بل انظر إلى تمسكهم بالشرع تجدهم لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا يسمعون القرآن بل يسمعون أغاني الزور ويغشون الفجور أُوْلَـئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَـانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَـانِ هُمُ الخَـاسِرُونَ [المجادلة:19]. واعتبر ذلك - أيها المسلم - بالدجال الأكبر الذي يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض انبتي فتنبت، ويحيي الموتى بإذن الله، وهو أخطر خلق الله.
وممن يدخل في ذم السحرة: الكهان والعرافون والمنجمون والذين يخطون في الرمل، وكل هؤلاء يدّعون علم الغيب، وهم كفرة خارجون عن الإسلام بادعائهم الغيب. قال الله تعالى: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَـواتِ والأرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ [النمل:65]. ومن صدقهم في دعواهم فهو كافر بالله مشرك. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) [رواه أبو داود][8].
ومما يدفع السحر: التوكل على الله ودعاؤه والتحصن بالقرآن الكريم وأنواع الذكر الثابتة وكمال التوحيد والحذر من الوقوع في شَرَك الأشرار والفجار ومجانبة المفسدين الظالمين. قال الله تعالى: يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَـانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:208].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري كتاب: الوصايا، باب: قول الله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً (2767)، ومسلم في: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها (89) بنحوه.
[2] عزاه المنذري في الترغيب (4/17) إلى الطبراني ن وكذا الهيثمي في المجمع (5/117)، وقال المنذري: "بإسناد حسن"، وقال الهيثمي: "وفيه زمعة بن صالح وهو ضعيف"، وحسنه الألباني في غاية المرام (289).
[3] سنن النسائي كتاب: تحريم الدم، باب: الحكم في السحرة (4079)، وكذا الطبراني في الأوسط (2/128-1469) كلاهما من طريق أبي داود الطيالسي عن عباد بن مسيرة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، والحسن لم يسمع من أبي هريرة. انظر: العلل لأحمد (1/144)، والمراسيل لابن أبي حاتم (1/35)، وجامع التحصيل (1/115). وضعفه المنذري في الترغيب (3/51)، والألباني في غاية المرام (288)
[4] انظر: تفسير ابن كثير (1/145).
[5] أخرجه الشافعي في مسنده (1/383)، وابن أبي شيبة في المصنف (5/562).
[6] أخرجه مالك في الموطأ في: العقول، باب: ما جاء في الغيلة والسحر (1624)، والشافعي في مسنده (1/383).
[7] أخرجه البيهقي في السنن (8/136).
[8] أخرجه أبو داود في الطب (3904)، وهو عند أحمد (9290، 9536)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (339)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/
، وقال الترمذي: "وضعف محمد ـ يعني: البخاري ـ هذا الحديث من قبل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيف البغوي وابن سيد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك، وله شاهد من حديث جابر أخرجه البزار (9045- كشف الأستار)، وجوده المنذري في الترغيب (3/619)، وقال الهيثمي في المجمع (11715): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف". وصححه الألباني في غاية المرام (285).
الخطبة الثانية
الحمد الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْء فِى السَّمَـواتِ وَلاَ فِى الأرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [فاطر:44]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إنه كان حليماً غفوراً .. وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله بعثه الله بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون تقوى من يعلم أن الله يعلم السر وأخفى، قال الله تعالى: وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ واحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَـلاغُ الْمُبِينُ [المائدة:92].
عباد الله، إن الوقاية من السحر هو:
بكمال التوحيد والتوكل على الله تعالى، قال الله تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
والوقاية من السحر بالدعاء والاستعاذة منه. قال : ((لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل))[1].
ومن الوقاية من السحر التحصن بتلاوة القرآن وأنواع الذكر الصحيحة صباحاً ومساءً. قال : ((عليكم بسورة البقرة ـ أي احفظوها ـ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة))[2] يعني السحرة لا يقدرون على ضرر من قرأها وحفظها.
ومن الوقاية من السحر تحريق كتبه، وقتل الإمام للسحرة ورفع أمرهم إلى السلطان لكف شرهم وعظيم ضررهم عن الناس, وإذا وقع السحر بأحد فعلاجه بإحراق مادته التي انعقد بها السحر إذا عُثر عليها وعُلمت، كما فعل النبي لما سحره لبيد بن الأعصم اليهودي- لعنه الله- فإنه استخرج سحره من بئر ذروان في مشط ومشاطة فأحرقه[3].
وعلاج السحر بدوام الدعاء بالعافية منه. قالت عائشة لما سحر النبي : أطال ذات ليلة الدعاء ثم قال: ((يا عائشة أشعرت أن الله أخبرني بمن سحرني، وشفاني))[4].
وسحر النبي نوع من المرض لا يقدح في عصمته وتبليغه، ولم يتسلط على عقله ، ولكنه نوع من الأذى من الجن كما أوذي من الإنس فأظهره الله على أعدائه من الجن والإنس وعافاه ونصره وعافاه من هذا المرض، والله تبارك وتعالى جعل هذا ليكون فعل الرسول تشريعاً، وزيادةً في رفعة النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم أجره.
ومما يعالج به السحر مداومة قراءة الفاتحة والمعوذات وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]. وآية الكرسي، فإنها تضعف سلطانه حتى يضمحل، وسواءً قرأ المسحور على نفسه أو قرأ عليه أحد الصالحين.
ولا يحوز أن يحل السحر بسحر مثله لأن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حُرِّم عليها، ويجوز أن يتداوى المسحور من السحر بالعقاقير المباحة من الأعشاب ونحوها.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً))[5]، فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وسلم تسليماً كثيراً.
[1] أخرجه البزار (2165-كشف الأستار)، والطبراني في الأوسط (3/66) واللفظ له، من طريق زكريا بن منظور حدثني عطاف، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها. قال البزار: "لا نعلمه عن النبي إلا بهذا الإسناد". وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن هشام إلا عطاف، ولا عن عطاف إلا زكريا تفرد به الحجبي". وصححه الحاكم (1/669)، وتعقبه الذهبي بقوله: "زكريا بن منظور مجمع على ضعفه". وقال الهيثمي في المجمع (10/146): "وفيه زكريا بن منظور وثقه أحمد بن صالح المصري، وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب برقم (1014).
[2] أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين، باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة (804) بلفظ: ((اقرؤوا سورة)) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
[3] مسلم كتاب: السلام، باب السحر (2189) من حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه أنها قالت: فقلت: يا رسول الله، أفلا أحرقته؟ قال: ((لا)).
[4] الذي في البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده (3368)، ومسلم في: السلام، باب: السحر (2189) من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: ((أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟! جاءني..)) وذكر القصة. ولم أقف على لفظ الخطيب.
[5] أخرجه مسلم في: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه (384) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.