تحول النتيجة في غزة أحدغلطة الرماة الفظيعة:
وبينما كان الجيش الإسلامي الصغير يسجل مرة أخري نصراً ساحقاً على أهل مكة لم يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر، وقعت من أغلبية فصيلة الرماة غلطة فظيعة قلبت الوضع تماماً، وأدت إلى إلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، وكادت تكون سبباً في مقتل النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- ، وقد تركت أسوأ أثر على سمعتهم، وعلى الهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر.
لقد أسلفنا نصوص الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- إلى هؤلاء الرماة، بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال من النصر أو الهزيمة، ولكن على رغم هذه الأوامر المشددة لما رأي هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو غلبت عليهم أثارة من حب الدنيا، فقال بعضهم لبعض: الغنيمة الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون؟! . أما قائدهم عبد الله بن جبير، فقد ذكرهم أوامر الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-؟! . ولكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالاً، وقالت: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة (1). ثـم غـادر أربعون رجلاً أو أكثر هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل، والتحقوا بسَوَاد الجيش ليشاركـوه فـي جمع الغنائم. وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة أو أقل من أصحابه والتزموا مواقفهم مصممين على البقاء حَتَّى يؤذن لهم أو يبادوا.
خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيشالإسلامي:
وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فكرَّ بسرعة خاطفة إلى جبل الرماة ليدور من خلفه إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه إلا البعض الذين لحقوا بالمسلمين، ثم انقض على المسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه صيحة عرف بها المشركون المنهزمون بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم - وهي عمرة بنت علقمة الحارثية - فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب، فالتف حوله المشركون ، وتنادى بعضهم بعضاً، حَتَّى اجتمعوا على المسلمين، وثبتوا للقتال، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف، ووقعوا بين شِقَّي الرحى.
موقف الرسول الباسل إزاء عملالتطويق:
وكان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- حينئذ في مفرزة صغيرة - تسعة نفر من أصحابه(2)- في مؤخرة المسلمين(3)، كان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين؛ إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة، فكان أمامه طريقان: إما أن ينجو - بالسرعة - بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون، ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد.
وهناك تجلت عبقرية الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وشجاعته المنقطعة النظير، فقد رفع صوته ينادي أصحابه: " إليَّ عباد الله "، رواه الطبري في تفسيره (4/112).
وهو يعرف أن المشركينسوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا الظرف الدقيق.
وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون.
تبدد المسلمين في الموقف:
أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم، فلم تكن تهمها إلا أنفسها، فقد أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذا وراءها ؟ وفرَّ من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حَتَّى دخلها، وانطلق بعضهم إلى ما فوق الجبل.
ورجعت طائفة أخرى فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران فلم يتميزا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض. روي البخاري عن عائشة قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس: أي عباد الله أخراكم - أي احترزوا من ورائكم - فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد الله أبي أبي. قالت: فو الله ما احتجزوا عنه حَتَّى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم. قال عروة: فو الله ما زالت في حذيفة بقية خير حَتَّى لحق بالله (4).
وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضى، وتاه منها الكثيرون؛ لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح: إن محمداً قد قتل، فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقي بأسلحته مستكيناً، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي - رأس المنافقين - ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان. ومر بهؤلاء أنس بن النضر، وقد ألقوا ما بأيديهم فقال: ما تنتظرون ؟ فقالوا: قتل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، قال: ما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، ثم قال: اللّهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أين يا أبا عمر ؟ فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضي فقاتل القوم حَتَّى قتل، فما عرف حَتَّى عرفته أخته - بعد نهاية المعركة -ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم (5).
ونادى ثابت بن الدَحْدَاح قومه فقال: يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قتل، فإن الله حي لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم. فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد فما زال يقاتلهم حَتَّى قتله خالد بالرمح، وقتل أصحابه (6).
ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتَشَحَّطُ في دمه، فقال: يا فلان، أشعرت أن محمداً قد قتل ؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بَلَّغ، فقاتلوا عن دينكم (7).
وبمثل هذا الاستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم، فعدلوا عن فكرة الاستسلام أو الاتصال بابن أبي، وأخذوا سلاحهم، يهاجمون تيارات المشركين، وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر القيادة، وقد بلغهم أن خبر مقتل النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- كذب مُخْتَلَق، فزادهم ذلك قوة على قوتهم، فنجحوا في الإفلات عن التطويق، وفي التجمع حول مركز منيع، بعد أن باشروا القتال المرير، وجالدوا بضراوة بالغة.
وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-. فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، وعمل التطويق في بدايته، وفى مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم -y- كانوا في مقدمة المقاتلين، فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة - عليه الصلاة والسلام والتحية-صاروا في مقدمة المدافعين.
احتدام القتال حول رسول الله:
وبينما كانت تلك الطوائف تتلقي أواصر التطويق، وتطحن بين شِقَّي رَحَي المشركين، كان العراك محتدماً حول رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، وقد ذكرنا أن المشركين لما بدءوا عمل التطويق لم يكن مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- إلا تسعة نفر، فلما نادى المسلمين: " هلموا إلي، أنا رسول الله "، ذكره ابن كثير في تفسيره (4/345). سمع صوتهالمشركون وعرفوه، فكروا إليه وهاجموه، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين، فجري بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة والبطولة.
روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: " من يردهم عنا ولهالجنة، أو هو رفيقي في الجنة ؟!" . فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حَتَّى قتل ثم رهقوه أيضاً فقال: " من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة ؟ ". فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حَتَّى قتل، فلم يزل كذلك حَتَّى قتل السبعة، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- لصاحبيه - أي القرشيين: " ما أنصفنا أصحابنا " (
. وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السَّكَن، قاتل حَتَّى أثبتته الجراحة فسقط (9).