في اللغة العربية باب يسمى (الممنوع من الصرف)، يقصد به أهل اللغة: كل اسم لا يلحقه تنوين ولا كسرة، ويجر بالفتحة، تقول: جاء أحمدُ، بالضم من غير تنوين، وتقول: مررت بعمرَ، فتجر بالفتحة عوضاً عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف.
وقد جاءت في القرآن ألفاظ قليلة، خالفت قاعدة الممنوع من الصرف، من ذلك قوله تعالى: {إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا} (الإنسان:4)؛ فقد جاء في الآية لفظ {سلاسلا} منوناً مصروفاً، وبحسب مقتضى قواعد المنع من الصرف، كان ينبغي أن يمنع هذا اللفظ من الصرف؛ لأنه مشبه صيغة ووزن (مَفَاعِل)، وهو من صيغ منتهى الجموع، وكل ما جاء على هذه الصيغة، يمنع من الصرف؛ كمساجد، وصوامع، ومنابر؛ فلا ينون، ويجر بالفتحة عوضاً عن الكسرة.
وبحسب هذه القاعدة النحوية، كان الأصل في لفظ {سلاسلا} أن يأتي غير مصروف (سلاسلَ) بفتح اللام الثانية من غير تنوين، جرياً على القاعدة المشار إليها، ويكون مجيئه منونًا في القرآن من الخطأ في الكتابة، كما يظن من لم يكن على بينة من أمر اللغة وقواعدها.
وقبل مناقشة هذا القول، تجدر الإشارة إلى أن لفظ (سلاسل) قد قرء بالوجهين معاً، وبقراءتين متواترتين؛ فقُرِء مصروفًا {سلاسلا} بالفتح منونًا، وقرء غير مصروف (سلاسلَ) بالفتح من غير تنوين.
وبناء على هاتين القراءتين المتواترتين، يكون من قرأ هذا اللفظ بالفتحة (سلاسل) من غير صرف، قد وافق القاعدة، ولا إشكال في اللفظ على هذه القراءة؛ لأنها موافقة لقاعدة عدم صرف الأسماء الواردة على وزن صيغ منتهى الجموع (مفاعل).
أما من قرأ هذا اللفظ منوناً بالفتح {سلاسلاً}، فعلى هذه القراءة يرد الإشكال. وأجاب المفسرون وأهل اللغة عن هذا الإشكال بعدة أجوبة، منها:
أن هذا اللفظ في الآية قد جاء على لغة من يصرف كل ما لا ينصرف. وقد حكى الأخفش -وهو من أئمة اللغة- هذا المذهب وقال: "سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف؛ لأن الأصل في الأسماء الصرف، وترك الصرف لعارض فيها".
ولهذه اللغة شواهد عديدة من الشعر، من ذلك قول عمرو بن كلثوم:
كأن سيوفنا فينا وفيهم مخاريقٌ بأيدي لا عبينا
وقول لبيد:
فضلاً وذو كرم يعين على الندى سمح كسوب رغائبٍ غنامها
فصرف الشاعر (مخاريق) بتنوين الضم، و(رغائب) بتنوين الكسر، والأصل فيهما عدم الصرف؛ لأنهما من صيغ منتهى الجموع؛ فالأولى على وزن (مفاعيل) كـ (مصابيح)، والثانية على وزن (مفاعِل) كـ (مساجد) وكلاهما من صيغ منتهى الجموع التي تمنع من الصرف.
ومما أجابوا به على مجيء هذا اللفظ مصروفًا، موافقته للاسمين اللذين قبله، وهما: {شاكرا} و{كفورا}، والاسمين اللذين بعده، وهما: {أغلالا} و{سعيرا}، وهذه الموافقة يسميها أهل اللغة (الإتباع والمزاوجة)، وهي طريقة متبعة في كلام العرب؛ من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال الملكين: (لا دريت ولا تليت) رواه البخاري، وكان الأصل أن يقال: ولا تلوت؛ فجاء بلفظ (تليت) مزاوجة لقوله: (دريت).
ومن ذلك قول تميم بن أبيّ بن مقبل:
هتَّاك أخبية ولاَّج أبوبة يخالط البر منه الجد واللينا
فقوله: (أبوبة) جمع باب، وكان المفترض أن يقول: أبواب، لكنه جاء بهذا اللفظ؛ مزاوجة لقوله: أخبية.
ومن الأجوبة أيضاً، أن الرسم القرآني جرى على اعتبار حالة الوقف، فكتابة الألف بعد اللام لقصد التنبيه على إشباع الفتحة عند الوقف، بحيث تصبح ألفًا، من أجل أن تتوافق الفواصل حالة الوقف؛ وذلك كثير، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {الظنونا} و{الرسولا}.
ومن الشعر قول جرير:
يعود الفضل منك على قريش وتفرج عنهم الكرب الشدادا
فما كعب بن مامة وابن سعدى بأكرم منك يا عمرَ الجوادا
فالألف في قوله: (الشدادا) و(الجوادا) ليست عوضاً عن التنوين حال الوقف، وإنما هي ألف الإطلاق، يؤتى بها إشباعًا لفتحة الكلمة، ومراعاة للقوافي ورؤوس الآيات.
وإضافة إلى كل ما سبق، فإن لفظ {سلاسلا} قد جاء في مصاحف مكة والمدينة والكوفة بالألف؛ فكان ذلك دليلاً على صحة مجيء هذا اللفظ مصروفاً.
ومن المهم أن ننبه هنا إلى أن حفصاً عن عاصم، قد قرأ هذا اللفظ (سلاسل) في حالة الوقف بالوجهين، بالألف {سلاسلا} مصروفًا؛ وبتركها {سلاسل} من غير صرف.
على أن القراءات القرآنية روايات مسموعة، ورسم المصحف سنة متبوعة؛ ومجيء لفظ {سلاسلا} مصروفاً، قراءة صحيحة متينة، يعضدها رسم المصحف، وهي جارية على طريقة عربية فصيحة.
وإذا كانت بعض الألفاظ القرآنية قد جاءت على خلاف قاعدة الممنوع من الصرف، بحسب التوجيه الذي ذكرنا، فإن اطراد تلك القاعدة في ألفاظ القرآن هو الأصل؛ كما في قوله تعالى: {في مواطن كثيرة} (التوبة: 25)؛ وقوله سبحانه: {وزينا السماء الدنيا بمصابيح} (فصِّلت:12)؛ فـكلاً من اللفظين (مواطن) و(مصابيح) قد سُبق بحرف جر، غير أنهما حُرِّكا بالفتحة عوضًا عن الكسرة، لأنهما ممنوعان من الصرف؛ وأيضًا قوله سبحانه: {لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد} (الحج:40)؛ حُرك اللفظان (صوامعُ) و(مساجدُ) بالضمة عوضاً عن تنوين الضم؛ لأنهما ممنوعان من الصرف؛ والمانع من صرف هذه الأسماء وأمثالها، أنها من صيغ منتهى الجموع، كما تقدم.
وقد ذهب بعض الناس -خطأ أو قصداً- إلى أن ثمة ألفاظًا في القرآن، جاءت على خلاف قواعد اللغة، ومثَّلوا لذلك بقوله تعالى: {ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته} (هود:12)؛ فاللفظ: {ضراء}، جاءت حركته الفتحة، وحقه -بحسب هذا البعض- أن يحرك بالكسرة؛ لأنه في محل جر بالإضافة. وصواب القول في ذلك – كما أسلفنا - أنه مجرور بالفتحة عوضاً عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف؛ ومن المعلوم أن الأسماء المنتهية بألف ممدودة أو ألف مقصورة يمنع صرفها؛ قال ابن مالك في ألفيته النحوية:
فألف التأنيث مطلقًا منع صرف الذي حواه كيفما وقع
وقد عقَّب شارح الألفية ابن عقيل على هذا البيت، بقوله: "فيمنع ما فيه ألف التأنيث من الصرف مطلقاً، أي: سواء كانت الألف مقصورة، كـ (حبلى)؛ أو ممدودة كـ (حمراء)". واللفظ في الآية موجَّه على ما ذكرنا.
على أن الأمر الأهم هنا، أن القرآن هو الذي ينبغي أن تقاس صحة اللغة عليه، وليس العكس؛ إذ ليس من الصواب أن نجعل الأصل فرعاً، والفرع أصلاً.