ورد في القرآن الكريم في سياق الحديث عن خلق عيسى عليه السلام، قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران:59)، والتعبير بأسلوب: {كن فيكون} ورد في أكثر من موضع في القرآن الكريم في سياقات مختلفة.
وقد استشكل بعض الناس مجيء الإخبار بصيغة الحاضر {فيكون} على ما وقع في الماضي، وقالوا: إن مقتضى الكلام أن يقال: (فإنما يقول له كن فكان)؛ لأن الإخبار عن أمر قد وقع وانتهى، لا يصح أن يكون بلفظ المضارع، وإنما بلفظ الماضي.
وقد أجاب المفسرون على مجيء هذه الآية على هذا الأسلوب، فقالوا:
إن الآية جاءت بصيغة الحاضر بدلاً من صيغة الماضي، جرياً على عادة العرب في الاستعمال؛ حيث يستعملون صيغة المضارع تعبيراً عن الماضي؛ لاستحضار صورة الحدث، وكأنه يقع الآن. قال ابن هشام في "مغني اللبيب": "إنهم يعبرون عن الماضي، كما يعبرون عن الشيء الحاضر؛ قصداً لإحضاره في الذهن، حتى كأنه مُشاهد حالة الإخبار".
وعلى هذا الأسلوب جاءت كثير من الآيات القرآنية، غير الآية التي بين أيدينا، من ذلك قوله تعالى: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا} (فاطر:9) فلم يقل سبحانه: (فأثارت) بصيغة الماضي، وإنما قال: {فتثير} بصيغة الحاضر؛ لاستحضار تلك الصورة البديعة، الدالة على القدرة الباهرة من إثارة السحاب، وكأنها تحدث الآن، حيث تبدو أولاً قطعاً متناثرة، ثم تأتلف وتتداخل فيما بينها، إلى أن تصير ركاماً، ويتشكل منها الماء.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام وفرعون: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض} (القصص:5) مع قوله أيضاً: {ونري فرعون وهامان وجنودهما} (القصص:6) فإن (المنَّ) على موسى بالنصر والتأييد قد تم وانتهى، وأصبح من التاريخ والماضي، ولكن جاء الخطاب القرآني بصيغة المضارع {نمن} ليستحضر القارئ صورة النصر والتأييد، وكأن مجريات الأحداث تجري بين ناظريه. وقل مثل ذلك في عاقبة فرعون، حيث جاء التعبير القرآن بصيغة المضارع {ونري}؛ لاستحضار صورة الهزيمة، والعاقبة الوخيمة التي آل إليها أمر فرعون ومن معه.
ومن الأمثلة الشعرية على هذا الأسلوب، قول الشاعر تأبط شراً، وكان قد دخل في صراع مع ضبع من الضباع، يقول في وصف هذا الصراع:
بأني قد لقيت الغول تهوي بسهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دَهَشٍ فخرت صريعًا لليدين وللجران
فالشاعر قد ضرب الضبع في الماضي، وضَرْبها قد مضى وانتهى، لكن لما قصد أن يصور لقومه الحالة التي تشجع فيها على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها، ويطلعهم على حقيقتها، للتعجب من جرأته على كل هول، وثباته عند كل شدة، عبر عن ذلك بصيغة المضارع، فقال: (فأضربها) ولم يعبر بصيغة الماضي: (فضربتها)؛ والذي دعاه للعدول عن صيغة الماضي إلى صيغة المضارع، استحضار تلك الصورة العجيبة، من إقدامه وثباته، حتى كأنهم يبصرونه في تلك الحالة.
وعلى هذا الأسلوب أيضاً جاء قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
يُغشون حتى ما تَهِرُّ كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل
فقد عبر الشاعر عن المعنى الذي يريد إيصاله بصيغة المضارع (تَهِرُّ)، مع أنه يخبر عن أمر قد مضى وانتهى، وما ذلك إلا لبعث الماضي في صورة الحاضر، وتصويره كأنه يحدث الآن.
وهذا الأسلوب الشائع في لغة العرب، والذي جاء القرآن الكريم على وفقه، إنما يُعمل به إذا عُرف المعنى، ولم يكن هناك التباس وغموض.
على أن مجيء الآية على هذا الأسلوب وراؤه أمر بلاغي؛ وذلك أن التعبير بصيغة الماضي يفيد الانقطاع والانتهاء، وهذا غير مراد في الآية، حيث جاءت لتبين الكيفية التي خلق الله فيها آدم؛ لأنه لو قيل: (كن فكان) لصدق هذا التعبير على وجود آدم لحظة واحدة من الزمن، ولو كان قد مات لحظة خلقه.
أما التعبير بصيغة المضارع: {كن فيكون} فيفيد الدوام والاستمرار؛ وهذا يدل على أن آدم وجد، واستمر وجوده حتى أنجب ذكوراً وإناثاً؛ لأن دلالة المضارع تبدأ من الحال، وتستمر في الاستقبال.