بسم الله الرحمن الرحيم
مطلق الإحسان :
أيها الأخوة، نحن في درس سابق، قلت لكم: أنت لا تستطيع أن تتقرب إلى الله عز وجل إلا بكمال مشتق منه، فرق كبير بين الأقوياء يقربون أي إنسان بشرط إعلان الولاء لهم ولا يدققون في سلوكه، ما دام قد أعلن الولاء يقربونه، أما الله عز وجل فلا يقرب عبداً إلا لكمال مشتق بهم: يا رسول الله مثل بهم ألم يمثلوا بعمك؟ قال: لا أمثل بهم فيمثل الله بي ولو كنت نبياً.
مستحيل الله عز وجل يقبلك إلا بالكمال؛ لذلك تجد المؤمن متميزاً باستقامته، بإيمانه، بصدقه، بورعه، بخوفه من الله، المؤمن محسن بمطلق هذه الكلمة؛ قال تعالى:
﴿ وَأَحْسِنُوا ﴾
[سورة البقرة:195]
أحسنوا إلى من؟ لم يذكر، أحسنوا ماذا؟ لم يذكر، لا ذكر أحسن إليه ولا ذكر نوع الإحسان، قال: و أحسنوا.
الدرس اليوم: مطلق الإحسان؛ أي إن كان له حرفة؛ الإحسان فيها إتقانها، وإتقان العمل جزء من الدين.
لي صديق عنده ابنة في الصف الثامن، وقد منحها الله عز وجل من اللطف و الجمال الشيء الكثير، إنسان يركب صحناً - وبصرف النظر عن حكم الصحن - وضع بدل الأربعة براغي برغيين، وفي يوم عاصف طار هذا الصحن وسقط فوق هذه البنت فقتلها، يحاسب عند الله قاتلاً؛ لأنه لم يتقن عمله.
الذين يصلحون المركبات أحياناً يقول لغلام صغير: أرجع هذه الأداة إلى مكانها. هذه الغلام قد لا يحسن إرجاعها، وهو في سير سريع يحدث شيئاً؛ فيموت كل من في المركبة؛ يحاسب هذا الذي أصلح المركبة كقاتل، الإحسان مطلق، أول إحسان في عملك يجب أن تتقنه، ويجب أن تنصح به المسلمين، ويجب أن تعلم علم اليقين أن هؤلاء المسلمين حجيجهم عنك هو الله يوم القيامة، لمَ غششتهم؟ لمَ أخذت من أموالهم فوق ما ينبغي؟ لمَ أعطيتهم بضاعة وصفتها بأنها جيدة وهي ليست كذلك؟ فإتقان العمل، وصدق المعاملة؛ أحد أنواع الإحسان.
الإحسان في البيت :
الآن؛ الإحسان في البيت؛ يجب أن تكون أباً كاملاً، زوجاً كاملاً، أخاً كاملاً، زوجة كاملة، فالإحسان أن يؤدي الإنسان واجبه بإتقان وبإخلاص:
((والمرأةُ راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رَعيَّتها))
[متفق عليه عن عبد الله بن عمر]
((والرجلُ رَاعٍ في أهله، وهو مَسؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ))
[متفق عليه عن عبد الله بن عمر]
((والعبدُ رَاعٍ في مَالِ سَيِّدِهِ، وهو مسؤولٌ ))
[متفق عليه عن عبد الله بن عمر]
أحياناً صانع في محل؛ قد يستهلك من بضاعة المحل ما لا ينبغي، وقد يأخذ ما ليس له، وقد يؤذي بعض الآلات، موظف قد يأتي بورقة كبيرة لينشف بها يديه بعد غسيل اليدين؛ هذه الورقة مكلفة صنعت ليكتب عليها، لا لينشف بها، فالإنسان إذا عرف الله يغدو محسناً في كل حقل من حقول حياته؛ في بيته محسن، في عمله محسن، ولو أن الناس أتقنوا عملهم، و أخلصوا لله دينهم؛ لكنا في حال غير هذا الحال.
من حاسب نفسه حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً :
الآن البيع والشراء معركة؛ وكل إنسان لغم لا تعرف متى ينفجر؛ قد تشتري حاجة مغشوشة، قد تشتري بضاعة انتهى مفعولها، قد تشتري دواء حك تاريخ انتهاء مفعوله فتأخذه، وأنا كنت أظن أن الدواء الذي انتهى مفعوله لا ينفع، هكذا كنت أظن؛ فإذا العكس؛ يؤذي، هذه المواد إذا تفككت تصبح مواداً سامة؛ فهذا الذي يبيع دواء انتهى مفعوله كي لا يخسر ثمنه من سيسأله يوم القيامة؟! الله جل جلاله، فالدين كله إحسان وحين تحاسب نفسك حساباً عسيراً، يحاسبك الله يوم القيامة حساباً يسيراً، أما إذا حاسبت نفسك في الدنيا حساباً يسيراً، كان حسابك يوم القيامة عسيراً، يروى أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان لا يجلس في بيت مرهون عنده، لئلا ينتفع بظله، فإذا انتفعت بالرهن كان هذا الانتفاع هو أحد أنواع الربا ـ من شدة الورع ـ قال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، قال له: ليست لي، قال له: قل لصاحبها ماتت، أو أكلها الذئب، قال: ليست لي. قال: والله إني في أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني؛ فإني عنده صادق أمين ولكن أين الله؟! عن الحديث الموقوف:
(( مرّ ابن عمر براعي غنم فقال: يا راعي الغنم هل من جزرة ؟ قال: ما ههنا ربها. قال: تقول أكلها الذئب، فرفع الراعي رأسه إلى السماء ثم قال: فأين الله؟ فقال ابن عمر: فأنا والله أحق أن أقول: فأين الله. فاشترى ابن عمر الراعي واشترى الغنم فأعتقه وأعطاه الغنم ))
[الطبراني عن زيد بن أسلم]
هذه ليس لها حل. وحين تخاف الله لا يخيفك من أحد ـ دقق في هذه الكلمة ـ حينما تخاف الله لا يخيفك من أحد وإن لم تخف منه أخافك من أحقر عباده.
الإحسان مع كل مخلوق :
إذاً:" وأحسنوا" واسعة جداً؛ الإنسان بمفهومه الساذج أحسنوا أي ادفع صدقة؛ لا... أتقن حرفتك؛ هذا إحسان، اصدق في كلامك، كن أميناً، كن مخلصاً، أعط كل ذي حق حقه، هذا الإحسان، أعط أهلك حقهم، أعط أولادك حقهم من رعايتك؛ ماذا يقول النبي الكريم؟
(( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ ))
[ أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو]
والله جاءني اتصال صباحاً؛ قالت: والله ابني بالسجن. قلت لها: لماذا؟ قالت: لأنه سارق، دخل إلى بيت فسرقه. قلت لها: ألا تحبين أن يخرج؟ قالت: لا إذا خرج هو أشد فساداً. لم هكذا؟ قالت: لأن والده منحرف ـ هي زوجة يبدو أنها صالحة ـ أما زوجها فمنحرف، فمن ثمار انحراف الزوج أن ابنه كان منحرفاً، ماذا تفعل الأم بابن سارق؟! قلت لها: السجن أحياناً يعلم أشياء سيئة جداً، قالت لي: هو يتعلمها كلها خارج السجن، يعرفها كلها. قلت سبحان الله! فهذا الأب سيحاسب عن ابنه فأنت محاسب كأب، محاسب كزوج، محاسب كأخ، محاسب كابن، محاسب كمحامي، الآن محامي مثلاً يعلم علم اليقين أن هذه الدعوى لن تنجح، يعلم علم اليقين، وأن اجتهاد محكمة النقض لا يسمح للقاضي أن يحكم بمثل هذا؛ فكيف تأخذ هذه الدعوى، وتأخذ مقدم أتعاب، وتمهله سنوات وسنوات؟! كل هذا الدخل حرام، أستاذ يعلم علم اليقين أن هذا الطالب لن ينجح فكيف تغري أباه أنه سينجح إن أعطيته دروساً خاصة؟ وهذا الطبيب حين يطالبك بتحليل لا لزوم له؛ سوف يحاسب، أي يجب أن توسع مفهوم الإحسان، فالإحسان الصدق، الإحسان الورع، الإحسان الاستقامة، الإحسان ألا تكذب، ألا تغش المسلمين، الإحسان ألا تبيع بضاعة بوصف وهي بوصف آخر أي أنواع الغش في المصالح والمهن في الصناعات لا تعد ولا تحصى؛ فيا أيها الأخوة؛ إذا قال الله تعالى " وأحسنوا" أي مطلق الإحسان، أحسنوا مع كل مخلوق:
((إِنَّ الله كتبَ الإِحسانَ على كل شيء، فإِذا قَتَلتم، فأَحسِنوا القِتْلة ))
[ مسلم والترمذي عن شداد بن أَوس ]
مرة يوجد مسمكة تبيع سمكاً طازجاً، فجاء بالشبكة، وأخذ بعض السمك، قال لي: أأنظفها لك أستاذ؟ قلت له: طبعاً. أوه.... السمك لا يزال يتحرك، قال لي: وما عليه؟ قلت له: لا يجوز تعذبها مرتين، والله انتظرت ساعة حتى وجبت جنوبها، أما مع زبائن آخرين فالسمكة ما زالت حية؛ يفتح بطنها وينتزع أحشاءها! لقد أهلكتها. النبي رأى إنساناً يذبح شاة أمام أختها فغضب أشد الغضب قال: هلا حجبتها عن أختها أتريد أن تميتها ميتتين؟
لا يجوز أن تذبح غنمة أمام أختها أبداً. هناك أخ عنده مسلخ؛ قلت له: أعمل غرفة مثل غرف القياس بمحلات البيع، غرفة للذبح؛ عندك مجموعة أغنام ستذبحها بعد حين، يجب أن تذبحها بعيدة عن أخواتها؛ هذه السنة؛ قال لي إنسان: إن الملائكة في السماء لتصلي على معلم الناس الخير. قال لي صاحب الحيتان: والله لم أفهمها، ما علاقة الحيتان بالمعلمين؟! قلت له: العلاقة بسيطة؛ إذا مؤمن اشترى سمكة لا يعذبها تصلي عليه، تركها حتى تجب جنوبها؛ ثم نظف أحشاءها.
والله رأيت بعيني بسوق التبن إنساناً يذبح دجاجة بعد ما ذبحها مباشرة؛ وضعها في ماء يغلي، كي ينتف ريشها بسهولة، والله ما مضى ثانية حتى قطع رأسها و ألقاها في الماء المغلي ـ والعياذ بالله ـ هؤلاء مجرمون؛ كائن مخلوق، خلقه الله لك، فالإحسان واسع أيها الأخوة، واسع جداً، بطعامك، بشرابك، بنومك، بتربية أولادك، بكسب مالك، بإنفاق مالك، بصنعتك.
الإحسان إتقان العمل :
مرة كنت بمدرسة، أعطوها لمتعهد ليجدد أبوابها، وجدوا الأبواب كلها مجددة؛ أرسلوا عاملاً عندهم لتركيب أقفال؛ وأنا في الصف يضع القفل على الباب، يأتي بالبرغي، أربع ضربات ليركب القفل؛ هذا القفل فك بعد أسبوع لأن هذا البرغي شكّل حفرة، قلت له: ما هذا؟! قال لي: لا تدقق أستاذ هكذا العمل عندنا، شيء مخيف! فالإحسان ليس أن تعطي الفقير صدقة، الإحسان أن تتقن عملك، إذا الإنسان لم يضغط الأنابيب سوف يكسر كل البلاط فيما بعد، إذا ما ضغط، وما أتقن، معنى ذلك أنه يوجد تنفيس، فهذا البلاط يخرب البيوت كلها، هذه مشكلتنا؛ الدين دين إتقان، إذا ما أتقنا عملنا فليس فينا دين أبداً. أحياناً يضع لك على العلبة بالمعلبات عوضاً عن واحد بالألف بنزوات الصوديوم، بالألف ثلاثة فتصير سامة، لأن هذا مدروس بالألف واحد، حتى يضمن بقاء الغذاء بالعلبة لفترة أطول؛ يكثر من النسبة، يكثرها لكن قضى على أمعاء الناس.
الآن كم إنسان يرش العنب بمادة معينة مشهورة جداً ؟ حتى لا يأكل الدبور العنب؛ هل تصدق أن هذا الدواء إذا رش به العنب جهازي، ما معنى جهازي؟ لو غسلت العنبات مئة مرة فإنه داخل ببنية الخلية، النبات يمتصه من التراب، يدخل ببنية العنبة، إذا الإنسان أكل العنب قبل شهرين من رشه يصاب بالسرطان، أتخطر ببال إنسان هذه؟ لا تدقق، نريد أن نبيع....، فلماذا الله متخل عن المسلمين؟! تأكل خضراوات كلها مهرمنة، كلها مواد مسرطنة ، تأكل عنباً مرشوشاً بمادة مسرطنة، والمواد ممنوع استيرادها، أنا لا أتهم الجهات المسؤولة، ممنوع استيرادها هذه المواد كلها؛ تأتي تهريب كلها؛ لأنه لا يوجد دين، لا يوجد ورع.
نضع بالطحينة مادة بيضاء" اسبيداج" نبيعها أغلى، المادة عبارة عن دهان توضع في المعدة؛ والله بالصناعات الغذائية أخطاء لا يعلمها إلا الله، وكلها من قلة الدين، و أصحاب المعامل يصلون جماعة أيضاً، إذاً كل صلاته ملغية بهذه الأعمال، فيا أيها الأخوة الإحسان واسع جداً:
((إِنَّ الله كتبَ الإِحسانَ على كل شيء، فإِذا قَتَلتم فأَحسِنوا القِتْلة ))
[ مسلم والترمذي عن شداد بن أَوس ]
والحمد لله رب العالمين