مداخل الشيطان بإذن الله عز وجل على الإنسان !!!
اعلم أن مثال القلب مثال الحصن ، والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن فيملكه ويستولي عليه ، ولا يقدر على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله، ومواضع ثلمه ، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يدري أبوابه ، فحماية القلب من وساوس الشيطان واجبة ، ولا يتوصل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله ، فصارت معرفة مداخله واجبة ، ومداخل الشيطان وأبوابه كثيرة ، ولكننا نشير إلى المداخل العظيمة الجارية مجرى الدروب التي لا تضيق عن كثرة جنود الشيطان .
فمن مداخله العظيمة : الغضب والشهوة : فإن الغضب هو غول العقل ، وإذا ضعف جند العقل هجم جند الشيطان ، وإذا غضب الإنسان لعب الشيطان به كما يلعب الصبي بالكرة . عن سليمان بن صرد قال كنت جالسا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد)). [البخاري ح3282].
كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) [أبو داود ح1784].
والغضب وسيلة للتحريش بين الناس والتفريق بينهم وهو غاية للشيطان . قال الله تبارك وتعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [المائدة:90-91]. وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينـزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً [الإسراء:53]. ومن نزغه ما صنع بإخوة يوسف من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي [يوسف:100].
عن جابر قال سمعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش )) [مسلم ح2812].
ومن ذلك أيضاً التحريش بين الزوجين وإفساد قلبيهما، فعن جابر قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا قال ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال فيدنيه منه ويقول نعم أنت)) قال الأعمش أراه قال: فيلتزمه. [مسلم ح2813].
=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=
ومن مداخله العظيمة : الحسد والحرص : فإن كان العبد حريصـًا أعماه حرصه وأصمَّهُ ، ونير البصيرة هو الذي يعرف مداخل الشيطان ، فإذا غطاه الحسد والحرص لم يبصر ، فحينئذ يجد الشيطان فرصة فيحسن عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته ، وإن كان منكرًا فاحشـًا ، وعن الحرص قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)).(رواه الترمذي وقال حسن صحيح ، وصححه الألباني) .
=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=
ومن مداخله العظيمة : العجلة : وترك التثبت في الأمور ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((العجلة من الشيطان والتأني من الله تعالى)).(رواه الترمذي بلفظ الأناة وقال حسن ).
=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=
ومن مداخله العظيمة : البخل وخوف الفقر : حيث يدخل الشيطان على أرباب الأموال من باب تخويفهم من الفقر يقول الله تعالى : ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ) فخوفهم الفقر يدفعهم إلى ارتكاب ما حرم الله كأكل الربا ويدعوهم إلى الادخار والكنز ومنع الزكاة والإنفاق والتصدق وغير ذلك خوفاً من الفقر .
=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=
ومن مداخله : الافتتان بالنساء: عن عبد الله عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب. [الترمذي ح1172]. قال أبو الطيب في قوله: ((استشرفها)) أي زينها في نظر الرجال. [تحفة الأحوذي 4/283].
عن جابر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى امرأة فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه فقال: ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه)) [مسلم 1403]. قال النووي: "قال العلماء: معناه الإشارة إلى الهوى والدعاء إلى الفتنة لما جعله الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النساء" [شرح صحيح مسلم 9/188].
خطب عمر الناس بالجابية فقال إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام في مثل مقامي هذا فقال: ((أحسنوا إلى أصحابي .... ولا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان)) [الترمذي ح2165].
قال سعيد بن المسيب: ما آيس إبليس من أحد إلا وأتاه من قبل النساء.
=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=
ومن مداخله : إلقاء الشبهات على القلب بل هو من اخطر مداخله ... عن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به فقال: ((الله أكبر الله أكبر الله أكبر الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة)). [أبو داود ح5112].
وقد أمرنا الله بالاستعاذة من شر الشيطان ووسوسته : قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس [الناس:1-4].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته)) [البخاري ح3276، مسلم ح134] .
وجاء عن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) ثم قرأ: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء الآية. [الترمذي 2988]. قال أبو الطيب: لمة الشيطان ... هي ما يقع في القلب بواسطة الشيطان. [تحفة الأحوذي 8/265].
=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=
ومن مداخله : تزيين البدع لأصحابها. حتى يظنوا أنها سنة، فيأتي إلى أحدهم ويقول له مثلاً: الناس تركوا الدين، وصعب إرجاعهم إليه فلعلك تبحث عن طريقة، تكون سبباً في عودتهم إلى ربهم، فيذهب المسكين، ويضع له أصولاً ويرسم له مناهج لم يأذن بها الله ولم يأمر بها رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويجمع الناس عليها، ويسميها ما يسميها, وما علم المبتدع أن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وقد اعرض عن قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عمل عملاً ليس عليه امرنا فهو رد ، فليبشر بعدم القبول.
=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=
ومن مداخل الشيطان: تضخيم جانب ما على حساب جانب آخر، وفي هذا الباب لعب الشيطان بكثير من عوام الناس فتجد أحدهم يقول أهم شيء النية, إذا صارت نيتك طيبة، فلا يهمك شيء أطب نيتك وافعل ما تشاء، حتى ولو تركت الأعمال الصالحة، وأهملت الواجبات، فيكتفون بحسن النية وهذا مدخل من مداخل الشيطان.
ومنهم من يأتيه الشيطان ويقول له أهم شيء أن تعرف واقع المسلمين وما يدور حولك فينشغل في ذلك ويترك معرفة ما معرفته من أوجب الواجبات, ومن هؤلاء من ينشغل بمتابعة القنوات الفضائية متعللاً بمعرفة أخبار العالم ولو سألته عن فروض الوضوء لجهلها, فلابد من التوازن في جميع الأمور فتضخيم جانب على حساب جانب آخر، مدخل من مداخل الشيطان.
=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=
ومن أخطر مداخله التسويف والتأجيل وطول الأمل.
والمسلمون في هذا الجانب حدث ولا حرج يأتي بعض الناس فيضع أمامه قضية ما فيقول مثلاً عندما يفكر بالتوبة إذا انتهيت من الدراسة إن شاء الله أتوب فينتهي من الدراسة فيقول عندما أتوظف واستلم الوظيفة أتوب فيتوظف فيقول إذا تزوجت، ويتزوج ثم يقول إذا حججت، فيحج، وهكذا يمضي به العمر وقد يموت وهو لم يتب فنسأل الله العافية.
=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=
ومن مداخل الشيطان أيضاً : الإيهام بالكمال . فيأتي إلى الإنسان ويشعره بالكمال ، فيقول له أنت افضل من غيرك، أنت تصلي وغيرك كثيرون لا يصلون، وأنت تصوم وغيرك كثير لا يصومون فيجعله ينظر إلى من هو دونه في الأعمال الصالحة ، فيقعده عن طلب المعالي ، ويصده عن سبيل الله والتزود لجنة عرضها السموات والأرض. وقد يشكك الإنسان في نيته فيمنعه من عمل الصالحات خوفاً من الرياء والنفاق ... يقول الحارث بن قيس : إذا أتاك الشيطان وأنت تصلي فقال انك ترائي فزدها طولاً.....
والمطلوب عكس ذلك تماماً أن ينظر الإنسان إلى فلان الذي يصوم الاثنين والخميس وهو لا يصوم إلا في رمضان، وإلى فلان الذي يحافظ على نوافل العبادات وهو يكتفي بالفرائض فقط.
كما أن الشيطان قد يغري الإنسان بالكثرة فيقول له هل كل هؤلاء في النار وأنت وحدك في الجنة، وينظر إلى كثرة أهل البدع فيقول له: أهؤلاء كلهم على ضلال، وفلان فقط على هدى؟! فينظر للكثرة ويجعلها مقياساً له والصحيح ألا يجعل الكثرة والقلة هي المقياس, بل الحق ما وافق كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول التابعي نعيم بن حماد: إن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل وإذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وان كنت وحدك فإنك أنت الجماعة.
فإن قلت : فما العلاج في دفع الشيطان ؟
فاعلم أن علاج القلب في ذلك سد هذه المداخل بتطهير القلب من هذه الصفات المذمومة ، وذلك مما يطول ذكره ، فإذا قطعت من القلب أصول هذه الصفات المذمومة ، كان للشيطان بالقلب اجتيازات وخطرات ولم يكن له استقرار ويمنعه من الاجتياز ذكر الله تعالى ؛ لأن حقيقة الذكر لا تتمكن من القلب إلا بعد عمارة القلب بالتقوى وتطهيره من الصفات المذمومة ، وإلا فيكون الذكر حديثـًا للنفس لا سلطان له على القلب فلا يدفع سلطان الشيطان ، ولذلك قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)(الأعراف:201) ، خص بذلك المتقي .
=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=
فمثل الشيطان كمثل كلب جائع يقترب منك فإن لم يكن بين يديك خبز ولحم ، فإنه ينزجر بأن تقول له : اخسأ ، فمجرد الصوت يدفعه ، فإن كان بين يديك لحم وهو جائع فإنه يهجم على اللحم ولا ينزجر بمجرد الكلام ، فالقلب الخالي عن قوت الشيطان ينزجر عنه بمجرد الذكر .
=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=
فأما الشهوة فإذا غلبت على القلب دفعت حقيقة الذكر إلى حواشي القلب ، فلم يتمكن من سويدائه فيستقر الشيطان في سويداء القلب .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((في القلب لمتان لمة من الملك ، إيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله سبحانه وليحمد الله ، ولمة من العدو إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ونهي عن الخير ، فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم)) .(رواه الترمذي وحسنه ) ، ثم تلا قوله تعالى : (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاء)(البقرة:268) الآية وقال الحسن : إنما هما همان يجولان في القلب : هم من الله تعالى ، وهم من العدو ، فرحم الله عبدًا وقف عند همه فما كان من الله تعالى أمضاه ، وما كان من عدوه جاهده .
=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=
والقلب بأصل فطرته صالح لقبول آثار الملك ولقبول آثار الشيطان صلاحـًا متساويـًا ليس يترجح أحدهما على الآخر ، وإنما يترجح أحد الجانبيين باتباع الهوى والإكباب على الشهوات أو الإعراض عنها ومخالفتها ، فإن اتبع الإنسان مقتضى الغضب والشهوة ظهر تسلط الشيطان بواسطة الهوى وصار القلب عش الشيطان ومرتعه ؛ لأن الهوى هو مرعى الشيطان ومرتعه ، وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه وتشبه بأخلاق الملائكة - عليهم السلام - صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم .
والتطارد بين جندي الملائكة والشياطين في معركة القلب دائم إلى أن يفتح القلب لأحدهما فيستوطن ويستمكن ، ويكون اجتياز الثاني اختلاسـًا ، وأكثر القلوب قد فتحتها جنود الشياطين وتملكتها فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة وإطراح الآخرة ، ومبدأ استيلائها اتباع الشهوات والهوى ، ولا يمكن فتحها بعد ذلك إلا بتخلية القلب عن قوت الشيطان وهو الهوى والشهوات ، وعمارته بذكر الله تعالى الذي هو مطرح أثر الملائكة .
عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ((تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا ، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء ، حتى تعود القلوب على قلبين : قلب أسود مربادًا كالكوز مُجَخيا لا يعرف معروفـًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه ، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض)).(رواه مسلم) .
=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=*=
فالقلب عندما يتعرض للفتن من الشهوات والشبهات ينقسم إلى قسمين :
قلب إذا عرضت عليه الفتنة أشربها كما يشرب الإسفنج الماء فتنكت فيه نكتة سوداء ، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس ،
فإذا اسود وانتكس تعرض لآفتين خطيرتين : إحداهما اشتباه المعروف عليه بالمنكر ، فلا يعرف معروفـًا ولا ينكر منكرًا ، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرًا والمنكر معروفـًا، والسنة بدعة والبدعة سنة ، والحق باطلاً والباطل حقـًا .
والثانية : تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانقياده للهوى واتباعه له .
وقلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان وأزهر فيه مصباحه ، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها فازداد نوره وإشراقه .
والفتن التي تعرض على القلب فتن الشهوات وفتن الشبهات ، فالأولى توجب فساد القصد والإرادة ، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد .
وتنقسم أمراض القلوب بحسب ذلك إلى أمراض الشهوات وأمراض الشبهات ، كما فسر مرض الشهوات بقوله تعالى : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ)(الأحزاب:32) ، فإن المريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح من يسير الحر والبرد والحركة ، فكذلك القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء من الشهوة أو الشبهة ؛ حيث لا يقوى على دفعهما إذا وردا عليه ، والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف ذلك وهو يدفعه بقوته وصحته .
أما أمراض الشبهات فكما قال الله عز وجل : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً)(البقرة:10) . قال قتادة ومجاهد : أي شك .
فأمراض القلوب تجمعها أمراض الشهوات وأمراض الشبهات ، والقرآن الكريم شفاء للنوعين ، ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل ، فتزول أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه ، فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك ، ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه، فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عيانـًا بقلبه كما يرى الليل والنهار .
وأما شفاؤه لأمراض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب ، والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة ، والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار ، فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك بما ينفعه في معاشه ومعاده ، ويرغب عما يضره ، فيصير القلب محبـًا للرشد مبغضـًا للغي ، فالقرآن الكريم مزيلٌ للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة فيصلح القلب فتصلح إرادته ، ويعود إلى فطرته التي فُطر عليها .
قال الله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(الإسراء:82) ، وقال تعالى أيضًا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(يونس:57)
فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن الكريم بما يزكيه ويقويه ، وكل من القلب والبدن محتاج إلى أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح ، فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغذية المصلحة له والحمية عما يضره ، فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه ومنعه ما يضره ، فكذلك القلب لا ينمو ولا يتم صلاحه إلا بذلك ، ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من خلال القرآن الكريم ، وإذا وصل إلى شيء من غيره فهو نزر لا يحصل به تمام المقصود، وكذلك الزرع لا يتم إلا بهذين الأمرين ، فحينئذ يقال: زكا الزرع وكمل.
فينبغي إذن للعبد أن يدرس علامات مرض القلب وعلامات صحة القلب حتى يتأكد من حالة قلبه ، فإن كان قلبه مريضـًا سعى في علاجه قبل أن يلقى الله تعالى بقلبٍ مريض فلا يؤذن له في دخول الجنة ، وإن كان سليمـًا حافظ على سلامته حتى يموت على ذلك ، وإن كان ميتـًا والعياذ بالله تعالى علم أن الله عز وجل يحيي الموتى ، يقول سبحانه : (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(الحديد:17).