الجدال مبدأ الشر
عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" ثم تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف58 ).(الترمذي وحسنه الألباني).
الجدال كثيراً ما يميل إلى الخصومة في الكلام، كما ينطوي على حرص كل واحد من المتجادلين على غلبة خصمه وإفحامه وإلزامه الحجة وبيان خطئه. ونتيجة لهذا فإن من المألوف أن يقع خلال الجدل بعض الظلم والادعاء والكذب والتطاول واستخفاف أحد المتجادلين بالآخر. ومن هنا وجهنا – سبحانه - إلى أن نجادل المجادلة المقيدة بالأدب الإسلامي الرفيع، المجادلة بالحق الساعية إليه؛ حيث قال تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125).
أما الحوار فمع دلالته على تردد الحديث بين اثنين، إلا أنه لا يحمل صفة الخصومة وإنما يحمل صفة الحرص على العلم والفهم والاطلاع. فالدافع الأساس للمحاور الجيد ليس إقناع من يحاوره بوجهة نظره وجعله يقف إلى جانبه، وإنما دافعه الأساس أن يُري محاوره ما لا يراه، وأن يظفر من محاوره أيضاً بأن يكشف له غموض أمور لا يراها ولا يعرفها، فكل من المتحاورين يطلب الوضوح ومعرفة الحق والحقيقة.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" (البخاري).
قال المناوي: (الألد) أي الشديد الخصومة بالباطل الآخذ في كل لدد أي في كل شيء من المراء والجدال لفرط لجاجه، (الخصم) أي المولع بها الماهر فيها الحريص عليها المتمادي في الخصام بالباطل، لا ينقطع جداله وهو يظهر أنه على الحسن الجميل ويوجه لكل شيء من خصامه وجهاً ليصرفه عن إرادته من القباحة إلى الملاحة، ويزين بشقشقته الباطل بصورة الحق وعكسه، بحيث صار ذلك عادته وديدنه، فالأول ينبئ عن الشدة والثاني عن الكثرة، وسمي ألد لاستعماله لدديه أي جانبي فمه وعنقه. قال الغزالي: إذا خاصمت فتوقر، وتحفظ من جهلك وعجلتك، وتفكر في حجتك، ولا تكثر الإشارة بيدك، ولا الالتفات إلى من وراءك. (فيض القدير للمناوي بتصرف).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه" (أبو داوود).
قال النووي: اعلم أن الجدال قد يكون بحق وقد يكون بباطل، قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت:46)، وقال: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125) وقال: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} (غافر:4) قال: فإن كان الجدال للوقوف على الحق وتقريره كان محمودا، وإن كان في مدافعة الحق أو كان جدالا بغير علم كان مذموما، وعلى هذا التفصيل تنزل النصوص الواردة في إباحته وذمه، والمجادلة والجدال بمعنى واحد، قال بعضهم: ما رأيت شيئا أذهب للدين ولا أنقص للمروءة ولا أشغل للقلب من الخصومة.
قال الإمام الغزالي: المراء طعنك في كلام لإظهار خلل فيه لغير غرض سوى تحقير قائله وإظهار مزيتك عليه، وأما الجدال عبارة عن أمر يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها، وأما الخصومة فلجاج في الكلام ليستوفى به مقصودا من مال أو غيره وتارة يكون ابتداء وتارة يكون اعتراضا، والمراء لا يكون إلا اعتراضا.
فإن قلت لا بد للإنسان من الخصومة لاستيفاء حقوقه (فالجواب) ما أجاب به الإمام الغزالي رحمه الله: اعلم أن الذم المتأكد إنما هو لمن خاصم بالباطل وبغير علم، كوكيل القاضي فإنه يتوكل في الخصومة قبل أن يعرف الحق في أي جانب، فهو يخاصم بغير علم.
ويدخل في الذم أيضا (بعض)من يطلب حقه لأنه لا يقتصر على قدر الحاجة بل يظهر اللدد والكذب والإيذاء والتسليط على خصمه، كذلك من خلط بالخصومة كلمات تؤذى وليس له إليها حاجة في تحصيل حقه، كذلك من يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره فهذا هو المذموم.
وأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء، ففعل هذا ليس حراما، ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا، لأن ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذر، والخصومة توغر الصدور وتهيج الغضب، وإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما حتى يفرح كل واحد منهما بمساءة الآخر ويحزن لمسرته ويطلق لسانه في عرضه، فمن خاصم فقد تعرض لهذه الآفات، وأقل ما فيها اشتغال القلب حتى أنه يكون في صلاته وخاطره متعلقا بالمحاججة والخصومة فلا تبقى حاله على الاستقامة، والخصومة مبدأ الشر وكذا الجدال والمراء، فينبغي للإنسان ألا يفتح عليه باب الخصومة إلا لضرورة لا بد منها.
ولما كان هذا هو شأن الجدال والمراء والخصومة تجنب السلف الصالح ذلك، وحذروا منه:
- قال ابن عباس -رضي الله عنه-: كفى بك ظلماً ألا تزال مخاصماً، وكفى بك إثماً ألا تزال ممارياً.
- وقال ابن أبي الزناد: ما أقام الجدلُ شيئاً إلا كسره جدلٌ مثله.
- وقال الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل.
- وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: من لاحى الرجال وماراهم قلَّتْ كرامته، ومن أكثر من شيء عُرِف به.
- وأخرج الآجُرِيُّ عن مسلم بن يسار قال: إياكم والمراءَ، فإنه ساعةُ جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته.
- وأخرج أن عمر بن عبد العزيز قال: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل.
- وقال عبد الله بن حسين بن علي -رضي الله عنه-: المراء رائد الغضب، فأخزى الله عقلاً يأتيك بالغضب.
- وقال محمد بن علي بن حسين -رضي الله عنه-: الخصومة تمحق الدين، وتنبت الشحناء في صدور الرجال.
- وقيل لعبد الله بن حسن بن حسين: ما تقول في المراء؟ قال: يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة. وأقل ما فيه أن يكون ذريعة للمغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة.
- وقال جعفر بن محمد: إياكم وهذه الخصومات، فإنها تحبط الأعمال.
- وقيل للحكم بن عتيبة الكوفي: ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء ؟ قال: الخصومات.