فضل العبودية الخالصة لله عزوجل
قال تعالى:«الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ..هذه الصفة التي تستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها تتكرر هنا في صلب السورة،في آية مستقلة،لتؤكد السمة البارزة في تلك الربوبية الشاملة ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الرب ومربوبيه.وبين الخالق ومخلوقاته ..إنها صلة الرحمة والرعاية التي تستجيش الحمد والثناء.
إنها الصلة التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة،فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة الندية.
إن الرب الإله في الإسلام لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء كآلهة الأولمب في نزواتها وثوراتها كما تصورها أساطير الإغريق.ولا يدبر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزورة في «العهد القديم» كالذي جاء في أسطورة برج بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين[1].
«مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» ..وهذه تمثل الكلية الضخمة العميقة التأثير في الحياة البشرية كلها،كلية الاعتقاد بالآخرة ..والملك أقصى درجات الاستيلاء والسيطرة.ويوم الدين هو يوما الجزاء في الآخرة ..
وكثيرا ما اعتقد الناس بألوهية اللّه،وخلقه للكون أول مرة ولكنهم مع هذا لم يعتقدوا بيوم الجزاء ..والقرآن يقول عن بعض هؤلاء:«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ:اللَّهُ» ..
ثم يحكي عنهم في موضع آخر:«بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون:هذا شيء عجيب.أإذا متنا وكنا ترابا؟ ذلك رجع بعيد»!
والاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية ذات قيمة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض فلا تستبد بهم ضرورات الأرض.وعندئذ يملكون الاستعلاء على هذه الضرورات.ولا يستبد بهم القلق على تحقيق جزاء سعيهم في عمرهم القصير المحدود،وفي مجال الأرض المحصور.
وعندئذ يملكون العمل لوجه اللّه وانتظار الجزاء حيث يقدره اللّه،في الأرض أو في الدار الآخرة سواء،في طمأنينة للّه،وفي ثقة بالخير،وفي إصرار على الحق،وفي سعة وسماحة ويقين ..ومن ثم فإن هذه الكلية تعد مفرق الطريق بين العبودية للنزوات والرغائب،والطلاقة الإنسانية اللائقة ببني الإنسان.
بين الخضوع لتصورات الأرض وقيمها وموازينها والتعلق بالقيم الربانية والاستعلاء على منطق الجاهلية.
مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا التي أرادها اللّه الرب لعباده،والصور المشوهة المنحرفة التي لم يقدر لها الكمال.
وما تستقيم الحياة البشرية على منهج اللّه الرفيع ما لم تتحقق هذه الكلية في تصور البشر.وما لم تطمئن قلوبهم إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير.وما لم يثق الفرد المحدود العمر بأن له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها،وأن يضحي لنصرة الحق والخير معتمدا على العوض الذي يلقاه فيها ..
وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعور ولا خلق ولا سلوك ولا عمل.فهما صنفان مختلفان من الخلق.وطبيعتان متميزتان لا تلتقيان في الأرض في عمل ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء ..وهذا هو مفرق الطريق ..[2]