الأمانة من أخطر الموضوعات في الدين. الدكتور النابلسي
الأمانة من أخطر الموضوعات في الدين :
عن أبي ذر رضي الله عنه قال, قلت:
((يا رسول الله, ألا تستعملني؟ -معنى الاستعمال هنا أن يجعله عاملاً, والياً, حاكماً, موظفا كبيراً, رجل مسؤولية-, قال: فضرب بيده على منكبي -تحبباً, وترفقاً, وتلطفًا- ثم قال: يا أبا ذر, إنك ضعيف - أي القيادة تحتاج إلى خصائص- وإنها أمانة, وإنها يوم القيامة خزي وندامة, إلا من أخذها بحقها, وأدى الذي عليه فيها))
[أخرجه مسلم في الصحيح وأبو داود والنسائي في سننهما عن أبي ذر]
هذا حديث دقيق بمعنى أن الذي يتولى أمر عشرة عليه مسؤوليات جسام؛ عليه أن يكون قوي الشخصية, عليه أن يكون جازماً, عليه أن يكون ذا بصيرة, عليه أن يؤدي هذه الأمانة, لأن كل شيء الآن, كل شيء الله عز وجل أناطه إليك, سيحاسبك عنه, أنت مخير, وُضعت تحت يدك هذه الأمانة؛ طلاب الصف أمانة في عنق الأستاذ, المريض أمانة في عنق الطبيب, الموكل أمانة في عنق المحامي, البناء أمانة في عنق المهندس, هذا الذي يقف أمامك يشتري أمانة في عنقك, هل بعته سلعة جيدة بسعر معقول أم غششته أم أخذت من ماله أكثر مما أعطيته؟
قضية الأمانة أيها الأخوة من أخطر الموضوعات في الدين:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾
[سورة النساء الآية:58]
الأمانات؛ ابنك أمانة, زوجتك أمانة, جسمك أمانة بين يديك, الإنسان حياته فيما يتوهم ملكه هي ملك المسلمين, ملك أسرته, ملك أولاده, إذا دخن مثلاً ضيع الأمانة, أتلف قلبه, أتلف أوعيته, أتلف جسده, فأي شيء ملَّكته ولم تُحسن التصرف به سوف تحاسب عليه, هذه الأمانة التي أرادها أبو ذر أمانة كبرى, أمانة الولاية, هناك أمانات أصغر, التي أكبر منها أمانة الرسالة, النبي عليه الصلاة والسلام بلغ الرسالة, وأدى الأمانة, هناك أمانة التبليغ أمانة العلماء, و أمانة الواجب, كل إنسان له اختصاص عمل, و أمانة المجالس, و أمانة الأسرة, و أمانة العمل.
أكبر أمانة يحملها الإنسان هي نفسه التي بين جنبيه :
على كلٍّ؛ موضوع الأمانة هي أخطر ما يتمتع به الإنسان, أكبر أمانة هي نفسه التي بين جنبيه:
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾
[سورة الشمس الآية:9-10]
الأمانة بالمعنى البسيط أنا أودعت عند إنسان مبلغاً, ثم أداه لي بالتمام والكمال, هذا معنى ضيق جداً للأمانة, لو فهمنا الأمانة بالمعنى الواسع لكنا في حال غير هذه الحال.
((...يا أبا ذر, إنك ضعيف، وإنها أمانة, وإنها يوم القيامة خزي وندامة, إلا من أخذها بحقها, وأدى الذي عليه فيها))
كل شيء يأتي من قلب كبير بأسلوب لطيف و بعبارة رقيقة يُقبل :
هناك شيء بالسنة دقيق, هناك معلومات جاء بها النبي, أعطانا إياها في السنة هي حقائق.
هذه الحقائق كيف أداها لنا النبي؟ ما الطريق لها؟ الطريق منهج النبي في الدعوة, هذا الشيء مستقل, لن تجد هذا إلا في ثنايا الأحاديث.
مثلاً هناك رواية أخرى: عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي))
[ مسلم عن أبي ذر]
هذا تلطف, ترفق, هذا من قوله تعالى:
﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾
[سورة البقرة الآية:83]
أنت ممكن أن ترفض بأسلوب أديب, بأسلوب لطيف, بأسلوب فيه جبر خاطر, بأسلوب فيه نعومة:
(( يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم ))
نصيحة, فكل شيء يأتي من قلب كبير, بأسلوب لطيف, بعبارة رقيقة, يُقبل.
أحياناً موظف, يأتي مواطن يقدم استدعاء, يطلب شيئاً, لا يوجد, ممنوع, بغلظة, بجفوة, نفس الجواب ينتقل بشكل آخر, يقول له: هناك مادة لا تسمح لي أن أوافق لك, أرجو الله أن يكرمك في موطن آخر, هذا غير مقبول, الفكرة نفسها أديتها بشكل أخرق.
قال له:
(( يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم ))
بطولة الإنسان أن تنبع إمكاناته من ذاته لا من الآخرين :
وهناك حديث آخر مطلق يقول عليه الصلاة والسلام:
((إنكم ستحرصون على الإمارة, وستكون ندامة يوم القيامة, فنعمت المرضعة, وبئست الفاطمة))
[أخرجه البخاري في الصحيح والنسائي في سننه عن أبي هريرة]
الإنسان إذا ألف أن يكون أميراً على عشرة أشخاص, شيء مغر جداً, الذي يحدث الكل يعظمونه, يمجدونه على غير استحقاق, يحيطونه بهالة من التعظيم, شيء مريح, أما حينما تُنزع منه هذه المهمة فيتمزق.
((....فنعمت المرضعة, وبئست الفاطمة))
فالإنسان سهل عليه أن يأخذ شيئاً, أما الحرمان منه فصعب جداً.
من الأدعية المأثورة: "اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء, ومن عضال الداء, ومن شماتة الأعداء".
فالنبي عليه الصلاة والسلام بين هذه الحقيقة, قال:
((نعمت المرضعة))
الأخذ سهل, أما السلب فصعب جداً, لذلك أحياناً الإنسان يختل توازنه.
أعرف رجلاً مدير مدرسة ابتدائية, ما هذا المنصب؟ شيء كله متاعب, فلما أحيل على التقاعد اختل توازنه النفسي, وصار يحتاج إلى طبيب نفسي.
فالإنسان حينما يتوعد يعطي أمراً, يتلقى تعظيماً, هذا منزلق خطير, هذا المنزلق يصبح يتعلق بالوظيفة تعلقاً جنونياً, وكأنه تعود على أن يجلس في مكان ويعطي أمراً؛ لذلك أصعب الأشخاص الذي يكون له رتبة معينة, ثم يحال على التقاعد, يفقد كل شيء في يوم واحد؛ فقد الاحترام, فقد التعظيم, فقد التبجيل.
هناك نقطة دقيقة أن بطولة الإنسان أن تنبع إمكاناته من ذاته لا من الآخرين, إذا نبعت من ذاته هذه معه دائماً, لا يتأثر, لا يجعل بطولته تأتيه من الخارج؛ من سيارة, من منصب, من عمل, يجعل بطولته أخلاقية من الداخل أينما ذهب.
أي هناك إنسان يملأ من حوله سعادة, وهناك إنسان لذائذه تأتيه من آلة, من مركبة, من منصب, من مكانة, من رتبة؛ فكلما حرصت على أن تنبع السعادة من الذات فهذه ملكك, لا يستطيع أحد أن يأخذها منك, أما إذا حرصت على لذائذ تأتيك من الخارج, فأنت عبد لها, حينما تُنزع منك, هذه الطامة الكبرى حينما تنزع منك.
للمنصب وجهان؛ وجه نفعي ووجه أخلاقي :
الحديث الأخير: عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال, قال عليه الصلاة والسلام:
((يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسالة أعنت عليها, وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها))
[البخاري عن عبد الله بن سمرة]
شخص يتولى مدير مدرسة ابتدائية, له غرفة خاصة, طاولة, هاتف, أمامه المعلمون, فإذا أرادها بهذه الميزات, معنى هذا أن هذا الإنسان يحب الدنيا, يركن إلى نفسه فلا ينجح, أما إن أرادها لخدمة الطلاب, ولتحقيق رسالة, اختلف الأمر فأعانه الله عليها, للمنصب وجهان؛ وجه نفعي, ووجه أخلاقي, الوجه النفعي أن تنتفع بهذه الميزات, وأن تتمتع بهذا التعظيم, النفع الآخر الأخلاقي هو أن تحقق رسالة بهذا المنصب, فالقوة أساسية لتحقيق أي شيء.
((....فإنك إن أعطيتها من غير مسالة أعنت عليها, وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها))
لذلك ورد أن طالب الولاية لا يُولَّى, ما دام قد طلبها فقد أرادها لذاتها, أما إن لم يطلبها فأرادها لغيرها.
والحمد لله رب العالمين