بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
هي الغاية الحميدة، والمقصد الجليل، والذي به يحصل كمالُ بني آدم وسعادتهم ونجاتهم، ولأجله بعث الله جميع الأنبياء والرسل، وأنزل جميع الكتب، ومن خلاله حصل تمايز الناس إلى فسطاطين: مؤمنين وجاحدين، وتمايزت مصائر الناس إلى جنّة أو نار، إنه مقام العبوديّة التي قال فيه ربنا : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56).
هذه الغاية المحبوبة لله سبحانه والمرضية له والتي عبّرت عنها الآية الكريمة، قد أشكل فهمها على بعض الناس قديماً وحديثاً، وتمثّل وجه الإشكال عندهم في ملاحظة أسلوب القصْرِ في الآية، بمعنى أنها جعلت السبب الأوحد لخلق الثقلين في العبادة، ثم اضطرابهم في فهم دلالة الفعل المذكورِ في الآية {ليعبدون}، فإذا كان السببُ في خلق الجن والإنس وإيجادهم هو العبادة، ومع ذلك نرى في الواقع من يستنكفُ عن هذه العبادة ويستكبر عن الإيمان، فكيفَ وقع الكفرُ منهم بالرغم من كونِهم وُجدوا للعبادة؟
وكان هذا التساؤل سبباً لضلال القدريّة –وهم الذين ينفون القدر- وذلك حين لم يفهموا كيف يخلق الله الخلق لغاية، مع علمه أنها لا تحصل؟ أو كما عبّر عنها الإمام الثعلبي نقلاً عنهم: " كيف كفروا، وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته؟" وهو الأمر الذي دعاهم إلى إنكار أن يكون ما صدر من المعاصي والكفر داخلاً تحت مشيئة الله وقدره.
وللإجابة عن هذا اللبس الحاصل عند القدريّة وعند غيرِهم، ينبغي تسليط الضوء على عدّة أمورٍ، هي بمثابة مفاتيح يحصل بمجموعها التصوّر الصحيح للمسألة:
المفتاح الأول: المعنى الصحيح للآية
أن الآية الكريمة: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56)، بما فيها من الاستثناء، وأسلوب القَصْر، وما تضمّنته من التعليل، تعني وبشكلٍ دقيق: أن الله سبحانه وتعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليأمرهم بالعبادة، أو ليريد منهم بالإرادة الشرعية العبادة، وذلك على جهة الابتلاء والاختبار، فمن أطاعه استحق الثواب من الله والجزاء بالحسنى، ومن عصاه استحق العقاب على سيئاته.
والعبادة المقصودة هنا هي العبادة الشرعية التي هي مقتضى التكليف، وهي الاسم الجامع لكل ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، والتي جاء بها خطاب الشارع سبحانه.
وهذا المعنى والتصوّر يُعتبر الأدقّ والأشمل من بين التفسيرات التي ذكرها المفسّرون في معنى الآية الكريمة.
ومما يُستند إليه في هذا التفسير قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إلا ليعبدون. أي: "إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي" ويؤيده قوله عز وجل: {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا} (التوبة: 31)، وقول مجاهد: "يعني: ما خلقتهم إلا لآمرهم، وأنهاهم"، وقال الواحدي في الوجيز: " {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي: إلا لآمرهم بعبادتي وأدعوهم إليها"، وبنحوِه قال البغوي وابن كثير.
وليس المراد من الآية وقوع الفعل، لأن الفعل المذكور في الآية {يعبدون} قُصِدَ به إرادة الفعل –حدوث العبادة من الناس ومحبّتها- لا وقوعه، وبهذا المعنى يقول السمرقندي: " يعني: ما خلقتهم، إلا أمرتهم بالعبادة، فلو أنهم خلقوا للعبادة لما عصوا طرفة عين" ومقصودُ قولِه أن الله سبحانه لو شاء لأجبر خلقَه لعبادته، فلا رادّ لقضائه، وهو القاهر فوق عبادِه، ولكنّه أراد من خلقِه العبوديّة ودعاهم إليها، فمن أطاع استحقّ الثواب، ومن عصا استحقّ العقاب.
المفتاح الثاني: كلام العرب عن أنواع الفعل
معلومٌ أن لغة العرب لا تُفهم إلا من خلال أهل اللغة أنفسهم؛ لأنهم الأعلم بمرادات الألفاظ ودلائلها، وأنواع التراكيب والأساليب، فهم الحجّة في هذا الباب.
ولو عدنا إلى كلام اللغوين وجدنا أن ابن هشام في كتابه "مغني اللبيب" ذكر أن العرب يعبّرون عن الفعل بعدّة أمور:
أولاً: وقوع الفعل، وهو الأصل، ومثالُه أن نقول: ذهبتُ إلى الجامعةِ وشربتُ كأساً من الشاي. فالفعلُ هنا قد وقع، وهو المراد من القائل.
ثانياً: مشارفة وقوع الفعل، أي أن الفعل على وشك الحدوث، مثالُه قولُه تعالى:{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن} (البقرة: 231)، أي: فشارفن انقضاء العدة، وقولُه تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم} (البقرة: 240)، أي: والذين يوشكون على الموت.
ثالثاً:إرادة الفعل، ومثلُه قول الحق سبحانه: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} (النحل:98)، أي: فإذا أردت قراءة القرآن، وقولُه سبحانه: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} (المائدة:6)، بمعنى: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وقولِه سبحانه: {إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن} (آل عمران:47)، أي: إذا أراد أن يقضي أمراً، ومثلُها كذلك: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} (النحل:126)، إذا جعلتها تعبيراً عن وقوع الفعل ولم تجعلها تعبيراً عن إرادتِه اختلّ المعنى بالكليّة، وأما من كلام العرب:
فارقنا قبل أن نفارقه* لما قضى من جماعنا وطرا
أي: أراد فراقنا
رابعاً: القدرة على الفعل، نحو قولِ الله تعالى: {وعدا علينا إنا كنا فاعلين} (الأنبياء:104)، أي: قادرين على الإعادة.
وحين نعود إلى الآية ونتساءل: في أي الاستعمالات الأربعة تندرج الآية؟ سنجدُ أن المتعيّن هو: الثالث، لدلالة السياق عليه، ولننظر إلى الآية التي تليها: {ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يطعمون} فقد علّق فعل الرزق والإطعام بالإرادة، مما يدلّ على أن الفعل{يعبدون} قُصد به إرادة الفعل، كأنّه يقول : أريد منهم أن يعبدونِ ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون.
والآية لا تحتمل غرضَ الوقوع، لأن أكثر الخلق لم تقع منهم عبادة الله: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} (يوسف:103)، والسورة كلّها تعريضٌ وتنديد بسلوك الكافرين حين خرجوا عن مقتضى العبودية، ولا الغّرض الثاني –المشارفة على الوقوع- لعدم مناسبتِه للمعنى، ولا الرابع؛ لأن الله تعالى وإن كان قادراً على جعل الخلق كلهم عابدين له إلا أنه لم يشأ أن يهديهم أجمعين: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} (يونس: 99)، فلم يبقَ إلا الثالث، وهو إرادة وقوع الفعل.
وانظر إلى قول الكفوي في الكليات: "وما وصف بكونه مرادا بلا وقوع له فليس المراد به إلا إرادة التكليف به فقط... وليس المراد بقوله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقوع العبادة بل الأمر بها".
المفتاح الثالث: بين الإرادة الشرعيّة والأمر الشرعي
سنجد في ثنايا البحث في هذه المسألة من يعبّر عن معنى الآية بأن الغاية من الخلق هو الأمر بالعبادة، ومنهم من يقول: إرادة العبادة، وليس بين القولين تعارض، وقول العلماء: إلا ليريد منهم العبادة، هو نفسه: إلا ليأمرهم بالعبادة؛ لأن العلماء يقصدون بالإرادة: الإرادة الشرعية التي هي وفق مقتضى محبة الله، والأمر الشرعي هو التعبير عن هذه العبادة.
فإذا أدركت ذلك، واستحضرت الفرق بين الإرادة الشرعيّة والإرادة الكونيّة، أدركتَ وجهاً آخر لأسباب الضلال في فهم هذه الآية، فإن الله يحب من عبادِه أن يعبدوه، وهو مقتضى الإرادة الشرعيّة، والتي قد تقع وقد لا تقع، بخلاف الإرادة الكونيّة حتميّة الوقوع، وهذه الإرادة هي المطابقة لقولنا ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، أي لا يقع في الكون خير أو شر إلا بمشيئة الله.
المفتاح الرابع: الغاية المرادة من العباد، والمرادة بالعباد
وفي هذه المسألة جوابٌ مباشرٌ عن قول المعتزلة: " كيف يخلق الله الخلق لغاية، مع علمه أنها لا تحصل؟"، وهو ما يقودنا بالضرورة إلى التفريق بين الغاية المرادة من العباد، وهي أن يعبدوا ربهم وحده، وذلك موافقٌ للإرادة الدينية الشرعيّة لله، وبين الغاية المرادة بهم : وهو الجزاء بالعدل والفضل، والثواب والعقاب، وذلك موافق للإرادة الكونية، والمتعلّقة بالابتلاء، قال تعالى: {ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} (النجم: 31)، وقال سبحانه: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} (الملك: 2).
وبما تقدم تعلم أن وجود كفار غير عابدين لا يتعارض مع ما قررته الآية؛ إذ الآية قررت أن الغاية من الخلق التي يجب أن يتجه إليها المخلوقون هي عبادة الله دون سواه، وليس فيها أن المخلوقين كلهم سيحصل منهم هذه الغاية وبالله التوفيق.