هل كل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من سنته التي يُقتدى به فيها ؟
كثيرا ما وجدت الملحدين - وبعض عوام المسلمين- يتخبطون في هـذه المسألة الحساسة، بين إفراط وتفريط، فمنهم من أنكر حجية السنة، ومنهم من حشر كل فعل للنبي صلى الله عليه وسلم في سنته التي يقتدى به فيها، ومنهم من يخبط خبط عشواء بلا منهجية واضحة ولا معايير محددة، فتراه تارة ينكر! وتارة يحشر!!
فأما عن حجية السنة ومنزلتها من التشريع فالأدلة عليها كثيرة والبحث فيها واسع فلست بصدده الآن لكني سأكتفي بسرد بعضها إتماماً للفائدة:
قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }( الحشر 7).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه".
ونُقل عن الشافعي رحمه الله قوله: السنة وحيٌ يُتلى.
فتمسكنا بالسنة هو في الحقيقة تمسك بالقرآن، وبهذا عمل الصحابة والتابعين وسلف الأمة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : " لعن الله الواشمات والموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله " فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، فجاءت إليه وقالت : إنه بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت ، فقال وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأتِ {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ؟! قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه .
وحُكِي أن الشافعي رحمه الله كان جالساً في المسجد الحرام فقال : لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى ، فقال رجل : ما تقول في المُحْرِم إذا قتل الزُّنْبُور ؟ فقال لا شيء عليه ؟ فقال : أين هذا في كتاب الله ؟ فقال : قال الله تعالى : {وما آتاكم الرسول فخذوه } ، ثم ذكر إسناداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) رواه الترمذي وغيره ، ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال " للمُحْرِم قتل الزُّنْبُور " فأجابه من كتاب الله .
أما عن قوله سبحانه وتعالى:
{ما فرطنا في الكتاب من شيء }(الأنعام 38)
{ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء }(النحل 89)
فقد استدل البعض بهاتين الآيتين على إنكار السنة والإكتفاء بالقرآن لاحتوائه على كل أمر من أمور الدين.
ولقد كفانا الإمام الخطابي رحمه الله مؤونة الرد عليهم حيث قال " أخبر سبحانه أنه لم يغادر شيئا من أمر الدين لم يتضمن بيانَه الكتابُ ، إلا أن البيان على ضربين : بيان جَلِيّ تناوله الذكر نصاً ، وبيان خفِيّ اشتمل عليه معنى التلاوة ضمناً ، فما كان من هذا الضرب كان تفصيل بيانه موكولاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معنى قوله سبحانه : {لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون }(النحل44) ، فمن جمع بين الكتاب والسنة فقد استوفى وجهي البيان " .
وللتوسع حول حجية السنة ومنزلتها من التشريع ينظر مقال الأخ محمد عبد الرحمن
حجية السنة النبوية و الرد على المشككين الضالين
-------------------------------------------
والآن نأتي لجواب السؤال موضوع الرابط.
هل كل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من سنته التي يُقتدى به فيها ؟
من المعلوم أن السنة: هي كل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف.
وما يعنيينا في هذا المقام – تحديداً- هو أفعال النبي صلى الله عليه وسلم.
(ملاحظة: اعتمدت فيما سيأتي على دروس الشيخ ابن العثيمين في شرحه لكتابه الأصول من علم الأصول)
-------------
أنواع فعل النبي صلى الله عليه وسلم:
1- ما فعله بمقتضى الجبلة، كالأكل والشرب والنوم، فلا حكم له في ذاته.
ولكن قد يكون مأموراً به لسبب: مثل السحور.
أو منهياً عنه لسبب: مثل الأكل الضار.
وقد يكون مأموراً به لصفة مطلوبة: مثل الأكل باليمين والنوم على الجنب الأيمن.
أو منهياً عنه لصفة مطلوبة: مثل الأكل بالشمال.
فالفعل الجبلي لا حكم له في ذاته، لأن هذا شئ يفعله الإنسان على سبيل الجبلة، فمثلاً البول والغائط جبلي، فلا حكم له، فلا يقال للإنسان: يُسن لك أن تتبول لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتبول، لأن هذا من الأمور الجبلية.
فائدة: يقول شيخ الإسلام بن تيمية " أجمع جمهور الصحابة والأمة أن ما وقع اتفاقاً فليس بمشروع أن نتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه، مثلاً: لو قال قائل: قَدِم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة للحج في اليوم الرابع، فهل الأفضل أن لا يكون قدومك إلا في اليوم الرابع؟ نقول: لا، لأن هذا وقع اتفاقاً".
2- ما فعله بحسب العادة، كصفة اللباس فمباح في حد ذاته، وقد يكون مأموراً به لسبب أو منهياً عنه لسبب.
فالنبي صلى الله عليه وسلم عاش مع أناس يتعممون ويلبسون الإزار والرداء، فصار يتعمم ويلبس الرداء، وهذا الذي يُفعل على سبيل العادة حكمه أنه مباح، لا نقول أنه لا حكم له كالجبلي، أي يباح للإنسان أن يلبس الثياب على حسب ما جرت به العادة.
ولكن قد يكون مأمورأً به لسبب: مثل ملابس الإحرام في الحج.
أو منهياً عنه لسبب: فمثلاً لو اعتاد الناس أن يكون لباسهم أنزل من الكعبين، ولو اعتاد الناس أن يلبس خاتم الذهب، ما نتبع العادة أي لا نقول هذا مباح لأن العادة هكذا .. فالعادة المحرمة حرام ولو اعتادها الناس.
3- ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام على وجه الخصوصية، فيكون مختصاً به كالوصال في الصوم والنكاح بالهبة.
ولا يحكم بالخصوصية إلا بدليل لأن الأصل التأسي به.
4- ما فعله تعبداً، فواجب عليه حتى يحصل البلاغ لوجوب التبليغ عليه، ثم يكون مندوباً في حقه وحقنا، وذلك لأن فعله تعبداً يدل على مشروعيته والأصل عدم العقاب على الترك فيكون مشروعاً لا عقاب في تركه، وهذا حقيقة المندوب.
مثال ذلك: حديث عائشة أنها سئلت: بأي شئ كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك.
فليس في السؤال عند دخول البيت إلا مجرد الفعل فيكون مندوباً.
فهذا النوع من الأفعال يقصد به النبي صلى الله عليه وسلم التعبد ولا نعلم بكونه عبادة إلا عن طريق فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا نأثم لو تركناه لأنه ليس أمراً حتى يقال: الأمر للوجوب، وإنما نقول فعله إياه على سبيل التعبد يدل على مشروعيته، والأصل عدم العقاب على الترك.
وهو في حقه واجب حتى يحصل البلاغ ويعلم الناس به، فيكون مندوباً في حقه وفي حقنا، فوجوب الفعل في حق النبي صلى الله عليه وسلم ليس لذات الفعل وإنما لغيره، وهو وجوب التبليغ على الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو حصل التبليغ بغير الفعل (كالقول مثلاً) صار الفعل في حقه ليس واجباً لأنه مندوب.
إشكال: كثيراً ما يشتبه هذا النوع بالثاني والأول، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد يفعل فعلاً يشتبه على الإنسان.
هل فعله تعبدا ً؟! أو فعله من أجل العادة ؟! أو فعله بمقتضى الجبلة ؟!! فيقال:
- ما ظهر فيه ملاءمته للنفس فهو جبلة.
- وما ظهر فيه موافقتة للعادة بحيث يقدر الـذهن أن الناس لو كانوا لا يفعلون هذا ما فعله، أو أنهم لو كانوا يفعلون شيئاً آخر لفعله حكمنا بأنه عادة.
- وما ظهر منه قصد التعبد بحيث لا يكون ملائماً لمقتضى الجبلة ولا موافقاً للعادة، فالظاهر أنه إنما فعله على سبيل التعبد.
ولو بقي الأمر مشكلاً!
فنقول: الأصل المنع حتى يقوم دليل على قصد التعبد، لأن العبادة لا تشرع إلا بدليل واضح.
5- ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بياناً لمجمل من نصوص الكتاب أوالسنة، فواجب عليه حتى يحصل البيان لوجوب التبليغ عليه، ثم يكون له حكم ذلك النص المبين في حقه وفي حقنا، فإن كان واجباً كان ذلك الفعل واجباً وإن كان مندوباً كان ذلك الفعل مندوباً وهكذا ..
مثال الواجب: أفعال الصلاة الواجبة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بياناً لمجمل قوله تعالى: " وأقيموا الصلاة".
مثال المندوب: صلاته ركعتين خلف مقام ابراهيم بعد أن فرغ من الطواف بياناً لقوله تعالى: " واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى".