الرجم بين إقرار المؤمنين ونفي القرآنيين
بقلم المستشار: أحمد السيد علي إبراهيم
انتشرت في الآوانة الأخيرة كتابات عدة تقدح في ثوابت الشريعة المطهرة، وآخرها ما كُتب تحت عنوان: "عقوبة الرجم ليست من الإسلام في شيء؟!" ولنا مع هؤلاء وقفات عدة.
الوقفة الأولى:
إن هذه الفرية ليست بجديدة ولكنها قديمة، فقد أنكر البعض حجية السنة واقتصروا على القرآن في استنباط الأحكام، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم وعن مقالهم ؛ فعن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن يقعد الرجل على أريكته فيُحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا حلالاً استحللناه وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله".{رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه العلاَّمة أحمد شاكر، طيب الله ثراه وجعل الجنة مثواه}.
الوقفة الثانية:
أجمع المسلمون على أن ما صدر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، وكان مقصودًا به التشريع والاقتداء ونُقِلَ إلينا بسند صحيح يفيد القطع، أو الظن الراجح بصدقه، أصل من أصول التشريع ودليل من أدلة الأحكام الشرعية ومصدر تشريعي يستنبط منه المجتهد الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين، سواء أكانت دالة على الفرض أم على النفل أو الإباحة أو غير ذلك، ولقطع شغب الملاحدة ودابر الزنادقة الذين يريدون الكيد للإسلام والعبث بعقول الضعفاء من المسلمين وراء ستار البحث عن الحق وحرية الفكر- التي خرجت عن حدها في هذا العصر- ذكر جماعة من الفقهاء الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي تثبت حجية السنة المطهرة فيرجع إليها في الكتب المتخصصة.
الوقفة الثالثة:
ستكون للرد على الشبهات التي تحوم حول عقوبة الرجم.
الشبهة الأولى:
أن الرجم كعقوبة للزاني لا وجود له في القرآن الكريم، ويرد عليها بالآتي:
1- قال تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا{الحشر: 7}، والرجم مما أتانا به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإذا ما طبقناه فقد عملنا بالقرآن.
2- ثبت الرجم بكتاب الله، فقد أخرج البخاري ومسلم بسند متفق عليه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب فقال: إن الله بعث محمدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل الله عليه آية الرجم، وهي: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم" قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله- وقد وقع ما يخشى منه عمر- فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحَبل أو الاعتراف.
الشبهة الثانية:
منهجية تنقيح الأحاديث بعرضها على كتاب الله تطبيقًا لحديث: "ما جاءكم عني فاعرضوه أولاً على كتاب الله".
والرد عليها من وجوه:
أولاً: مَنْ مِنْ علماء الحديث عمل بهذه المنهجية؟! ثم من حكى الإجماع عليها؟! ثم أليس من التناقض أن يتمسك بالإجماع في هذه المسألة وهو ما لم يوجد ويترك الإجماع على وجوب الرجم، وقد حُكِيَ عن السلف والخلف؟!
ثانيًا: تمسك بعضهم بحديث: "ما جاءكم عني فاعرضوه أولاً على كتاب الله" وهو حديث باطل لا أصل له، فقد حكى زكريا الساجي عن يحيى بن معين أنه قال: "هذا حديث وضعته الزنادقة". وقال الخطابي: "وضعته الزنادقة". وقال الصغاني: "هو موضوع".
ثانيًا: لو استبعدنا ما ليس له أصل في القرآن الكريم لاستبعدنا أحكامًا عدة أتت بها السنة ولم يأت بها القرآن، ففرض الجدة، وحرمة لبس الذهب والحرير للرجال واستحباب السواك وكراهة دخول المسجد لمن أكل الثوم أو البصل وإباحة أكل الضب كلها أتت في السنة ولم تأت بالقرآن، ومن ثم فهذه الدعوة ما أريد بها إلا هدم بنيان الإسلام وتقويض دعائمه.
بل إن صفة الصلاة وعدد ركعاتها وأركانها وسننها، والنوافل القبلية والبعدية والآذان والإقامة، وأيضًا الزكاة ومقاديرها ونصابها وزكاة الإبل وزكاة البقر وزكاة الغنم والزروع وغيرها والصيام الذي يعد من النوافل وصفة الحج وواجباته وسننه ومحظورات الإحرام وغير ذلك كله لم نعلمه إلا من سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ولو عرضناه على حكم القرآن ما وجدناه، اللهم إلا أن نطيع النبي صلى الله عليه وسلم ونقبل كل ما جاءت به السنة، كما أمر القرآن: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.
الشبهة الثالثة:
شبهة تسرب التحريف إلى الصحيحين ووجوب إعادة تنقيحهما، ويرد عليها بالآتي:
أولاً: أنها مبنية على حديث باطل وما بني على باطل فهو باطل مثله.
ثانيًا: هذه دعوة خبيثة للطعن في أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل صحيحي البخاري ومسلم، فقد أجمعت الأمة على صحة ما جاء بهما من أخبار، فقد ذكر أبو إسحاق الإسفرايني في كتابه أصول الفقه "أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها ومتونها ولا يحصل الخلاف فيها بحال". اه.
وقال إمام الحرمين الجويني: "لو حلف إنسان بطلاق امرأته: أن ما في الصحيحين مما حكم بصحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق لإجماع المسلمين على صحته". اه.
وقال ابن الصلاح: "أهل الحديث كثيرًا ما يطلقون على ما أخرجه البخاري ومسلم جميعًا".{صحيح متفق عليه}.
ويعنون به اتفاق البخاري ومسلم لا اتفاق الأمة عليه، لكن اتفاق الأمة عليه لازم من ذلك وحاصل معه لاتفاقهم على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول. اه.
الشبهة الرابعة:
قال بعضهم: لو أنَّ قاضيًا حكم بعقوبة على متزوج زان وأرد أن يحكم عليه بعقوبة الرجم استنادًا إلى ما في كتب السنة، فدفع بأن الآية: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة لم تفرق بين متزوج وأعزب في العقوبة، فأي المصدرين يرجح؟ يقصد القرآن أم السنة. ويرد عليه بالآتي:
أولاً: بأن القرآن والسنة فرقًا بين المتزوج والعزب في العقوبة كما ذكرنا.
ثانيًا: نقول لهؤلاء: لو صلى رجل الظهر ثلاث ركعات والعصر أربعًا ثم قال: القرآن الكريم لم يفرق بينهما فأي المصدرين ترجح؟! فكما أن السنة فرقت بينهما- أي الصلاتين- فقد فرقت في العقوبة بين المتزوج والعزب، فقد أخرج مسلم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلاً ؛ البكر بالبكر جلدة مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".
الشبهة الخامسة:
قوله تعالى: فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب{النساء: 25}، فالرجم بطبيعة الحال لا يقبل التنصيف، ويرد عليه بالآتي: أن الإحصان يأتي بمعنى الزواج، ومنه قوله تعالى: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما (23) والمحصنات من النساء أي: المتزوجات، فيحرم الزواج بهن إلا بعد انفصام عرى الزواج بالطلاق أو الوفاة، ويأتي بمعنى العفة، ومنه قوله تعالى: اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم{المائدة: 5} أي: أحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات ومن الذين أوتوا الكتاب، ومن ثم يكون معنى قوله تعالى: فإذا أحصن أي الإماء- بالزواج أو الإسلام على رأيين- فعليهن ما على الحرائر العفيفات من المؤمنات من العذاب، وليس المقصود نصف ما على المتزوجات.
قال الشافعي رحمه الله: "الألف واللام في المحصنات للعهد وهن المحصنات المذكورات في أول الآية ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات والمراد بهن الحرائر فقط من غير تعرض لتزويج وغيره، وقوله: نصف ما على المحصنات من العذاب يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تبعيضه وهو الجلد لا الرجم. والله أعلم". اه. تفسير ابن كثير (1-489).
فلقلة علم هؤلاء باللغة ومعانيها التبس عليهم الأمر: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم{النساء: 83}.
الشبهة السابعة:
أن كل روايات الرجم من أحاديث الآحاد وهي ظنية الثبوت أي أن ورود الخطأ بها جائز. ويرد عليها بأن الرجم قد ثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفعله في أخبار تشبه المتواتر، كما أن الرجم أجمع عليه أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقد أنزله الله في كتابه وإنما نسخ رسمه دون حكمه- أي نسخ قراءة وبقي حكمًا- وقال ابن قدامة في "المغني": في وجوب الرجم على الزاني المحصن رجلاً كان أو امرأة، وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار ولا نعلم فيه مخالفًا إلا الخوارج. اه.
الشبهة الثامنة:
عدم استقلال النبي صلى الله عليه وسلم بالتشريع. ويرد عليها بأن جمهور الأصوليين قد اتفقوا على جواز استقلال السنة بالتشريع، وما ذاك إلا لأن السنة في معناها من عند الله: وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى وفي مبناها- أي لفظها- من عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فالقرآن والسنة كلاهما من عند الله، غير أن القرآن من عند الله في لفظه ومعناه، والسنة معناها من عنده سبحانه ولفظها من عند نبيه صلى الله عليه وسلم : قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، كما أن الأحكام التكليفية والوضعية وردت في سنته صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا ومنها ما لم يرد في كتاب الله، وليس أدل على الجواز من وقوعها فعلاً.
الشبهة التاسعة:
أن الرجم غير مجمع عليه، فالشيعة لا تعترف به. ويرد عليها بأن الشيعة لا تعترف بإجماع علماء المسلمين وإنما الإجماع عندهم هو إجماع أئمتهم فقط، ومن ثم فلا يعتد بمخالفتهم، فوجوده كعدمه.
الشبهة العاشرة:
أن عقوبة الرجم تتنافى مع قواعد العدالة، فلماذا لا يتم معاملة المطلق والأرمل معاملة العزب، ولماذا لا يطبق الرجم على ذي العقد الباطل في حالة زناهما؟ ويرد عليها بالآتي: قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": "ثم إن للزاني حالتين: إحداهما: أن يكون محصنًا قد تزوج، فعلم ما يقع به العفاف عن الفروج المحرمة واستغنى به عنها، وأحرز نفسه عن التعرض لحد الزنى فزال عذره من جميع الوجوه في تخطي ذلك إلى مواقعة الحرام. والثانية: أن يكون بكرًا، لم يعلم ما علمه المحصن ولا عمل ما عمله فحصل له من العذر بعض ما أوجب له التخفيف فحقن دمه، وزجر بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجلد ردعًا عن المعاودة للاستمتاع بالحرام وبعثًا له على القنع بما رزقه الله من الحلال، وهذا في غاية الحكمة والمصلحة جامع للتخفيف في موضعه والتغليظ في موضعه". اه.
وأما صاحب العقد الباطل فمسألة تطبيق الحد في حقه مسألة خلافية، والذين قالوا بعدم التطبيق استدلوا بحديث: "ادرأوا الحدود بالشبهات"، والذي استدل به كاتب المقال عند حديثه عن الآية 25 من سورة النساء فكيف يتركه هنا ويأخذه هناك!!
أخيرًا: بعد أن بينا هذه الشبهات وعدم صحتها ننصح كل مسلم بألا يلتفت إليها امتثالاً لقوله تعالى: وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون{الأنعام: 121}.
والعجب العجاب أن منكري الرجم لو رأى أحدهم ابنته البكر تزني لقام بقتلها هي والزاني بالرغم من أن البكر حدها الجلد، مخالفًا بذلك ما أمر الله به ومشددًا عقوبتها مخالفًا قوله تعالى: إن الله بالناس لرءوف رحيم، ثم يأتي فينكر الرجم على الثيب بالرغم من أنه أول من سيفعله لو وجد زوجته تزني.
نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.